هذا ليس حلماً

هذا ليس حلماً

كنا منذ طفولتنا رفقاء في المدرسة، مضت الطفولة وبقينا أو صرنا أصدقاء، نلتقي أسبوعياً، وكل منا يعمل في اختصاص مختلف عن الآخر، لكن هذا لم يمنعنا من الالتقاء والمحافظة على ذكرياتنا في المدرسة ووصولنا إلى المرحلة الشبابية، وكنا نرتب فرصنا السنوية في ذلك الوقت من السنة، وكل سنة نسافر إلى بلد من بلدان أوربا وتمضية خمسة عشر يوما، منا من يمضيها في متاحف المدينة ومنا من يخصصها لحضور الحفلات الموسيقية ومنا من يمضي سهراته في المسارح، وبقية الأيام نبقى معاً ليلاً ونهاراً نزور أماكن المدينة ونسوح في لياليها، حيث يتصل الليل بالنهار وتختلط أنوار الليل بأنوار النهار.
قلت إني لم أرغب برواية ما سأرويه.. لكني لم أحافظ على وعد نفسي.. فالأيام تمر والسنوات، وتغيِّر وتبدِّل من شخصية الإنسان بعضاً من شخصيته وأفكاره ورغباته وأشياء كثيرة.
كنا في الطائرة مسافرين إلى مدينة فيينا Vienna  المشهورة بأنها مدينة الموسيقى الكلاسيكية، حيث لموزارت Mozart تمثال لذكراه في إحدى الساحات، ولبتهوڤن وغيرهما، ثم إنها مشهورة بمتاحفها وغنية بكنوز لوحاتها لكبار الرسامين العالميين، وشهرتها أيضاً بمقاهيها.. يعني كل هذا أن اختيارنا للمدينة كان جيداً.. أما ما حصل بعدما نظرت إلى ساعتي ورأيت أنه يتبقى نصف ساعة للوصول إلى فيينا هو حدوث اهتزاز قوي في الطائرة أخاف المسافرين وعلت الأصوات، أما نحن فالخوف قد أخفى صوتنا، وعلمنا أن طائراً ضخماً قد اصطدم جناحاه بالطائرة وأصبحت قطعتين واختفى أكثر ركابها، ولم يبق منا نحن الأصدقاء سواي، وما لبثت  أن صرت وحدي في الأجواء طائراً بل هابطاً نحو الأرض، ثم  شعرت أن كتفيّ يتحركان ورأيت أن جناحين قد ألصقا بهما ورحت أطير كالطير.. ولم أعلم كيف كان شعوري في ذلك الوقت.. وقد نسيت أصدقائي ولم أعد أذكرهم.. ونسيت خوفي ورأيتني أنضم إلى طيور طائراً معها.. اقترب مني طائر ضخم، كلمني بلغة لم أفهمها ولم أسمع بها، لكني تكلمت معه وبلغته واكتشفت أني أتفوه بكلمات لا أفهم معناها، وكان الطير يصفق بجناحيه ويقترب مني ويأخذني إلى حيث هو متجه، إلى أن حط على قمة جبل، وعلمت أنه جبل من جبال البيرينيه Pyrenee التي تفصل ما بين فرنسا وإسبانيا، وقمة الجبل حيث هبطنا كانت من الجبال الإسبانية.. لهذا فرحت.. قلت لنفسي إني سأزور جنوبي إسبانيا.. الأندلس.. سأرى ثانية وثالثة وأكثر من مرة مدن قرطبة وإشبيلية وغرناطة وأزور زواريبها وأشم الياسمين فيها وأسمع أغانيها.. قلت هذا لكني لم أعلم بأي لغة قلته.. المهم أني على قمة جبل من جبال إسبانيا، حاولت أن أهرب من الطير الذي رافقني لكني لم أستطع، إذ كانت عيناه تراقبني عندما رأى أني فرحت عندما وقفت على قمة الجبل بمعيته.. ترى هل سألتقي بها؟ أو سأراها بعد مرور السنين؟ كيف أصبحت؟ ضحكت عندما تخيلت أنها بقربي.. آه.. ما أجمل الخيال عندما يكون الواقع غائباً في طيات الماضي.. من يدري إن كنت قد أصبحت طائراً كالطيور، فليس من المستحيل أن ألتقي بها ونعيد أيامنا التي مضت.. تحرك رفيقي الطير وتحرك جناحاي وطرنا وبعدنا عن الجبال، وصلنا إلى سطوح مدينة وكانت تلمع كالجوهرة.. الليل جعل منها الماسة من أنوار شوارعها ومقاهيها وقصورها.. هي إذا «برسلونا»، أمضينا الليل على سطوح «العائلة المقدسة» الكاتدرائية التي بناها المهندس العبقري «غاودي» وما إن بان الفجر حتى تحركنا باتجاه الجنوب.. ونزلنا في بعض حقول الزيتون وحقول العنب.. لقد قربنا من قرطبة.. قرطبة التي كنت أدعوها «حبيبتي» لسحرها ولسحر ما تحمل من تاريخ وذكريات وجمال.
«قرطبة»، هبطنا في حديقة الجامع الكبير الذي أصبح اسمه «الجامع الكاتدرائية» والحديقة محاطة بشجر ليمون البرتقال.. لم نبق طويلاً.. طرنا نحو إشبيلية ثم غرناطة ثم «الماريا» المدينة البحرية التي أوجدها العرب وسموها «المرآة».. وعلى شواطئها رحت أقفز فوق الأمواج ثم رأيتني مغمض العينين ونائماً وصوت الأمواج يداعب أذني.. وتمر ساعات النهار والليل، ويأتي نهار جديد، فأنظر إلى البعيد لأرى مدينة أعرفها.. أو شبيهة بها.. وأنظر حولي فلا أرى الطير الذي أخذني ورافقني في الرحلات ولم أره.. تحرك جناحاي وأخذاني إلى تلك المدينة التي أراها من بعيد وكأني أعرفها، إلى أن وصلت إليها.. ومن ضجيج مرافئها وحركة الناس فيها علمت أني في بيروت، عندئذ سمعت صوت أمي.. فتحت عيناي.. رأيتني في سريري، بعدما أفطرت وتحممت ولبست ثيابي ذهبت إلى المقهى.. وكان بانتظاري الأصدقاء الثلاثة .