فنان على مشارف التسعين يوسف العاني وعكَّازه المسرحي

فنان على مشارف التسعين يوسف العاني وعكَّازه المسرحي

حاز الفنان المسرحي العراقي الكبير يوسف العاني أكثر من تكريم لجهوده المسرحية، وما قدم للمسرح من أعمال مميزة كان الرائد فيها، والمؤسس من خلالها لاتجاه في المسرح: وضع أسسه، وطوره من خلال المواصلة، والإضافة، التي ترجع بداياتها إلى نحو ثلاثة أرباع القرن.

في هذا المقال نقوم  برصد  المسيرة المسرحية للفنان العاني، بما كان فيها من علامات بارزة، ومن تحولات وتطورات أحدثها هذا الفنان، بأعماله وأدواره في المسرح العراقي  وقد سبق لي أن قدمت عملًا مسرحيًا عنه تحت عنوان: «يوسف يغني»، محيلًا فيه إلى مسرحية الفنان العاني الشهيرة، والتي لعب الدور الرئيس فيها: «عبود يغني».

العاني وفن التمثيل .. البدايات
في زقاق (خضر الياس) من الكرخ صعد يوسف على دكة الدار ليصرخ بصوت طفولي: «أنا يوسف الطحّان» ثم يتلو درسه من «القراءة» الابتدائية ملتبسًا عليه اسم «يوسف»!
وإلا كيف يمكن أن يكون هذا المولود في عام 1926 طحّانًا على صغر سنه، وأخوه يملك (الخان)، وما يحتويه من طحين، وسمن، وتمور؟ ثم يتدارك يوسف نفسه، حين يمثّل تحت إشراف معلمه في مدرسة الكرخ في 24 فبراير 1944 مشهدًا مسرحيا عابرًا!
عاش يوسف طفولته متوزعًا بين مدينة «الفلوجة» التي فقد فيها الأب والأم، ليصبح أخوه في «بغداد» أبًا وزوجته أمـّا ليوسف.
وهنا يثور في نفسه التباس غريب آخر في إستراتيجية الأسماء والمسميات: فيا ترى أيهما أكثر حضورًا في نفسه.. هل هي الشخصية الواقعية أم تلك «المتخيلة»؟ وحين مرق العمر سريعًا، اخترم «التمثيل» روحه، فاصطنع تحت غيمته الحركات، والمواقف، وتفنن في التلفظ والكلام، ومن هذا التمثيل عثر على «التأليف» فأخذ يتلقف اللفظ، والشخصية، والحالة، من أهل بيته وجيرانه لينقلها من فضاء الحركة إلى فضاء الكتابة.
وحين كبر في مجتمع راكد، تصارع مع أعرافه وهو يتطلع بفرح إلى مستقبل سعيد موعود في خضم تيارات يسارية وقومية ودينية، كانت طاغية على مستوى «الوطن» والأمة.
وبعد إنهاء دراسته الإعدادية تم قبوله في كلية الحقوق بجامعة بغداد، ليجد نفسه يقلّد أساتذته من المصريين والعراقيين، محولًا دروسهم القانونية إلى مشاهد ومواقف طريفة ويعرضها في «جمعية جبر الخواطر»، وهم ثلّة من زملائه يعكسون من خلال هذه الفرقة الغرائب والمقالب التي تدور في المقاهي والأزقة وما يعانيه البؤساء من الناس البسطاء في إنجاز معاملاتهم في دوائر الدولة.
وكان متفاعلًا مع كتابات شهاب القصب، وسواه، ليأخذ منها «موتيفات» متواضعة، ثم ينفث فيها من روح الممثل فيه ما يجعلها تنهض من رماد الأصل وهي أشبه بطائر بشري حيّ يكابد الأمرّين في بحثه عن لقمة العيش. من هذه الواقعية في الأداء استطاع العاني أن يلفت النظر إلى موهبته التمثيلية بين زميلاته وزملائه، مخترقًا تجاعيد التصنع، وغضون التكلف البغيض، والازدواجية المقرفة، التي تمرّس في فضحها في الوسط الذي يعيش.

فرقة المسرح الحديث
في عام 1952 أسس إبراهيم جلال هذه الفرقة وكان العاني سكرتيرها حيث سبقته شهرة المثقف، بوصفه صديق الجواهري، ومعظم أدباء تلك الفترة من الزمان، مختلطة هذه المعرفة بـجهده السياسي الذي تترصده عيون رجالات الحكم، وتستهويه بعض الأحزاب دون غيرها، وينحاز إلى الناس المسحوقين.
ثم يأخذ جاسم العبودي المتخرج في معهد أمريكي، مسرحيتين كتبهما العاني: «تؤمر بيك»، و«ماكو شغل» ليقدمهما عام 1955.
يتضامن إبراهيم جلال مع العاني حين عاد من إيطاليا ليخرج نص مسرحية «ست دراهم»، ويتكفل بعد ذلك سامي عبدالحميد بالبواقي من أعماله مثل «لو بسراجين لو بالظلمة»، «فلوس الدوة» و«حرمل وحبة سودة».
لقد أثارت هذه النصوص زوبعة ضد مشروع العاني هذا، وأخذت الحكومة بملاحقته ونفيه واعتقاله، فآثر أن يكتب باسم مستعار، ولكنه عاد إلى اسمه الصريح (يوسف) حين أخرج في الشهر العاشر من فجر ثورة يوليو 1958 مسرحية «آني أمك يا شاكر»، التي باتت مدخلًا لعالم جديد، يكتشفه العاني مع هذه العقول الإخراجية المبدعة في زمن الجمهورية الأولى: ينتقد الروتين، والـــــــبيروقراطية، ومحسوبية الإدارة، ومفارقات ذوي العاهات (المبكية – المضحكة)، متابعًا بشكل تفصيلي، شخصية البغدادي وما ترسب فيها من غبار القرون.
أصبح العاني في هذه البيئة الشعبية اللماحة، والهازلة، مشهورًا على المستوى العام، حيث رشحته ثورة يوليو مديرًا لمصلحة السينما والمسرح في اوائل الستينيات.
يجد الباحث في تجربة العاني المسرحية منعطفات وتحولات في تقنياته الكتابية والتمثيلية ليجمع ما بين «راس الشليلة» عام 1954 حتى «نجمة» مسرحيته الأخيرة، بين الواقعية، والملحمية، والتسجيلية، والتعبيرية.
في الستينيات زارت «فرقة مسرح الخليج العربي» الكويتية، العراق لتقدم مسرحية «الحاجز»، تأليف عبدالعزيز السريّع، وإخراح صقر الرشود، ومثلت فيها سعاد عبدالله، وأسمهان توفيق، ومحمد المنصور.
في عام 1967 قدمت الفرقة التي ترأسها العاني (فرقة المسرح الفني الحديث) مسرحية «فوانيس» في الكويت، وهي من تأليف طه سالم، وإخراج إبراهيم جلال. وحين حدث انقلاب 1963 هاجر العاني إلى منفى خارج البلد ليتنقل من لبنان إلى ألمانيا الشرقية ليعود بعد انقلاب 1968 فيكتب نصوصًا بلغة مسرحية بارعة مثل «المفتاح»، و«الخرابة»، و«الشريعة»، و«الخان»، و«الجومة».
المتغير الجوهري في تجربة الغربة جعل نصوصه المسرحية ذات بنية مكانية مفتوحة على أزمنة واسعة، أما على صعيد التمثيل فقد تهذّبت أدواته وصقلت موهبته لتأهله لأداء أدوار مركبة مثل شخصية «الحوذي» في «النخلة والجيران»، و«بونتلا» في «البيك والسايق»، و«أشعب» في «بغداد الأزل»، و«السقاء» في «الإنسان الطيب»، وقد امتاز تمثيله بخفة الظل، وثراء الإيقاع الصوتي والجسدي المتماوج مع طبائع شخصياته المثيرة لشغف الجمهور بما توظفه من سخرية ووعي نقدي لاذع بإطار شعبي، ربما تختزلها مسرحية «صورة جديدة» لمجتمع عراقي وعربي جديد.

ابتكارات العاني في النص والعرض
عاد بنا العاني بعد رجوعه من ألمانيا في العام 1958 ليكتب نصوصًا مختلفة عما عرفته تجربته السابقة. ففي مسرحية «المفتاح» يدوّن أغنية فولكلورية على شكل مدونة مسرحية تنبع من حياة الشارع: 
(يا خشيبة نودي نودي..
وديني على جدودي
وجدودي بطارف مكة...) 
وبذلك باتت هذه الأغنية حكاية درامية أسند إليها العاني وظيفة جمالية لتكون لدى المخرج وسيلة بصرية وسمعية مؤثرة سيما وأن السينوغرافر – (مصمم المناظر) «كاظم حيدر». استطاع أن يمزج هذه الحكاية مع فنون الحداثة المسرحية التي تطلبها إخراج سامي عبدالحميد. 
وامتازات مسرحية «الخرابة» بالسردية الروائية التاريخية في تعاملها مع حقب زمنية مفتوحة، منذ حضارة كلكامش البابلي إلى انتفاضة نجم البقال في «النجف» ضد المحتل في ثورة العشرين، مقترنةً بانتخاب حزم من الوثائق السياسية والتاريخية الخاصة بصراعات القرن العشرين التي تحرك فيها العاني من منظور أيـديولـــوجي تقـــدمي بسياقاته ومرجعياته الخارجية. 
جمع العرض بين «البوستر» الذي أراد «بيتر فايس» تأسيسه، في مسرحه الوثائقي، مع توظيف تقنيات «تمسرحية» أخرى، يضمها إطار عام، يقدمه السارد، بمرويات تتحرك فيها مجموعة من مشاهد متنوعة وخاصة، وتجد فيها ما يشبه التمثيل الصامت «البانتومايم»، والرقص، مصحوبة بأهازيج شعبية وأشعار حماسية بخلفيتها الثورية التي يتوازن فيها الوطني مع الإنساني بفيض تلقائي ويتم تنسيقها في حلقات متجاورة كالذي عرفناه من المسرح الملحمي عند «بريخت» المسمى 
بـ «المحطات» الملحمية.
كان العاني في مسرحياته الأولى يضخّم من قبح الواقع الاجتماعي القائم على الظلم، واستغلال القوي للضعيف، وآفة البطالة، والمرض، والفقر، والجنون، حيث يرصد ذلك الجور الاجتماعي الخانق والمتصارع مع وعي مغاير ومكافح.
أما معالجته الجديدة فقد اقترنت مع وظيفة إخراجية تبحث عن الجديد وهي ترمق إرهاصات عديدة تتحرك في رحم المجتمع، كان فيها المثقف يفزع بجوارحه إلى زعزعة الأنظمة القارة طبقيا ويسعى إلى تهديم تراتبية السلطة بمعالجة بصرية وسمعية وحركية وأسلوبيات إخراجية كان هدفها الرئيسي إعادة تشكيل الوعي الفني والسياسي، بالواقع الطبقي للجمهور. من هذا المنظور يبرز «بطل» العاني شخصية من غمار الناس الكادحين، مضادًا للحياة البرجوازية، بحسب اقتصاديات الفهم اليساري، بإطاره الفلسفي – المادي، الذي يكرس حتمية التطور التاريخية للمجتمع، والبحث عن صياغة تخص الأبعاد الروحية لهذا (العامل) والفلاح والموظف البسيط وعلى مستوى الأفراد والجماعات.
يقابل ذلك تغيير في أنسقة العرض لدى «مخرجين» يشاطرون المؤلف الرأي، ويرون أن الضرورة لازمة، وينبغي أن تكون حاسمة في تعرية الصراعات المجتمعية مؤمنين بجدل العلاقة التحريضية لمسرح منفتح على جمهوره, حيث امتازت تجربة النص باختيار مواقف فكرية «أيديولوجية»، ولغوية بعينها، مؤطرة بمشهدية جمالية تجسد الطبائع النفسية للأبطال الذين ينقسمون إلى أنماط متصارعة، قاهرة ومقهورة بحكم اختلاف منطلقاتها وأهدافها الثقافية وتقاطع مصالحها الحياتية. 

المسرح الألماني 
في أواسط الخمسينيات شاهد العاني في مسرح «البرلين انزامبل» مسرحية «بونتلا وتابعه ماتي» تأليف بريخت، يقول: «كنت آنذاك أحلم بأن أكون، ذات يوم، ممثلًا لدور بونتلا الفذ»..
كما حضر عرض «الإنسان الطيب» من إخراج «بنيبيسون»، (.. فكان الحلم يرسم لي أمنية الوقوف على المسرح بدور السقا..).
هنا يربط العاني بين أحلامه تلك، وتحققها الفعلي في عام 1974 حين وقف ممثلًا لدور «بونتلا» في مسرحية «البيك والسايق» التي أعدها صادق الصائغ عن مسرحية «بريخت»، على مسارح بغداد، ودمشق، والقاهرة، والإسكندرية. يكتب العاني، (.. كان صدى المسرحية أعذب بكثير من حلاوة النجاح..).
على هذه الصورة تحققت أماني العاني حين مثل دور «السقا» في «الإنسان الطيب» من إعداد فاروق محمد، ويصفها العاني بأنها قدمت «بنفس عراقي يحمل بعده الإنساني..».

المسرح الإنجليزي 
في لندن شاهد العاني عروضًا مختلفة على مسارح «كامبردج» و«بالاس»، و«الأولدفج»، إلى جانب عروض في الفضاء المفتوح، والأماكن المختلفة. هذه العروض جعلته منبهرًا بما يسميه بالجدية والرقي الحضاري للفنان وجمهوره على السواء، وغالبًا ما كان يفكر ويقارن في دخيلته بين البؤس الفني الغالب هنا, والازدهار المسرحي القائم هناك.
ولكن حسه النقدي جعله يقول ذات مرة: «.. لم أقتنع مطلقًا بشخصية واحدة في أنها روسية, لا بالإيقاع, ولا بالحركة, ولا بالسلوك».
 يتحدث العاني هنا عن عرض «الأخوات الثلاث» – (تشيخوف) في مسرح كامبردج بلندن, بخلاف ما شاهده في عرض للمسرحية نفسها للمخرج الإيطالي زفرللي، بممثلين إنجليز ظهروا وكأنهم إيطاليون لحمًا ودمًا، حتى حواراتهم «لم تخرجنا من هذه القناعة»، كما قال، فالممثل ينطق بالإنجليزية، ولكنه بات وكأنه ينطق بالإيطالية نفسها!
وبمثل هذا الانبهار يرصد الجمهور هناك، فيكتب: «خلال مشاهدات المسرحية الكثيرة، وفي بلدان عدة، وعبر فرق متنوعة المستوى متباينة الجنسية، كنت أحس أن حالة تشبه القدسية تخيم على «جمهور المسرح».
يستخدم العاني مفردة «جلال الصمت» المسيطر على القاعة ليعبر بالتأكيد عن مشاهدة خلاقة منتجة تربط ذلك الإنصات بالمشاهد المسرحية الخلابة التي يصنعها المخرجون, وكذلك ثقافة الأداء وجماله وبلاغته، كما شاهد مثيله – على سبيل المثال- في «مسرح الأولد فيدج» في عبقرية أداء الممثلة «كليندا جاكسون» في مسرحية «فيدرا – راسين» للمخرج «فيليب براوز». 

المسرح الجديد في العراق 
يعبر العاني عن عمق ثقافته في الأدب والفن، فيصف مسرحية «العودة» تأليف يوسف الصائغ، وإخراج قاسم محمد، بأنها: «مسراوية»، أي تجمع بين المشهد المسرحي والسرد الروائي. ويضيف بأنها 
«كتبت بلغة الشعر, وبتصور مسرحي».
ويؤكد العاني للتاريخ أن «مسرحنا العراقي بدأ يقظًا، تعلم من مسارح عربية زارت العراق في فترات متباعدة».. كذلك يذكر أنه «خلال الخمسينيات راح مسرحنا يطرق باب (الحداثة) بصيغ كانت من إبداع فنانيه، كتابًا، ومخرجين، وممثلين».

مسرح الحداثة 
تعلم الفنانون المسرحيون الحداثويون كثيرًا من كتابات العاني ومن تمثيله، وكان كاتب هذه السطور ممن شارك في تجارب المخرحين والمؤلفين أمثال العاني، ومنها تمثيلنا معه في مسرحية «بغداد الأزل» للمخرج قاسم محمد، و«الإنسان الطيب» لعوني كرومي، وبعض التمثيليات التلفزيونية والمسلسلات. وحين عدنا من الخارج كتبنا مسرحية باسم «يوسف يغني»، وهي باكورة أعمالنا في تأسيس اتجاه جديد أسميناه «السيرة الافتراضية» التي تميل إلى تفكيك الخطاب الإبداعي لمسرح العاني وإعادة بنائه وتركيبه وتخيله لنربط هذا الفن بحياة المجتمع، حيث وجدنا أن العاني يتحمس لهذه التجربة ويبارك أيضًا جهدنا الإخراجي في عرض «حلاق أشبيلية» – بومارشيه.
وكان عظيم فرحي حين كتب عني مخرجًا: «أثبت د.عقيل في أكثر من محاولة، وعمل مسرحي، جديته وحرصه على رفد مسرحنا بحالات تجريبية جريئة».
ومثل هذا كتب عن إخراجي لمسرحية «فاوست كما أرى» – (بول فاليري، وسواها).
ويكتب عن «أحزان مهرج السيرك» إخراج صلاح القصب 1986: «إذا كانت هناك إضافة للمشاهدين فهي الغرابة التي تخرج عن الاعتياد والمشاع في المسرح». ويركز العاني على أن مسألة الغرابة «تدخل في باب التجريب الصعب»، ثم يضيف: «والمخرج مطالب لينتقل إلى موقع العراقية في التجريب حيث العراقة، والأصالة، والحس الشعبي للإنسان العراقي». 
ربما هنا يتماهى العاني مع أحلامه هو، ومنجزه الحقيقي وحسه الشعبي في تجربته المسرحية.
ويرى في «رسالة الطير» إعداد وإخراج قاسم محمد 1986 «امتحانًا لطاقة التمثيل»، فالاستمتاع بهذا العرض هو «قيمة فنية، ودلالة فكرية».
 في ذائقة يوسف العاني تنتصر عبقرية الممثل وتصطفي نباهته فناني المستقبل، بدراية راسخة رشيدة، فيضمهم إلى فرقته (المسرح الفني الحديث)، كأيقونات بشرية، وتحف فنية نادرة، يتبارى بها، جماليًا وإبداعيا مع الفرق المسرحية الأخرى.
يذكر العاني أن «يوسف شاهين» السينمائي الكبير، حين زار بغداد قال: «إن المسرحيين عندكم لا يسرق بعضهم الآخر.. إنكم تعملون بروح الفريق الفني، وهذا ما أعجبني».

على مشارف التسعين
مازال العاني يهش في شيخوخته بعكازه المسرحي وهو اليوم في أواخر الثمانين، أو على مشارف التسعين، عن جسده الطافح إيقاعًا، ويتذكر وريقات أدوار ملونة خبرتها المسارح.. ها هو الآن يضطجع على أريكة المشهد الأخير يرتشف من حكمة الدهور شرابًا مختومًا وهو يتغنى ببلاد حافظت على نضارتها، رغم الطواغيت، والمحن، والصيارفة، وعاديات الزمان..
نظرت إليه: يرمي عصاه، ليتقمص دورًا حرًا بمساحة روحه الفرحة، وهو يرتقي خشبة تكريمه من لدن زميل عمره سامي عبدالحميد الذي تلقف منه صولجان المركز العراقي للمسرح، بعد أن اختير العاني عضوًا قبل عقود من السنين في المركز العالمي في باريس لأربع سنوات. وأخيرًا جاء تكريمه من قبل «قناة الشرقية» الفضائية، حيث يقيم منذ سنوات في العاصمة الأردنية عمّان.
ومن فرط حبه للتمثيل لم يعد قادرًا على تمييز الحزن من الفرح، لأنهما قد انصهرا في روحه. ومازال عكازه حائرًا لا يدري إلى أي جهة يميل، لكنني أرجح أنه يميل إلى الفرح الشعبي الذي يغمر الجميع ويفتح كوة مشرقة للمستقبل .