أشباح هنري جيمس وأشباح ستيفن كِنج

أشباح هنري جيمس وأشباح ستيفن كِنج

في فيلم «سطوع» (Shining) للمُخرج ستانلي كوبرِك، تدور الحبكة ببساطة حول الكاتب العاطل (جاك نيكلسون)؛ الذي ينجح في اختبار لشغل وظيفة حارس فندق معزول وسط الجبال يغلق أبوابه في فصل الشتاء، ويصطحب الكاتب عائلته المكونة من زوجته وابنه الصغير (صاحب الهلاوس السمعيّة والبصريّة) إلى الفندق الخالي لتمضية شهور الحراسة، فتبدو حياة العزلة المُرفَّهة في الفندق الفارغ الفاخر مثاليّة للكاتب المتبطل الذي تهزه الحماسة فيشرع في كتابة رواية جديدة، لكن الأمور لا تسير طويلاً بهذه المثاليّة, فسرعان ما تقتحم أشباح لموظفين قدامى ونزلاء موتى بالفندق حياة الكاتب أولاً، ثم ابنه (ويلي) ثانياً، وأخيراً، تظهر الأشباح لزوجته (ويندي) أيضاً، فتراها رؤية صريحة مباشرة لا تحتمل التأويل. 

كلما أعدت مشاهدة هذا الفيلم، تمنيتُ لو أن كوبرِك كان قد استثنى الزوجة من رؤية أشباح الفندق، عندها، كان المُشاهد سيتراوح ما بين تفسيرين لا تفسيراً واحداً للأشباح: إما أن يكون وجودها وجودٌ حقيقيّ، أي أننا بصدد فيلم «عجائبيّ»، وإما أن تكون الأشباح مُتَوَهّمة في عقل جاك نيكلسون (وابنه؛ المُهيّأ طبيعيّاً للهلاوس)، وعندها نكون بصدد فيلم «واقعيّ» عن شخص يعاني من هلاوس بصريّة وسمعيّة، ولكن، وإلى حين أن يَحسم كل مُشاهد موقفه ويختار أحد التفسيرين، يظل الفيلم فيلماً «خياليّاً» بامتياز، هذه هي القوة الضاربة للعمل الخياليّ، علّة دوام نضارته في كل مشاهدة أو قراءة جديدة؛ التراوح اللايقيني بين تفسيرين مُحتمليَن، اللاحسم، الالتباس، الشك، الاحتماليّة للشيء ونقيضه، لكنّ كوبرِك قرَّر قربَ نهاية الفيلم أن يحسم، قرَّر أن ينحاز إلى التفسير العجائبيّ، قرَّر أن يجعل زوجة جاك نيكلسون (الشخصيّة الطبيعيّة الوحيدة في الفندق) ترى الأشباح بأمّ عينها، قرَّر أن يحرم المُشاهد من حريّة اختيار الانحياز لبديل من بديلين، وهو قرار يتطابق مع نفس المنهج العجائبيّ للرواية المُقتبس عنها العمل؛ رواية ستيفن كِنج التي حَملَ الفيلم نفس عنوانها. 
«سطوع» ستيفن كِنج (كاتب أمريكيّ، ولد سنة 1947، وتجاوزت مبيعات رواياته الثلاثمائة مليون نسخة) لا تختلف كثيراً عن بقية أعماله، فهي تلخص عالمه، وأسلوبه، وهو عالم عجائبيّ يزخر بالأشباح، والمُتحولين، والظواهر فوق الطبيعيّة، والخوارق، باستثناء أعمال قليلة اقترب فيها من الواقعيّة، لكن المرء لا يستطيع أن يحمل عليه لمجرد أن أدبه أدب أشباح، فسيّد هذا النوع من الكتابة؛ هنري جيمس (كاتب أمريكيّ، ولد عام 1843 وتوفي عام 1916، وعاش معظم حياته في إنجلترا)، كانت أعماله العظيمة عن الأشباح أيضاً، لكن أشباح هنري جيمس وجهٌ لعملة ليس وجهها الآخر تافهاً على الإطلاق، وبقدر اتساع الفارق بين أشباح جيمس وأشباح كِنج، بقدر اختلاف مكانة الرجلين في عالم الأدب، الأدب العظيم، لا البِست سيلر، الذي تتفوق فيه أعمال كِنج، وتتربع على عرش المبيعات. 

العجائبي والخيالي
العجائبيّ حاجبٌ في بطانةِ الخياليّ، وما يُميِّز النص الخياليّ عن النص العجائبيّ، في الحقيقة، ليس هو الوجود البسيط للكائنات الخارقة، ولا الظواهر فوق الطبيعيّة كما في النصوص العجائبيَّة (ألف ليلة وليلة، مثلاً)، لكنَّ قدرته على التلاعب بإدراك القارئ، قدرته على إثارة الشكوك بشأن الحدث المحكيّ، إثارة الحيرة بشأن إمكانات تفسيره التي تتراوح بين التفسير «الطبيعيّ» والتفسير «العجائبيّ»، فمثلاً، وفي أحد الأعمال المهمة لهنري جيمس؛ «دوران البُرْغي» (The Turn of the Screw)، الحبكة هي عن امرأة شابة تتسلم وظيفتها كمُربيَّة لأبناء أحد النبلاء في قصره الريفيّ، وأثناء وجودها بالقصر، تدرك أنه مسكون بشبحين لاثنين من الخدم السابقين اللذين ماتا منذ فترة طويلة، والسر المُحيِّر لهذه القصة، أن النقاد مازالوا منقسمين حتى يومنا هذا ما بين فريقين: فريق يُفسِّر القصة بناءً على وجود حقيقيّ للأشباح في القصر (أي تفسيرٌ عجائبيّ)، ويسوق الحجج الداعمة لتفسيره هذا، وفريق آخر يُفسِّر القصة بناءً على أوهام عن أشباح متخيَّلة في ذهن مربيِّة الأطفال (أي تفسيرٌ طبيعيّ)، ويسوق الحجج أيضاً على تفسيره ذاك، فالتفسيرات تتأرجح والمُفَسَّر لا يُدرَك، هي تتأرجح لأنه يظل سراً لا يُدرَك. 

حجابا النور والظلمة
الشيخ محيي الدين بن عربي يقول: «النُّور حجاب، والظُلمة حجاب، وفي الخطّ بينهما تشعر بالفائدة، فالزم الخطّ»، وفي موضع آخر من «مشاهد الأسرار القُدسيّة»، يقول: «الحيرة حقيقة الحقيقة»، هذه الحيرة هي عينها ما منحت «دوران البُرْغي» أهميتها الأدبيّة والجماليّة منذ كتابتها عام 1896، ووعي جيمس بإمكانات النصوص الخياليّة، هو ما منح أعماله ثقلها الجماليّ الخاص، بصماتها الحَفَّارة، في حين ظلت أعمال كِنج هَشة، لا تتحمل قراءة أدبيّة حقيقيّة ثانية، أعمال تراهن على غواية فقاعات الدهشة اللحظيّة الزائلة التي يولّدها العجائبيّ، كتابات تُدير لها ظهرك بعد قراءتها، لأنه ليس لديها أكثر من ذلك تفشيه لك، هي قواقعٌ خاوية، إنها ليست حُوتاً، هي سحابة تشبه الحُوت، وعلى ماذا يمكن أن تراهن آليّة البِست سيلر إن لم يكن على دهشة «الزبون» الضَجِر، قليل الخبرة، الشبيهة بدهشة النظرة الريفيّة قديماً للإضاءة بالكهرباء؟ 
في مقال مهم  له بعنوان: «سر السرد» (The Secret of Narrative, 1969)، يشير الناقد الفرنسيّ الشهير تزڤيان تودوروڤ لقصة لهنري جيمس عنوانها «مود إيڤيلين» (Maud-Evelyn) (كتبها جيمس عام 1900، وتحكي عن شاب يُدعى «مارمادوك» يقع في حب «مود إيڤيلين»؛ وهي فتاة توفيت منذ خمسة عشر عاماً قبل أن يراها مارمادوك لأول مرة، ويلاحظ تودوروڤ أن جيمس، كعادته، لا يتعاطى مع الشخصيّة المركزيّة؛ شخصيّة مود إيڤيلين، بشكل مباشر، بل عبر عدة مرايا، عبر أربع وجهات نظر مختلفة: فالحكاية كلها تُروى من شخصيّة تُدعى (الليدي إيما)، التي استقت معلوماتها عن الحكاية من محادثاتها مع شخصيّة أخرى تُدعى (لاڤينيا)، والتي بدورها قابلت مارمادوك، الذي بدوره يعرف فقط والديّ مود إيڤيلين، اللذين يسترجعان ذكريات ابنتهما المتوفاة، وهكذا، فإن جيمس يشوه «الحقيقة» أربع مرات متتالية، في أربع طبقات تعكس بعضها بعضاً، فتنشأ خلال القصة أربعة مواقف متباينة إزاء الحكاية المرويَّة: الموقف الواقعيّ الرافض لتصديق وجود شبح مود إيڤيلين، الذي تمثله الليدي إيما، والموقف الرومانسيّ المُعجب بقصة الحب المستحيلة، لكنه لا يُصدِّق إمكان حدوثها، والذي تمثله لاڤينيا، وموقف مارمادوك المحب الشاعريّ الذي يعترف بوجود شبح حبيبته وعدم وجوده في نفس الوقت، وأخيراً الموقف العجائبيّ الصرف للوالدين الموقنين بوجود شبح ابنتهما حرفيّاً، أما موقف القارئ، فيظل يتراوح طوال القصة بين تطرفات المواقف الأربعة، كتأرجح سفينة في خضم أمواج متلاطمة. 

حقيقة الأشباح
انطلاقاً من قول فرناندو بيسوا في «كتاب اللاطمأنينة»: «الغروب هو ظاهرة ذهنيّة قبل كل شيء»، يمكن القول بأن هنــــري جيمس، على الضدّ مــــن ستيــــفن كِنج، لـــــم يكــــن يسعى لإثبات وجود الأشباح في أعماله، فالسؤال: هل الأشباح موجودة في الحقيقة أم لا؟ سؤال لا محل له بين شخصيّات عالمه، فالحقيقة على الدوام هي حقيقة «ذاتيّة» لا موضوعيّة، لأنها «وجهة نظر» خاصة بشخصيّة معينة، وليست خالصة ولا دائمة ولا عامّة، وشخصيّاته تبدو دائماً حازمة وعازمة لا تشك أبداً في إدراكها، فهي إما موقنة بوجود الأشباح، أو بعدم وجودها، وكلا الموقفين لا يفعل في الحقيقة سوى التأكيد على هدف جيمس؛ وهو زرع الحيرة في نفس القارئ، لا في نفس شخصيّاته، حيال أشباح مُسكَّنَة بين هياجانات إدراكات متناقـــضــــة، تنفي أولاً فأولا إمكانات وجود أي حقيقة موضوعيّة. 
وربما لهذا السبب نفسه تميَّز أسلوبه بكثافة المشهد، بالاهتمام بالتصعيد الرأسيّ لكل حدث، أكثر من الاهتمام بالتطور الأفقيّ لسرد الأحداث المتعاقبة، وتفضيله لتقنية الحذف عن الإسهاب، فهدفه كان دوماً استثمار الأدوات التي تتيح له التلاعب في «إدراك» القارئ، لا مجرد التركيز على التتالي البسيط للفعل الدراميّ، ولهذا السبب أيضاً عمل على الخلط بين الماضي والحاضر، منحازاً للحركة الدائريّة للزمن، أكثر من انحيازه للتطور الخطيّ له، ومُعلياً من قيمة التكرار على الاختلاف، وهو ما مثل طفرة جينيّة، ثورة حقيقيّة على تقاليد سرد حكايات الأشباح في القرن التاسع عشر، التقاليد التي تناسلت منها أشباح ستيفن كِنج، والتي طالما عُنيت بتأسيس سردها على العوالم العجائبيّة، وعلى سعي الشخصيّات لتثبت لنفسها وجود الأشباح، لكن، وكما أن السياسة هي غريمة الثورات، فإن التجارة هي غريمة الفنون، لذلك انتصرت في النهاية الأشباح المُحافظِة لستيفن كِنج على الأشباح الثــــوريّة لهنري جيـــــمس، وأثبتت أنها الأكثر «شـــعبيّة» على كل حال، أشباح البِست سيلر ذات الطابع اليقينيّ العجائبيّ، التي تناسب توق الأذواق الشعبيّة للتصريحات الجازمة، لكنه ليس انتصار المتفوق بحال، وإنما المُستمسك بالمُرضي، المُستسلم للممكن. 
القارئ لأعمال جيمس، القصصيَّة بالذات، سيلاحظ أنها تُشكّل تراكماً لصور صغيرة تُكوِّن في مجموعها لوحة بانوراميّة كاملة، وهناك معمار خفيّ في كل أعماله، التي تبدو للعين الفاحصة وكأنها مُكرَّسة دوماً للبحث عن شيء ضائع لا أمل في استعادته، مُكرَّسة للغز مُحيِّر وبعيد، حلم لا مجد، أمل بلا بارقة، وبقدر بعد المسافة عن الشيء المراد استعادته، واستحالة تلك الاستعادة، بقدر ما يتبدى سحر محاولات المرء لاختراق تلك المسافة، ولاستعادة ذلك المفقود، ولأنها محاولات تستهدف دائماً الماضي أكثر من الحاضر، رغبةً في إعادة خوض خبرة ماضية، أو توقاً لإعادة إدراكها إدراكاً إيجابياً، لذلك هناك تأبين دائم في أعماله لأزمنة ماضية أفلتت من الشخصيّات، ورغـــبة استعاديّة في حيازتها من جديد، والزمن الدائريّ عنده يبدو متشظياً ومعادا تجميعه بشكل غريب، وهو يفعل ذلك متآمراً مع نصوصه، حاسباً تأثيرات الكلمات كلمة كلمة، صانعاً تنافراً محسوباً بين صور مختلفة لإدراك نفس الوقائع، بمُخيّلة تشوِّه عن عمد مُخيّلة القارئ، وتزيح الإدراك الذي تم الدفاع عنه للتو بعيداً، عبر هندسة تليق بهندسة المتاهات؛ دهاليز شُيدت لتحيِّر القارئ في متاهة إدراكيّة، ويخضع معمارها المُسرف في التناظر لهذا الهدف. 
من المثير كذلك ملاحظة الفارق بين كِنج وجيمس في منحهما لعناوين أعمالهما، فأعمال كِنج عناوينها دائماً إيحائيّة حافلة بالوعـــود، تحمل أسماءً واضحة لشخصيّات أو صفات حاضرة وفاعلة بحدة وتمييز (مثلاً: «أرض الصمود»، «منطقة الموت»، «انتقام شاوشنك»، «أربع دقائق بعد منتصف الليــــل»)، في حين يُطلـــق هنـــــري جيمس عــــلى أعمـــاله أسماءً لشخــــصيّات تظل غائبة على الدوام، ومحل بحث، أو يُطلق عليها صفات داكنة غامضة مُلتبسة (مثلاً: «الشكل الذي في السجادة»، «مفرق البهجة»، «النبرة الزمانيّة»، «الإيجار الشبحيّ»)، هذا الغموض الذي لا يفعل سوى أن يُشدِّد على كل المعاني الممكنة، ويمنح كلا منها الثقل نفسه. 
في إعادة مشاهدة للمسلسل التلفزيونيّ الأمريكيّ الشهير «التائهون» (Lost)، لاحظت أن به إشارات عديدة، طوال أجزائه الخمسة، إلى أعمال أدبيَّة لدوستويڤسكي، وهنري جيمس، وديكنز، وأيان راند، وشتاينبك، وهيمنجواي، ولويس كارول، وغيرهم، واستوقفني أيضاً أن هناك إشارة إلى عمل ما لكِنج، عمل لا نعرف اسمه أبداً، فقط يظهر اسم ستيفن كِنج على غلاف الكتاب، بينما تظل (جولييت)، التي تحتضن كتابه، حاجبة اسم العمل بيديها طيلة حلقتين من المسلسل، وكأن اسم الكاتب أهم مما كتب، إنه عالم «البِست سيلر» Best Seller والكتاب -النجوم، ويتهكم «الآخرون» عليها لإعجابها بكتابات كِنج، يقول أحدهم: إن (بنجامين) ما كان ليرضى بقراءة هذا الكتاب حتى وهو في الحَمَّام، وفي حلقة تالية، عندما يرى بنجامين الكتاب في حضنها، يعلق: إذن فأنا مستبعد من نادي القراءة الذي تنظمينه! 
المفارقة، أنه بينما يتهكم صُناع المسلسل على ستيفن كِنج، انحازوا في أحداث مسلسلهم، في الجزء الثالث تحديداً، إلى المنظور العجائبيّ الأحاديّ المحسوم، بعد أن ظلوا حتى ذلك الحين محافظين على خياليّته المُلتبسة، أي أنهم قد انحازوا، وفي نفس الجزء الذي يتهكمون فيه على كِنج، إلى المُسبِّب الأساسيّ لتعالي بنجامين عن قراءة أعمال ستيفن كِنج حتى وهو في الحَمَّام .