زائر المساء اليومي

زائر المساء اليومي

عند الساعة الرابعة عصراً وحينما تنفرج شدة حرارة لهيب الصيف في الزنزانة الضيقة المحشوة بالأجساد المتعبة، كان يأتي وكأنه على موعد معي، كنت أنتظره وأحسب دقائق الساعة بانتظاره لعل في صوته بعضاً من لحظات أمل مفقودة، وكعادتي اليومية في هذه الأيام الحارة أن أرقد بعد أن أتناول الغداء الذي يرميه لنا ذلك السجان البدين لساعة واحدة، قد تمتد إلى أكثر من ذلك لحظة شعورك بأنك مقذوف إلى جهنم بعد أن «تشتوي» خاصرتك ويسيل عرق الجسد حتى يطفو فوق ملابسك الداخلية، الأحلام المزعجة التي تدهمك من رعب المكان وصرر الأبواب الحديدية المقفلة وأصوات السجناء وطلباتهم المتكررة للذهاب إلى المرحاض المقفل بعناية، وتمركز مفتاحه بيد السجان البدين تحيل هذا النوم إلى كوابيس تنسى حينها أنك مولود ولديك أهل وبيت.
مرة استيقظنا بعد منتصف الليل على صوت سجين كان معي في نفس الزنزانة، كان المسكين يمسك ببطنه وهو يصرخ من الآلام، لا أعرف مصدرها، سألناه، كان لا يستطيع الكلام بل يومئ بحاجته إلى المرحاض ثم يتمتم.. الإسهال.. الإسهال.. سوف يقتلني، كان يتلوى على الأرض، أسرعنا بطرق قضبان الزنزانة دون أن يكترث لنا أحد، باب السجن بعيد عنا، صوتنا ارتفع وبدأ يشق سكون الليل، استيقظ كل من كان في هذا الموقف الطويل، نحن كنا في الدور الثالث من بناية تتوسط الأمن العام في منطقة البتاويين في بغداد، أما الدور الأول الذي قضيت فيه أكثر من شهرين في بداية الاعتقال فكان تحت الأرض وكان مخصصاً أغلبه للتعذيب، وزنزانته يحجز فيها المتهم للتحقيق البدائي معه طولها ثلاثة أمتار وارتفاعها متران، وفيها لا ترى النور مطلقاً، وتنام فوق بطانية قذرة تشم منها رائحة الدماء والبراز، تقاد في الليل إلى غرف الموت، وفي النهار توضع الأصفاد في يديك وترمى كالكلب بعد أن تربط بقضيب حديدي يحيط بالزانة من الأسفل لا يسمح لك بالحركة والوقوف، وحينما تحتاج إلى المرحاض الصغير في الزنزانة، تزحف إليه عبر حركة دائرية لتفرغ الخوف الذي يملأ جوفك، وأكثر ما يرعبك كثرة الجرذان التي أحياناً تنام بجنبك مطمئنة لتقيد حركتك، هذه الجرذان كانت تخرج من فوهة المرحاض، وكنت أنا ورفيق الزنزانة نحاول بكل جهد أن نمنع خروجها إلينا بسد فوهة المرحاض ببعض البطانيات الممزقة، لكنها تمتلك من القوة لدفعها والخروج باتجاهنا، حتى أطلقنا عليها الجرذ السري لأنه ربما تعلَّم من الجلادين مهنتهم وقسوتهم.
العنبر الذي فيه نحن عبارة عن مجاز طويل مقسم إلى زنزانات تفصل بينهما القضبان، وكل زنزانة يرقد فيها أكثر من ثلاثين معتقلاً وفي أحيان أخرى يصل العدد إلى أكثر من ذلك، يفصل بين شقي الزنزانات ممشى بطول خمسين متراً، أحياناً يسمح لنا بأن نتمشى لمدة زمنية محددة كمكرمة من السجانين، وهنا يمكن أن يتم التعارف بين السجناء، كنا خليط عرب وكرد، أعضاء في أحزاب دينية إسلامية مختلفة وهم الأكثر بيننا، سجناء رأي، بعثيون منشقون، أعضاء في الحزب الشيوعي، عسكريون مشكوك في ولائهم، طلبة جامعات، وبالطبع ليس لديك الوقت أن تتحدث لأن عيون الحرس تراقب وتسجل هذه اللحظات. كان أحد السجناء - عرفت بعد ذلك أنه يعرفني 
جيداً - همس في أذني (خذ بالك الحرس لا يرحم، قد تضاف إلى قضيتك قضية ثانية).
كيف لي أن أعرف.. سألته؟
أجاب وهو يبتسم: «يبدو أنك بعدك غشيم».
ضحكت في سري، نعم غشيم، وكيف لي أن أعرف بهذه التفاصيل التي لم أكن أتصورها مطلقاً كيف يعامل هذا النظام الذي يتظاهر للآخرين بالرحمة والعطف على شعبه؟ كيف يداس الإنسان ويسحق بذلّ ومن دون رحمة؟ كيف يقتل الأبرياء ويساقون إلى المشانق لمجرد الاختلاف بالرأي، أو الاختلاف بالعقيدة؟ كيف أفسر هذا التعذيب الجسدي وأنهار الدم التي تتفجر من جسد سجين حينما يقذفه السجانون بعد منتصف الليل إلينا، لمجرد أنه يقرأ كتاباً دينياً؟ كيف وكيف وكيف، كنت مجرد وهم يمضي وأستيقظ الآن.
حينما سمع السجان صراخ السجناء بأن السجين سيموت، فتح النافذة الصغيرة في أعلى بوابة السجن ومد عنقه كأنها عنق زرافة ووجه كاحل مصفر.
ماذا يحدث؟ ما هذا الصوت؟ هل مات أحد؟ 
كلا، قال له أحد السجناء، لكن هذا (وهو يشير للمريض) سيموت من كثرة الإسهال.
 وماذا أنا فاعل، دعه يموت، أو يصبر إلى الصباح؟
لكن افتح له المرحاض ليذهب إليه ليفرغ ويغتسل، قال أحد السجناء.
وسّع السجان بعضاً من فتحة الباب قليلاً، ثم قذف بشيء تدحرج أمامنا.
خذ هذا (السطل) ودعه يفرغ فيه قاذوراته. 
لكنه يحتاج إلى دواء؟
اذهب به إلى الجحيم، من أين (أجيب) الدواء بالليل.
لم أشاهد هذا المشهد في حياتي، السجين يفرغ، بينما زميل له يسقيه الماء للتعويض، كانت الرائحة لا تطاق والأصوات المرافقة وصلت إلى آخر الزنزانة، وبين أن تضحك أو تشعر بالذل، تندم في هذا المكان على أنك ولدت.
نومي الخفيف في هذه الساعة يشعرني بشيء من التأمل، وأحياناً بالاسترخاء والانتظار، ربما تستدعى إلى التحقيق في الليل، لأن سكونه آلة تقطع أجساد المعذبين في هذه الغرف العفنة، المتعددة الأشكال والألوان، لكن أكثر ما يخيف السجناء قسوة المحقق ووحشيته، لأنك في لحظة قد تجد جثتك معلَّقة من الأطراف السفلية، ورأسك (مدندلاً) إلى الأسفل عارياً تماماً، يقول السجناء هذا أرحم من أن تعلَّق من يديك أو كتفيك في المروحة السقفية، لأن ذلك سيعرض الكتف إلى التمزق. 
كان الممشى هذه المرة مزدحماً، حركة السجناء كانت سريعة وهي تقطع هذه الأمتار القليلة ذهاباً ومجيئاً، ربما لكي يستغل السجناء الوقت المتوافر لنا. كنت حينها برفقة صديقي.
سألته: الزنزانة هذا اليوم مزدحمة جداً؟
- وفي المساء ستكون أكثر، لدينا زوار جدد سيكونون معنا، حافظ على مكانك في الزنزانة.
- وكيف عرفت؟ سألته. 
- كنت قبل ساعة من الآن عند ضابط الموقف، ووجدت أعداداً كثيرة تتهيأ إلى دخول الزانزنة.
وكما قال، فقد دخلت مساء إلى الزنزانة أعداد كبيرة من السجناء المشحونين من مديرية أمن الناصرية، كان أغلبهم حفاة لا تسترهم سوى سراويل صغيرة، احتشدوا عند الباب بانتظار الضابط لكي يتم توزيعهم على الزنزانات.
كان من نصيب الزنزانة التي أنا فيها كبيرهم، رجل تبدو عليه ملامح التدين والعبادة والكياسة، ومن شهقات أنفاسه المتصاعدة عرفت أنه تعرض لتعذيب جسدي عنيف، ومع ذلك لا يبدو عليه التذمر أو الخوف، كان يدرك مصيره، لكنه كان يخشى على عائلته (زوجته وبناته الثلاث) المحجوزات معنا لكن في زنزانة النساء التي تقابل زنزانتنا. 
هدأ الجميع، وبالصدفة كان منامه حشراً بجانبي، قال لي: هل معك «قرآن»؟
قمت وسلَّمته المصحف.
وحينما بدأ يقرأ كانت الدموع تتسرب من عينيه، بينما غدا وجهه نورانياً يشع ضوءاً، شعرت بالقرب منه، مددت يدي إليه، شددت عليها، فاستدار نحوي لكن بشيء من الريبة، لأن أغلب زنزانات النظام محشوة بالمندسين الذين هم «عيون السلطة» حتى في المعتقل.
حملت له قدحاً من الماء، شرب وغسل وجهه ببعض منه، سألني: كم أمضيت في هذا المعتقل؟
- الآن أربعة أشهر، وقد أكملوا التحقيق معي، وأوراقي في محكمة الثورة، حسب ما عرفت.
- وما التهمة التي جئت من  أجلها؟
- سجين رأي، أو بالعراقي (سب وشتم).
ضحك طويلاً.. وأنت تشتغل؟
نعم.. صحافي وكاتب.. وطالب في الجامعة.
انفرجت أسارير الرجل حينما سمع بأني صحافي. 
سألته: شعرت بأنك سعدت بالخبر؟
قال: نعم، حينما يمنّ الله عليك بالفرج ستكتب عنا يوماً.
- وكيف لي أن أعرف قصتكم؟ سألته.
بدأ يتحدث وكأنه كتاب مفتوح، قال: نحن أكثر من عائلة من أهالي الأهوار بين الفهود والجبايش، أنا أستاذ جامعي أدرّس بجامعة البصرة ومفصول ومتهم من السلطات بإيواء الثوار وحمايتهم ودعمهم، وأنا لست نادماً على كل ما فعلته، لقد واجهت التحقيق والتعذيب في «أمن الناصرية»، وأعرف بأن مصيري هو الإعدام.
حاولت أن أهدئ من حالته النفسية، لكنه أسرع وقال: كل الذين معي سيواجهون الموت، فقط أيام قليلة وسنذهب لمحكمة الثورة، الموت نهاية كل إنسان، لكن عليك أن تستقبله برحابة صدر، لأنك ذاهب عند رب رحيم، لكن جلّ خوفي وارتعادي على مصير بناتي الثلاث وأمهن، وهن طالبات جامعيات، أنا أعرف كم قساوة النظام، لكني أتضرع إلى الله أن يحميهن من بعدي.
كنت أتمنى أن أستمر بالحديث معه، لكن سمعت باب الزنزانة يفتح، حينها أومأ لي سجين بأن أرقد وأصمت لكي لا تتعرض الزنزانة إلى عقاب جماعي. أدرت ظهري وذهبت إلى النوم وأنا أرتعد لقصة هذا الرجل.
وفي فجر صباح اليوم التالي كان أحد السجانين يتلو قائمة طويلة من الأسماء للتحضير للذهاب إلى المحكمة، ومن بينهم الأستاذ الجامعي الذي بدأ يجمع ما عنده من أغراض مستأذناً مني بسلام رقيق وتحية مهذبة، كانوا أكثر من ثلاثين معتقلاً، وحينما نزلت في معتقل الأحكام الخاصة في «أبوغريب» بعد شهرين، كان أول ما بحثت بين النزلاء عن مصيره لعلي أجده، لكن بالصدفة وجدت واحداً ممن كانوا معه، حينما سلمت عليه تذكّر أيام معتقل الأمن العام.
قلت بلهفة شديدة: أين أستاذ.. وقبل أن أكمل، سقطت دموعه وقال: لقد أُعدم، ليس هو فحسب بل زوجته وبناته الثلاث.
جلست على أريكة ولم أستطع أن أكتم حزني ودموعي، لأن الموت قدرنا. 
كانت عيناي نصف مفتوحتين وسمعي يرهف لسماع نغمة صوته، الشباك الصغير الوحيد في الزنزانة يعلو الجدار وتلتقي أطرافه عند السقف، ومع أننا لم نستطع مطلقاً الوصول إليه لارتفاعه فإنه محاط بأسلاك محكمة لا تسمح بأن تخرج إصبعاً واحداً من كف اليد الواحدة من بين قضبانه الحديدية، كنت أشعر بلذة مشحونة بالإحساس بأني أستطيع أن أحشر رأسي وأنظر طويلاً إلى ما وراء هذه الزنزانة، لكن كنت أخشى أن أخيفه، فيهرب مني إلى مكان آخر، إنه الزائر اليومي الذي يسد عني وحشتي وخوفي. 
كان رنين صوته على الموعد معي، يبدأ بصوت خفيف من العزف على أوتار حنجرته الصغيرة، وكأنه يشعر بأن عليه أن يحترم رقادي في هذه الساعة.
هل يعرف هذا العصفور الجميل بأحوالنا؟ هل يدرك أننا في مساكن الموتى؟
سألت نفسي مراراً هذا السؤال، لماذا يبدأ بصوت خفيف، ثم يتعالى تغريده رويداً رويداً حتى يصل إلى جميع من في الزنزانة، لا أدري هل كان الجميع يشعرون بما أشعر به، قمت ووقفت تحت النافذة، آه لو أستطيع القفز؟ فقط لأشاهده، ربما أسأله.
ضحكت طويلاً، وسألت: هل أنا مصدق نفسي؟ حيوان جميل يأتي في هذا الوقت ليقف عند شباك زنزانة سجن، ربما أن الطيور تشعر بنا، أكثر من هؤلاء الكلاب الذين يقيدون حريتنا، ويقتلون فينا الأمل بالحياة.
بدأت أدور وحدي في الزنزانة، كان بعض السجناء قد توجهوا إلى الممشى، فيما أطل صديقي الذي حذَّرني ونادى عليّ أن أكون معه، كان يحمل معه بعضاً من الأفكار، كانت عيني شاخصة باتجاه الشباك، تنبه لي.
«شنو تريد أدبر هروبك من هذا الشباك، يا معود شلون راح تطلع؟!» قال ذلك وهو يبتسم.. 
لم أكترث وواصلت سماعي لصوت صديقي العصفور، كنت أعرف وقته، فحينما يبدأ الغروب يحل على السجن، يغادر إلى مكانه وكأنه يودعني، حينها أشعر بأني فقدت عزيزاً ذا أمل لي بالحياة، استدرك صديقي السجين كلامه، ودرت باتجاهه بعد أن شعرت بأن صديقي العصفور قد غادر مكانه على غير موعده اليومي.
سألته: هل شعرت بشيء غريب طرأ على معتقلنا هذا؟
أجاب: ماذا تقصد؟
قلت: أشعر بأن حريتنا قريبة.
- من ذلك العصفور الذي تستمع إليه يومياً؟ قال وهو يتفرس في وجهي.. 
قلت: ربما أرسل القدر هذا الطير لنا، وإلا لماذا غادرنا اليوم على عجل؟
- وهل تؤمن بأن الحيوانات ترسل إليك الآمال؟
التفت إليه قائلاً: نعم.. الطيور، أحياناً تشعر بأنها أقرب إليك من بني البشر .