حسن شهاب الدين: أعلى بناية الخليل بن أحمد

حسن شهاب الدين: أعلى بناية الخليل بن أحمد

جمال العربية في شعر هذا الشاعر الجديد، الشاعر الشاب حسن شهاب الدين، يؤكد للمراهنين على مستقبل الشعر العربي المعاصر، وقدرته على تجاوز ذاته، واندفاعه إلى آفاق شعرية غير معتادة أو مكرورة، والتحلي بانسكاب الشعرية في لغة تشع بالتوهج والألق، ونفض ما بلي من أكفان اللغة المتداولة، واستنبات معجم شعري جديد، وتجليات شعرية مدهشة.

ليس صحيحًا إذن أن الشعرية الراهنة تدور حول ذاتها دون أن تملك القدرة على التجاوز، وليس صحيحًا - أيضا - تطلّع البعض - من كهان معبد الشعر - حوله يمينًا ويسارًا، ليعلن في اكتئاب وامتعاض أنه لا يرى جديدًا ولا يعاين تحولًا وانطلاقًا، العيب فيه وفي عينيه، وفي حسّه وذائقته، وليس فيما تتفجَّر به الأرض الشعرية العربية - في كل يوم - من مفاجآت، وما تمتلئ به المكتبة الشعرية من إنجازات.
علينا إذن أن نبحث عن الجديد المقتحم، فيمن امتلك الأداة قبل أن يحلِّق، ومن خرج من رحم جماليات الشعر العربي - المتطاول عبر القرون - قبل أن يفاجئنا بجمالياته، وفيمن يؤمن بأن الشعر يصبح ركيكًا وسمجًا وفاقدًا لحرارته وهويته حين يتخلى عن الإيقاع والموسيقى والهزة الوجدانية والنفسية الحقيقية التي هي رجع صدى الشعرية والشاعرية.
في هذا السياق يأتي شعر حسن شهاب الدين، بدءًا بديوانيه الأوَّلين: «شرفة للغيم المتعب»، و»مُتوَّجٌ باسمي»، وصولًا إلى الديوان الذي يشهد تسنّمه أعلى بناية الخليل بن أحمد، منتسبًا إليها أولًا، ومستقطرًا لجمالياتها المنبثّة في عروق الشعر العربي كله، ومضيفًا إليها ما يرى فيه امتدادًا وعلوًّا، وتأصيلًا لفن الإبداع الشعري في حال تألقه واكتماله.
يقول حسن شهاب الدين في قصيدته الافتتاحية «تكوين» مفصحًا عن حقيقة معماره الشعري ومكوِّناته: 
 قيل اقرأ الغيْبَ
قلت: الصمت يكفيني
أخشى على الطين
من إشراقة الطين
ماذا إذا 
دمية الصلصال باغتها
برق اكتمالكَ،
بين الكاف والنونِ
فأشرقت،
فوق ما تسطيعُ من ألقٍ
وازَّلزلت
فوق ما يسطيع تمكيني
وحان منها التفاتٌ
فارتأت جبلًا
وقد تطاير
من فخّار تكويني!
الشاعر يرى في شعره إشراقة الطين، وفي الجبل المتطاير بعض فخّار تكوينه، مؤكدًا الطبيعة الانفجارية لشعره: لغةً وصورًا وحالاتٍ وتجليات وإيقاعًا، ويزداد الكشف عن هذه الشعرية، كلما انطلقنا مع كشوفه الشعرية في ديوانه البديع ونحن نطالع قصيدته «أبجدية المصباح»:
بخفةٍ
أنا البياض الذي
في الصمت يبتدئ
مهارةً
أن يخيط الغيم لي مطرًا
فيرتديني قميصًا
فوقه الظمأ
وحكمةً...
أن نخلًا خلف قافيتي
تهزه امرأة خضراءُ
ينكفئُ
أرمي عليها بتمْر الضوءِ
يُربكني
تلعثمُ الشمس في صوتي..
فأنطفئُ
أتقرأُ الصمت..؟
ها قد سال في ورقي
ماءُ الهدوءِ
وهذى البئر تمتلئُ
لي أبجدية مصباحٍ
أجوس بها حدائق الله
كي يرنو لها الملأُ
عصفورةً في مهب التيه
أُطلقها
وغيمةً في خيال البيد
تهترئُ
وشارعًا
من طفولات مبعثرةٍ
على خرائط حُلمٍ فوقها أَطأُ
ديوان ليل عميقٍ كنتُ،
وانسكبتْ
بهامشي أنجم المصباحِ تختبئُ
مراوغًا، كافَ تشبيهٍ، وأقنعةً 
على مرايايَ
فيها أينع الصدأُ
أعيدُ للغيم لحن الماءِ
لو سمعوا
وأرتدي لغة الأشياءِ
لو قرأوا 
حتى اكتملتُ وحيدًا
فوق مرثيةٍ للكونِ
كنت على اللاشيء أجترئُ
وغربتي
ضربة الفرشاةِ
عن خطأٍ
محت إطاري
وأغراني بها الخطأُ
فصغتُ للوقت خلف البابِ
عُزلته
وقلتُ:
لا يأتني من هدهدٍ نبأُ
لي ثُلّةٌ من خراف اليأسِ، أتبعُها
إلى ممالكَ..
لا تدري بها سبأُ
مدائني.. خلف هذا البوحِ
شاسعةٌ
وعرس صمتي
عليه الآن.. أتكئُ
تحتلّ مفردة «الصمت» مكانة بارزة في شعر حسن شهاب الدين، وهي تتردَّد في القصيدتين اللتين استشهدنا بجدَّة الشاعرية فيهما حتى الآن، ويبدو - للوهلة الأولى - أن حالة الصمت لدى الشاعر عزوف عن المشاركة في أسن الحياة الأدبية من حوله واختلاط أحكامها وحُلكة مساراتها بعد أن أفسدها المفسدون والعابثون من المغرضين، وبعد أن فسدت ذائقة كثيرين - نقادًا ودارسين وقراء -، يلوكون الشعر السهل الضحل والمبتذل، ويدورون به في الأسواق الأدبية ومنابر الجوائز التي ينالها عادة غير الشعراء، أو هم الشعراء الذين ينالونها ثم نفاجأ بأنهم بعد جوائزهم موتى لا صوت لهم ولا حسّ لهم ولا خبر! ما الذي يفعله أمثال حسن شهاب الدين في مثل هذه السوق الكاسدة الفاسدة؟ الصمت ملجؤهم ومتكؤهم وملاذهم، والعكوف على صلصال الحزن دأبهم وغوايتهم، بدلًا من أن يلطخوا مراياهم بطين حقيقتهم:
مسافة ما بيني وبيني 
بعيدةٌ
وأقربُ من موتي إليَّ انتحاراتي
تزلزلتُ بالرؤيا
فكانت قصيدتي
وآخرتي لاحت
فسرتُ لميقاتي
هنا فوق أرض الروح
ثبَّتُّ خيمتي
وأشعلتُ تاريخي
وقلت: أرى ذاتي
رأيت نهارًا فوضويًّا 
على يدي 
فأرسلتهُ للأمسِ
يرعى طفولاتي
وقلتُ لأيامي
ارتدي صوت فتنتي
ويا بحرُ
خُضْ مثلي
بحار انفعالاتي
وسيري
شجيرات المساءِ
إلى دمي
لأوقد في أغصانكِ السُّودِ
مشكاتي!
لن نجد في الديوان قصيدة تسمَّى بها الديوان، والعنوان الذي اختاره الشاعر لديوانه «أعلى بناية الخليل بن أحمد» عنوان مقتنص من المعنى الداخلي الذي يلازم الشاعر ويصحبه في جميع قصائده التي يختار لبعضها عناوين تدلُّ على الوعي بالجهد المبذول في صوغها. من هنا فنحن نجد من بين عناوين قصائده: نحّات الخيال، وعزلة الإزميل، وصانع الأشكال. كما نجد مفردات الحجر والصلصال والفرشاة والغيمة الحجرية ومهد الأبجدية وأعمدة الظلال وجدران الأفق وهامش التكوين وفخّار التكوين وغيرها مما يجسِّد لدينا صورة الفنان المشغول في مرسمه أو مَنْحته بتشكيل دميته الشعرية الجديدة والنفخ فيها من روحه، روح شعره، ما يجعل منها فتنة القارئ والمتأمل. 
يقول في قصيدته «متاهة الأشكال»:
فسَّرْتَ لي الترحال بالترحالِ
فتمرّدت لغتي على صلصالي
وتركتني
في جنة وحشيةٍ
من أحرفي
أعدو وراء ظلالي
أحدو
- على ظمأٍ -
قوافل حيرتي
في تيهها
وأريقُ ماء سؤالي 
شركٌ هي الكلماتُ
أيُّ خرافةٍ قُزحيةِ
من حكمةٍ وضلالِ
شكَّلتَ تمثالي
بطينٍ ناطقٍ
ورضيتَ لي حرية المثّالِ
وكما أردْتَ
أَعدْتُ تشكيلَ الحياةِ
على يديْكَ
بأحرفي ومُحالي
رتّبتُ فوضى الصمتِ
ثم تركتهُ
يتلو أغانيه بصوتٍ عالِ
وقرأتُ سِفْرَ الماءِ
شِدْتُ حضارةً
من غيمةٍ ترعى بأفْقٍ خالِ 
أطلقتُ صُبْحًا
من تفاعيل المدى
ليكون نافذةً 
لبيت خيالي
وأقمتُ مئذنةً لليلٍ راحلٍ
ما بين فاصلتيْن
مرَّ ببالي
ورسمتُ كوْنًا
من فراغٍ ناعمٍ
والأبجدية
متضارب الأشباه والأمثالِ
أنا لم أكنْ
والأبجدية سِدْرتي
والوحيُ
- نَصْلُ الغيْبِ -
يقرأ حالي
أنا لم أكن
كان البياضُ غَوايتي
وسرابُك الصّدّيقُ
أُفْقَ جمالي
وغزالتان
على معارج فضّةٍ
تصّاعدان بطفلك المختالِ
كانت طيور يديْكَ
حطّتْ في دمي
ورشفْنَ
رجفةَ صوتيَ السلسالِ
وحديقة النهوندِ
فيَّ تفتّحتْ
لسحابةٍ إيقاعُها مُتوالِ
أوغلتُ في الكلماتِ
وزّعتُ المدى نصفيْنِ
بين سمائها وهلالي
وصحبتُ فيها الشعرَ
طفلًا لم يزلْ
يلهو بدميتهِ
مع الأطفالِ
ولمستُ لونَ الميمِ
أبصرتُ انفلاتَ الراءِ
سرتُ على انحناء الدالِ
حتى اكتملتُ على صليب قصيدتي
فإذا أنا ومتاهة الأشكالِ
ويقول حسن شمس الدين في قصيدته «نحّات الخيال»:
هُزّي
بغُصْنِ الشمس في أبياتي
لن تبزغي
إلا على مرآتي
صوتي
على باب الكواكب عالقٌ
فتأوّلي حدْسي وإشراقاتي
أنا في رداء الخلْقِ
أعقدُ للرؤى
فخَّ المجازِ
وراء تفصيلاتي
فجَّرْتُ لغْم الوقتِ
صُغْتُ حداثة الصمت المقفَّى
واكتملتُ بذاتي
أنا آدمُ الشعراءِ
أوّلُ ساكبٍ للغيْمِ
من مَطري ابتكرْتُ لغاتي
توّجتُ صحراء القصيدِ
بخُطوتي
ودعوتُ أندلسًا
إلى خيماتي
وأقمتُ للفقراءِ
مملكةَ الرؤى
ونثرْتُ
شمْسَ اسمي
على العتباتِ
لُغتي بطعم النور
ترسمُ حُلْمَها
قمرًا خرافيًّا على لوحاتي
وبسيطة كالحزْنِ
تتركني على
جبلِ الحنينِ الساطع العبراتِ
خُوضي نهارَ الروحِ
ذوقي أحرفي
مغمورةً في أدمع المشكاةِ
الأبجديّةُ
في يديَّ تفتَّتَتْ
وأنا أسوقُ الغيْبَ
نحو دواتي
وزجاجُها المكسور يعكسُ صورةً
لك في يقين دمي
سأعيد تشكيل القصيدة
مرةًّ أُخرى 
وأحدو الأرض نحو شتاتي
تخبو مجازاتي
فأشعل كوكبًا
متمرِّدَ الألوانِ بالفرشاةِ
وأقول يا لغة النهار تفتّحي
وخذي كتاب الأفْقِ عن شرُفاتي
قمرُ الشتاءِ
غزالةٌ برّيَّةٌ
تتسلّقُ الإيقاع في نغماتي
تطفو
وترسبُ
في خطوط يدي
كما طفل 
على أرجوحةِ اللّحظاتِ
ومياهُ هذا الضوء حين أُريقها
في ساحلي
تصحو على لمساتي
عُودُ الأصيلِ
سفائنُ الغيمِ التي غرقت
ملائكُ هذه الزهراتِ
منها السلامُ عليَّ
حين تركْنني
وحدي أذوق حنينَها بصلاتي
وإلى دمي
تمشي القوافلُ
والصدى
يتجَسَّدُ امرأةً من الجمراتِ
فأعودُ صِدِّيق الرحيلِ
تقودني للكشفِ
موسيقى البراح العاتي
تتوضأ الصحراءُ
بين أصابعي
وتقيم فرض الغيب
في شطحاتي
وتدير في صمتٍ
حوارًا خارقًا
بين الوجود وهذه الصفحاتِ
لاتسأليني من أكونُ
إذا يدي
مُدَّت بقمح الروح
في خلواتي
ودنَتْ سماواتُ الكلامِ
لتستَقي من راحتي
مذهولةَ الآياتِ
وعلى شفاهي طعمُ غيبٍ لاذعٍ
لقصيدةٍ
في سِدْرة الميقاتِ
أنا فاقرئيني
والخليقة تبتدي
معراجها الليليَّ من ورقاتي
هو ذا أنا
المنسيُّ في أصقاعهِ
يقتاتُ من
إشراقةٍ في الذاتِ
يبني مدائنه على أوراقهِ
ويُتَوَّج الإنسانَ
بالكلماتِ
يحيي تماثيلَ الخيالِ
لكي تعي
وترى الحياةَ على يد النحّاتِ
يجتاز أزمنةً ستأتي
مثلما
يجتاز بحرٌ
ساحل المرآةِ
ويعودُ ذات قصيدةٍ
في كفَّهِ
وطنٌ ومصباحٌ
وحلمٌ آتِ!
  ***  

هذا هو الشعر الذي ننتظره ونسعد به، نفسًا جديدًا، وتجاوزًا للراكد والآسن، لا شعر الأسواق والمسابقات والجوائز الذي يسهم في قتل المواهب البازغة إن كانت هناك مواهب، وهو الشعر الذي يُجسِّد لغتنا الجميلة في هذا الزمان الجديد، والعصر الذي يتخلخل ويتزلزل مفصْحًا عن إبداعات جديدة، وتجليات مدهشة، مضيفًا صفحاتٍ مشرقة إلى جمال العربية .