محمد زينو شومان بين القصيدة والتأمّل في ديوانه «فاصلة بين امرأتين»

محمد زينو شومان بين القصيدة والتأمّل في ديوانه «فاصلة بين امرأتين»

  إنّ الفنّ هو موهبة إبداع وهبَها الخالقُ لكلِّ إنسان... وهو النّتاجُ الإبداعيُّ الإنسانيُّ، حيث يُعدّ لونًا من ألوان الثقافةِ الإنسانيّة، وفيه خروجٌ عن المألوفِ في التّفكيرِ وفي النّظرِ أو الحكمِ على أيّ شيء، فمن خلال الفنون يعبّر الإنسانُ عن أناه وذاته أو عن رأيه أو إحساسه. والفن يعبّر عن الواقع بلمسات الجمال، وهو تحويل للواقع بواسطة أساليب تعبيرية، وأدائيّة من نوع خاص، وسواء أكان الفنّ عملية تحويل، أو عملية رمز، أو هروبًا من الواقع، أو تساميًا عليه، فلا يهمُّ ذلك. إنّما المهمّ أنّه انتقال من حقيقة عادية شائعة إلى عالَم يفوق الواقع ويتّصف بالجمالية، وحُسْنِ الذّوق.

 

إنّ الفنون تحمل خبرات الحياة وتجاربها، لذلك فهي وسيلة راقية لتنوير وتعليم الإنسان، وتربية ذوقه، وحسِّه الجماليِّ. إنّ الشعبّ الذي تنمو فيه الفنونُ والآداب هو شعبٌ متطوّرٌ. 
والشّعر فنّ من الفنون الجميلة، فهو مجمل عواطف النّفس ونزواتها، يبدو تارة زفرات حرّى يُصعّدها صدر هائج، وطورًا ابتسامات عذبة تعلو ثغرًا جميلًا. وقد تتسّع دائرته بعض الأحيان، فيعبّر عن عواطف جمهور من النّفوس، بل ربّما عبّر عن عواطف أمّة بأسرها، والشّاعر هـو الذي يشعر بعواطفه الشخصيّة أو بعواطف غيره من حبّ وبُغض وفرح وحزن، فيراها منعكسة على مرآة نفسه، فيبرزها إلى الخارج بطريقة تجعلنا شاعرين معه ببعض تلك العواطف. 
وقد يصعب تعريف الشّعر، لكنّنا نقترب منه إذا قلنا إنّ الشّعر حياة ومسوّغ حياة، ومن الطبيعيّ أن يدافع عن أجمل وأنبل ما في الحياة، وهو الإنسان. 
ومن الطبيعي أيضًا أن يكون الشّعر في جانب كبير منه على أقلّ تقدير، وبصورة غير مباشرة في معظم الأحيان حربًا مقدسة على كلّ ما هو غير إنسانيّ أو يشوّه الإنسان ويبعده عن الحياة، أي يبعده عن الحرية والكرامة والجمال والانسجام في الظّاهر والباطن على السّواء.

مسيرة كفاح شاعر
هذا هو الشّعر، فكيف إذا كان مع شاعر تميّز بدفق في مشاعره، يغرّد في صباحاته، معبّرًا عن آهاته وآلامه وأفراحه، ويرسل أشجانه في مساءاته، مصوّرًا نضالات بيئته، راسمًا واقعه الجنوبيّ المقاوم؟
نَعم، شاعرٌ وُلد في بلدة زفتا الجنوبيّة، في عائلة كادحة، جعلت الأرض مصدر رزقٍ لها، عانى الحرب الأهليّة، فتعثرّت مسيرته التعلّميّة، لكنّه تطلّع إلى الأمام، فرسم لنفسه خط نضال وكفاح في الحياة، فكان للاغتراب تأثير في حياته، فنقرأ دواوينه «عائد إليك بيروت»، و«مواعد الشّعر والجمر».
وتكتمل مسيرة كفاحه فيمتهن الصّحافة طريقًا له، ويعمل في صحف عديدة في لبنان والوطن العربي، منها «البلاد» و«النّهار» و«السّفير» وجريدة الجمهورية المصرية، وصحيفة الحياة. 
ويكتمل الإبداع معه، وتبدأ رحلته الشعرية عام 1978، ومازالت تتوهج وتتألّق، مؤكدًا في كلّ ما نظمه انحيازه الكامل إلى الحداثة الشعريّة غير المتفلّتة، وقد بنى مدرسته الشعريّة الخاصة به، فتفتقت قريحته عن دواوين منها: الهجرة إلى وجهي القديم/ قمر التّراب/ طقوس الرّغبة/ أغمضت عشقي لأرى/ أهبط الكون غريبًا/ مراوغات الفتى الهامشيّ/ قيامة القلق/ هوّة الأسماء/ لا تعاودي العبث/ مرقد عاب بن عابر/ وآخرها فاصلة بين امرأتين، إضافة إلى نتاجه النثري «خنزير الحداثة». 

نتاج غزير وقريحة فذّة
نتاج أدبي غزير ينمّ عن قريحة فذّة، وقراءة عناوين الدواوين تتيح لنا أن نبحث في أغوار الشاعر لنكشف مضامينها، فكما يقول جيرار جينت إنّ العنوان مجموعة من العلامات اللسانيّة يمكن أن توضع على رأس النص لتحدده، وتدل على محتواه، ويساعد ذلك على إغراء الجمهور المقصود بقراءته، وهكذا كانت عناوين دواوين الشاعر محمد شومان، فهو ينتقل بين الألم والأمل، بين الحياة والموت، متأمّلًا ليخرج بقناعات راسخة يتّبعها في الحياة، ومن خلال ذلك نبحر مع عشقه وإيمانه ووطنيّته ووجعه وقلقه. وهو القائل عن نفسه بأنّه في ارتحال دائم، وفي عدم استقرار، وفي قلق لا يخبو أواره.
  ويكمل الشاعر ارتحاله في ديوانه فاصلة بين امرأتين، الذي يغوص فيه بالقضايا الوجودية المصيرية، والعنوان علامة، إشارة تواصليّة، له وجود مادي يتمثّل في صياغته ونحته من مفردات لغة الكاتب أو لغة الكتاب، فلم تعد مفردة المرأتين تحمل دلالتها المباشرة على جنس الإناث، فالشّاعر ربّما يضع حدّه الفاصل بين أمرين، تربطهما علاقة حبّ من نوع آخر، علاقة بين السّماء والأرض، علاقة بين العشق والشّغف، بين الحياة والموت، بين الشّك واليقين، تساؤلات عديدة يحمّلها الشاعر دلالات متعددة في قصيدته التي وسم بها ديوانه:
كم تساءلتُ:
أهذي الأرض بعضٌ من مواريث السّلفْ؟
أهي ملك خالص لي؟
ولمن هذي السّماوات التي تمشي الهوينا
بافتخار
وصلفْ؟
أهو قلبي بين كفّيك رغيف من شغفْ؟
أم هو العشق يناديني..
ولا يترك لي فاصلة للشّعر
بين امرأتين؟
 
علاقة وثيقة
هي ثنائيات تراوده، وتثير في نفسه إشكاليات مختلفة، فلا يبقى أمامه إلّا الشعر يفصل بين هذه العلاقات المتنافرة الكامنة في قلبه وفكره.
وهكذا نرى أنّ علاقته بالشّعر علاقة وثيقة تتجذّر في نفسه إلى أبعد الحدود، وتستمرّ معه إلى أن تكون قطرة الشعر هي النجاة من الموت، فيقول: 
أسرع بنا
مقدار ما تحوي يدُ الكلماتِ
من مطرٍ
فهذا القلبُ
لا يحييهِ
وهو على شفير الموتِ،
إلّا
قطرة الشّعر الأخيرةْ 

إنّ النتاج الأدبي يعكس الحالة الشعوريّة للأديب، أي إنّ «الحالة الانفعالية والنفسية التي تؤثّر على الحالة الجسميّة للكاتب تنعكس بدورها على العمل الأدبي، وربما لهذه الحالة علاقة بصدق التعبير أو بما يُسمى الصدق الفني، أي إن العمل الأدبي يمثّل بصدق وقوة حقيقية مشاعر الكاتب وأحاسيسه»، وشاعرنا شومان يعكس ما في داخله من إعجاب بالشّعر وما له من تأثير على نفسه، وهو يلبّي نداء الشّعر طوع إرادته مأخوذًا به:
أيها الشّعر لبّيك، لبّيكَ
مُرْني.. تصرّف كما شئت. إن كنت صاحبَ رؤيا 
فلا تتردّدْ،
 ومرّر، على عنقي، مُدْيتكْ
ستراني مطيعًا أشدّ طواعيةً لك من خاتمٍ،
أو بنانْ
 
شواهد عديدة تثبت ميل الشّاعر إلى الكتابة والإبداع، فالكتابة فعل تعبير عن الهوية وعن الانتماء الخاص، ففي العمل الإبداعي تعبير عن الهمّ الإنساني، عن الطموحات البشرية:
غرستكِ عوسجةً في وريد الكلامْ
لكي أتذكّر دومًا 
على الرّغم من جرح صوتي
أنين القصيدة تحت لحاف الظّلامْ!
مراوغة واحتيال
على الرّغم من هذه العلاقة الوثيقة مع الشّعر، وإحساسه بأنّه الملاذ والمأمن، تظلّ علاقته مع هذا الشّعر علاقة مراوغة واحتيال:
لحظة الشّعر العصية
هي من أمكر كلّ اللحظاتْ
كم وكم راغتْ وأبدت من فنون المكر لي!

  نعم إنّ لحظة الإبداع والتّألق عند الشّاعر تظلّ لحظة عصيّة، تعانده، وتهرب منه، لكنّه يستمرّ في البحث عنها، حتى لو لم يدركها، وتدفعه إلى تقديم الشكر والامتنان لما يخطّه قلمه:
والشّكر للقلم المثابر في يدي
هذا الذي ما ملّ ثرثرة الورقْ
بل ظلّ قرب وسادتي أغفو ولا يغفو
يلازمني طوال الوقت 
نعم، هي علاقة تلازُمٍ وثقة، علاقة مستمرة لا تنتهي، ولعلّ هذه العلاقة بين الشاعر والشّعر تقوده إلى حالة من التأمل والبحث في قضايا الوجود.
فمنذ أن وجد الإنسان على سطح هذه البسيطة وهو يبحث عن وجوده وحقيقة هذا الكون، بل إنّ الوجود الإنساني على هذه الأرض وجود مغترب في الأصل، وإنّ الاغتراب هو أزمة الوجود الإنساني منذ الأزل، لذلك لجأ الإنسان إلى حياة التّأمل، أي «السّمو في التأمل واستغراق الذهن في التفكير»، أي إنه يلجأ إلى التفكير العميق حول موضوع ما، محاولًا اكتشاف جوانبه كافة؛ وانطلق الإنسان باحثًا في الكون والوجود والحياة وعن سرّ الوجود وعن حقيقة الروح والجسد وعن الموت والحياة، وصولًا إلى البحث في الماورائيات أو ما وراء الطبيعة، ولم يكن شومان بعيدًا عن هذه التساؤلات:

فأين ملاذي؟
وكيف مصيري على قاب ذنبين 
من موعدِ الآخرهْ؟!

فهو يتّجه نحو الداخل لملامسة عصب الوجود، خصوصًا القضايا الوجودية التي بدأت تراوده، وإلى ما هنالك من مثل هذه الفضاءات الفكرية والنفسية التي تحتاج أكثر إلى الإمعان والتوغل في الداخل، وتدفع إلى طرح الكثير من التساؤلات:
قد علّق المفتاح 
في
عنق الزمان
بحثٌ عن جواب
تتواتر الأسئلة عند الشاعر، وتحاصره من كل الجهات، فهو المتأمل في مصير العالم حوله، يرى المجهول الذي نشهده في يومياتنا، حتى باب النجاة ظل مفتاحه معلّقًا بالزمان، فيقف أمام أسئلة كثيرة لها علاقة بالوجود والمصير، هذه التساؤلات التي راودت عقل الإنسان، فشغلت عقله ظواهر لا يعرف لها أجوبة؛ يحاول اكتناه غياهب الذات وسر الوجود فيرتد عاجزًا، لكنه يثابر ويفكر متأملًا ومتسائلًا عن الكون والجسد والروح والموت وما بعد الموت، بل إن الإنسان رأى في وجود ذاته لغزًا يحتاج إلى أن يجد له الجواب، فيرسم الشاعر في «بئر الطلاسم» أسئلته التي راودته في تجربة الحياة، فيقول:
ما زلتُ أسعى دونما هدفٍ    
كأيّ مراوغٍ لم يستطع فضّ الأحاجي
فغفا 
وفي عينيه ملح التّجربة 

وتستمرّ تجربته في الإبحار باللغة باحثًا عن الجواب، وسائلًا الكواكب لعله يجد حلًّا لهواجسه، ويبحث عن الأمل في بئر الطّلاسم، لكنّه يعود خائبًا يشعر بالحيرة:
وكم ألقيت في بئر الطّلاسم من دلاءْ
ورجعتُ أكثر ريبة
وأشدّ حيرهْ 
  
مفهوم غامض
هذه التّأمّلات تقود الشّاعر إلى البحث في حقيقة الجسد، والعلاقة مع الروح، أي عن «الحقيقة المفكرة والذات التي تتصور الأشياء في مقابل الموضوع المتصور ويقابل المادة كما يقابل الجسد».
 وهذا الجسد ما هو إلّا «كل جوهر مادي يشغل حيّزًا ويتميز بالثقل والامتداد»، وعلى الرغم من الوصول إلى بعض المفاهيم حول ماهية الجسد والرّوح دينيًّا وفلسفيًّا، فإنه ظلّ مفهومًا غامضًا تناوله الشعراء معبّرين عن اختلاف آرائهم أو ناظرين إلى طبيعة العلاقة بين الجسد والروح، نظرة عميقة تؤدّي أحيانًا إلى صراع اغترابي، لهذا يحاول الشاعر الخروج من جسده الذي يكبّله ويربطه بالحياة الدنيا، فالانعتاق من الجسد هو الخلاص، والبقاء في الجسد هو القيد:
إلى متى أظلّ في زنزانتي 
منحبسًا
في علبة تُدعى الجسد؟

فالجسد عنده يناظر الوجود والعدم فهو السّواد والأنين والضجيج والعزلة والارتعاش، لذلك لا بدّ من الهروب إلى اللافضاء لعلّه يعثر على ما ضاع من ذلك الجسد المغلوب:
ظلام.. ظلامْ
أدور هنا، حول نفسي كمثل الرّحى
أحدّق في عتمة الكهف، بحثًا عن الضوء
لا نور يشهق داخل هذا الخباء المسمى الجسد 
  فالبقاء في هذا الجسد ما هو إلا ظلام مقيت، وإن كان الشاعر لم يأتِ على ذِكْر الروح، أو العالم الآخر الذي ينشده، فإن رفضه للجسد المادي صورة لذلك العالم الآخَر الذي ينطلق فيه ربما باحثًا عن الحقيقة المطلقة:
فيا عجبًا أحبيسٌ أنا داخل الجلدِ؟!
أفقد حتى وميض الرّمادْ
ترى كيف أخرج من ذلك الغار؟
من أين لي
ولو بثمالة جمرهْ
أتخنقني ظلمات الجسدْ؟!
  
وتسيطر على الشاعر حالة القلق، فهروبه الدائم يصطدم بمحاصرة هذا القلق:
من أين أهربُ
ها هنا دومًا
يحاصرني القلق؟ 
علاقة قوية
  
 استطاع الشاعر أن يخوض في موضوعات تتعلق بالأمور الغيبية، فتطرّق إلى قضايا الوجود، ونقل خواطر وتأملات في الحياة والكون والنفس البشرية، فقد اتخذ شعره منعطفًا نحو القضايا الأكثر علاقة بالوجود وبالمصير، بمعنى الانتقال إلى الداخل والغوص في النفس، فارتبطت القصيدة بالتساؤلات حول علاقة الإنسان بمسائل ذات بُعد ميتافيزيقي أحيانًا كالموت، أو بمسائل متعلقة بالحياة، وكان للقصيدة الدور البارز في تحديد هذه العلاقة مع الوجود، فكانت علاقته بالشعر علاقة قوية معبّرة عن قضايا عديدة، وإذا كان التركيز في بحثنا هذا على قضايا التأمل، فإن الشاعر في ديوان «فاصلة بين امرأتين» تناول عدّة قضايا منها ما له بالأبعاد الوطنية والقومية، فتحدث عن لبنان، ولم ينسَ فلسطين وغزّة، كما كان قريبًا من الأرض والمرأة وكل ما يتعلق بالقضايا الحياتية اليومية. 
  الشاعر محمد زينو شومان شاعر مبدع خلّاق في عصر بات الانتشار فيه سريعًا عبر التكنولوجيا الحديثة، ويبقى الشاعر راسخًا ثابتًا، محافظًا على فكره العميق ونضجه الإبداعي لا تغيّره معالم الحياة الحديثة، بقدر ما يكون متفاعلًا مع كل جديد، يحاول أن يكتب القصيدة بأشكالها المتنوعة بين العمودي والتفعيلة، وصولًا إلى ومضات تعتمد التكثيف والإيجاز ■

محمد زينو شومان