جولة في أقاليم الشعر

جولة في أقاليم الشعر

للشعر في الداخل الإنساني أقاليم، وهذه الأقاليم هي جغرافية الزمن الداخلي في الإنسان، وفيها مطر وعواصف وبروق ورعود، وفيها تفتُّحُ الداخلِ الإنساني بما تزرعه الأمطار فينا، وما تجلبه العواصف معها من مناطق تكوينها، وقتها يكون البرق صلة صورة المرايا الداخلية برؤية الشاعر، التي هي في جوهرها محاولة انتقاله من واقعه إلى العالَم الذي يريده، وهذا العالَم يقوم على الانفصال عن الماضي للانتقال إلى عالم جديد يخلقه هو، وبهذا تكون مهمة الشعر التمرُّد المتمثل في الثورة والانقلاب على واقعية المعطيات الجاهزة لخلق أكوان أخرى تتّسم بالجدة والدهشة والمجيء من عوالم نائية.

 

هكذا يكون الزمن الشعري غير متوافر وغير محصور في حدود الآنيّة، إنه دائمًا في الزمن الذي يأتي وحين يطؤه الشاعر يهرب إلى الأمام، وبهذا يكون الشعر نوعًا من النبوة، لأنه يكون دائمًا في جغرافيّته النائية التي تتكون فيها بروقه كما يشاء المطر الهاطل على مناطقه الداخلية، وفيها يَرى ما لا يُرى، وعدم اكتشافه المسبق يحتّم على الشعر أن يكون آتيًا من مناطق نائية مسكونة بالتعجب والدهشة والمغامرة، وهذا يعني أن الشعر الحقيقي هو جديد باستمرار، حتى ولو كان مكتوبًا من أقدم العصور، وبهذا تكون حداثة الشعر تغييرًا وإضافة، والزمن في الشعر ليس تأريخًا، وإنّما هو طبيعة الفصول الداخلية للنفس الإنسانية، وما تُنتِج من عطاء، وجدَّتُه هي التي تجعله ثورة، وسِمتُه التغييرية هي دائمًا تهدف إلى التغيير، والتغيير في الشعر يقوم على الهدم والبناء في آنٍ، والهدم يكون جميلًا بمقدار ما يهدم من خرائب يسكنها أناسٌ تغلّفهم ظلمات لا ترى الشمس، ولو عرفت طبيعة الفصول كلها.
والتغيير هو الطبيعة الثورية التي يحملها الشعر، ولعظمة الشعر ودوره البطولي يكون مرتبطًا بالأسطورة، فإذا كانت الأسطورة فعلًا خارقًا، فإنها تتسم بالبطولة التي يخلقها الشاعر، والأسطورة هي دائمًا من أهم سكّان جغرافية الشاعر، لأنّه يخلق البطل حين يكتب الشاعر الشعر النابع من إرادة التغيير لتنتظم كينونة الحياة، وباتجاه الآتي المُتَخَيّل، ولتكون مستساغة ومناقضة لجموديّة التقليد وخلّوه من دفقه الإبداعي. 

إدراك متحول
كانت النار في الأولمب جغرافية غير مسموح لها بالتمدد، إنها مستعمرة لآلهة الأولمب، ولكبير الآلهة «زوس»، ولا يُسمحُ بالتجول فيها لغير آلهة الأولمب، لكنها أصبحت جغرافية لا حدود لها إلّا مواقد الفقراء، وامتلاكهم حق التصرف بإشعالها وإطفائها عندما سرقها سيزيف وأعطاها للفقراء لتصبح نارًا مقدسة. لقد كانت النار ثورة حين وصلت إلى بلاد الفقراء، إنها كائن جديد بينهم ولها سمة التغيير والحرق. إنها سلاح ثورة، وبهذا صارت شعرًا حين جلس حولها الفقراء يغنون لتحوّلاتها، من دون أن ينسوا الدعاء لـ«سيزيف» الذي حُكِم عليه بأزلية العذاب، وحمل الصخرة باتجاه جلجلة لا يمكن الوصول إليها. والنار القصيدة كانت وليدة المعاناة، وكانت ثورة للتحول وعدم الاستقرار في موقد واحد، وبهذا الإدراك المتحول لا يكون الشعر شعرًا إذا لم يكن سيزيفيًا وحاملًا نار الثورة، ولو كرهت آلهة الأولمب وصبّت عليه غضبها عبر طرق جلجلتها التي لا تنتهي.
فالشعر ثورة لاشتراكهما بسمة التغيير والتمرد وتحويل حطب جبل الأولمب إلى رماد، والشعر وقتئذ يتحول إلى عشب يدلّ الرعاة على مواقعه، وثورية الشعر هي عمل أخلاقي، لأنّ التغيير والتحول اللذين يُحدثهما الشعر يجعلان الإنسان غائيًا في رؤاه دائمًا. 

الشعر والمعاناة
من سمات الشعر التغييرية أنه يخلق الجمال في عالَم الواقع القبيح، والجمال في هذه الحالة خلق، والخلق يتّسم بالجدة والدهشة وتغيير جغرافية الحياة الساكنة، وبالشعر يناضل الشاعر للوصول إلى العالم الذي يريده، إنه اغتصاب جغرافية لم تطأها قدمٌ قبله، إنه نهر لا يعرف السكون أبدًا، ولا يسمح لك أن تنزل فيه مرتين.
والشعر لا يكون خلقًا إلّا إذا كان ناتجًا عن المعاناة، وحدة المعاناة تجعل الشعر أقدر على اختراق الآخر واحتلال مناطق عذراء في وجدانه.
 والمعاناة تكون باعثًا للشاعر في إبداعه، واقتناص الفرائد. ويُذكَر أنّ أحد أصدقاء أبي نواس قال له: هل ترثيني إذا متُّ؟ فأجابه أبونواس: بلى، أرثيك، فطلب منه صديقه أن يتصوره ميتًا ويرثيه، فأنشده أبو نواس أبياتًا لم تعجبه، فقال له: هذا ليس جيدًا.، فأجابه أبو نواس: أين الباعث؟
ولعلّ الموت أعلى بواعث الشعر الخالد المتّسم بالخلود، وقد سئل أعرابي: لِمَ مراثيكم أجمل شعركم؟ فأجاب: لأننا نقوله وقلوبنا محترقة. 
ومن عناصر الإثارة في شعر الرثاء رؤية الميت، أو رؤية آثاره. لقد كان الشاعر متمم بن نويرة يبكي كلما رأى قبرًا، لأنّ رؤية القبر كانت تذّكره بأخيه مالك بن نويرة، وله في ذلك شعر يفجّر أعمق ما في النفس الإنسانية من مشاعر:            
وقالوا: أتبكي كلَّ قبرٍ رأيته
لقبرٍ ثوى بين اللوى فالدكادكِ؟
فقلتُ لهمْ: إنّ الأسى يبعث الأسى
دعوني، فهذا كلُّهُ قبرُ مالكِ

الانفعال وقود الشعر
لعلّ الوقوف على الأطلال في الشعر الجاهلي هو رثاء لموتها، ومحاولة لإعادة الحياة لها، لأنها كانت توقظ في الشاعر موت أو رحيل أهل هذه الأطلال في العصور الخوالي، وكانت الأطلال تخرج من طلليتها حين يخاطبها الشاعر، محاولًا خلق الزمن الذي كان ماضيًا، لكن الشعر ينفي الماضي، وفيه يقول امرؤ القيس: 
ألا عِم صباحًا أيها الطلل البالي
وهلْ يعمِنْ مَن كان في العُصُر الخالي

وحين لا يكون الشاعر حاضر الانفعال والمعاناة يكون مجدبًا، ويصعب عليه قول الشعر حتى ولو كان شاعرًا مجيدًا، فالانفعال وقود الشعر، ويحضرني في هذا المجال قول للشاعر الفرزدق معبّرًا عن هذه الحال: «قد تمرُّ بي الساعة والساعات، وقلع ضرس من أضراسي أهون عليّ من قول بيت من الشعر». 
 إن الفرزدق نفسه قال، وهو يردّ على مَن تجاهل معرفة الإمام علي بن الحسين، وبما يقارب الارتجال نتيجةً للانفعال:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته
والبيتُ يعرفه والحلُّ والحرمُ

الانفعال ينقذ الشاعر من عادِيّةِ الأداء، واستواء النتاج على كرسيٍّ واحد، لذا فقد تتفاوت طبقات الشعر عند الشاعرٍ نفسه انقيادًا لحالاته الوجدانية، وانجرارًا وراء عواصف زمنه الداخلي. 
   
 إلهام داخلي
إن شعر المتنبي، على سبيل المثال، يتفاوت لمعان بروقه وزئير عواصفه المستبدة بأقاليمه الداخلية من قصيدةٍ لأخرى تبعًا لمناخاته الداخلية، وصهيل خيوله في جغرافية قلقه وغضبه الداخلييْن، في مجلس سيف الدولة الأخير كانت انفعالاته عالية التأثير على قصيدته الخالدة: «واحرّ قلباه ممن قلبه شبمُ»، وفي هذه القصيدة يشير بعمق إلى تأثير عواصفه الداخلية وإلى راحته العميقة حين بلغ الإعجاز، بعد أن شَفَت القصيدة غليله من مصبّات سيول الغضب في صدره، وبوصوله إلى مرحلة التفريغ الهادر فيه، وهو يقول:
أنام ملءَ جفوني عن شواردها
ويسهر الخلقُ جرّاها ويختصمُ

لقد ارتاح حين قال في حضرة القصيدة والخصوم: «وأسمعت كلماتي مَن به صممُ»، لكنّ المتنبي نفسه يعترف بأنّ عملية الإنجاز الشعري تحتاج إلى مصارعة حالات عصية على الاستجابة لإنسان يطاعن «خيلًا من فوارسها الدهرُ». أقر المتنبي بقدرة البديهة، وعصيان الانقياد للإبداع بسهولة، فقد تحرن القوافي ويصعُب اصطيادها في معركة الوجدان والكلمات، يقول المتنبي:
أتُنْكِرُ ما نطقتُ به بديهًا
وليس بمنكَرٍ سبْقُ الجوادِ
أُراكضُ مُعْوِصات الشعر قسرًا
فأقتلها، وغيري في الطّراد

والشعر رغم كونه إلهامًا داخليًا، إلا أنه يحتاجُ دُرْبة وثقافة، والثقافة هنا ليست عملًا عقليًا بحتًا، وإنما هي يقظة روح تعتبر الثقافة سائلًا ينهل من معينها، والثقافة في الإنجاز الأدبي لا تثير إلّا إذا كان الوجدان كتابها، والشاعر الحقيقي هو مثقف بالفطرة، لأنّ الشعور هو أهم كتاب يرى فيه الإنسان حقيقة داخله، لأن داخله هو مصنع ثقافته وكتابها، حين نقرأ شعر قيس بن الملوّح ندرك أنه مثقف، وثقافته تمليها عليه تجربته، وليس كتاب المدرسة، ولتأكيد ما نذهب إليه نقرأ لقيس بن الملوَّح:
فلم أشرف الأيفاع إلّا صبابةً
ولم أنشد الأشعار إلّا تداويا

عمق ثقافي دلالي
في هذا الشعر عمق ثقافي دلالي ينبع من تجربة حب عميق. ولُمَعُ ثقافة الحب لا يبلغها كتاب، مهما كانت ثروته العقلية عالية وغنية، قيس هنا يتداوى بالشعر، فالكلام حين ازدحام النفس بالأحاسيس يساعد على راحة النفس، حتى لكأنه دواء، وإلّا لِمَ يبثّ الشاعر نجواه وأحاسيسه في الكلام؟ الكلام يخفف توتر الشحنات الداخلية ويريح النفس، وأحيانًا يكون البكاء أعلى حالات الكلام إراحةً للنفس. ولا بدّ من التأكيد على الدُّربة لحيازة الشعر البديع، ونقله من منطقة النظم إلى منطقة الشعر، والدربة في الشعر هي نمو العمل الشعري في ذات الشاعر الداخلية، وانتقاله إلى الكلام. يقول الحطيئة:
الشعر صعبٌ وطويلٌ سُلَّمُهْ
إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمهْ
 
لكي تَعْلَمَ منطقة الشعر فيك عليك أن تكون ناقد نفسك أولًا.
والشاعر كالطبيعة نفسها يحتاج إلى تكثيف ذاته داخليًا قبل هطول مطر الشعر منها. لا بدّ من فترة بين إبداع وإبداع، تمامًا كالطبيعة التي تترك زمنًا بين إطلاق عواصفها غالبًا، ولا بدّ من اختيار الوقت للكتابة كما جاء في وصية أبي تمام للبحتري: «واعْلَمْ أنَّ العادةَ جَرَتْ في الأوقاتِ أن يقصدَ الإنسانُ لتأليفِ شَيْءٍ أو حِفْظِه في وَقْتِ السَّحَرِ؛ وذلكَ أنَّ النَّفْسَ قَدْ أَخَذَتْ حَظَّهَا مِنَ الرَّاحةِ، وقِسْطَهَا مِنَ النَّوْمِ ■