في الحداثة وما بعد الحداثة: أبعادها الفكرية الغربية والعربيّة

في الحداثة وما بعد الحداثة: أبعادها الفكرية الغربية والعربيّة
        

          تتداخل تعريفات ودلالات مصطلحي «الحداثة» و«ما بعد الحداثة» لتكاد في بعض أوجهها تتصادم حينًا وتتآخى حينًا آخر لينتج عنها إشكاليات وفرضيات لا يمكن حصرها أو التقاطها كما تقتضي الأمور. تتعدد وتكثر بتعدد المفكرين وتعريفاتهم، وإن غلبت في بعض الأحيان القواسم المشتركة بين هذه التعريفات والآراء. يحار المرء في بعض أوجه الفصل بينهما، فهذان المصطلحان وُلدا من الرحم ذاته، وإن اختلفت التواريخ والأمكنة والأزمنة كما سنرى. لكن ما يجمع بينهما هو التجديد ورفض القديم وآلياته ومنهجيته.

الحداثة:

          تختلف الآراء وتتعدد في تعريف «الحداثة» وفي تحديد مفهومها. لقد استعمل البعض مصطلحات عدة لتعريفها كمصطلح «الحداثة الأولية» و«الحداثة البدائية» و«الحداثة الجديدة» و«الحداثة المتأخرة» و«مابعد الحداثة».. إلخ. وكل هذه المصطلحات يُقصد بها معنى واحد. بدأ تعبير «الحديث Modern» مرادفًا لتعبير «الآن» أواخر القرن السادس عشر، كما يقول «رايموند ويليامز» في كتابه «طريق الحداثة». ثم استعملت في القرن الثامن عشر مفردات  «يُحدّث» و«الحداثة» و«حداثي»،ليعنوا بها التعصير والتحسين. وفي القرن التاسع عشر بدأ التعبير يأخذ مسحة ما هو مرغوب وتقدّمي. وفي الفن أصبح «تورنر» هو نموذج الرسام الحديث من حيث كشفه عن تلك السمة الحديثة المعاصرة للصدق مع الطبيعة. لكن «الحداثة» كعنوان لحركة ثقافية وللحظة ثقافية شاملة تم استرجاعها كتعبير منذ العام 1950. يجب ألا نخلط هنا بين مصطلحي «الحداثة» و«الفن الحديث»، لاختلاف المعنيين في التعريف والمفهوم، فالأول يحمل دلالات إبداعية فكرية شاملة، بينما الثاني يعبّر عن مفهوم زمني يدلّ على التحوّلات الفنية والأسلوبية التي ظهرت في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، ونعني بذلك تيار الانطباعية وما بعدها. فالانطباعيون، أو التأثيريون، حدّدوا - بدءًا من العام 1860م - رؤية وتكتيكًا جديدين يلائمان تصوير الحياة الباريسية الحديثة. وكذلك فعل السورياليون والمستقبليون والشكلانيون وغيرهم بداية القرن العشرين.

          يرجع البعض بدايات الرؤية الحديثة إلى فنانين تشكيليين عاشوا في قرون سابقة على القرنين التاسع عشر والعشرين. فهذا «ليونيللي فانتوري» في كتابه «خطوات نحو الفن الحديث»، يقول إنه من الصعوبة بمكان كبير تعيين الفنان الذي يمكن أن يعتبر دون غيره من الفنانين العظام منذ عصر النهضة حتى الآن المؤثر الأعظم على المراحل الأولى في الفن الحديث. يصل الأمر بالكاتب إلى ذكر الفنان الفينيسي «جورجيوني» في القرن السادس عشر كمثال على الخطوة الأولى نحو الفن الحديث. وكذلك الأمر مع «كارافاجيو» الذي أسس للاتجاهات الضوئية في القرن السابع عشر، حيث قال هذا الفنان إن للتفاحة من الأهمية ما لمريم العذراء إذا كان الناظر إليها ينشد إدراكًا فنيًا صحيحًا للرسم. وهذا القول يعتبر بمنزلة رؤية جديدة وحديثة للفن.

          هاهو «ملكوم برادبري» في كتابه «الحداثة 1890-1930» يقدم عرضًا بانوراميًا تاريخيًا وفلسفيًا ونقديًا لها. يتحدث عن القرون وتعاقب الثورات التي أنتجت ما نسمّيه بـ«الفترات»، يعطي الأمثلة عن الفن والشعر والأدب والفلسفة والموسيقى، بما يمكن اختصاره بشمولية الهزة المعاصرة للأمور السياسية والدينية والاجتماعية. يتحدث عن غموض مكان نشأة الحداثة وعن تناقضاتها وأزمتها. ليقول إن الحداثة مدمّرة، وأنها فوضى حضارية وفكرية أنتجت الحرب العالمية، يعرّفها على أنها «الفن المتأتي من عدم الاعتراف بالأمور الواقعية التقليدية، ومن تحطيم تكامل الشخصية الفردية». وهي «فن التحديث»، فن الابتعاد الصارم عن المجتمع. إنها كما يعتقد الفنانون التعبيريون فن اللافنّ الذي يحطم الأطر التقليدية، ويبني رغبات الإنسان الفوضوية التي لا يحدّها حد... وإنها تمتلك القدرة على الإبداع والتحطيم، وهي سد للفراغ الحضاري، وهي كالرومانسية انتفاضة، وهي مشكلة حضارية وجمالية في آن، تمتلك ميزات فردية، يعدد الأمثلة بذكر أسماء كثيرة من رسامين وموسيقيين وأدباء في بعض أعمالهم: بعض الرسامين (أمثال ماتيس - بيكاسو - براك)، وبعض الموسيقيين (سترافنسكي - شونبرك)، وبعض الروائيين (هنري جيمس - مان - كونراد - بروست - سفيفو - جويس - كايد - كافكا - موسل - هسه - فوكنر)، وبعض الشعراء (مالارميه - فاليري - اليوت - باوند - رلكه - لوركا - أبولينير - برتن - ستيفنس)، وبعض كتّاب المسرح (سترنبرك - بيراندلو - فيدكايند).

          لاشك أن من كان له الباع الكبير والأثر الفعال في استفحال مفهوم الحداثة كرؤية وكفكر هي مجموعة أسماء اعتدنا سماعها في كل لازمة وأثر حديث، فـ«رامبو» أو «ريمبو» يصدح بجملته الشهيرة المدوية: «يجب أن نكون حداثيين على نحو مطلق»، ويطالب باقتحام المجهول. وهناك عبارة «أزرا باوند»: «اجعلها جديدة». وهناك أيضًا الشاعر الفرنسي «شارل بودلير» التي تعتبر الحداثة عنده قضية موضوع أكثر منها قضية شكل، وأعلن أن قصيدة النثر كنوع أدبي إنما هي «ابن المدن الكبرى». وكان لبودلير التأثير الكبير على الفنان «مانيه»، ونشأت بين الاثنين صداقة حميمة مدة قصيرة، واكتست نزعة مانيه إلى الفن الحديث دومًا أفكارًا مستمدة من بودلير، كما يقول «آلان باونيس» في مؤلفه «الفن الأوربي الحديث». إن بودلير كان مولعًا بـ«رسم الحياة الحديثة»، التي تتجلى في معناها الظاهر بتناول مادة الموضوع من باريس المعاصرة، وتقبّل الزي الحديث.. من هنا جادت التحديقة المتأنية لأنموذجه «فكتورين مورين»، حيث وقفت ليرسمها في صورة «الغداء» أو في صورة «أوليمبيا»، فكل منهما، حسب تعبير آلان باونيس، صورة «بودليرية». وكان الشاعر «ستيفان مالارميه» قد أحدث في الشعر ثورة ما بعد البودليرية. وكان على معرفة وثيقة، نهاية سبعينيات القرن التاسع عشر، بمانيه، وجعل زيارة محترفه عادة يومية له بعد أن يفرغ من تدريسه نهارًا. قال مالارميه للفنان «ديجا» ذات يوم إن الشعر ينظم بالكلمات لا بالأفكار. ولا ننسى تأثير الشاعر «غيوم أبولينير» على التكعيبيين في باريس وعلى الميتافيزيقيين وغيرهم.

مفاهيم وقيم الإبداع

          يرى الكاتبان «ميجان الرويلي» و«سعد البازعي» في «دليل الناقد الأدبي» أن مفاهيم وقيم الإبداع والاكتشاف العلمي والتميّز الفردي سادت في مشروع الحداثة على أنها غاية التقدم ونهاية مطاف التطور. ومن هذا المنطلق، يرى الكاتبان، أن الحداثة نادت بشعارات خلاّبة، مثل الحرية والمساواة والإيمان بقدرة الإنسان العقلية وعالمية الجهاز الإدراكي، فكان من أهم نتائج هذا التوجه محاولة الهيمنة والسيطرة على القوى الطبيعية وعلى الطبيعة عمومًا.. وآمنت بإمكان حلول العدل وتحقق سعادة الإنسان، وشحذت آليات البيروقراطية ودعت للديمقراطية الليبرالية ولنشر روح التسامح والمذهبية العرقية والاجتماعية والاقتصادية.. ثم يرى الكاتبان أن الحداثة اصطدمت بالحياة الواقعية، اصطدمت بتجربة القرن العشرين المريرة. إذ كانت حصيلتها لسعادة الإنسان حروبًا ومشاحنات طاحنة، واستعمارًا وإرهابًا وهيمنة وقمعًا للآخر، وتفاوتًا طبقيًا واقتصاديًا، وقمعًا عسكريًا وقنابل ذرية وخطرًا نوويًا، إضافة إلى الظلم الاجتماعي وانهيار الثقة بفكرة المساواة والعدالة للجميع.

حركة عالمية

          الحداثة حركة عالمية ولدتها قوى مختلفة في أكثر من مكان وزمان. كان مكوثها في بعض الأقطار طويلاً، وفي بعضها الآخر مؤقتًا، فهي تختلف كما يقول «برادبري» من زمن إلى آخر، ومن قطر إلى آخر، أو هي مرادف «للعالمية» كما يقول أحد النقّاد. إذن هناك صعوبة في تحديد تاريخ أو مكان نشأتها. الأهم يبقى أن نقول إن الحداثة قد غيّرت في الكثير من المفاهيم الإنسانية والفكرية والاجتماعية والدينية والأخلاقية والسياسية.. تغيّرت العلاقات الإنسانية بين السيد والمسود، بين الزوج والزوجة، وبين الابن وأبويه. بدأت بإعلان موت الإله باسم الإنسان ومركزيتها، ولكنها انتهت إلى إزاحة الإنسان عن المركز لتحلّ مكانه فوضى عبّرت عنها مفاهيم ما بعد الحداثة.

ما بعد الحداثة:

          كما تعدّدت تعريفات الحداثة فإن ما بعد الحداثة، بدورها، لم تنأ عن هذا الشيء، فليس هناك ما بعد حداثة واحدة، بل هناك ما بعد حداثيات، لكنها تشترك جميعها في بعض الأسس النظرية.

          يتناول الكاتبان «ميجان الرويلي» و«سعد البازعي» في «دليل الناقد الأدبي» هذا المصطلح بقولهما إن ما بعد الحداثة بفرعيه من أهم المصطلحات التي شاعت وسادت منذ الخمسينيات الميلادية، ولم يهتد أحد بعد إلى تحديد مصدره: فهناك مَن يعيد المفردة إلى المؤرخ البريطاني آرنولد توينبي عام 1954م، وهناك مَن يربطها بالشاعر والناقد الأمريكي تشارز أولسون في الخمسينيات الميلادية، وهناك مَن يحيلها إلى ناقد الثقافة ليزلي فيدلر، ويحدد زمانها بعام 1956م.

          مهما يكن من أمر، فإن ما بعد الحداثة هي حركة شمولية أيضًا، كما الحداثة تنشط في الفضاءات كافة: السياسية، الاقتصادية، التعليمية، الاجتماعية، الفلسفية، الأخلاقية، النفسية، المعرفية، الأنثروبولوجية.. وتتشظى ما بعد الحداثة إلى ما بعد حداثات مختلفة. وهي أبرز ما تكون في العمارة وتخطيط المدن.

المعرفة سلعة

          يمكننا القول إن ما بعد الحداثة قد عجزت عن تقديم البديل عن الحداثة والمأزق الذي وقعت فيه. حسب ليوتار، فقد أصبحت المعرفة سلعة من بين سلع أخرى. وانطلاقًا من تحليله لوضعية المعرفة ما بعد الحديثة يشير ليوتار إلى أن ما بعد الحداثة هي ما بعد ميتافيزيقيا، ما بعد صناعية، وهي ذات سمات تعددية، وهو يضع من ثمّ برنامجًا لما بعد الحداثة يأخذ في الحسبان ثورة تكنولوجيا المعلومات داعيًا إلى خلخلة الاستقرار الذي تتمتع به المؤسسات والشركات المتعددة الجنسية، مناديًا بفتح بنوك المعلومات لكل مَن يريد استخدامها. هو يدعو إلى ديمقراطية الحصول على المعرفة.  منظر ما بعد الحداثة إيهاب حسن  ينقد الحداثة بقوله إن سماتها هي اللاتوجه وتعني: الالتباس، الانقطاع، هرطقة للخروج على المألوف، التعددية، العشوائية، التمرّد، الشذوذ، التحويل التشويهي. والمفهوم الأخير يدل وحده على دزينة من المصطلحات الواهنة حول التهديم: اللاإبداع - التحلل، التفكيك، اللامركزة، الانزياح، الانقطاع، التقطع، الاختفاء، الانحلال، اللاتعريف، اللاكيليانية، اللاشرعنة.. إذا كانت الحداثة هكذا، فكيف تكون ما بعد الحداثة أو «اللاحداثة» كما يسميها المسرحي الأمريكي المشهور «روبرت لويل» عازيًا هذا الموقف إلى قلقه واضطرابه النفسي وتقلب مواقفه وتناقضها!

          وتطرّف آخرون فقالوا إن ما بعد الحداثة مصطلح يشير إلى السير إلى الوراء ومخالفة التيار السائد قولاً وفعلاً وتفكيرًا.

          يرى المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي في كتابه «دراسة التاريخ» أن عصر ما بعد الحداثة في الغرب سيهيمن عليه القلق واللاعقلانية وفقدان الأمل والعجز.

العرب في لقطة فيديو

          «مي غصوب»، الفنانة التشكيلية والباحثة، تتناول ما بعد الحداثة في كتاب لها بعنوان «ما بعد الحداثة: العرب في لقطة فيديو «بقولها إن العرب لا يسعهم تجاهل ما بعد الحداثة، وإن معتنقي ما بعد الحداثة ورموزها الفكريين لم يتفقوا حتى على تعبير «ما بعد الحداثة» إياه. تذكر أن «أمبيرتو إيكو» يكره تسمية ما بعد الحداثة على الرغم من اعتبار أعماله ما بعد حداثية بامتياز. وتشير إلى أن التفكيك هو مكوّن أساسي من مكوّنات ما بعد الحداثة. وأن «ما بعد» تعني المستقبل.

          أقامت غصوب سجالا متخيلا بين شخصين، الأول يمثل الحداثي، والثاني يمثل ما بعد الحداثي، حيث يرى الحداثي أن ما بعد الحداثي لا يعبأ بخلق مجتمع جديد. لقد ترك مدنه تنمو عشوائيًا بذاتها، باسم الدعوة إلى ترك الناس يعيشون كما يرغبون. وأنّ الحداثيين خلقوا موسيقى البوب وهي موسيقى الشبيبة المتحررة والثقافة السوداء. وأنّ الحداثي قاتل الظلامية ودافع عن حقوق الإنسان، وفصلوا (الحداثويون) الكنيسة عن الدولة وقطعوا مع الماضي وأزمته المعتمة. ليتهم المابعد حداثي بأنه يريد المتعة وحدها، وبفضله بات الإنسان لا يؤمن بشيء، وأنّ مابعد الحداثي مجرّد منظم أو منسق يؤمن بالتجاور.. التجاور فقط. فيوافقه المابعد حداثي على الوصف الأخير، ثم يتهم الحداثي بأنه أراد إسكان الفقراء فحشرهم في علب وصناديق أسماها مباني وظيفية. وأنه رفع راية العقلانية، أما الذي حصدناه في آخر المطاف فكان مجتمعات توتاليتارية كما لو كان هناك مجتمع واحد وحقيقة واحدة. وقد اتهم الحداثي بأنه يفتقر إلى السخرية والتهكم وينظر إلى ذاته بجديّة مفرطة. ثم يضيف ما بعد الحداثي قوله إن الشعب لا يريد أن يعامل كأنه قطيع. فالحداثي يكره الذوق الشعبي، ويعتبر قيمه الثقافية متفوقة على قيم الإثنيات الأخرى ليذكر لينين كمثال بأنه بحث عن «طليعة» تنقل الوعي إلى العمال. ثم يتهم الحداثي بأنه تجاهل الماضي ووضع العراقيل في وجه التخيّل المستقبلي.

          يفتخر مابعد الحداثي بأننا نعيش متجاورين، الواحد منا لصق الآخر، وليس ثمة ما يحوجنا إلى أن نحيا في تناسق كلي.

          أما قضية التجاور فتحتل حيزًا مهمًا في فكر ما بعد الحداثي، فتعقيدات المدينة الغربية الحديثة تعطي فكرة عن هذا الشيء. ففي وسط المدينة، وعند الغروب، الدكاكين لا تزال مفتوحة، معظم الناس يهرولون للحاق بالقطار، محلات صينية وتركية وإيطالية تبيع الوجبات السريعة. مناشير ضد التمييز العنصري في جنوب إفريقيا، أو ربما ضد التسلح النووي، أو ضد اضطهاد الحيوان، سيدة تعرض عليك أن تقرأ كفك.

          في هذه المدينة تفوح رائحة الطعام الصيني قريبا من سندويشات ماكدونالد، بجانبه مطعم فرنسي يمكنك أن تحتذي فيه نبيذًا فرنسيًا فاخرًا. يمكنك أن تلبس الجينز أو أي قطع من الثياب هندسها أحد ألمع المصممين.

          بلغة أخرى، تستطيع أن تعيش وتلبس وتأكل على إيقاع تزامن ثقافي يجعله الإنتاج الكبير والاستهلاك الموسّع الهائل الخيارات ممكنًا.هي مفارقات في شوارع المدن الكبرى. لهذا لم يعد تعريف الزمان والمكان كما كان عليه في السابق. فالتجاور وتزامن الأنماط والقيم والأمزجة والأشكال والمباني والمساحات والحضارات تشكل «القرية العالمية».

          فما بعد الحداثي تجاور، بينما الحداثي هو تناسق. الحداثي يكره التعددية بعكس ما بعد الحداثي.

          تتحدث غصوب أيضًا عن مبدأ السخرية الذي يحدد ما بعد الحداثة، وتذكر العرب لتقول إنهم بالغو الجدية حيال ذواتهم، فيما بعد الحداثة أشدّ انجذابًا إلى العبث، كي لا نقول إلى الخفة أحيانًا كثيرة.

          أما في هندسة العمارة فتعطي أمثلة عن بيروت التي تمثل أزمنة ما بعد الحداثة ببنيتها المنوعة (القديمة والحديثة) ووجود النراجيل ذات الزينة الشرقية إلى جانب الأواني الأوربية. وتتطرق إلى هندسة المعماري «حسن فتحي» الذي أراد إنشاء «عمارة للفقراء» تكون تقليدية، غير مزينة، مادتها الطين الخالص.

          وهناك ديزني لاند وشروطها الغريبة على موظفيها الذين لا يمكنهم صبغ شعرهم أو لبس خاتمين في الأصابع، بل عليهم أن يلبسوا ثيابًا داخلية ملائمة أثناء العمل.. سعادة للبعض على حساب شقاء الآخرين.

          تذكر في مكان آخر (كونديرا) وروايته «خفة الكائن» الذي انتقد من خلالها مجتمع ما بعد الحداثي الذي يتخبط فيه.

آراء المسيري

          يبقى أخيرًا أن نذكر آراء المفكر «عبدالوهاب المسيري» في كتابه «الحداثة وما بعد الحداثة». إن الفكر الغربي يدور في إطار الفكر الإنساني الاستناري، ذلك الفكر الذي يمنح مركزية الإنسان ويؤكد عقلانيته ومقدرته على تجاوز ذاته وبيئته.

انفصال الدال عن المدلول

          قضية علاقة الدال بالمدلول تختصر قضية علاقة الحداثة بما بعد الحداثة. هي قضية علاقة العقل بالواقع، والإنسان بالطبيعة والذات بالموضوع، في نهاية الأمر علاقة الخالق بالمخلوق.

          تشكل إشكالية علاقة الدال بالمدلول المدخل الحقيقي لدراسة فكر عالم اللغة السويسري «فرديناند دي سوسير 1857 - 1913» واضع أسس علم اللغة البنيوي، الذي ذهب إلى أنّ علاقة الدال بالمدلول لا تستند إلى أي صفات موضوعية كامنة في الدال، ومن ثم فالعلاقة ليست ضرورية أو جوهرية أو ثابتة، فهي علاقة اعتباطية أو عشوائية.

          يقارن المسيري بين الحداثة وما بعد الحداثة، فيقول إنّ الجسد يمثل الحداثة (المادية الصلبة) بينما الجنس يمثل ما بعد الحداثة (المادية السائلة)، وهناك فرق بين الاثنين.

          يتطرق إلى عالم الفنون التشكيلية فيذكر أن فن القرن العشرين هو فن مكعبات ومربعات ودوائر وألوان. ويصبح كل شيء مرجعية ذاته، مكتفيًا بذاته، دون أي معنىأو مدلول في عالم مادي.

          أبرز ما يمثل ذلك الفن المفاهيمي، ويعطي مثالا على ذلك الفنان «بيير مانزوني» الذي كان يعلب برازه ويبيعه. ويقارن المؤلف بين الفن ونيتشه حيث النظام عند كليهما نظام مؤقت وواقع وهمي لا توجد فيه حقيقة. يلغي نيتشه المساحة بين النص والحقيقة وبين المبدع والحقيقة بل بين نص وآخر.

          يفند المؤلف (المسيري) مصطلحات الحداثة من خلال رؤية «دريدا» وتقسيم معجمه إلى قسمين: مصطلحات الثبات والصلابة، ومصطلحات التغيّر والسيولة.

          المعنى عند «دريدا» يأتي من خلال علاقة الدوال ببعضها، وليس من خلال علاقة الدال بالمدلول.. ليصل إلى القول إنّ ما بعد الحداثة ليست معادية للمنظومات الدينية فحسب، وإنما هي معادية للمنظومات الإنسانية الإلحادية أيضًا. هناك معان بعدد القرّاء، فهي مجرد مجال عشوائي للعب الدوال ورقصها، فتتعدد المعاني، قال دريدا إن استراتيجيته دون غاية، وتفكيره لا هدف له، ثم أضاف قائلا: إنه يرضى بالجنون كعنوان لما بعد الحداثة! دون أن نذكر جاك لا كان وما كتبه في تاريخ الجنون.

          يرى المسيري أن مصطلح «ما بعد الحداثة» مصطلح نفي سلبي، وهو ترجمة لمصطلح Post - Modernism. وقد تستخدم كلمة «Post - Modernity» للدلالة على الشيء نفسه.

ميشال فوكو

          علم آخر من أعلام مابعد الحداثة والتفكيكية هو «ميشال فوكو 1936 - 1984م»، مفكر فرنسي، يعتبر من آباء المدرسة التفكيكية. كتاباته ساخرة ومتشككة وعنيفة في راديكاليته، وهي أيضًا، مضحكة ولا أخلاقية في إطاحته بكل تقليدي ملتزم.كتاباته تعكس فكر ما بعد ماركسية. كتب في الجنون وتاريخه، وفي الحمقى.. يتوقف طويلا أمام جنون الفلاسفة والشعراء والأدباء والفنانين، أمثال نيتشه، ولدراين، آرت، جيرار دورنيفال، غوبا، فان جوغ، ساد.. إلخ. لكنه يقول إنّ  هؤلاء المجانين الكبار قدّموا روائع خالدة للثقافة وللإنسانية.

          أما قضية نهاية التاريخ فيرى هيجل أن التاريخ مقدّس وله غاية محددة، وأنه سيصل إلى نهايته حينما تتحقق هذه النهاية. أما فلسفة ما بعد الحداثة فتعتبر قمة الثورة ضد الهيجلية.

          التاريخ يصل إلى نهايته (فوكوياما) و(هنتنجتون): إن ما بعد الحداثة إعلان لنهاية التاريخ ونهاية الإنسان ككائن مركّب اجتماعي قادر على الاختيار الحر، ليحل محله إنسان ذو بعد واحد لا عمق له ولا ذاكرة ولا قيمًا. إنّ ما بعد الحداثة (ودائمًا حسب المسيري) هي في واقع الأمر الإطار المعرفي الكامن وراء النظام العالمي الجديد، هو عصر ما بعد الأيديولوجيات وعصر نهاية التاريخ، وعصر ما بعد الإنسان. هو عالم في حالة سيولة كاملة. إن النظام العالمي الجديد هو إمبريالية عصر ما بعد الحداثة، إذ يجد الإنسان نفسه في عالم بلا تاريخ، تتفكك فيه علاقة الدال بالمدلول، وينزلق فيه الإنسان من الخصوصية الإنسانية والتاريخية إلى عالم الطبيعة/المادة والجسد والجنس والعدمية.

خلاصة

          الحداثة وما بعد الحداثة مصطلحان أو كلمتان تختصران ثقافة الإنسان المعاصر، بل قد تمتد جذورهما عبر العصور. هما لم يتأتيا من العدم بالرغم من عدمية طرحهما واختصارهما للإنسان إلى كائن لا همّ له سوى المنفعة واللذة وإن تعددت الشعارات والتسميات والمفردات والتبريرات.

          الحداثة أسلوب حياة وحاجة إنسانية رافقت الإنسان منذ وجوده الأول. بحثت عنه وبحث عنها. وجدته ووجدها. لقد غادر الإنسان جنته السماوية الأولى، وها هو يبحث عن خروجه الثاني من جنته الأرضية، التي تحوّل إلى إله فيها، إلى حيث التلاشي والعدم تحت عنوان الجنون الذي لخص فيه لكان، فوكو ودريدا مسيرة هذا الكائن الباحث أبدًا عن معنى لحياته، إذا بقي هناك من معنى.

 

 

يوسف غزاوي   
  




الحداثة في الفن.. هنري ماتيس Henri Matise - فتاة إسبانية 1909م - زيت على قماش





ما بعد الحداثة.. ديان هانسون Duane Hanson - امرأة تتبضّع (نحت) 1969م





ما بعد الحداثة.. نام جون بيك - فولتير (نحت فيديو) 1989م





ما بعد الحداثة جان تانغلي Jean Tinguely - منحوتة من مواد مختلفة 1989م





كيت سونييه Keith Sonnier - نيون 1969م





باري فلاناغان Barry Flanagan - مواد مختلفة 1967م





ريتشارد تيتل Richard Tuttle - خشب 1964م