محمد الماغوط بين الريادة وحريَّة الإبداع

محمد الماغوط بين الريادة وحريَّة الإبداع

تبدو قصيدة محمد الماغوط مكتملة وكافية، بحيث إنها لم تحتجْ إلى مبرر لكي تبرز في أفق الحداثة الشعرية العربية، ولم تحارب للدفاع عن نفسها أمام عتاة الشعر التقليديين والتراثيين، ولم يتذكر كثيرون في حينها أنها بلا وزن أو حتى قافية، فقد شغفتهم بواسطة الصور الانفجارية المشتقة والسيرة الصعلوكية والخارجة عن المألوف التي كان الماغوط يقدّمها في قصيدته، إضافة إلى الاحتجاج الذي يقود الشعر إلى الاتصاف بملكوت البراءة والتعبير الغامض، ثم الريفي المقتلع من جذوره الجوال في شوارع المدينة يروي الحقيقة المرّة بكل صدق وثقة بالنفس دون موجب نقص.

 

حظي الماغوط بالعطف والحنان والقابلية لدى الناس، لأنه لم يعمل على نسف المُثُل الإبداعية المعروفة والمتوارثة، ولم يقدّم بديلًا استئصاليًّا لقيمنا الثقافية والفكرية، بل كان شعره مثالًا لغناء المستضعفين والمقموعين في وطنه الأم وفي بقية أوطان العالم العربي، والمبدعين المتألمين الذين يعيشون في الضواحي والأماكن الفقيرة والمهمشة. 
وفي هذا الإطار يرى الناقد العربي محمد عزام أن الماغوط يعطي أهمية كبرى للريف والبادية والقرية السورية والعربية، حيث دافع عن فلّاحيه الجياع، ومرضاه البائسين، وعجائزه، وأطفاله، والحرية، ليقف ضد الإرهاب وسلطات القهر والقمع، وللعالم الثالث المتخلف الذي يعاني التجهيل والاستلاب وفقدان الحرية والكرامة.
يعتبر الشاعر السوري القومي العربي محمد الماغوط رائد قصيدة النثر العربية، والتي كانت محطّ انتقادات كثيرة وواسعة، خصوصًا من لدُن شعراء القصيدة التقليدية ونظرائهم في الشعر الحر الذين قللوا من قيمتها الإبداعية وحكموا عليها بالنقصان والضعف والموت، كما قللوا أيضًا من شأن شعرائها وكتّابها وجعلوهم من الذين يجرون وراء وهْم اسمه الشعر الحديث؛ حيث واجههم بكل ما أوتي من معرفة وإبداعية منقطعة النظير، مهاجمًا إياهم بقصيدته المتفجرة، والتي تنطلق من مسلّمات يؤمن بها ترتبط بالدرجة الأولى بالحرية، حرية الإبداع والتعبير والموقف، وإلّا صار الشعر - أيّ شعر- واجهة لإعلان الطغيان والدكتاتورية الثقافية والأدبية.

رؤية أدبية وشعرية مبدعة
إن ما يثير الانتباه هنا هو أن الماغوط كان لا يعير أي اهتمام لكل الانتقادات التي كانت تحكم على إبداعه في قصيدة النثر وكتابتها، حيث كان يعتبرها مجرد جعجعة بلا طحين، مادامت لا تقوم على دراسة نقدية ومنطلق نظري واضح، وعلى تحليل عميق قادر على وضع عجلة النقد على السكّة الصحيحة. ورغم أن شعر الماغوط كان فيه الكثير من سمات الشعر الحُر الذي تعتبر قصيدة التفعيلة الموزونة ممثلة له، بل كان قادرًا على كتابته والتفوق فيه، فإنه آثر أن يبدع على طريقته وأسلوبه الخاص ووفق رؤية أدبية وشعرية يتقنها ويقتنع بها، وخصوصًا أنه لم يلجأ إلى أي نظرية شعرية أو نقدية ترسم له منهجه الشعري الذي ارتأى التفوق فيه. إنه كشاعر حُر كان يؤمن بقدرة الشاعر على الخروج على المألوف والسائد ليكون شاعرًا مبدعًا في مجاله وقادرًا على خلق تأثير قوي لدى متلقيه، وجعله يحارُ في تأويل ما يبدع وما يعبر عنه من قضايا فكرية وإنسانية.
إن تفوّق الماغوط في تجربته الشعرية مرتبط بقناعته الكبيرة بقدرة الشعر على التأثير في القارئ التوّاق إلى المعرفة، معرفة الحقيقة، حيث أصبح بعد مدة قصيرة في الإبداع الشعري أن يوجد لنفسه مكانة محترمة في قصيدة النثر وشاعرًا لا يُشقّ له غبار فيها وفي صنعتها. بل أصبح معلّمًا وملهمًا للعديد من الشعراء الشباب الذين قلدوه وأعجبوا بتجربته الشعرية وأسلوبه الشعري الرائع في كتابة قصيدة النثر.

القدرة على تحديد الغاية
 وبذلك خرجت قصيدة النثر عند الماغوط من النظام المعتمد في الشعر الحر، وأصبحت تبتدئ من الشاعر نفسه ومن إبداعه الشخصي للمواقف والوقائع، بما يعرضه ويقدّمه لقرائه المفترضين، وهذا ما أدخل قصيدة الماغوط في التنوع والتخالف والقدرة على تحديد الغاية والأهداف السياسية من كتابتها دون التقيد بشكليات وقواعد أصبحت متجاوزة في قصيدة النثر، وفي تجربته الشعرية التي فرضت نفسها على الشاعر ذاته وعلى مناوئيه الذين كانوا يعدّونه شاعرًا من الدرجة الثانية أو حتى الثالثة.
إن قراءة شعر الماغوط تنبئنا منذ البداية بأنه شاعر يدعو إلى رفض الاستبداد واستدعاء الإيمان بالوطنية والوحدة والتكافل والصمود، إضافة إلى الدعوة لاحترام المقومات الحضارية للأمة العربية التي صارت تحارب تحت عناوين متعددة وتُواجَه بالعديد من الانتقادات والهجمات، التي من الصعب إيقافها دون اللجوء إلى صيغ متعددة من الإبداع والكتابة المؤمنة بالحرية والتجديد. يقول في قصيدة «حصار»:

دمُوعِي صَفْراءُ
منْ طولِ ما حَلمْتُ بالسنَابلِ الذَهبِيةِ
وبكيْتُ
فليذْهبْ القَادةُ إلى الحُروبِ
والعُشّاقُ إلَى الغَاباتِ
والعلَماءُ إلَى المُخْتبراتِ
أما أنا فسأبحثُ عنْ مسْبحةٍ
وكُرْسِيٍّ عتِيقٍ
لأَعودَ كَما كُنتُ
حَاجبًا قدِيمًا على بابِ الْحُزنْ
مادامَتْ كلُ الكُتبِ والدسَاتِيرِ والأدْيانِ
تُؤكدُ أننِي لنْ أمُوتَ...
إلا جَائِعًا أو سجِينًا

القصيدة السياسية وقناعات الماغوط
يندفع الشاعر الماغوط في أغلب شعره إلى رفض الاستبداد ومواجهته وتأليه الحاكم العربي، وفرض منطق القوة والقهر على الشعوب الضعيفة ودفعها إلى الحروب للموت والبكاء وإنتاج الحزن داخل البلاد وبين الناس وازدياد عدد الثكالى والأرامل والأيتام والفقراء والضعفاء والذين لا قيمة لهم في المجتمع باعتبارهم وقودًا لها يستحقون الموت من أجل الأغنياء والطغاة والحكّام، بل يتمنى أن يعيش الكل في سلام وطمأنينة، وأن يكون لكل واحد دوره الخاص به في مجتمعه ووطنه. فالقادة للحروب، والعشاق للحب، والعلماء لأبحاثهم ودراساتهم، وبالتالي، فالاستبداد هو أسُّ المشاكل في أي مجتمع، ومحاربته ورفضه هما طريق الخلاص والأمان والحرية. فلا يتصور الماغوط، كإنسان أولًا وكشاعر ثانيًا، أن يعيش الضعفاء والفقراء من أجل الأغنياء والطغاة والمستبدين، لأن الله خلق الناس سواسية في الهيئة والصفة، والفرق بينهم يجب ألّا يتعدى مستوى الخُلُق والوعي.
في القصيدة السياسية التي تنطلق من مسلمات محددة مرتبطة بقناعات معيّنة لدى الشاعر العربي نجد أن الماغوط بقصيدته وتجربته الشعرية، مثله مثل العديد من شعرائنا الروّاد، يواكب تطورات المجتمع العربي عامة والسوري على الخصوص من الناحية السياسية والاجتماعية والثقافية تأثرًا وتأثيرًا وتحوّلاته المجتمعية على كل المستويات، حيث أصبحت لدى الشاعر القُدرة على التحكم في إنتاج قصيدته التي صارت صنيعًا بين يديه، فجعلها شاعرنا موصولة وقائمة على التغير الزمني، وأخرجها من الواحدية إلى التمامية، ووصلها بطاقته الإبداعية الخالصة القائمة على إيمانه المطلق بحريّة الإبداع والتعبير. يقول شاعرنا الكبير في قصيدة «خريف درع»:

اشْتقْتُ لِحقْدي النهِمِ القَديمِ
وزَفِيري الذِي يخْرجُ مِنْ سُويْداءِ القلْبِ
لِشهِيقي الذِي يَعودُ مَعَ غُبارِ الشَارعِ وَأطْفالهِ وَمُشردِيهِ
***
والدُموعُ الغريبَةُ لَا أصُدهَا
بَلْ أفْتحُ لَها عيْني عَلى اتسَاعهِمَا
لِتأْخذَ المَكانَ الذِي ترِيدُ حَتى الصَبَاحِ
وَبْعد ذلِكَ تَمْضي فِي حَالِ سَبِيلهَا
فَرُبما كَانتْ لِشاعرٍ آخَرْ!

إن القصيدة عند الماغوط تنكتب وفق نظرة فكرية تنطلق من قناعات ثقافية وفكرية لديه، وتواصل إحداث المفاجأة لدى قرّائه بشكل قوي؛ فإذا ما تتبعنا مسار الكتابة الشعرية الحداثية في كل قصيدة من قصائد الشاعر، فإننا نجده مسارًا مبنيًّا على التعبير الحر عن الأشياء والأفكار والمواقف، وسرد تفاصيل مختلفة قادرة على إيصال فكرة محددة يؤمن بها ويقتنع بها وبجدوى الكتابة عنها وحولها؛ حيث نجده يكتب عن الدموع والحزن والألم والاستبداد والحقد والحسد والكُره والخيانة والفشل والخنوع والفشل... إنها عناوين واقعنا في وطننا العربي على المستوى الثقافي والاقتصادي والسياسي والاجتماعي. لذلك، فهذه جرأة كبيرة عند الشاعر أن يفضح عوراتنا ويعرّي واقعنا الحقيقي، حيث إن لجوءه إلى قصيدة النثر كان سببًا واقعيًّا ومنطقيًّا لإيصال كل الأفكار التي يؤمن بها بحريّة في الكتابة والإبداع، باعتبارها القصيدة القادرة على ترك تأثير قوي لدى القارئ العربي المؤمن بالتغيير والتجديد. يقول في قصيدة «القتْل»:
ضعْ قَدمكَ الحجَريةَ على قَلْبِي يا سَيدِي
الجرِيمةُ تَضْربُ بابَ القفَصِ
والخَوْفُ يَصْدحُ كالكَروَانِ
هَا هِيَ عرَبَةُ الطاغِيةِ تدْفعُها الريَاحُ
وها نحْنُ نتَقدَمُ
كالسَيْفِ الذِي يخْترِقُ الجُمْجُمَة

قصيدة الماغوط... وحي صادق
   من هنا نخلص إلى أن قصيدة الماغوط تبتدئ منه هو نفسه، أي أن شاعرنا كان يعرف أن قصيدته قادرة على البوح بمكنوناته وأحاسيسه الفياضة تجاه الذات والآخر، وهو ما كان يوضّح بجلاء أن صوره وهيئاته المادية توجد بقصيدته وتكتب فيها، وبالتالي كانت القصيدة عند الماغوط بمنزلة «وحي صادق»، حسب قول الشاعر المغربي محمد القري، وكانت تسعى إلى عقد علاقات مع خارجها الاجتماعي ومحيطها المتنوع من حيث الثقافة والتفكير والموقف والأيديولوجيا. فشعرية القصيدة الماغوطية ترتبط بمدى تحقيقه نوعًا من الإيقاع والموسيقى المرتبطيْن بجمالية اللغة الشعرية وغموضها واستيعابها لتراكيب ومجازات وصور مبدعة؛ حيث استطاعت بشكل مكثف أن تحقق نوعًا من الاعتراف بالرأي الشخصي والموقف من العديد من القضايا الكبرى من دون خوف أو تردُّد.
إن الشعر عند الماغوط لم يرتبط منذ بدايته بأي نظرة تقزيمية للقضايا الإنسانية التي يؤمن بها، بقدر ما كان شعرًا معبّرًا عن أحقية الإنسان العربي في التعبير عن الذات وعن العالَم وعن المشاعر والأحاسيس تجاه قضايا الوطن والناس والمجتمع من دون وصاية من أحد. 
ومن هنا نؤكد أن شعر الماغوط كان مدرسة للعديد من الشعراء الشباب الذين استطاعوا أن يأخذوا المشعل منه، ليحافظوا على إرث قصيدة النثر ويأخذوها إلى بَرّ الأمان ■