السينمائي المغربي الرائد محمد عصفور شغفٌ غريزي بالحداثة ورهانٌ عليها

السينمائي المغربي الرائد  محمد عصفور شغفٌ غريزي بالحداثة ورهانٌ عليها

ما عرف عن محمد عصفور، المغربي البسيط، أنه كان رائدًا، دون غرور أو سابق ترتيب، في التعريف بالسينما المغربية والتأسيس للأنشطة التي تدور بفلكها في بلده. لقد كان عصفور شخصًا سخيًّا، تملّكته دومًا الرغبة في تجاوز نفسه، والتحليق بعيدًا، رغم ضعف إمكاناته المادية، وضعف تكوينه، وضعف الإمكانات التي كان يوفرها له بلده المغرب، الخاضع آنذاك لسيطرة الاستعمار الفرنسي.

 

محمد عصفور إنسان أدهش كل من اقترب منه وعاشره. كان سابقًا لزمانه، متميزًا بفضول يسعُ العالَم بأكمله، وكان منتصرًا لأفكار ومجازفات ما كان من السهل تمثُّلها وتقبُّلها في تلك السنوات المبكرة من القرن العشرين. كان خريج مدرسة الحياة، توفي أبوه وعمره لا يتجاوز ثلاث سنوات، لذا كان، على ما يبدو، في بحث دائم عن سند رمزي خارج الأسرة، يقوّي قدرته على المقاومة ويصقل مهاراته الفطرية.
انتقل عصفور من ضواحي مدينة آسفي الواقعة على ضفة المحيط الأطلسي إلى مدينة كانت قيد التشكل، هي الدار البيضاء، فعمل بها، ليعيل نفسه وأسرته، بائعًا للجرائد وماسح أحذية وحمّال أمتعة، مقتربًا في ذلك من شخصية قوية أخرى بصمت الإبداع المغربي، أقصد الكاتب محمد شكري.  كان أول عمل سينمائي شاهده عصفور هو فيلم «طرزان»، وتسلّل بعد انتهاء الفيلم إلى مقصورة العرض، وأخذ عارض الأفلام بيده وكشف له، كما فعل تمامًا عارض الأفلام في الفيلم الإيطالي «سينما باراييسو» مع الطفل طوطو، خبايا الصنعة وكيفية انتقال الصور من الأشرطة إلى الشاشة، فأصبحت حيرة عصفور أقلّ حدة، في حين تقوى فضوله وازداد شغفه.

ارتباط وثيق
ذات مساء شاءت المصادفات أن يلتقي عصفور فرنسيًّا كان يصور شريطًا بأحد شوارع الدار البيضاء بكاميرا حديثة، فأتيحت له فرصة أن يقترب من تلك الآلة العجيبة وأسرارها.
بعد ذلك اشتغل عصفور في عدّة مهن، إلى أن أصبح ميكانيكيًّا صاحب ورشة، وتمكّن من اقتناء كاميرا مثل تلك التي كانت في ملكية الفرنسي الطيب، وبدأ رفقة أصدقائه في تصوير لقطات تحاكي لقطات فيلم طرزان وتسجل مغامراتهم ولحظات انشراحهم، وعرض ما يصور بورشته التي كانت تتحول خلال ساعات إلى «سينما قرب»، يجب على من يريد دخولها من جمهور الحي دفع ثمن تذكرة.  وكان عصفور يعتمر تارة قبّعة ممثل وتارة قبعة مخرج أو كاتب سيناريو، بمثل ما كان يشرف على قاعة العرض بنفسه، ويعلّق على الوقائع ويرافقها بأصوات مصاحبة، تمتزج فيها أصوات الطبيعة وأصوات العراك وأصوات الحياة. وفي عام 1941، أخرج عصفور فيلم طرزان وعرضه، وكان ارتباطه بتلك الشخصية السينمائية ارتباطًا وثيقًا إلى درجة أن زوجته ماكدالينا نفسها أسرّت في حديث معها أنها كانت تناديه دومًا باسم طرزان.

ماكدالينا رفيقة الدرب
لقد كان عصفور محظوظًا حينما التقى ماكدالينا، وهي امرأة ألمانية قوية، تعرّف إليها فوقع في غرامها، فارتبطا واشتغلا معًا؛ إذ كانت لها خبرة في مجال التصوير الفوتوغرافي، وتكفلت بتحميض الأشرطة التي كان عصفور ينجزها. وكانت تصوّر زوجها وهو يمثّل، وتتكفل بتوجيه بقية الممثلين، وتضع الماكياج لمن يحتاجه، وتتقمص أحيانًا بعض الأدوار الصغيرة، وتهتم بإعداد الطعام للفنانين وللتقنيين. 
كانت هي وعصفور يتكاملان، وأنجزا معًا عدة عناوين مثل «أموك الذي لا يقهر» و«ابن الغابة» و«الابن العاق» و«اليتيم». لقد كانت سندًا له، هو الذي حركه طموح كبير وعناد أكبر وخيال جامح.
أصبح عصفور يشتغل مع شركات الإنتاج العالمية التي تقصد المغرب لتصوير أفلامها في مستهل النصف الثاني من القرن العشرين، وكان أصحابها يبحثون عنه ويحرصون على أن يكون ضمن فريقهم، لأنه كان مرموقًا مبدعًا وجديًّا، يحترم عمله ويعشقه، فاشتغل مثلًا مع العبقري أورسون ويلز والكبير بازوليني والمبدع يوسف شاهين، واشتغل في الفيلم العلامة «لورانس العرب» مع ممثلين مرموقين، مثل لينو فينتورا وجان بول بلموندو.

رصيد فنّي محترم
أما على مستوى الرؤية الفنية، فإن عصفور لم يكن مشدودًا إلى انشغالات مجتمعه ونشدانه التحرر والتقدم، بل ظل مرتبطًا بما احتفظ به من صور الأفلام الأجنبية التي بهرته، فنقلها وقلّدها بتلقائية قد تصل أحيانًا إلى درجة السذاجة.
ترك لنا عصفور، بفضل ذكائه وانفتاحه، رصيدًا إنسانيًّا وفنيًّا محترمًا. وذات تكريم له. جسد عملية التصوير وتعامل مع الكاميرا وكأنه يرقص «رقصة أحيدوس» الشعبية التي يعشقها المغاربة، وتلك كانت رسالته الفنية الأساس، حيث إنه لم يعتبر أبدًا أن السينما هي فن وافد و«برّاني»، وأكد دومًا - بشكل عملي - أن من حق المغاربة أن يتخذوها وسيلة للإمتاع والمؤانسة. وبما أنه كان رائدًا ومؤسسًا، فقد جرّب عدة سجلات فنية كسجل المغامرات والسجل الاجتماعي والسجل الفكاهي، وكان «يُمغرب» ما كان يشاهده من أفلام وشخصيات، من طرزان إلى شارلي شابلن، ربما لأنه كان مقتنعًا بأن السينما لغة كونية، وأنها لا تحتاج سوى إلى بعض التكييف ولبعض الرتوشات لتصبح عابرة للثقافات والقارات، ولاعتقاده بأنه يحق لكل بلد أن يكون له «لوميير» خاص به مثلما برز الأخوان لوميير بفرنسا.

«مؤسسة» عصفور
كان عصفور «مؤسسة» أعمدتها الهواية المسؤولة والشغف المتواصل والانحياز الغريزي للحداثة في وقت مبكر، وقد نذر حياته للسينما وخبر جميع مراحل صنع فيلم وعرضه و«تسويقه»، مساهمًا، بمعنى من المعاني، في  إضفاء طابع التمدن على مدينة الدار البيضاء، وقد أصبحت أشرطته بمنزلة وثائق أو نفائس تؤشر على طرائق تخيّل المغاربة وتتمثّل بعض مظاهر حياتهم في القرن الماضي، كما أنه أتاح لهم في وقت مبكر أن يشاهدوا أفلامًا ويتعرّفوا إلى أنفسهم على الشاشة، وأن يروا أماكنهم الأليفة وقد تحولت إلى فضاءات سينمائية، كما أنه أشاع الفرح والمرح لدى مشاهدي ما كان ينجزه من أشرطة، وقام، من دون أن يعي ذلك، بضرب موعد للثقافة المغربية مع السينما التي هي بكل تأكيد منتج حداثي ومغيّر لأنماط العيش والتفكير ■