إيف كلاين «التوافق الأزرق»

إيف كلاين «التوافق الأزرق»

رغم عمره القصير الذي لم يتجاوز 34 سنة، عاش الفنان الفرنسي إيف كلاين حياة يحسده عليها كبار فناني القرن العشرين، فقد ولد عام 1928 لأبوين كانا رسامين بدورهما، فاطلع منهما على كل ما كان قائمًا آنذاك من اتجاهات فنية. وما كان قائمًا آنذاك هو خليط في غاية التنوع من كل المذاهب الفنية التي تلت الانطباعية، وكان عليه أن يتجاوزها من دون أن يتلقى أي تعليم أكاديمي، ليصبح بسرعة أحد رواد ثلاثة اتجاهات فنية حديثة هي: «الواقعية الجديدة» و«الفن المقلّ» و«البوب»، بسبب تعدد اهتماماته وتلوّنها. 
في سن الخامسة عشرة درس كلاين التجارة البحرية، ثم انتقل إلى معهد اللغات الشرقية، وفي تلك الفترة بدأ يرسم ويتلقى دروسًا في رياضة الجودو. كما سافر إلى بلدان عديدة بما فيها اليابان عام 1953، حيث نال الحزام الأسود في الجودو من المرتبة الرابعة. وأكثر من ذلك، اطلع هناك على الفن الياباني المقلّ من الزخرف والحشو، وبيوت اليابانيين التي تكاد تخلو من المفروشات ما عدا الحد الأدنى اللازم.
كانت ميول كلاين إلى التبسيط قد تجلت منذ عام 1948م عندما ألّف «سيمفونية الصمت الرتيب»، التي جعلت منه لاحقًا أحد رواد الفن الأدائي المعاصر، وتألفت هذه السيمفونية من عزف نغمة واحدة على الآلات الوترية لمدة 20 دقيقة بشكل يسبب الدوار، تتبعها 20 دقيقة من الصمت للتأمل في الفراغ. (وهذه السيمفونية موجودة اليوم على يوتيوب، تؤديها فرق عالمية عديدة).
أما في الرسم، فقد انتقل كلاين من الاحتفاء بالألوان المستخلصة من الطبيعة في التجريد، إلى الاحتفاء باللون في حد ذاته، وكان يردد «اللون بحد ذاته هو الفن».
في عام 1956م عرض كلاين مجموعة لوحات لا تحتوي أي منها على أكثر من لون واحد، ورغم تعدد الألوان في المعرض استاء الفنان من ردة فعل الجمهور الذي رأى فيها مجرد اقتراحات تزيينية للديكور المنزلي، الأمر الذي استوجب منه ردة فعل.
كان كلاين شغوفًا باللون الأزرق الداكن الذي استعمله رسامو المنمنمات في القرون الوسطى، لكن ذلك اللون كان مصنوعًا من مسحوق حجر اللازورد الكريم الباهظ الثمن. وبمساعدة من صاحب محل دهانات في باريس، تمكن كلاين من تصنيع لون أزرق مشابه من مكونات اصطناعية، وأطلق عليه لاحقا اسم «أزرق كلاين العالمي» وسجله كابتكار خاص به، وهنا بدأت سيرة كلاين تعم الآفاق.
في عام 1957م أقام الفنان معرضًا في باريس ضم 11 لوحة متشابهة إلى حدّ التطابق، ليس عليها غير اللون الأزرق، وقد علقت اللوحات على بعد 20 سنتيمترًا من الجدار لتعزيز الشعور بالفضاء، والأغرب من ذلك تم تحديد أسعار مختلفة لهذه اللوحات، بحث يشتري المقتني ما يراه في لوحة ولا يراه في أخرى.
حقق المعرض نجاحًا هائلًا، وتم نقله إلى ألمانيا وإنجلترا، وصدرت بطاقات بريدية بلون أزرق كلاين العالمي.. لكن أعمال الفنان لم تكن يومًا ما تكرارًا لذاتها، فإضافة إلى أنه كان يستخدم أدوات مختلفة لوضع اللون على اللوحة للحصول على ملمس مختلف في كل مرة مثل الأسطوانة المتدحرجة، والفرشاة العريضة، وخرقة القماش للتبقيع، كان يعمد في بعض الأعمال إلى تغميس قطع من الإسفنج باللون الأزرق وإلصاقها على خلفية باللون نفسه. وإلى ذلك، كان يشتري في بعض الأحيان مجسمات صغيرة لتماثيل مشهورة ويطليها بلونه الأزرق، ما جعله أحد رواد «البوب أرت»، كما كان ينثر الطلاء الأزرق على أرض قاعة المعرض بشكل يجعله غير قابل للبيع والشراء (القيمة الأساس التي كانت وراء نشوء الفن المفاهيمي)، أو يحمل نساء عاريات على طلاء أجسامهن باللون الأزرق وطبع بصماتهن على قماش اللوحة أو على جدار، فيما تعزف الأوركسترا سيمفونيته الرتيبة لإنتاج عمل يعتبر اليوم رائدًا في الفنون الأدائية المعاصرة.
توفي كلاين عام 1962 م، بعد إصابته بثلاث نوبات قلبية، يردها بعض الأطباء إلى تسممه بلونه الأزرق العالمي، لأنه كان يضع أحيانًا بعض أدوات العمل في فمه. لكن أزرقه ظل حاملًا اسمه، وكثيرًا ما يقفز أمامنا في الدراسات الجامعية والأعمال الأدبية، حتى في المسلسلات التلفزيونية ■