ذكريات مزيّفة

ذكريات مزيّفة

من أقوال الفنان الإسباني سلفادور دالي المأثورة «أن الفرق بين الذكريات المزيفة والحقيقية  كالفرق بين المجوهرات المزيفة والحقيقية، حيث تبدو المزيفة دائمًا الأكثر حقيقية، والأكثر تألقًا»؛ وتؤكد عالمة النفس الأمريكية إليزابيث لوفتوس أنه لا يمكن التمييز بين الذكريات الحقيقية والزائفة بشكل قاطع، واعتقاد المرء بأن البعض يتذكر التفاصيل بثقة وبعاطفة جياشة، لا يعني أن هذه الذكريات قد حدثت بالفعل، فللذكريات الزائفة نفس مواصفات نظيرتها الحقيقية.

 

 أثبتت د. لوفتوس، عبر رحلة بحثية امتدت عقودًا، أن كثيرًا مما يُحكى ليس صحيحًا، وأنه من الممكن جدًا زرع ذكريات لم تحدث مطلقًا في عقول الناس.
 ونجحت بطرحها هذا في تصويب معتقدات خاطئة ترى الذاكرة البشرية مثل كاميرا الفيديو التي تسجّل الأحداث، ثم تعيدها كما هي دون أدنى تغيير، بينما تشبه الذاكرة بصفحة «ويكيبيديا» التي يمكن للشخص الدخول عليها في أي وقت لتعديل محتواها، وهكذا يمكن أن يفعل الآخرون. كما نجحت في تبرئة عديد من المتهمين ممن حُكم عليهم بسبب اتهامات قائمة على ذكريات لم تحدث، أو بسبب شهود عيان خانتهم الذاكرة.
 
ذكريات مزروعة
جاء اهتمام د. لوفتوس بالذكريات المزيفة من حديث حول حــادث غرق والدتهـــا في مسبح المنزل عندما كانت هي في الرابعة عشرة، وذلك بعد سنوت طويلة من الحادث؛ حيث أكد لها أحد أفراد أسرتها أنها كانت أول من اكتشف المأساة، بينمــا لم تكــن هي تتذكر ذلك، ربما بسبب صدمتها الشديدة كما قيلَ لها. 
وراحت بعد ذلك الحديث تبحث في عقلها عن ذكريات تريها مشهد الحادث؛ وتذكرت في النهاية بعض التفاصيل، وتعاملت مع مشاعرها المؤلمة، وتقبّلت فقدان أمها. وبعد فترة قصيرة اتصل بها ذلك القريب ليؤكد لها أنه كان مخطئاً؛ فلم تكن هي أول من اكتشف الحادث، بل كانت خالتها. 
وتبينت بعد ذلك أن الذكريات ليست دائمًا دقيقة، وأن دماغ الإنسان مُعرّض للاقتراح والتأثر. أي إن أدمغتنا قادرة على تأليف ذكريات تملأ فراغ المعلومات المجهولة.
ولتثبت طرحها، قامت د. لوفتوس بتجارب عديدة برهنت على سهولة زرع الذكريات، ولعلّ أشهرها «تائه في المركز التجاري»، حيث طلبت وفريقها من أطفال تذكُّر يوم تاهوا في مركز للتسوق. وبمساعدة اقتراحات وأسئلة ذات علاقة استطاع الأطفال المشاركون إعادة خلق ذكريات حيّة نابضة تصوّر ذلك السيناريو الذي لم يحدث قطّ. 
لكنها في الوقت نفسه ترى فوائد لزرع بعض الذكريات، وذلك لحل مشكلات كاضطرابات تناول الطعام، حيث مساعدة المريض على تذكُّر سلوك غير محمود تسبب له بأذى في الماضي، وإن كان لم يحدث. ومثلما تكون زراعة الذكريات مفيدة لتعديل السلوك، يسهم تعديل الذكريات وإعادة بنائها جيدًا، أحيانًا، في تكوين نظرة إيجابية للذات، ويكون لتشويه الذاكرة منافع تدعم حفاظ الإنسان على ذاته، وتعين على الاستمرار في الكفاح.

تأثّر الشهود
 في تجارب أخرى للدكتورة لوفتوس، شاهد المشاركون محاكاة لحوادث تصادم. وطرح سؤال عن سرعة السيارات المتصادمة على مجموعة، بينما أعيدت صياغة السؤال نفسه لتتضمن عبارة «تحطّم السيارات ببعضها» للمجموعة الثانية.
 وذكرت المجموعة الأخيرة سرعة أكبر من المجموعة الأولى، بل أضافت تفاصيل عن الزجاج المهشم، بينما لم يكن هناك زجاج في الحادث على الإطلاق. وفي تجربة مشابهة لم يلاحظ المفحوصون علامة «قف» القريبة من السيارة المتورطة في حادث، وذكروا علامة أخرى وردت في سؤال استعلم عن وجودها من عدمه.
وفي السياق نفسه، تناولت د. جوليا شاو في كتاب «وهْم الذاكرة» دراسة أجريت على كيفية تأثير شهود العيان على بعضهم، حيث شاهدت مجموعة فيديو مدته 90 ثانية لفتاة تدخل في مكتب فارغ بالجامعة لتعيد كتابًا. وكانت هناك نسختان من الفيديو تظهر كل واحدة زاوية مختلفة من الحدث. فمن المنظور الأول يمكن قراءة عنوان الكتاب الذي تحمله الفتاة، وملاحظتها وهي ترمي ورقة في سلّة المهملات قبل خروجها. ومن المنظور الثاني تبدو وهي تنظر إلى ساعتها وتسرق ورقة نقدية من محفظة، وتدسها في جيبها. ثم طُلب من نصف المجموعة الإجابة عن أسئلة استبانة في مجموعات من شخصين - شاهد كل شخص فيديو مختلفًا - بينما يجيب النصف الآخر عن أسئلة الاستبانة بشكل منفرد. وبعد 45 دقيقة، سُئل المشاركون عمّا حدث بشكل فردي.

تفاصيل مستعارة
وجد الباحثون 71 بالمئة من المشاركين في فريق ذكروا تفاصيل مستخرجة من مناقشة الحدث مع الشخص الآخر. و60 بالمئة ممن شاهدوا الفيديو الأول ولم يروا السرقة قالوا إن الفتاة مذنبة، وذكروا تفاصيل مستعارة من الشريك. 
واستكشف الباحثون ما أسموه بـ «معلومات ما بعد الحدث» التي يمكن أن تؤثر على ما نتذكره، سواء من النقاش مع الآخرين بصورة شخصية، أو عبر الإنترنت؛ أو من قراءة مقالات حول الحدث أو أحداث مشابهة، أو رؤية صور ذات علاقة. 
لقد سعت د. لوفتوس - وغيرها من الباحثين - لتطبيق نتائج تلك التجارب على شهود العيان، فقدمت استشارات قانونية أسهمت في تقييم الشهادات والأدلة، وأنقذت عائلات كثيرة من التفكك جراء أحكام ظالمة - وفقًا لبيانات مشروع أمريكي أشارت إليه في حديث لها على «يوتيوب»، أن 300 بريء سبق أن قضوا أحكامًا تراوحت بين 10 سنوات و30 سنة من السجن، بسبب تذكّر خاطئ في الغالب، ثم بينت اختبارات الـ DNA  براءتهم - واعتبرت واحدة من أهم 100 شخصية في علم النفس بالقرن العشرين، ونالت عام 2016 جائزة جون مادوكس تكريمًا لما قدّمته من علم وخدمة للمصلحة العامة.

مصادر الزيف
يرى باحثون أنه بالتعامل مع التذكّر كسلوك - فردي أو جماعي - تتضح الدلائل على أن الأحداث تتشكل بفعل قوى اجتماعية وسياسية ودوافع تتغير وفقًا للأزمنة والسياقات المختلفة. وقد يصدّق الناس فكرة قدرة الذاكرة على التسجيل والاسترجاع الأمين، ويرفضون الحقيقية لدوافع معيّنة. 
فالذكريات تلعب دورًا كبيرًا في تحديد هويتنا الشخصية، وتمنحنا شعورًا بالكينونة مبنيًا على ما يتراكم لدينا من ذكريات حول إنجازات الماضي وخبرات الحياة التي عشناها. وهكذا يصبح التشكيك في صحة الذكريات أو عدم دقّتها أمرًا مهددًا للهوية؛ عندها يصبح من الطبيعي أن يتجنب الناس الاعتراف وينكرون المعلومات التي قد تتعارض مع أمنياتهم بأن يكونوا على صواب؛ ويقاومون - بوعي أو بغير وعي - قبول الفكرة العلمية القائمة على فشل الذاكرة، خوفًا من تبعات قبول خطأ الذاكرة المهددة للذات، والنتيجة هي فوات فرصة تصويب تلك الذكريات الخاطئة. وحتى لو تمت المواجهة بـ«الحقيقية»، يقاوم البعض الدليل، ويصرّون على أحداث حدثت لهم في الطفولة وليس لإخوتهم، على سبيل المثال.
ووفقًا لباحثين من جامعة ساوثرن ميثوديست الأمريكية، يُعد «الاقتراض» من ذكريات الآخرين ونسبها للذات مصدرًا آخر للذكريات المزيفة.

روابط جديدة
في عام 2015 أُجري مسح لدراسة هذه الظاهرة على 447 طالبًا، أجاب نصفهم تقريبًا بـ «نعم» عن سؤال: «هل سبق أن سمعت خبرة شخصية لأحد ثم حكيتها على أنها لك؟»، ما يعني أن هؤلاء الطلاب قد ادّعوا ملكية التجربة والذكريات، ولو مؤقتًا. 
في المقابل أكدت نسبة تزيد قليلًا على النصف الاستماع لأحدهم يحكي حكاياتهم الخاصة وكأنها ملك له. وأن 57 بالمئة من المشاركين قالوا إنهم اختلفوا مع آخرين على ما حدث لهم أو لشخص آخر، كاختلاف أفراد الأسرة على تفاصيل حدث ما.
ومن التفسيرات العلمية لما سبق أن الدماغ يخلق روابط جديدة بسماع الحكاية من وجهة نظر أخرى، ويضيف تفاصيل إلى حكايته الأصيلة. كما تتدخل مؤثرات باطنية في تشويه الذكريات عندما نسرد حكاياتنا عن أحداث مهمة في الحياة بصورة مضخمة، ونؤلف ونزيد مؤثرات حتى يبدو حكينا أكثر إثارة. وقد تخوننا الكلمات أحيانًا فنشوّه ما نراه بعيون العقل، ومن الممكن أن تسقط منّا تفاصيل أساسية بقصد أو بغير قصد. وهناك دراسات أجريت في بلدان مختلفة من جانب عشرات الباحثين في 2014، أثبتت جميعها أن وصف الصور لفظيًا يمكن أن يؤثر على تذكّر التفاصيل الأصلية.
 
تصويب الذكريات  
لعل من حُسن الحظ وجود تقنيات لتصويب الذكريات الزائفة دون تدمير للذكريات الحقيقية. وقد بينت بحوث أجريت بجامعة بورتسموث في بريطانيا، وجامعتَي هاغن وماينتس بألمانيا، أن كيفية خلق الذكريات وتحديدها ثم عكسها يمكن أن تغيّر قواعد اللعبة في المواقف الشرطية والقانونية، ويعني ذلك التقليل من خطر الذكريات الزائفة. أما التقنيات المستخدمة فهي عبارة عن مقابلة يمكن من خلالها تمكين الشخص من مراجعة ذكرياته المزيفة.
ففي دراسة حول ذكريات الطفولة، وبمساعدة الوالدين، تم زرع ذاكرتين خاطئتين لم تحدثا مطلقًا - ولكن معقولتين - كالهروب، أو التعرض لحادث سيارة؛ ومعهما حادثتان حقيقيتان حدثتا بالفعل. وتم إقناع المشاركين من جانب والديهم، بأن الأحداث الأربعة قد حدثت. وطلب منهم تذكُّر كل حدث في عدة جلسات.
 وفي الجلسة الثالثة اعتقدت الغالبية أن ما لم يحدث حدث بالفعل. وفي دراسة أخرى مشابهة حكى 40 بالمئة من المشاركين ذكريات زائفة وكأنها حقيقية.
 وحاول الباحثون إبطال الذكريات الزائفة باستخدام استراتيجيتين؛ تتعلق الأولى بتذكير المشاركين بأن الذكريات قد لا تكون دائمًا مبنية على خبرة الأشخاص الخاصة، بل على مصادر أخرى كالصور أو حكايات الآخرين، وطلب منهم معرفة مصادر الأحداث الأربعة؛ وتعلّقت الاستراتيجية الثانية بطلب استدعاء ذكرى مرارًا وتكرارًا للوقوف على ذكريات زائفة. ونتج عن ذلك رفع وعي المشاركين بإمكانية وجود ذكريات زائفة. وطلب منهم التأمل بصورة نقدية فيما يتذكرون.
وما بين زرع الذكريات المزيفة وإبطالها تبقى أسئلة كثيرة مثل: هل ينبغي التدقيق في كل ما نسمع من ذكريات الآخرين؟ وهل يمكن أن نخلق لأنفسنا ذكريات لم تحدث، لنتجاوز حسرة أحلام لم يعد بالإمكان أن تتحقق؟ 
وهل يمكن أن نهدي أطفالنا ذكريات طازجة من صنع عقولنا ليفرحوا بها ويحكونها لأطفالهم على أنها حقيقية؟ وهل نستعير تفاصيل من الآخرين نكمل بها أجزاء حكاياتنا المنسية؟ وهل يمكن أن نغيّر ذكرياتنا المرّة ونستبدلها بتفاصيل مسروقة تُحلّيها؟ ■