على رفوف النسيان
ثمة الكثير ممّا اختفى من حياتنا اليومية مثل الآلات الحاسبة ودفتر الملاحظات الملازم لحقيبة اليد المسجل عليه أرقام الهواتف بخط اليد، والدليل الضخم المطبوع لأسماء مالكي الهواتف الأرضية، ودفاتر الأوتوجراف الذي كنا في نهاية السنة الدّراسية نتسابق ليكتبَ لنا المعلمون والزملاء عن الوداع والصّداقة وفيض الأمنيات المضيئة التي عرفنا لاحقًا كم كانت كبيرة على حياة أقصر مما رسم خيالنا.
هل نفتقد تلك الأشياء في حياتنا؟ وهل نتذكرها؟ هل يعرفها أو يتعرّف عليها جيلُ الشّاشات ممن تفتحت عيونهم على الأجهزة الإلكترونية الفائقة التطور، مثل الهاتف الذكي الذي يضطلع بمهام التواصل والآلات الحاسبة والتصوير وتدوين الملاحظات ويحتفظ بسيل ذاكرة مضيئة من كلّ ما يحدث من حولنا؟
يرتبط اختفاء الأشياء من حياتنا بالحاجة إليها، تمكث بتناقص استخدامها لوقت يقصر أو يطول في أدراج منسية حتى يحين وقت التخلص منها في سلة الذّاكرة المهملة.
ألا يشبه ذلك العديد من العلاقات الاجتماعية في حياتنا المعاصرة والتي باتت في معظمها محكومة بالمصلحة ومرتبطة بالحاجة؟ كثيرًا ما تكشّفت لنا صداقات عوّلنا عليها الكثير وغمرناها بفيض عاطفة واهتمام على واقع حال مؤلم أنّها لم تكن إلا عابرة بحكم انتهاء المصلحة، العديد من الأشخاص ممن دخلوا حياتنا بلحظة حاجة ينسلون منها بالتدريج إلى أدراج النسيان.
قد ينطبق هذا المفهوم الجاف للتواصل وفق الحاجة على العلاقات الاجتماعية العابرة في حياتنا، لكن الحال تختلف عندما يتعلق الأمر برابطة الدم مع الإخوة والوالدينِ، وبالصداقات المتينة النقية المبنية على المحبة الصادقة غير المشروطة إلا بالاحترام والتقدير، حيث تمثّل هذه العلاقات حاجة عاطفية وأخلاقية وإنسانية تستمر مدى العمر، حاجة متجددة لإشباع العاطفة المزروعة في النفس والتي تقاوم مواسم الجفاف والبعد، وتغذيها رغبةٌ نابضة في كسر الشعور المؤلم بتأنيب الضمير عند التقصير فيها أو خدشها بطول البعد والجفاء، لكون استمرارها ضرورة مستمدة من البنية القيمية والأخلاقية للفرد ومن الإحساس بواجب البرّ ومحاولة سدّ الدّين والمعروف خاصة للوالدين أو بمن في مكانتهم مثل أخ كبير أو أخت مضحية أو صديق مخلص، مثل هذه العلاقات تسمو على أن ترتبط بالحاجة كما في الأشياء والعلاقات العابرة التي تغيب عن حياتنا ويطويها النسيان، فهي جزء من ذاكرة القلب وقطعة من الروح ويد ثالثة لتسيير الحياة وتوازنها، لهذا لو غبنا عن الأحبة عقودًا من الزمن وعمرًا من الحنين سيظل القلبُ ممتلئًا بحضورهم الذي لا تتسع له رفوف النسيان ■