رشحات الذات والمسيرة الشعرية في حياة امرئ القيس

رشحات الذات والمسيرة الشعرية في  حياة امرئ القيس

أن‭ ‬نستذكر‭ ‬سيرة‭ ‬طواها‭ ‬الزمن،‭ ‬ودخلت‭ ‬في‭ ‬عتمة‭ ‬الوجدان‭ ‬المعرفي،‭ ‬يعني‭ ‬أنها‭ ‬لاتزال‭ ‬معالمها‭ ‬عصية‭ ‬على‭ ‬الضمور‭ ‬والاندثار،‭ ‬متشبثة‭ ‬بالمثول‭ ‬الشاخص‭ ‬أبدا‭ ‬في‭ ‬مرايا‭ ‬الذات،‭ ‬تزيدها‭ ‬توهجا‭ ‬وتطلعا‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬مخصوصب‭ ‬بألوان‭ ‬البهجة‭ ‬والحضور،‭ ‬فنُفْتَن‭ ‬بتيّالك‭ ‬المعالم،‭ ‬ونتحسّس،‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬نبض‭ ‬الحياة‭ ‬وحرارة‭ ‬الأحداث‭ ‬التي‭ ‬صنعها‭ ‬صاحب‭ ‬السيرة‭ ‬المطوية،‭ ‬قاطعين‭ ‬كل‭ ‬الأقاليم‭ ‬والدهور،‭ ‬لنعانق‭ ‬من‭ ‬فتح‭ ‬كوى‭ ‬الإبداع‭ ‬الأدبي،‭ ‬ووضع‭ ‬اللبنات‭ ‬الأولى‭ ‬لديوان‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭.‬

ذلكم‭ ‬هو‭ ‬امرؤ‭ ‬القيس،‭ ‬أبو‭ ‬الشعر‭ ‬العربي،‭ ‬والمنارة‭ ‬الشعرية‭ ‬البكر‭ ‬في‭ ‬تراثنا،‭ ‬والمحطة‭ ‬الكبرى‭ ‬في‭ ‬تكوين‭ ‬الهوية‭ ‬الحقيقية‭ ‬الأولى‭ ‬للشعر‭ ‬العربي،‭ ‬عبر‭ ‬العصور‭.‬

 

اسمه‭ ‬ونسبه‭ ‬وكناه

هو‭ ‬امرؤ‭ ‬القيس‭ ‬بن‭ ‬حجر‭ ‬بن‭ ‬الحارث‭ ‬بن‭ ‬عمرو‭ ‬آكل‭ ‬المرار،‭ ‬من‭ ‬قبيلة‭ ‬كندة‭ ‬ذات‭ ‬النسب‭ ‬اليعربي‭ ‬القحطاني‭.‬

‭- ‬سمي‭ ‬حُنْدجًا،‭ ‬ومعناه‭ ‬الرملة‭ ‬الطيبة،‭ ‬وعديا،‭ ‬ومليكًا،‭ ‬وسليمان،‭ ‬وهو‭ ‬معروف‭ ‬عند‭ ‬الجميع‭ ‬بامرئ‭ ‬القيس،‭ ‬ومعناه‭: ‬رجل‭ ‬البأس‭ ‬والشدة‭.‬

‭- ‬وكنِّي‭ ‬بأبي‭ ‬وهب،‭ ‬وأبي‭ ‬زيد،‭ ‬وأبي‭ ‬الحارث‭.‬

‭- ‬ولُقِّب‭ ‬بذي‭ ‬القروح،‭ ‬والملك‭ ‬الضلِّيل،‭ ‬والذائد،‭ ‬لقوله‭:‬

أذود‭ ‬القوافي‭ ‬عني‭ ‬ذيادا‭ ‬

ذياد‭ ‬غلام‭ ‬جريء،‭ ‬جوادا

أي‭ ‬يدفع‭ ‬قصائده‭ ‬المنزّلة‭ ‬عليه،‭ ‬دفع‭ ‬الفارس‭ ‬الغر‭ ‬حصانه‭.‬

‭- ‬وأمه‭ ‬فاطمة‭ ‬بنت‭ ‬ربيعة‭ ‬بن‭ ‬الحارث،‭ ‬أخت‭ ‬كليب‭ ‬والمهلهل‭.‬

 

محطات‭ ‬ومراحل‭ ‬مفصلية‭ ‬في‭ ‬حياته

ليس‭ ‬لدينا‭ ‬شيء‭ ‬يذكر‭ ‬عن‭ ‬نشأة‭  ‬الشاعر‭ ‬وطفولته‭ ‬ومراتع‭ ‬صباه‭ ‬الأولى‭. ‬ونجهل‭ ‬سنة‭ ‬مولده‭ ‬والربوع‭ ‬التي‭ ‬نشأ‭ ‬فيها‭ ‬وترعرع،‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬نعرفه‭ ‬هو‭ ‬أنه‭ ‬ولد‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬بني‭ ‬أسد،‭ ‬في‭ ‬مطلع‭ ‬القرن‭ ‬السادس‭ ‬الميلادي‭ (‬حوالي‭ ‬500‭ ‬م‭) ‬وأنه‭ ‬كان‭ ‬ينزل‭ ‬بالمشقر‭ ‬وهو‭ ‬واد‭ ‬في‭ ‬جبل‭ ‬أجأ‭ ‬الطائي‭.‬

ويذكر‭ ‬ابن‭ ‬قتيبة‭ ‬أن‭ ‬امرأ‭ ‬القيس‭ ‬من‭ ‬أهل‭ ‬نجد،‭ ‬وأن‭ ‬الديار‭ ‬التي‭ ‬وصفها‭ ‬في‭ ‬شعره‭ ‬كلها،‭ ‬ديار‭ ‬بني‭ ‬أسد‭.‬

وتفيدنا‭ ‬الأخبار‭ ‬المروية‭ ‬عن‭ ‬سفره‭ ‬وتنقله‭ ‬بين‭ ‬القبائل،‭ ‬وبين‭ ‬الشمال‭ ‬والجنوب‭ ‬من‭ ‬شبه‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية،‭ ‬وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬الشام،‭ ‬فتركيا،‭ ‬حيث‭ ‬قيصر‭ ‬الروم‭.. ‬أنه‭ ‬أمضى‭ ‬ردحًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬من‭ ‬حياته،‭ ‬خارج‭ ‬موطنه‭ ‬وموطن‭ ‬أجداده‭.‬

وفي‭ ‬نظرة‭ ‬شمولية‭ ‬عامة،‭ ‬تنقسم‭ ‬حياة‭ ‬الشاعر‭ ‬إلى‭ ‬قسمين‭ ‬أو‭ ‬مرحلتين،‭ ‬الأولى،‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬مقتل‭ ‬والده،‭ ‬والثانية،‭ ‬بعد‭ ‬مقتله‭.‬

أ‭ - ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬الأولى،‭ ‬نرى‭ ‬الملك‭ ‬الضليل‭ ‬يَعْمه‭ ‬في‭ ‬لهو‭ ‬وصيد‭ ‬وفراغ‭ ‬عامر‭ ‬بالأوقات‭ ‬الممتعة،‭ ‬والخروج‭ ‬على‭ ‬طاعة‭ ‬أولي‭ ‬الأمر‭ ‬من‭ ‬آباء‭ ‬وشيوخ‭ ‬تمرسوا‭ ‬بتقاليد‭ ‬القبائل‭ ‬العريقة‭.. ‬فكان‭ ‬الرفض‭ ‬والاصطدام،‭ ‬وكان‭ ‬التشرد‭ ‬والعبث،‭ ‬وتعويض‭ ‬بحياة‭ ‬لا‭ ‬يترتب‭ ‬عليها‭ ‬أي‭ ‬مسئولية‭.‬

فقد‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬الأخبار‭ ‬أن‭ ‬حجرا‭ ‬طرد‭ ‬امرأ‭ ‬القيس‭ ‬أنفة‭ ‬من‭ ‬قوله‭ ‬الشعر،‭ ‬فخرج‭ ‬الفتى‭ ‬في‭ ‬أحياء‭ ‬العرب‭ ‬ومعه‭ ‬أخلاط‭ ‬من‭ ‬العرب،‭ ‬ينشد‭ ‬غديرا‭ ‬أو‭ ‬روضة،‭ ‬فأقام‭ ‬وذبح‭ ‬لمن‭ ‬معه،‭ ‬ثم‭ ‬خرج‭ ‬إلى‭ ‬الصيد‭ ‬فتصيد،‭ ‬ثم‭ ‬عاد،‭ ‬فأكل‭ ‬وأكلوا‭ ‬معه،‭ ‬وغنته‭ ‬قيانه‭. ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬جاءه‭ ‬خبر‭ ‬مقتل‭ ‬أبيه،‭ ‬وهو‭ ‬بـادمُّونب‭ (‬إحدى‭ ‬ثلاث‭ ‬مدن‭ ‬لكندة،‭ ‬في‭ ‬اليمن‭). ‬وقيل‭ ‬إن‭ ‬الخبر‭ ‬ورده‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬كثير‭ ‬البان‭ ‬يسمّى‭ ‬اصيْلعب‭.. ‬وكان‭ ‬مع‭ ‬نديم‭ ‬لم‭ ‬يشرب‭ ‬الخمر‭ ‬ويلاعبه‭ ‬بالنرد‭. ‬فقال‭:‬

تطاول‭ ‬الليل‭ ‬علينا‭ ‬دمُّونْ

دمون‭ ‬إننا‭ ‬معشر‭ ‬يمانون

وإننا‭ ‬لأهلنا‭ ‬محبون

وأضاف‭: ‬الخمر‭ ‬عليّ‭ ‬والنساء‭ ‬حرام،‭ ‬حتى‭ ‬أقتل‭ ‬عن‭ ‬بني‭ ‬أسد‭ ‬مائة،‭ ‬وأجز‭ ‬نواصي‭ ‬مائة‭.. ‬ثم‭ ‬قال‭:‬

‮«‬ضيّعني‭ ‬صغيرًا،‭ ‬وحمّلني‭ ‬دمه‭ ‬كبيرًا،‭ ‬لا‭ ‬صحو‭ ‬اليوم‭ ‬ولا‭ ‬سكر‭ ‬غدًا،‭ ‬اليوم‭ ‬خمر‭ ‬وغدًا‭ ‬أمر‮»‬‭.‬

‭ ‬فلما‭ ‬كان‭ ‬الليل،‭ ‬لاح‭ ‬له‭ ‬برق‭ ‬فقال‭:‬

أرقت‭ ‬لبرق‭ ‬بليل‭ ‬أهل

يضيء‭ ‬سناه‭ ‬بأعلى‭ ‬الجبل

بقتل‭ ‬بني‭ ‬أسد‭ ‬ربهم

ألا‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬سواه‭ ‬جلل

ولو‭ ‬تأملنا‭ ‬المغزى‭ ‬الذي‭ ‬تضمنته‭ ‬مقولته‭ ‬الوجدانية‭: ‬اضيّعني‭ ‬صغيراب‭ ‬لرأينا‭ ‬خلفها،‭ ‬قصة‭ ‬الشاعر‭ ‬الفتى،‭ ‬وعنوان‭ ‬ضميره‭ ‬وسلوكه‭ ‬حينئذ‭.‬

فالتضييع‭ ‬فعل‭ ‬الأب،‭ ‬والضياع‭ ‬فعل‭ ‬الابن‭.. ‬وهو‭ ‬يعني،‭ ‬في‭ ‬أبسط‭ ‬أشكاله‭ ‬ومراميه‭: ‬التخلي،‭ ‬سواء‭ ‬بفعل‭ ‬الخروج‭ ‬على‭ ‬سنن‭ ‬الخلق‭ ‬القبلي‭ ‬أو‭ ‬الملكي،‭ ‬أو‭ ‬بفعل‭ ‬القسوة‭ ‬التي‭ ‬تلقاها‭ ‬الابن‭ ‬من‭ ‬والده،‭ ‬وغياب‭ ‬العناية‭ ‬التربوية‭ ‬التي‭ ‬يفترض‭ ‬حصولها‭ ‬من‭ ‬أب‭ ‬حيال‭ ‬ولده‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يطاوع‭ ‬والده‭ ‬في‭ ‬الخط‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والخلقي‭ ‬المرسوم‭.‬

ب‭ - ‬المرحلة‭ ‬الثانية‭ ‬أو‭: ‬رحلة‭ ‬الثأر‭ ‬والنهاية

وفيها‭ ‬يسطر‭ ‬الرواة‭ ‬شريطًا‭ ‬من‭ ‬الأخبار‭ ‬المتداخلة‭ ‬والمتضاربة،‭ ‬وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬الشك‭ ‬والمراجعة،‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬حال‭ ‬عميد‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬طه‭ ‬حسين،‭ ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬لا‭ ‬نرى‭ ‬بدّا‭ ‬من‭ ‬الأخذ‭ ‬بها،‭ ‬لأن‭ ‬رفضها‭ ‬يستدعي‭ ‬رفض‭ ‬معظم‭ ‬ما‭ ‬يتعلق‭ ‬بالشاعر‭ ‬وعصره،‭ ‬جملة‭ ‬وتفصيلاً‭.‬

ومما‭ ‬ذكر‭ ‬أن‭ ‬امرأ‭ ‬القيس‭ ‬أخذ‭ ‬يعد‭ ‬العدة‭ ‬للانتقام‭ ‬من‭ ‬قتلة‭ ‬أبيه،‭ ‬فاتجه‭ ‬بادئ‭ ‬ذي‭ ‬بدء،‭ ‬إلى‭ ‬الأقربين‭ ‬وهم‭ ‬أخواله‭ ‬من‭ ‬بني‭ ‬بكر‭ ‬بن‭ ‬وائل‭ ‬وتغلب‭ ‬الذين‭ ‬أجابوه‭ ‬لطلبه،‭ ‬فجهزوا‭ ‬ما‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬ثأره‭ ‬من‭ ‬الجند‭ ‬والعتاد،‭ ‬فأدرك‭ ‬علباء‭ ‬بن‭ ‬الحارث‭ ‬الكاهلي‭ - ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬حجر‭ ‬قتل‭ ‬أباه‭ - ‬خطة‭ ‬امرئ‭ ‬القيس،‭ ‬وأنذر‭ ‬قومه‭ ‬بالخبر،‭ ‬ونصحهم‭ ‬بالرحيل،‭ ‬فرحلوا‭ ‬وحلوا‭ ‬في‭ ‬بني‭ ‬كنانة،‭ ‬ثم‭ ‬انتقلوا‭ ‬إلى‭ ‬مكان‭ ‬آخر‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬علموا‭ ‬بقدوم‭ ‬امرئ‭ ‬القيس‭ ‬إليهم،‭ ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬بتدبير‭ ‬علباء‭ ‬ومعاونته‭.‬

وأقبل‭ ‬امرؤ‭ ‬القيس‭ ‬على‭ ‬بني‭ ‬كنانة،‭ ‬وهو‭ ‬يحسبهم‭ ‬بني‭ ‬أسد،‭ ‬فوضع‭ ‬السلاح‭ ‬فيهم،‭ ‬فخرجت‭ ‬إليه‭ ‬عجوز‭ ‬من‭ ‬بني‭ ‬كنانة‭ ‬فقالت‭: ‬أبيت‭ ‬اللعن‭! ‬لسنا‭ ‬لك‭ ‬بثأر‭. ‬نحن‭ ‬من‭ ‬بني‭ ‬كنانة،‭ ‬فدونك‭ ‬ثأرك،‭ ‬فاطلبهم،‭ ‬فإن‭ ‬القوم‭ ‬قد‭ ‬ساروا‭ ‬بالأمس‭. ‬فتراجع،‭ ‬وقصد‭ ‬بني‭ ‬أسد‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬حتى‭ ‬أدركهم‭ ‬وهم‭ ‬جامّون‭ ‬على‭ ‬ماء‭ ‬فنال‭ ‬منهم‭ ‬خلقا‭ ‬كثيرا،‭ ‬حتى‭ ‬كثر‭ ‬الجرحى‭ ‬والقتلى‭.‬

وتمضي‭ ‬الروايات‭ ‬فتقول‭ ‬إن‭ ‬المنذر‭ ‬بن‭ ‬ماء‭ ‬السماء‭ ‬أمير‭ ‬الحيرة‭ ‬لكسرى‭ ‬أنو‭ ‬شروان،‭ ‬تطلّب‭ ‬الشاعر،‭ ‬فخاف‭ ‬هذ‭ ‬الأخير،‭ ‬وخرج‭ ‬على‭ ‬وجهه‭ ‬حتى‭ ‬وقع‭ ‬في‭ ‬أرض‭ ‬طيء،‭ ‬فأكرمه‭ ‬هؤلاء،‭ ‬ونعم‭ ‬بقليل‭ ‬من‭ ‬الراحة‭ ‬والاستقرار‭ ‬لأن‭ ‬الطائيين‭ ‬قد‭ ‬بذلوا‭ ‬له‭ ‬وأعانوه،‭ ‬ولكن‭ ‬المنذر‭ ‬لم‭ ‬يزل‭ ‬يطارده،‭ ‬فاضطر‭ ‬إلى‭ ‬الرحيل‭ ‬عنهم،‭ ‬قاصدًا‭ ‬عمرًا‭ ‬بن‭ ‬جابر‭ ‬بن‭ ‬مازن‭ ‬الفزاري‭ ‬الذي‭ ‬أكرمه،‭ ‬ونصحه‭ ‬بالتوجه‭ ‬إلى‭ ‬السموأل‭ ‬بن‭ ‬عادياء،‭ ‬بتيماء،‭ ‬فهو‭ ‬في‭ ‬حصن‭ ‬حصين،‭ ‬ويمنعه‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬معتد،‭ ‬فوافق‭ ‬امرؤ‭ ‬القيس،‭ ‬وكان‭ ‬دليله‭ ‬إليه‭ ‬الربيع‭ ‬بن‭ ‬ضبع‭ ‬الفزاري،‭ ‬وهو‭ ‬ذو‭ ‬مكانة‭ ‬عالية،‭ ‬فقرّبه‭ ‬عند‭ ‬السموأل‭. ‬فنزل‭ ‬عنده‭ ‬امرؤ‭ ‬القيس‭ ‬وأودعه‭ ‬ابنته‭ ‬وأدراعه‭ ‬وأمواله،‭ ‬وتوجه‭ ‬من‭ ‬هناك‭ ‬إلى‭ ‬الحارث‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬شمر‭ ‬الغساني،‭ ‬في‭ ‬الشام،‭ ‬ليكون‭ ‬وسيطه‭ ‬إلى‭ ‬قيصر‭ ‬الروم‭ ‬جوستنيانوس،‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬القسطنطينية‭.‬

وكان‭ ‬رفيق‭ ‬امرئ‭ ‬القيس‭ ‬إلى‭ ‬ملك‭ ‬الروم،‭ ‬الشاعر‭ ‬الجاهلي‭ ‬عمرو‭ ‬بن‭ ‬قميئة،‭ ‬وهو‭ ‬من‭ ‬قدماء‭ ‬الشعراء‭ ‬في‭ ‬الجاهلية،‭ ‬اوأنه‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬قال‭ ‬الشعر‭ ‬من‭ ‬نزار،‭ ‬وهو‭ ‬أقدم‭ ‬من‭ ‬امرئ‭ ‬القيس،‭ ‬فمات‭ ‬معه‭ ‬في‭ ‬طريقه،‭ ‬وسمته‭ ‬العرب‭ ‬عمرا‭ ‬الضائع‭ ‬لموته‭ ‬في‭ ‬غربة،‭ ‬وفي‭ ‬غير‭ ‬أرب‭ ‬وغير‭ ‬مطلبب‭. ‬بل‭ ‬روي‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬أشعر‭ ‬الناس،‭ ‬وأنه‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬خدم‭ ‬والد‭ ‬امرئ‭ ‬القيس،‭ ‬وأنه‭ ‬بكى‭ ‬وقال‭ ‬لامرئ‭ ‬القيس‭: ‬غرّرت‭ ‬بنا‭. ‬فأنشأ‭ ‬امرؤ‭ ‬القيس‭ ‬فيه‭ ‬شعرًا،‭ ‬وأشهره‭ ‬البيتان‭ ‬المأثوران‭:‬

بكى‭ ‬صاحبي‭ ‬لما‭ ‬رأى‭ ‬الدرب‭ ‬دونه‭ ‬

وأيقن‭ ‬أنا‭ ‬لاحقان‭ ‬بقيصرا

فقلت‭ ‬له‭: ‬لا‭ ‬تبك‭ ‬عينك‭ ‬إنما

نحاول‭ ‬ملكًا‭ ‬أو‭ ‬نموت‭ ‬فنعذرا

وفي‭ ‬طريقه‭ ‬إلى‭ ‬قيصر‭ ‬الروم،‭ ‬مرّ‭ ‬الشاعر‭ ‬بالشام‭ ‬وفيها‭ ‬بعلبك‭ ‬وحمص‭ ‬وحماه‭ ‬وشيزر‭.. ‬ويحوك‭ ‬الرواة‭ ‬أخبارًا‭ ‬وقصصًا‭ ‬يغلب‭ ‬عليها‭ ‬طابع‭ ‬الخيال‭ ‬والانتحال،‭ ‬فيصعب‭ ‬تصديقها‭.‬

منها‭ ‬أن‭ ‬قيصر‭ ‬قد‭ ‬كرمه‭ ‬وجعل‭ ‬له‭ ‬مقاما‭ ‬في‭ ‬قصره،‭ ‬وأن‭ ‬ابنته‭ ‬قد‭ ‬عشقته،‭ ‬وكان‭ ‬بين‭ ‬الاثنين‭ ‬مطارحات‭ ‬غرامية‭. ‬ثم‭ ‬أن‭ ‬قيصر‭ ‬نادمه‭ ‬وأمده‭ ‬بجند‭ ‬كثيفة‭ ‬تمكنه‭ ‬من‭ ‬قتال‭ ‬بني‭ ‬أسد‭ ‬والثأر‭ ‬منهم‭.‬

ومن‭ ‬قصصهم‭ ‬أيضا،‭ ‬أن‭ ‬رجلا‭ ‬من‭ ‬بني‭ ‬أسد‭ ‬يقال‭ ‬له‭ ‬الطماح‭ ‬بن‭ ‬قيس،‭ ‬أخبر‭ ‬القيصر‭ ‬بحقيقة‭ ‬امرئ‭ ‬القيس‭ ‬ونواياه،‭ ‬قد‭ ‬شبّب‭ ‬بابنة‭ ‬الملك‭ ‬وقال‭ ‬فيها‭ ‬أشعارًا‭ ‬يفضحها‭ ‬ويفضحه‭.. ‬فصدّق‭ ‬القيصر‭ ‬ذلك،‭ ‬فبعث‭ ‬إليه‭ ‬مع‭ ‬الطماح،‭ ‬بحلة‭ ‬مسمومة‭ ‬منسوجة‭ ‬بالذهب،‭ ‬قائلا‭: ‬إني‭ ‬أرسلت‭ ‬إليك‭ ‬بحلتي‭ ‬التي‭ ‬كنت‭ ‬ألبسها،‭ ‬تكرمة‭ ‬لك،‭ ‬فإذا‭ ‬وصلت‭ ‬إليك‭ ‬فالبسها‭ ‬باليمن‭ ‬والبركة،‭ ‬واكتب‭ ‬إليّّ‭ ‬بخبرك‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬منزل‭. ‬فلما‭ ‬وصلت‭ ‬إليه‭ ‬لبسها‭ ‬واشتد‭ ‬سروره‭ ‬بها‭. ‬فأسرع‭ ‬فيه‭ ‬السم‭ ‬وسقط‭ ‬جلده،‭ ‬فلذلك‭ ‬سمّي‭ ‬ذا‭ ‬القروح‭. ‬وقال‭ ‬في‭ ‬ذلك‭.‬

لقد‭ ‬طمح‭ ‬الطماح‭ ‬من‭ ‬بعد‭ ‬

أرضه‭ ‬ليلبسني‭ ‬من‭ ‬دائه‭ ‬ما‭ ‬تلبّسا

وبدلت‭ ‬قرحا‭ ‬داميا‭ ‬بعد‭ ‬صحة

فيا‭ ‬لك‭ ‬نعمى‭ ‬قد‭ ‬تحوَّل‭ ‬أبؤسا

ويذكر‭ ‬الرواة‭ ‬أن‭ ‬امرأ‭ ‬القيس‭ ‬كان‭ ‬قبل‭ ‬وصوله‭ ‬إلى‭ ‬القسطنطينية،‭ ‬مصابًا‭ ‬بداء‭ ‬قديم‭ ‬عاوده‭ ‬أثناء‭ ‬عودته‭ ‬إلى‭ ‬دياره،‭ ‬فلما‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬أنقرة،‭ ‬اشتد‭ ‬عليه‭ ‬المرض‭ ‬فمات‭ ‬هناك‭. ‬وقبيل‭ ‬وفاته،‭ ‬رأى‭ ‬قبر‭ ‬امرأة‭ ‬مدفونة‭ ‬في‭ ‬سفح‭ ‬جبل‭ ‬يقال‭ ‬له‭ ‬عسيب‭. ‬فسأل‭ ‬عنها‭ ‬فأخبر‭ ‬بقصتها‭ ‬فقال‭:‬

أجارتنا‭ ‬إن‭ ‬المزار‭ ‬قريب

وإني‭ ‬مقيم‭ ‬ما‭ ‬أقام‭ ‬عسيب

أجارتنا‭ ‬إنا‭ ‬غريبان‭ ‬ههنا

وكل‭ ‬غريب‭ ‬للغريب‭ ‬نسيب

ثم‭ ‬مات،‭ ‬فدفن‭ ‬إلى‭ ‬جنب‭ ‬المرأة‭. ‬فقبره‭ ‬هناك‭.‬

ويعلّق‭ ‬شوقي‭ ‬ضيف‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الأخبار‭ - ‬وبخاصة‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬الثأر‭ - ‬قائلا‭ ‬إنها‭ ‬منحولة،‭ ‬والتلفيق‭ ‬فيها‭ ‬واضح،‭ ‬وأن‭ ‬الأصل‭ ‬الذي‭ ‬تستند‭ ‬إليه‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬امرؤ‭ ‬القيس‭ ‬حاول‭ ‬عبثًا‭ ‬استرداد‭ ‬ملك‭ ‬آبائه،‭ ‬ولكنه‭ ‬مات‭ ‬دون‭ ‬تحقيق‭ ‬غايته‭.‬

 

سماته‭ ‬وطوابعه‭ ‬الشخصية

أفادنا‭ ‬الإخباريون‭ ‬أن‭ ‬امرأ‭ ‬القيس‭ ‬كان‭ ‬جميلا‭ ‬وسيماً‭.‬

وشبب‭ ‬بنساء‭ ‬عدّ‭ ‬منهن‭ ‬ابن‭ ‬قتيبة‭ ‬ثلاثا‭ ‬هن‭:‬

‭- ‬فاطمة‭ ‬بنت‭ ‬العبيد‭ ‬العامرية،‭ ‬التي‭ ‬يقول‭ ‬فيها‭:‬

أفاطم‭ ‬مهلا‭ ‬بعض‭ ‬هذا‭ ‬التدلل

وإن‭ ‬كنت‭ ‬قد‭ ‬أزمعت‭ ‬صرمي‭ ‬فأجملي

‭- ‬وأم‭ ‬الحارث‭ ‬الكلبية‭ ‬التي‭ ‬يقول‭ ‬فيها‭:‬

كدأبك‭ ‬من‭ ‬أم‭ ‬الحويرث‭ ‬قبلها

وجارتها‭ ‬أم‭ ‬الرباب‭ ‬بمأسل

‭- ‬وعنيزة،‭ ‬صاحبة‭ (‬يوم‭ ‬دارة‭ ‬جلجل‭).‬

وهناك‭ ‬نساء‭ ‬أخريات‭ ‬وردت‭ ‬أسماؤهن‭ ‬في‭ ‬شعره،‭ ‬وفي‭ ‬أخباره‭ ‬المروية،‭ ‬كأمّ‭ ‬جندب،‭ ‬وزوجته‭ ‬هند‭ ‬الكندية،‭ ‬وابنة‭ ‬القيصر،‭ ‬وسواهنّ‭.‬

 

قسمات‭ ‬عامة‭ ‬في‭ ‬مسيرته‭ ‬الشعرية

لئن‭ ‬اختلف‭ ‬الرواة‭ ‬والإخباريون‭ ‬في‭ ‬معالم‭ ‬حياته‭ ‬وشخصيته،‭ ‬وتناقلوا‭ ‬أخبارًا‭ ‬غير‭ ‬متفقة‭ ‬الغرض‭ ‬والسياق،‭ ‬فقد‭ ‬اتفق‭ ‬النقاد‭ ‬أن‭ ‬امرأ‭ ‬القيس‭ ‬شهاب‭ ‬ساطع‭ ‬في‭ ‬سماء‭ ‬الشعر‭ ‬العربي،‭ ‬ومحطة‭ ‬كبرى‭ ‬وأولى‭ ‬في‭ ‬دروب‭ ‬الشعر،‭ ‬وطوابعه‭ ‬على‭ ‬مر‭ ‬العصور‭ ‬العربية‭.‬

فقد‭ ‬جعله‭ ‬ابن‭ ‬سلاّم‭ ‬في‭ ‬أول‭ ‬الطبقة‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬الشعراء،‭ ‬يليه‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬النابغة‭ ‬الذبياني،‭ ‬وزهير،‭ ‬والأعشى‭.. ‬وسئل‭ ‬الفرزدق،‭ ‬من‭ ‬أشعر‭ ‬الناس؟‭ ‬قال‭: ‬ذو‭ ‬القروح،‭ ‬يعني‭ ‬امرأ‭ ‬القيس‭.‬

ومن‭ ‬جعله‭ ‬كذلك،‭ ‬فقد‭ ‬انطلقوا‭ ‬من‭ ‬شاعرية‭ ‬متفردة،‭ ‬وأساليب‭ ‬شعرية‭ ‬غير‭ ‬مسبوقة،‭ ‬فإذا‭ ‬بها‭ ‬تصبح‭ ‬مع‭ ‬الأيام‭ ‬والعصور،‭ ‬سننًا‭ ‬وطرائق‭ ‬لا‭ ‬سبيل‭ ‬إلى‭ ‬تجاوزها‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬تغييرها‭ ‬وتطويرها‭. ‬من‭ ‬ذلك‭:‬‭ ‬ااستيقاف‭ ‬صحبه،‭ ‬والبكاء‭ ‬في‭ ‬الديار،‭ ‬ورقة‭ ‬النسيب،‭ ‬وقرب‭ ‬المأخذ‭. ‬وشبّه‭ ‬النساء‭ ‬بالظباء‭ ‬والبيض،‭ ‬وشبّه‭ ‬الخيل‭ ‬بالعقبان‭ ‬والعصيّ،‭ ‬وقيّد‭ ‬الأوابد،‭ ‬وأجاد‭ ‬في‭ ‬التشبيه،‭ ‬وفصل‭ ‬بين‭ ‬النسيب‭ ‬وبين‭ ‬المعنىب‭. ‬وذكر‭ ‬له‭ ‬المرزباني‭ ‬بيتين‭ ‬هما‭ ‬في‭ ‬نظره،‭ ‬أفخر‭ ‬ما‭ ‬قال،‭ ‬وهما‭:‬

فلو‭ ‬أنّ‭ ‬ما‭ ‬أسعى‭ ‬لأدنى‭ ‬معيشة

كفاني،‭ ‬ولم‭ ‬أطلب،‭ ‬قليل‭ ‬من‭ ‬المال

ولكنما‭ ‬أسعى‭ ‬لمجد‭ ‬مؤثل

ورقد‭ ‬يدرك‭ ‬المجد‭ ‬المؤثل‭ ‬أمثالي

وتوقف‭ ‬المرزباني‭ ‬أيضا،‭ ‬عند‭ ‬اشتداد‭ ‬الهم‭ ‬في‭ ‬الليل،‭ ‬أو‭ ‬اقتصاره‭ ‬على‭ ‬الليل،‭ ‬فجعله‭ ‬امرؤ‭ ‬القيس‭ ‬في‭ ‬الليل‭ ‬والنهار‭ ‬على‭ ‬السواء،‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬قوله،‭ ‬من‭ ‬معلقته‭:‬

ألا‭ ‬أيها‭ ‬الليل‭ ‬الطويل‭ ‬ألا‭ ‬انْجلي

بصبح،‭ ‬وما‭ ‬الإصباح‭ ‬منك‭ ‬بأمثل

ومما‭ ‬توقف‭ ‬عنده‭ ‬النقاد،‭ ‬شعره‭ ‬الذي‭ ‬تمثلت‭ ‬به‭ ‬الأجيال‭ ‬وحفظته‭ ‬الذاكرة،‭ ‬وفي‭ ‬رأسه‭ ‬أو‭ ‬قل‭: ‬رأس‭ ‬الشعر‭ ‬العربي،‭ ‬مطلع‭ ‬معلقته،‭ ‬الشهير‭:‬

‮«‬قفا‭ ‬نبك‭ ‬من‭ ‬ذكرى‭ ‬حبيب‭ ‬ومنزل‮»‬

وقوله‭:‬

وقد‭ ‬طوّفْتُ‭ ‬في‭ ‬الآفاق‭ ‬حتى

رضيتُ‭ ‬من‭ ‬الغنيمة‭ ‬بالإياب

وقوله‭:‬

وإن‭ ‬شفائي‭ ‬عبرة‭ ‬مهراقة

فهل‭ ‬عند‭ ‬رسم‭ ‬دارس‭ ‬من‭ ‬معول؟

وقوله‭ ‬في‭ ‬وصف‭ ‬السرعة‭ ‬الخاطفة‭ ‬في‭ ‬عدو‭ ‬فرسه‭:‬

مكر‭ ‬مفر،‭ ‬مقبل‭ ‬مدبر،‭ ‬معًا

كجلمود‭ ‬صخر‭ ‬حطه‭ ‬السيل‭ ‬من‭ ‬عَلِ

هذا‭ ‬الشعر،‭ ‬لم‭ ‬تحفظه‭ ‬الأجيال‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬نهلت‭ ‬منه‭ ‬قرائح‭ ‬الشعراء،‭ ‬فانكبّوا‭ ‬عليه‭ ‬يتدارسونه‭ ‬ويستوحون‭ ‬منه‭ ‬معانيهم‭ ‬وصورهم‭ ‬وأساليبهم،‭ ‬يعودون‭ ‬فيه‭ ‬إلى‭ ‬اللبنات‭ ‬الشعرية‭ ‬الأولى،‭ ‬والمداميك‭ ‬المنصوبة‭ ‬في‭ ‬مهد‭ ‬الإنشاء‭ ‬العربي‭.‬

وهذا‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬امرأ‭ ‬القيس‭ ‬كان‭ ‬ملكا‭ ‬متوجًا‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬عين‭ ‬الرضا‭ ‬والإعجاب‭ ‬المتأصلة‭ ‬في‭ ‬مقامه‭ ‬الشعري،‭ ‬قد‭ ‬أغفلت‭ ‬عن‭ ‬سوءاته‭ ‬ومعايبه،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬الشعر‭ ‬سبيله‭ ‬الطبيعي‭ ‬العفوي‭ ‬في‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬معاناته‭ ‬وخطرات‭ ‬قلبه‭ ‬ولسانه،‭ ‬يلهج‭ ‬به‭ ‬كيفما‭ ‬يحلو‭ ‬له،‭ ‬وينساق‭ ‬عبره‭ ‬انسياق‭ ‬أنسام‭ ‬البوادي،‭ ‬يختلط‭ ‬فيها‭ ‬الهجير‭ ‬المحرق،‭ ‬والشمأل‭ ‬الباردة‭ ‬مع‭ ‬الأسحار‭. ‬فمنهم‭ ‬من‭ ‬تقبل‭ ‬ذلك‭ ‬ورأى‭ ‬فيه‭ ‬ينبوع‭ ‬الرضا‭ ‬والجمال،‭ ‬ومنهم‭ ‬من‭ ‬عاين‭ ‬جيدًا،‭ ‬ورصد‭ ‬النتوءات،‭ ‬وأحصى‭ ‬المعايب‭.‬

الفريق‭ ‬الأول‭ ‬يرى‭ ‬من‭ ‬منظار‭ ‬اللغويين‭ ‬والنحاة‭ ‬والعروضيين‭ ‬الأوائل‭ ‬الذين‭ ‬جعلوا‭ ‬كلّ‭ ‬ما‭ ‬يصدر‭ ‬عن‭ ‬الأعراب‭ ‬مصادر‭ ‬لقواعد‭ ‬اللغة‭ ‬ونحوها‭ ‬وصرفها‭ ‬مهما‭ ‬بلغ‭  ‬الشذوذ‭ ‬والشطط‭ ‬والإغراب‭.. ‬وهؤلاء‭ ‬يمثلون‭ ‬معظم‭ ‬الدارسين‭ ‬والنقاد‭.‬

أما‭ ‬الفريق‭ ‬الثاني،‭ ‬فهم‭ ‬الذين‭ ‬تجاوزوا‭ ‬الأعراق‭ ‬والسنن،‭ ‬وحكّموا‭ ‬ذائقة‭ ‬العقل،‭ ‬فهالهم‭ ‬ما‭ ‬وجدوا‭ ‬في‭ ‬شعر‭ ‬امرئ‭ ‬القيس‭ ‬من‭ ‬نواقص‭ ‬وعيوب،‭ ‬وخروج‭ ‬على‭ ‬القاعدة‭ ‬النحوية‭.. ‬وقد‭ ‬مثّل‭ ‬الفريق‭ ‬الأول‭ ‬قدامة‭ ‬بن‭ ‬جعفر‭ (‬ت338‭ ‬هـ‭) ‬ومثّل‭ ‬الفريق‭ ‬الثاني‭ ‬أبو‭ ‬عبيدالله‭ ‬المرزباني‭ (‬ت‭ ‬374هـ‭) ‬فأحصى‭ ‬له‭ ‬قرابة‭ ‬عشرة‭ ‬مواضع،‭ ‬أسفّ‭ ‬فيها،‭ ‬ووقع‭ ‬في‭ ‬الابتذال‭ ‬وعدم‭ ‬مراعاة‭ ‬الذوق‭ ‬الشعري‭ ‬أو‭ ‬العروضي‭ ‬السائدين‭.‬

ومع‭ ‬ذلك‭ ‬فقد‭ ‬وجد‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬يعذر‭ ‬امرأ‭ ‬القيس‭ ‬في‭ ‬شعره‭ ‬المعيب،‭ ‬ويرى‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬وقع‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬غلط،‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬سوء‭ ‬تفسير‭ ‬الرواة‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬هو،‭ ‬من‭ ‬امرئ‭ ‬القيس‭. ‬كما‭ ‬وجد‭ ‬من‭ ‬جعله‭ ‬ينبوع‭ ‬الشعر‭ ‬الذي‭ ‬تفجّر‭ ‬من‭ ‬حجارة‭ ‬لا‭ ‬تبلى،‭ ‬افخسف‭ ‬للشعراء‭ ‬عن‭ ‬الشعر،‭ ‬فافتقر‭ ‬عن‭ ‬معان‭ ‬عور‭ ‬أصح‭ ‬بصرًاب‭.‬

وافتقر‭: ‬فتح‭. ‬والمعاني‭ ‬العور‭: ‬كناية‭ ‬عن‭ ‬نسب‭ ‬الشاعر‭ ‬اليمني‭ ‬الذي‭ ‬ليس‭ ‬له‭ ‬فصاحة‭ ‬أهل‭ ‬الشمالب‭.‬

ومهما‭ ‬يكن،‭ ‬فإن‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬أصالة‭ ‬شعرية،‭ ‬وأسبقية‭ ‬أو‭ ‬ريادة‭ ‬لدى‭ ‬صاحب‭ ‬اقفا‭ ‬نبكب‭ ‬مسألة‭ ‬لا‭ ‬تغيّر‭ ‬من‭ ‬واقع‭ ‬الحال‭ ‬التي‭ ‬هو‭ ‬عليها،‭ ‬ولا‭ ‬تقدم‭ ‬أو‭ ‬تؤخر‭ ‬في‭ ‬رتبته‭ ‬ومقامه‭ ‬الأدبي‭ ‬العرقي‭ ‬الذي‭ ‬تزامن‭ ‬مع‭ ‬مقامه‭ ‬السياسي‭ ‬الاجتماعي‭.‬

فكان‭ ‬ملكًا‭ ‬في‭ ‬الشعر،‭ ‬وملكًا‭ ‬في‭ ‬بيئته‭ ‬وتاريخه،‭ ‬صقلت‭ ‬ملكيته‭ ‬وأذكت‭ ‬وهجها،‭ ‬صدمة‭ ‬اليقظة‭ ‬الوجدانية‭ ‬والوجودية‭ ‬التي‭ ‬نجمت‭ ‬عن‭ ‬مقتل‭ ‬مفاجئ‭ ‬لرمز‭ ‬من‭ ‬رموز‭ ‬العظمة‭ ‬والملكية‭ ‬في‭ ‬حياته‭ ‬وحياة‭ ‬العصر،‭ ‬ألا‭ ‬وهو‭ ‬والده‭ ‬الملك‭ ‬الكندي‭ ‬المقتدر‭ ‬حجر‭ ‬بن‭ ‬الحارث‭.‬

وإذا‭ ‬كانت‭ ‬ملكيته‭ ‬السياسية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬قد‭ ‬ورثها‭ ‬عن‭ ‬آبائه‭ ‬وأجداده،‭ ‬عبر‭ ‬الأزمنة،‭ ‬فإن‭ ‬زعامة‭ ‬الشعر‭ ‬قد‭ ‬اصطنعها‭ ‬بيديه،‭ ‬وأنشأ‭ ‬نفسه‭ ‬عليها‭ ‬تنشئة‭ ‬متأنية‭ ‬واعية،‭ ‬باذلا‭ ‬في‭ ‬سبيلها‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يملك،‭ ‬مضحّيا‭ ‬بأغلى‭ ‬حقوقه‭ ‬الموروثة،‭ ‬ومنها‭ ‬الزعامة‭ ‬العشائرية‭ ‬المتأصلة‭.‬

وقد‭ ‬أحسن‭ ‬أحمد‭ ‬حسن‭ ‬الزيات،‭ ‬في‭ ‬قوله،‭ ‬ملخصا‭ ‬مزاياة‭ ‬النفسية‭ ‬السلوكية‭ ‬والفنية‭ ‬الشعرية‭:‬

فيه‭ ‬عزة‭ ‬الملوك،‭ ‬وتبذّل‭ ‬الصعلوك،‭ ‬وعربدة‭ ‬الماجن،‭ ‬وحميّة‭ ‬الثائر،‭ ‬وشكوى‭ ‬الموتور،‭ ‬وذلّة‭ ‬الشريد‭.. ‬وهو‭ ‬بإجماع‭ ‬الرواة،‭ ‬زعيم‭ ‬الجاهليين‭..‬

وعلى‭ ‬الجملة،‭ ‬فإن‭ ‬ما‭ ‬سطّرته‭ ‬في‭ ‬صفحات‭ ‬هذه‭ ‬المقالة‭ ‬عن‭ ‬امرئ‭ ‬القيس،‭ ‬ليس‭ ‬نقدًا‭ ‬ولا‭ ‬تقويمًا،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬العرض‭ ‬والتقويم‭ ‬اللذين‭ ‬يسمحان‭ ‬لنا‭ ‬بالدخول‭ ‬إلى‭ ‬عالمه‭ ‬الشعري‭ ‬الرحيب،‭ ‬وتلمّس‭ ‬الخطى‭ ‬المستوية‭ ‬الواعية،‭ ‬طلبًا‭ ‬للصورة‭ ‬الفنية‭ ‬الخالبة،‭ ‬والاستعمال‭ ‬العربي‭ ‬اللغوي‭ ‬المتقن‭ .