أهـــلًا رمضــان.. السينما تصور الواقع
الكثيرون منا، عندما يحاولون قراءة الواقع، فإنهم ينظرون إلى شاشة السينما، ويتعاملون مع أفلامها على أنها صورة من الحياة، سواء الفيلم الواقعي، أو التاريخي، أو الرومانسي.
بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك، حاولنا التعرف على الصور العديدة التي ظهر بها هذا الشهر الكريم في الأفلام العربية، فوجدنا أن الصورة السينمائية لم تحفل كثيرًا بمظاهر شهر رمضان إلا في أفلام قليلة العدد، منها في القرن العشرين االعزيمةب لكمال سليم 1939، واقلبي على ولديب لبركات 1952، وافي بيتنا رجلب لبركات عام 1961، واإضراب الشحاتينب لحسن الإمام عام 1967، واضربة معلمب لعاطف الطيب 1987، وغيرها من الأفلام. والغريب أن العالم الشعبي الواسع لمظاهر الاحتفال بالشهر الكريم قد ظهر ضيقًا للغاية في هذه الأفلام، رغم أننا أمام نصوص سينمائية متميزة.. وكأن الشهر الفضيل بمنزلة ديكور فقط للحدث.
«في بيتنا رجل»
فعلى سبيل المثال، فإن توظيف شهر رمضان في فيلم افي بيتنا رجلب جاء من أجل تسهيل خروج المناضل إبراهيم حمدي من بيت الأسرة التي لجأ إليها، ولم نر أي مظاهر للاحتفال بالشهر، أو شعائره، إلا خروج إبراهيم من المنزل عقب انطلاق مدفع الإفطار، حتى لا يراه أحد، بينما الناس منشغلون بأمورهم الخاصة.
ورغم أن إبراهيم حمدي قد دخل البيت، في ليلة رمضانية، وأنه طرق الباب والأسرة حول مائدة الإفطار، فإن الأيام القليلة، التي مكثها في البيت، خلا البيت من ديكورات تؤكد أننا في هذا الشهر، مثل وجود الفوانيس، أو الزينات الشعبية، أو زيارات الجيران، وخاصة الأطفال، كأنما الأسرة تعيش في معزل بعيد عن العالم، كما أن الحارة والحارات المجاورة، قد خلت من مثل هذه الزينة، ونحن نعرف تمامًا أن الأحياء الشعبية تتبارى في عمل زينات، وإطلاق أضواء باهرة، وعمل تصميمات للفوانيس والكعبة، حيث اعتدنا على رؤية مثل هذه الظواهر دومًا في طفولتنا الأولى إبان الخمسينيات.
إلا أن الحال قد تغير في السينما المصرية، في رؤية شهر رمضان في القرن الحالي، حيث إن الأفلام التي تم تصويرها على أنها تدور في رمضان قد تعاملت مع شعائر الشهر الكريم بشكل مختلف، حيث صار الشهر هو الحدث الرئيسي، وهناك احتفاء خاص بقدومه، كما أن أغلب الأحداث تدور طوال الشهر الكريم، وتتوافق سلوكيات الناس مع قدوم الشهر، كما أن الأفلام صورت مظاهر رمضان داخل البيوت وخارجها.
مدينة المليون مئذنة
وبالرغم من أن عدد الأفلام قليل، فإن الحديث عن الصيام، وتأدية الشعائر الأخرى مثل الصلاة والزكاة هي أمور موجودة في هذه الأفلام بشكل ملحوظ، ومنها فيلمان من بطولة أحمد حلمي، هما اعسل أسودب إخراج خالد مرعي 2009، واإكس لارجب إخراج شريف عرفة 2011، وهناك أفلام أخرى، منها اعزبة آدمب لمحمود كامل 2009، واكابتن هيماب لنصر محروس عام 2008.
الفيلمان اللذان قام ببطولتهما أحمد حلمي، تدور أحداثهما في القاهرة، مدينة المليون مئذنة وأكثر، ومدينة الأضرحة، والمقامات، والاحتفالات، حيث يبدو الاحتفال بليالي الشهر الكريم، بالغ الوضوح، مليئا بالطقوس الدينية، والاجتماعية، وتزدهر المدينة بالأضواء، خاصة المآذن، والمساجد، والمقاهي، وضفاف النهر، وتتحول المدينة طوال الشهر إلى ظاهرة احتفالية مضيئة، دافئة، بالإضافة إلى حرص الناس على أداء الشعائر، وفي الوقت نفسه يمارسون وظائفهم.
بدا ذلك واضحًا منذ اللحظات الأولى في فيلم اعسل أسودب، ففي الطائرة القادمة من الولايات المتحدة إلى القاهرة، يتحدث الشاب مصري سيد العربي إلى زميله العائد مثله إلى بلاده بعد طول غربة، إنهما سيصلان القاهرة، مع حلول شهر رمضان، ويبدو امصريب سعيدًا لأنه سيرى فوازير نيللي، وينبهه زميله إلى أن هذه الفوازير قد توقفت قبل عشرين عاما، أي عندما غادرت أسرة امصريب إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ما يعني أن الشاب سوف يرى شهر رمضان آخر يختلف عن مثيله الذي كان في الثمانينيات من القرن الماضي.
ثم تنزل عناوين الفيلم، وينزل امصريب من الطائرة، فخورًا بجواز سفره المصري، ويركب سيارة نقل فخمة، مع السائق المستغل اراضيب، الذي يصحبه إلى الفندق، كان الوصول متوافقًا مع انطلاق المدفع، ونعرف أن الشاب الذي اغترب عن وطنه، كان صائمًا أثناء السفر، وعن طريق السائق، فإن الفطور كان شطائر افول مدمسب، ويردد بتلذذ: اكان واحشني جدًاب، إلا أنه على حد تعبيره، يضرب اكشريب أي يلتهمه.
هناك موضوع أساسي في كل فيلم من الفيلمين اللذين نتحدث عنهما، الموضوع الرئيسي في الفيلم الأول هو االعودة إلى الوطنب، وتكون العودة في أول شهر رمضان، أما الموضوع في الفيلم الثاني فهو اشراهة الأكلب التي تؤدي إلى البدانة الشديدة، وفي كلتا الحالتين، فإن تكون الأحداث في شهر رمضان هو انعكاس لسلوك الناس في القرن الواحد والعشرين أثناء شهر رمضان.
الشاب الذي عاد إلى وطنه فخور بالهوية المصرية، وأيضا باسمه، سرعان ما سوف يقع فريسة لآخرين، يبتزون منه أمواله، وبطاقة الهوية، وأيضًا كرامته، ورغم ذلك فسوف يظل واسع الصدر، يتقبل ما يجري له من دون رد فعلي إيجابي، فحين يعرف أن السائق قد استغله بشدة فإن كل ما يفعله أن يعرفه أنه على علم بما جرى، ويردد: اأنا صايع قويب ثم يستكمل معه، بل إنه يلجأ إليه كي يضمنه عندما يتم القبض عليه لعدم وجود بطاقة. العسل هنا طعمه لذيذ، مليء بالسكر، هو الوطن، أما لونه الأسود فإنه ينعكس في سلوك الكثيرين ممن سيقابلهم امصريب فور وصوله إلى الوطن، خاصة السائق الذي يبيع له زجاجة الماء بثلاثين ضعف سعرها الحقيقي، ويغير له الدولار بأقل من نصف سعره، إنه ينصب عليه، ويسرقه. السائق هنا لم تتغير أخلاقه بوصول الشهر الفضيل، إنه ايعملب ويريد أن يكسب، وهو يتعامل مع الأجانب، ومثلما فعل السائق، فعل موظف الاستقبال في الفندق، فهو يغير أسلوب معاملة الزبون حسب جنسيته، باعتبار ما سوف يدفع، وعليه فإن الناس هنا لن يتغير سلوكها في الشهر الفضيل، وكذلك الضابط الذي يؤدب الشاب باعتبار أنه مصري، لكن حين يعرف أنه أمريكي، فإن الأمور تتغير.
مائدة الرحمن
وليس كل الأشخاص في الفيلم على هذه الشاكلة، فهناك الثري الطيب الذي يقيم مائدة الرحمن، وعندما يود امصريب أن يدفع ثمن ما أكله، دون أن يفهم الحكاية بالضبط، فإن صاحب المأدبة يرفض أن يأخذ النقود، ويردد: اانت عايز تضيع عليّ الثوابب.. ومأدبة الرحمن هنا ضخمة مليئة بالرواد، أغلبهم من العواجيز، الذين تبدو عليهم الحاجة، كما أن هناك نموذجا آخر للطيبين، يتمثل في الراقصة دينا، باسمها الفني، فهي تنزل ليلا بسيارتها كي توزع اللحوم على عمال النظافة في الشوارع، وتنادي امصريب، متصورة أنه غلبان، وعندما يخبرها باسمه تقول له: اتبقى غلبانب.
ودينا الراقصة تساعد الشاب على تجاوز محنته، فهي تصحبه إلى مكتب الاتصالات بعد أن فقد بطاقته.
ومن ناحية أخرى، فإن السائق اراضيب سوف يتغير بعد أن دافع عنه امصريب لدى ضابط المرور أي أن هذا التحول كان مسببًا، وقد وصف لنا الفيلم السائق بتناقضاته، فرغم استغلاله الشديد للزبون، فإنه يمتنع عن الشرب فور أذان الفجر، أي أنه ملتزم بشعائر الدين، لكن ما يتعلق بجيبه فإن للجيب قلبا مليئا بالاستغلال.
أما الأسرة التي ينزل عندها امصريب لبعض الوقت، فإن الفيلم يعطيها قيمة إنسانية كبيرة، وفي علاقة امصريب بهم جميعا ستتضح لنا جميع شعائر شهر رمضان، ابتداء من العادات الاجتماعية الشعبية، فالأسرة كلها تلتئم معًا فقط حول مائدة الإفطار في شهر رمضان، كما أن هناك اطبقاب يتضمن أشهى الحلويات الرمضانية، يدور كل يوم على بقية الشقق، لا نكاد نعرف من هو صاحب الطبق، يدور بين الجيران، ما يعني حسن التعامل مع الآخر، فالجيران تهادي بعضها البعض الحلوى، وفي هذا البيت، نستمع في الخلفية، قبل الإفطار إلى صوت الشيخ محمد رفعت وهو يتلو القرآن الكريم، أما بعد الإفطار فإن طفلاً من الأسرة يحمل فانوس رمضان بشكل المفتش كرومبو، لكن يبدو أن الفوانيس في زمن المسلسلات قد فقدت بهجتها، حتى وإن كان الفانوس أكثر فخامة، وفي البيت فإن الابن سعيد االعواطليب يقوم ليصلي الفرض كاملًا.
وقد صور الفيلم ليالي رمضان، من خلال نزول مصري مع سعيد إلى المقهى، هناك في الخلفية قراءة للقرآن، وهناك أيضا الفوانيس، والزينات، وصوت أم كلثوم وهي تغني اهو صحيح الهوى غلابب.
هذه الأسرة الطيبة، استضافت امصريب إلى أن تتحسن ظروفه، وقاموا بمساعدته للحصول على جواز سفره الأمريكي، كما أن الشاب شارك الأسرة في نشاطها الرمضاني الشعبي المعتاد، خاصة في إعداد صواني الكعك في آخر الشهر.. وعندما يحل العيد تذهب الأسرة بكل أفرادها وضيفها إلى الحدائق للتنزه كما هي عادة المسلمين في جميع البلاد.
الفيلم الثاني اإكس لارجب هو عن االبدانةب والشراهة، والعواطف الإنسانية، ولا بد أن مثل هذا الشاب مجدي سوف تكون له معاناة مع الصيام، عندما يحل شهر رمضان، نحن نراه دومًا يأكل بشراهة، يطلب المزيد من الأطعمة ولوازمها، كي يأتي عليها، هو فنان يرسم الاستربس لمجلات الأطفال، غير قادر على التوقف عن التهام المزيد. وعندما تحل عليه أول ليلة للصيام فإنه يطلب المزيد من الطعام، ويردد اسوف أتناول السحور وحديب، هو إذن شخص وحيد، وعندما يحل شهر رمضان هنا نرى الزينات الكثيرة في الشوارع، مثلما اعتادت العيون أن ترى، ونسمع صوت المطرب محمد عبدالمطلب يغني اأهلاً رمضانب، وإذا كان امصريب لم يستطع أن يشرب نقطة ماء بعد أن أعلن المؤذن للفجر، فإن مجدي مكاوي التهم الكثير من الطعام، وما إن يهم بالتهام الأرز، فإن الأذان يرفع، ويطلب من خادمه ألا يوقظه إلا ساعة الإفطار، وهو يشعر بالعطش فور إعلان الأذان.
وفي أول يوم صيــــام، تتصل به دينا وتطلب منه أن يذهب بأسرتـــها إلى محافظـــــة الشرقــــــية لأداء واجب العزاء، وهو يعتبر أن الذهاب إلى الشرقية بمنزلة سفر، لذا يبيح لنفسه الإفطار، ويقوم بشراء كم كبير من الأطعمة والحلويات من كشك، كي يأكل أثناء السفر، لكنه يتراجع عندما يركب معهم أحد أقارب دينا، وهو ملتح، متدين، يصاحبه أيضا في رحلة العودة، فيبقى مجدي صائما طيلة النهار رغمًا عنه.
يعتمد الفيلم على فكرة بسيطة، أن مجدي يحب الفتاة دينا، التي تحب صديقها مجدي، منذ الطفولة ويراسلها عبر الكمبيوتر، لقد صار الآن شابا بدينا، لذا، فإنه يطلق على نفسه اعادلب، وطيلة أحداث الفيلم، فإنه يحاول التقرب من الفتاة، ويحدثها عن مجدي الحاضر الغائب، وفي هذا الإطار، ترى شعائر المصريين في شهر رمضان، فمجدي البدين هو صندوق أسرار كل صديقاته من البنات، لا يتصور أحد أنه شخص صالح للعاطفة، يبحن له بأسرارهن، أما هو فيخبرهن ذات مساء أنه قد وقع في الحب.
المسحراتي
مجدي هذا يتناول فطوره بمفرده مثلما تناول سحوره، في أول أيام رمضان، إلا أن خاله لن يلبث أن يأتي إليه ومعه لوازم الإفطار كي يتناوله معه.. ويبدو الإفطار هنا قاسيًا بالنسبة للشخص الذي يعيش حياته وحيدًا، خاصة في مصر.
لذا فإن مجدي عندما يذهب إلى بيت دينا لتناول الإفطار، فانه لا يشبع رغم كثرة الطعام.. ومثلما أنهت الأسرة على كل ما فوق المائدة من طعام في اعسل أسودب، فإن الأمر يتكرر هنا بالنسبة للبدين الشديد النهم، وهو ينتقد الطعام الذي أعدته والدة دينا، باعتباره بالغ الخبرة في شئون الأغذية، ومن خلال الحوار الذي يدور بينه وبينهما، نفهم أنه واظب على الصيام طوال الشهر وعقب الإفطار فإنه يبدو - مثل أغلب الصائمين العرب - حريصًا على مشاهدة المسلسلات، يعرف مواعيد بثها، في القنوات الفضائية، فهذا مسلسل االداليب في قناة أبوظبي، ومسلسل فيفي عبده على النايل سات، أما مسلسل ماجد المصري فعلى القناة الثانية، ويظل في حالة مشاهدة للمسلسلات في بيت دينا وأمها إلى أن يقترب موعد السحور، وهو في حالة لا تتوقف عن التهام الطعام، يطلب المزيد من المحشي، وفي إفطار آخر، يأخذ دينا إلى مطعم لتناول أطعمة شعبية عربية منها العنيزة أو اللحم المتبل، والمفك.
حرص الفيلم هنا على أن يقدم لنا بعضًا من الاحتفاليات بشهر رمضان لم نرها في الفيلم الأسبق، مثل الزينات التي تملأ الشوارع، وأيضا ماذا يفعل الصائمون عندما يحل الصيام في شهور الصيف؟ وموضوع المسلسلات التي سيطرت على الصائمين المعاصرين.. وأيضا المسحراتي الذي لايزال يقرع على طبلته يحاول إيقاظ الصائمين وتنبيههم إلى أن وقت السحور قد حان، حتى وإن ظل مجدي مكاوي يتناول من الأطباق بلا توقف.