فنان في المقهى
بعث إليها برسالة يعبّر فيها عن حاله وحالته الحالية، بدأ رسالته هكذا.. (قبل أن أبدأ برسالته، لابدّ من القول إنه لم يرها سوى مرة واحدة، ولم يهمس لها بكلمة، أعتقد أن نظراته تكفي ليقول لها ما يودّ أن يقوله).. أو لعلّه، وهذا ما أعتقده، لم يجد ما يقوله تاركًا لنظراته تفسير ما في ذاته، إذن بدأ رسالته هكذا.. (كما أخبرني صديق وأنا أنقله بصدق).. كتب:
هل أستطيع أن أكتب إليك عندما صعب عليّ التكلّم معك؟ الآن أتساءل: لِمَ لم أتجرأ وأتقدم منك وأسلّم عليك مقدّمًا نفسي، وطالبًا منك السّماح بالجلوس معك؟ لم أتجرّأ، مع أني جريء، هكذا يقال عنّي، اسمحي لي أن أقدّم نفسي، نظرت إليه، عبست ثم تحرّكت شفتاها بنصف ابتسامة، تابع قائلاً: اسمي أنيس، تقول أمي إني أنيس كاسمي، أعمل بالألوان، انفرجت أسارير وجهها، صوتها كجمالها، سألته: تعمل بالألوان؟ ماذا تعني؟ أجاب: أنا ألوّن.. أنا ملوّن.. أنا فنّان.. أنا مشهور، سألته: مشهور؟ أين؟ في عائلتك، بين جيرانك؟ أجابها بسرور: لا.. نعم.. في بيروت.. هنا.. سألته: هل تأتي إلى هذا المقهى كل يوم؟ قـــال: نعم! نادت النادل، سألته إن كان يعرفه؟ قال النادل: نعم.. هو زبون دائم يأتي يوميًا، سألته: ماذا يفعل؟ أعني ما هو عمله؟ هل تعرف؟ أجابها النادل: لا، ثم ابتعد. هنا قال لها أنيس: اخترت النادل الأقل ذكاء.. اسألي فريد، مدير المقهى، هو يعرفني جيدًا.. نادت المدير، أتى، سألته: أرجوك، هل تعلم ماذا يعمل الأخ، مشيرة بيدها إلى أنيس؟ أجابها مدير المقهى: هو صديق المقهى، زبون كريم.. يأتي يوميًا، لماذا تسألين سيدتي؟
- للا شيء.. أريد أن أعلم ما هو عمله؟
- آسف.. أعرفه هو.. لكني لا أعرف ماذا يفعل! وما هو عمله.. اسأليه..
- شكرًا لك، ابتعد المدير عنهما، تابع أنيس قائلاً: أنا لا أخبر أحدًا ماذا أفعل وماذا أعمل، هذا لا يهم إلا أنا.
- لكنك قلت إنك معروف ومشهور.. و.. وصراحة أقول لك أنا أسألك وأسأل النادل ومدير المقهى لأطيل الحديث معك.
- شكرًا.. أرجو أن تحبّي..
- لا.. أحببت جرأتك فقط..
- هل أستطيع الجلوس؟
- تفضّل.. وبابتسامة منها: أهلاً وسهلاً..
دار حديث بينهما، وعندما يسود صمت، تعود إلى إيجاد موضوع لإطالة الجلسة.. سألته لماذا قلت إنك تعمل بالألوان؟ الأسهل أن تقول إنك رسّام.
- صحيح.. لكني ألوّن ولا أرسم.
- يعني؟ لم أفهم..
- أعني أني أعتبر اللون هو الفن وليس الرّسم.
- لكن الرسم أساسي في العمل الفني.
- هكذا يقال.. لكن لي شخصيتي الخاصة، وآرائي في الفن معروفة..
- جيّد.. لكن الرسم، كما يــقول عنه اليوناردو دافنشيب: االألوان تختفي ويبقى الرسمب.
- هذا ليوناردو.. أما أنا فلي رأيي.
- وبيكاسو أيضًا يقـــــول اإن العـــــــمل الفــــني الذي يخلو من الرسم يكون بلا أساسب.
- بيكاسو له رأيه.. وأنا لي رأيي.
.. هنا، ساد صمت بينهما، إلى أن قطعه أنيس.
- أنا سعيد بالتحدّث معك.
- لكنك مصمم على آرائك بالفن.
- طبعًا.. إني أثق بما أفكّر وما أقول.
- هل تعتقد أن الفنان يستطيع أو في مقدرته أن يتأكد ويثق بكل أفكاره الفنية، أو أن يعلم قبل الابتداء برسم لوحة، كيف ستنتهي تلك اللوحة؟!
- نعم. أقول نعم بالنسبة لي.. أنا.. أعلم كيف أبدأ وكيف أنتهي.
- هذا نادر جدًا.. لم أتعرّف بعد على رسّام له ثقة بفنه، هذا جيد.. قالت هذا وعلى وجهها تعابير غير راضية عمّا تسمعه، أجابها أنيس: آ.. عندك أصدقاء من الفنانين.. قال هذا مستغربًا.. وتابع.. تذكرين ليوناردو وبيكاسو.. لاشك في أن عندك ثقافة فنية، الآن سأسألك أنا.. هذا دوري.. ماذا تفعلين أنت؟ أنا فنان.. وأنت؟
- أنا؟ لا شيء.
- كيف؟ أنت كل شيء، هذا ما جعلني أتطفّل عليك وأقترب منك.
- أهلاً وسهلاً.. ونظرت إلى ساعتــها، وضعت الهاتف في حقيبتها، نادت النادل، وضع أنيس يده في جيبه.. قالت له: أرجوك. أجابها: ولو.. قالت له أفضل أن أدفع أنا قهوتي، لأشعر أني أمضيت وقتًا أنا اخترته.. أتى النادل، أعطته عشرة آلاف ليرة، أعاد إليها أربعة آلاف. قامت من على كرسيها، وأنيس مشدوهًا يتطلع إليها ولا يعلم ما يقوله، وكأنه فقد لسانه مرّة ثانية، ودّعته دون أن تمدّ يدها لتسلّم عليه.
ابتسمت للنادل وخرجت من المقهى.