فيلسوف أندلسي بعد ابن رشد أبوالـحجاج يوسف الـمكلاتي.. حياته وجهوده العلمية
المكلاتي هو أحد أبرز العلماء والمفكرين والمتكلمين والفلاسفة في الأندلس والمغرب العربي بعد ابن رشد الحفيد (ت595هـ/1198م)، وقد عاش معظم حياته ضمن دولة الموحدين التي ظهرت في المغرب العربي والأندلس في أعقاب سقوط دولة المرابطين في النصف الأول من القرن السادس الهجري.
اسمه يوسف بن محمد بن المعز ويكنى بأبي الحجاج ونسبته إلى مكلاتة فيقال له المكلاتي، كما تشير المصادر التي وثقت حياته في ذلك الوقت. ومكلاتة اختلف فيها الدارسون، فمنهم من يقول إنها اسم لمكان ومنهم من يقول إنها قبيلة من قبائل المغرب العربي. ومكلاتة هي موضع في الطريق بين مدينتي فاس وسجلماسة، كما ينسب المكلاتي إلى مدينة فاس فيقال عنه الفاسي.
من فاس إلى الأندلس
أغلب الظن أن المكلاتي ولد بمدينة فاس في حدود عام 550هـ/1155م، كما تشير المصادر الموثوقة التي ترجمت لحياته، مثل كتاب الذيل والتكملة وكتاب تاريخ قبائل المغرب العربي لعبدالوهاب منصور وغيرهما كثير.
أقام المكلاتي بفاس مدة يُحصِّل العلم ويعمل به حتى حان وقت سفره إلى الأندلس سنة 595هــ/1198م، بصحبة الأمير المنصور الموحدي، إذ كان من المقربين عنده وله مكانة عند هذا الأمير الموحدي، الذي تعرض ابن رشد على يديه لنكبته المعروفة، التي تحدثت عنها المصادر القديمة والمراجع الحديثة بالتفصيل، ومنها مقدمتنا لكتاب ابن رشد الموسوم (تلخيص السياسة).
ومن الألقاب التي يسمى بها المكلاتي االأحدبب، ولا يعنى هنا بالأحدب المعنى المتعارف عليه بين الناس، بل المقصود به العطف والحنان استناداً لسيرته الخلقية التي يرد ذكرها عند مؤرخي سيرته.
لم تمدنا المصادر القديمة بشيء يذكر على من تَحصل العلم ومن هم شيوخه، إلا أنه ورد عند بعض هذه المصادر أنه درس على عدد من كبار رجال السنة من فقهاء ومحدثين وأصوليين وعلماء كلام، فضلاً عن أنه قد عاصر في زمنه فلاسفة أندلسيين كبار من أمثال ابن طفيل (ت580هـ)، وابن رشد.
عاصر المكلاتي ما بين مولده ووفاته (ت626هـ/1237م)، أي في النصف الثاني من القرن السادس والربع الأول من القرن السابع الهجريين، أحداث التكوين والبناء لدولة الموحدين على يدي الأمير الموحدي يوسف بن عبدالله المؤمن وابنه يعقوب بن يوسف الملقب بالمنصور الموحدي، فشاهد ما واجهته هذه الدولة من عراقيل ثم ما بلغته من ازدهار، وما اعتراها من وهن وضعف وزوال. ولعل المكلاتي الذي عاصر فترة التكوين للدولة الموحدية ثم فترة ازدهارها ومن اندحارها قد تأثر بكل ما كان سائداً في هذه البلاد، ولاسيما من وجود صراع حول العقيدة فتوجه بالدرس والتحليل إلى علم الكلام لمحاربة المناوئين للدولة الموحدية، وقد عاونه على ذلك الأمير يوسف بن عبدالمؤمن الموحدي الملقب بالمنصور، إذ قامت هذه الدولة على أساس ديني خالص، هو التوحيد، فمؤسس هذه الدولة هو محمد ابن تومرت الملقب بمهدي الموحدين، وكان هدفه خلق دولة جديدة قائمة على التوحيد ضد المرابطين الذين قامت دولتهم على التجسيم. أما المذهب الفقهي الذي قامت عليه هذه الدولة فهو المالكية، وإن كان ابن تومرت قد تأثر في نشأته الفكرية كما تشير المصادر بأفكار اعتزالية وشيعية واضحة ودرس على يد علماء كلام أشاعرة من أمثال أبي بكر الشاشي، ويقال إن ابن تومرت قد التقى بالغزالي (ت505هـ/111م)، وقد أمده هذا الأخير بفتوى دينية ساعدته على تدمير دولة المرابطين.
كما يمثل عصر المكلاتي حقبة من أخصب الحقب في الحياة الفكرية في المغرب العربي الذي احتوى الكثير من نتاج الفكر الأندلسي، إذ ظهر في هذه الحقبة علماء وفقهاء ومتكلمون وفلاسفة من أمثال العالم الموسوعي ابن السّيد البطليوسي والفيلسوف أبي بكر بن باجة، والفيلسوف والطبيب ابن طفيل، والفيلسوف والطبيب المشهور ابن رشد، والمفسر المعروف عبد بن سليمان بن حوط.
مؤلفات المكلاتي
أما نتاج المكلاتي فإن المصادر القديمة لم تذكر الكثير عن مؤلفاته، سوى كتابه الذي عُرف به وهو كتاب الباب العقول في الرد على الفلاسفة في علم الأصولب. وهو كتاب فلسفي كلامي بامتياز، يشير فيه إلى كيفية الرد والنقض لأفكار وآراء الفلاسفة في التوحيد والوجود والزمان والذات والصفات وخلود النفس والعلم الإلهي، وموضوعات أخرى، والفلاسفة المقصود الرد عليهم من قِبله هم: الفارابي وابن سينا فحسب مع إغفال واضح للفيلسوف الكندي، دون أن يتناول بالنقد والرد فلاسفة المغرب العربي والأندلس، من أمثال ابن باجة وابن طفيل وابن رشد. وكأن المكلاتي في عمله يتمثل بل ويسير على وفق منهج الغزالي في كتابه اتهافت الفلاسفةب ويتخذه نبراساً له في هذا المجال، وهذا يدل على بروز مدرسة كلامية فلسفية مغربية متأثرة بفلاسفة المشرق وعلى الأخص الغزالي، ما يؤكد حضور الفكر الكلامي الأشعري بقوة في الأندلس، على الرغم من وجود فلاسفة معارضين ومعاندين للغزالي من أمثال الفيلسوف ابن رشد.
إن كتاب الباب العقول في الرد على الفلاسفة في علم الأصولب يتضمن أبوابا رئيسية في داخلها فصول ومطالب، وهي أبواب تبحث في حدوث العالَم، وجواز عدمه، وإثبات العلم بالله (الصانع)، واستحالة الجهل على الله، وفي إثبات الصفات له، وعلمه بذاته لا بغيره، وأن كلامه قديم وليس بحادث، ثم انتقال البحث في الإرادة والقدرة للإنسان، والحسن والقبح هل هما ذاتيان في الشيء أم سَمْعيان عن طريق الشرع؟، ثم يختم كتابه ببابين, الأول عن إثبات النبوات والآخر في الثواب والعقاب.
وقد قامت المرحومة الدكتورة فوقية حسين محمود بتحقيق ودراسة هذا الأثر العلمي المهم وكشف عن مكانته في تاريخ الفكر الإسلامي في الأندلس بعد ابن رشد، بدراسة علمية مطولة مع مصادر ومراجع ذات علاقة مع عملها هذا، صدرت طبعتها الأولى عن دار الأنصار بالقاهرة .1977