لحظة تاريخ.. زفــاف أخــت الـرشيـد
ليلة لا تُنسى من ليالي بغداد، المدينة التي لا تُنسى، تنعكس أضواء قصر الرشيد على مياه نهر دجلة الرخوة، فتملأه بحيوية متألقة، في داخل القصر تدور طقوس عرس لا تعرف عنه المدينة النائمة شيئا، وحتى الذين كانوا داخل القصر لم يعرفوا الكثير، يراقبون طقوسه غير مصدقين، نساء لا تكف عن التهامس، ورجال بني العباس مصدومون، الدهشة أكثر من الفرح، والهمس أعلى من الأغاريد، يخرج جعفر البرمكي من حمامه، يقف وسط الجواري وهن يدرن حوله بالمباخر، يعبقن خلاياه برائحة البخور الذكية.
كان أجمل عريس يمكن أن تراه امرأة، وكن جميعا قد ذقن طعمه بطريقة أو بأخرى، كان أشبه بنحلة قارصة توزع رحيقها على الأجساد دون أن تبالي بالتعرف على الوجوه، ولكنه الليلة سيستقر راضيا أو مرغما عند جسد واحد، يسبح وسط سحابة البخور راضيا ومنتشيا، أخيرا، لن يكون تابعا أو بالأحرى خادما عند بني العباس، كان قد بلغ أقصى مكانة يمكن أن يحلم بها مسئول أصوله فارسية، وزير مفوض للخليفة، يمكنه أن يصدر أي قرارات دون حاجة لتوقيع الخليفة، بعد الآن لن تكون هذه حدوده، عندما يعلو جسد سيدة بني العباس، وسيعلو فوق رءوسهم جميعا، جسدها سيكون الدرب الذي يسير عليه للعرش المحرم.
وفي الجانب الآخر من القصر كانت علية بنت المهدي تخرج أيضا من حمامها، االعباسةب كما يحلو للجميع أن ينادوها، يختصرون الدولة كلها في اسمها، تقف وسط جواريها، يضمخن جسدها بكل أنواع العطور، ويمسدن خصلات شعرها بالمسك، تبدو رائعة الجمال، لا يعيب وجهها إلا جبين واسع، كانت تعتقد أن كل من ينظر إليها تتعلق عيناه بها، وكان يضايقها أن يختصر كل من يراها شكلها في هذه الجبهة الواسعة، لذلك وضعت فوقها قلادة من اللؤلؤ، لم تكن تخلعها حتى تميزت بها، لم تخلعها حتى وهي تقف الآن بين وصيفاتها، لم تكن تحلم بهذه الليلة بقدر ما حلمت بهذا الزوج، منذ أن اكتشف أخوها هارون الرشيد جمال صوتها، وشغفها بالغناء والعزف، وقد جعلها أنيسته، رفيقة دائمة في مجلسه، وهناك رأت جعفر البرمكي عن قرب، طالما سمعت نساء القصر وهن يتحدثن عن سحره وفتوته، ولكن حين جلست في مواجهته أحست بأن كلماتهن لا ترقى لأوصافه، كان دائما خافض الرأس، لا ينظر إليها بطريقة مباشرة حفظا لمجلس الخليفة، ولكنها كانت فرصة لتتأمله هي، أن تغني أيضا لرأسه المنخفض الذي يهتز طربا كلما علا صوتها، كانت أخبار فحولته تأتيها أيضا، كيف أنه في كل أسبوع يفتض جارية عذراء، صدمتها هذه المعلومات أولا .. ثم أصبحت أمرا مثيرًا، قابلاً للتحدي، أن تكون هي المرأة التي تجعله يستغني عن كل النساء، أن يسد جسدها عليه كل منافذ المتعة، استغلت كل سحرها لتجعل أخاها يتقبل هذه الفكرة الغريبة، أن تتزوج أخت الخليفة القرشية الهاشمية الأصل العالية النسب، من مخدوم فارسي.
الخليفة هارون الرشيد بنفسه كان يقف أيضا، يقوم غلام رومي بتجفيف جلده بمسحة من المسك، ويمسك غلام آخر بثيابه، وتعبق الغرفة بروائح المر والبخور، كان يعرف أن هناك الكثيرين من يعارضون هذا الزفاف، اعتراضات مكتومة، ولكنه في قرارة نفسه كان يعرف أنه قام بالصواب، استجاب لرغبات أخته الأثيرة، وعقد حلفا مع البرامكة، العائلة التي خدمته طويلا هو وأباه المهدي من قبله، كان يعرف أنهم أقوياء، ولكن قوتهم في مصلحته، موظفة من أجله، زواج مثل هذا سيضمن ولاءهم، لن ينقلبوا عليه، سيوسعون حدود دولته، وسيدافعون عنها دون مساس به، زواج متكافئ بين النسب الشريف ومصادر القوة، أي معادلة أفضل من ذلك؟ حمل الغلام العباءة واستعد لوضعها على كتفيه، ولكن باب المغطس فتح فجأة، شيء لا يمكن حدوثه، حتى ازبيدةب سيدة القصر لا تقدر على ذلك، أسرع االرشيدب بضم العباءة حتى يخفي لحمه العاري، ورفع رأسه ليصرخ ولكنه وجد أمامه االفاختةب أصغر إخوته، ابنة أبيه المدللة، التي تعودت أن تفعل دائما ما تريد، تقف بطولها السامق وشعرها المتهدل، غير مبالية بملامح الغضب التي تبدو على وجهه، يصيح فيها:
- أي شيطان دفعك لاقتحام حمامي وجسمي مازال عاريا؟
لا يبدو أنها تأبه لغضبه، ولا لجسده الذي يهتز، تجلس في هدوء وهي تقول:
- جسمك ليس غريبا علي، وسواء كنت عاريا أو كاسيا فأنت أخي، لكنني لم آت إلى هنا إلا لأمر مهم.
يقف أمامها وقد وضع يده على خاصرته:
- ليس لدي الكثير من الوقت؟
تقول في سرعة: ولا أنا.. ما أقوله بسيط وموجز، هذا الزفاف يجب ألا يتم.
يقول في استهزاء: الكثيرون يقولون كما قلت، ولكن هذه إرادتي ولا أحد يقف ضدها.
تنهض واقفة، تقول في تحدٍ لا يليق بقدها النحيف:
- جسدي يقف دونها، هذا الرجل مس جسدي من قبل، ويجب ألا يمس جسد أختي بعد ذلك.
يتراجع مذهولا حتى يجلس على أحد المقاعد، فتاة صغيرة كلماتها كبيرة، تتحدث ببساطة وفحش، ينظر إليها ببلاهة، ويتساءل مترددا:
- هل تقولين الحق.. هل أغواك؟
تنظر إليه دون أن تطرف عيناها:
- لم يفعل، أنا التي فعلت، رأيته وأردته وقررت أن أناله، كنت أعرف أن أمه تهديه في كل أسبوع جارية عذراء ليفتضها، وزاد هذا الأمر من إثارتي، ولكني كنت أدرك أنه لو عرف حقيقتي فسيرفضني، لا أحد يجرؤ على أن يضع إصبعه على أخت الخليفة، لذلك تنكرت في زي واحدة من هاتيك الجواري ودخلت إلى فراشه.
لا يستطيع أن يتحملها أكثر من هذا، يصيح فيها: اغربي عن وجهي، لا أريد أن أراك بعد الآن.
تنهض وتنصرف ببطء، لم تكن خائفة منه، في لمحة عين هدمت كل شيء، هذه الكلمات.. حقيقية أم غيرة؟ هل يتصارعان على رجل واحد، ولكن هل يصل الحد بـ االفاختةب حتى توسم نفسها بالعار وتعرضها للقتل؟ افتضاضه للعذارى كان حكاية شائعة، تثير إعجاب الخليفة نفسه لهذه الفحولة، ولكنها أوصلت أخته إلى فراشه، مصيبة أن يكون هذا أيضا حصل مع العباسة، وأن يكون هذا سبب إصرارها على الزواج، لا يستطيع أن يبقى وحيدا أكثر من هذا، يسير في ممرات القصر، وسط حشد من بني العباس، وقادة الجند، وأعيان بغداد، وولاة الأمصار، ما الذي جمعهم هكذا، من أوصل الخبر للأمصار البعيدة، هل فعلها البرامكة مستغلين انتشار أتباعهم؟ تلاحقه أصوات التهاني والدعاء بالنصر، ترتفع الأغاريد من أجنحة الحريم، وتنثر عليه أوراق الورد من مكان ما.
القاعة الكبرى في القصر مزدحمة أيضا، في صدرها يجلس العريس المنتظر، حوله إخوته وأعوانه، الرجال الذين يمسكون مفاصل دولته، يقفون وينحنون أمامه، بمن فيهم جعفر البرمكي أعلى وجهه ابتسامة صفراء، إن كان مخلصا له حقا فلماذا لم يبادر بالاعتراف؟ لماذا لم يقل له إن أخته قد خدعته واللذة قد أعمته؟ يجلس الرشيد جامد الوجه، محاطًا بأقارب البرامكة وأعوانهم، وفي الخارج يحيط جنودهم بقصره، كيف وصل الأمر إلى هذا الحد؟ يتأمل الوجوه الكاظمة غيظها من بني العباس، يعرفون جميعا بطريقة غامضة أنه في ورطة، وكل مراسم الزفاف هذه هي أبلغ دليل على ضعفه وقلة حيلته، عليه الآن أن ينهض ويفض المجلس حتى ينصرف الجميع، ولكن مفتي بغداد يقف أمامه، ينحني طالبا الإذن ببدء المراسم، لا يجيبه، ولكن المفتي اللعين يعتبر أن صمته إجابة، تدور العجلة رغما عن أنفه، يواجه المفتي الجمع المحتشد ويطلب من الجميع قراءة الفاتحة، يرفعون أكفهم ويأخذون في الهمهمة، يدير الرشيد وجهه، يشاهد عيونهم المغمضة وأكفهم المرفوعة وهم يتمتمون بالآيات، جعفر وحده هو المفتوح العينين، يحرك شفتيه وعيناه عليه، يحاول قراءة ما في داخله كعادته، لن تنجح هذه المرة يا ابن البرمكي؟ يخاطب المفتي الجمع، يقول كلاما كثيرا عن سنة رسول الله، وأهمية الزواج في إعمار الأرض، ثم يعلن شروط العقد وصحة إتمامه، تبدأ دورة أخرى من التهاني والتبريكات، ألا يمل هؤلاء القوم؟ كان عاجزا عن ضبط حركتهم، أي سخرية أن يحكم ثلث العالم ويكون عاجزا عن التحكم في حركة الناس في هذه القاعة الصغيرة؟! يظل جالسا متمسكا بمقعده، يصبح جعفر هو المحور الذي يدورون حوله، كأنه لم يمتلك جسد العباسة فقط، ولكن جسد الدولة كلها.
تظهر الجواري، وهن يمسكن بالدفوف، يقفن عند باب القاعة في صفين متقابلين، ينقرن الدفوف في إيقاع متصل، ينتظرن أن ينهض جعفر ويسير بينهن إلى غرفتها، يتطلع جعفر إليه، يتطلعون جميعا إليه، ينتظرون إشارة الموافقة، يظل يحدق فيهن بنظرة غائمة، غير مصدق أن كل هذا قد حدث، ينهض واقفا فينهضون جميعا، يشير لجعفر أن يقف بجانبه، يسير متقدما خطوة ويتبعه جعفر مندهشا، تتوقف الجواري للحظة عن نقر الدفوف، ثم يخضعن لإشارة الخليفة ويبدأن النقر من جديد، يكاد الرشيد يختنق من عطرهن، كل شيء مبالغ فيه، يتجهون جميعا نحو الجناح الذي تنتظر فيه العروس، والخليفة يحث الخطى بحماس كأنه العريس، يتبعه جعفر مندهشا، وتزداد الدهشة عندما يتجاوز الممر المؤدي إلى جناح العباسة، يبتعدون عن كل المدعوين، يقودهم الرشيد إلى مكان ناء من القصر، لا تحيط به إلا الأبهاء الخالية، يشير الرشيد للجواري أن يتوقفن ويبتعدن، إشارة قاطعة تثير فزعهن، لا يبقى إلا هما، يصلان إلى سور القصر الأخير، يلتفت إليه أخيرا وهو يلتقط أنفاسه بصعوبة، وجه جعفر أيضا كان ممتقعا، وحلقه جافا، يشير الرشيد إلى باب صغير في نهاية الجدار، يقول في صوت هادئ ولكنه حازم:
- ستخرج من هذا الباب الصغير، ستمارس عملك في الصباح في تدبير أمور الدولة، لن تتحدث لأحد بكلمة واحدة عما دار الآن، وسنحدد ليلة أخرى حتى تدخل إلى عروسك.
يدب الخوف في نفس جعفر، ربما تذكر الفاختة في هذه اللحظة، ربما تساءل إن كانت قد باحت بسرها الدفين، السر الذي سيشينها قبل أحد آخر، يواجهه الرشيد حازما، ولكنه لا يصل لدرجة العداء، يقول جعفر مترددا وحائرا: ولكن العروس تجلس الآن في انتظاري؟
لكن الرشيد لا يتخلى عن حزمه:
- ليلة أخرى لن تقتلها، أما أنت فلديك كل جواري الدنيا.
مات الكلام، يظل جعفر واقفا لبرهة، ثم لا يملك إلا أن يحني رأسه ويتجه للباب الصغير، يتنهد الرشيد حين يراه يختفي من أمامه، انزاح الكابوس.. مؤقتا.
في اليوم التالي يبدو الأمر وكأن شيئا لم يكن، همسات عابرة وإحباط مقيم، وقادة جند لا يكفون عن التوافد، لا تغادر العباسة جناحها ولكن الرشيد يقوم بزيارتها أكثر من مرة، يشاهد شحوب وجهها، ووجبات الطعام التي تمتنع عنها، يحاول الحديث معها فتستمع إليه ساهمة، لا يبدو أنها قد وعت أو تفهمت، االفاختةب أيضا لا تغادر غرفتها، يمنعها الحراس الأشداء من الخروج، تسبهم وتهددهم، دون أن يأبهوا بها، يجيء جعفر إلى القصر، يستقبله الخليفة بوجه جامد، لا باش ولا عدائي، يستمع إليه في صمت، ويتسلم منه كل الرقاع، ويوافق على كل ما اتخذ من تدابير، دون أن يتطرق أحد منهما إلى ليلة الزفاف المؤجلة.
ليس هذا هو الاجتماع الذي ينتظره الرشيد، الاجتماع المنتظر حدث بعد عدة أيام، وبعد منتصف الليل أيضا، يتسلل إلى القصر عشرة رجال، لم يرهم أحد غير بضعة أفراد من الحرس هم الذين قادوهم لمجلس الرشيد، يرتدون أسمالا كالشحاذين، دبغت الشمس جلودهم وتفوح منهم رائحة الطرقات، يمسكون في أيديهم رقعا مطوية ينتظرون أمره بالكلام، يقدم الأول رقعته وهو يقول: نحن عيونك يا مولاي، وقد نفذنا أوامرك وسعينا خلف كل البرامكة فلم نترك لهم مخرجا، خاصة جعفر البرمكي، يشير لبقية رفاقه من العيون، يضعون الرقع كلها تحت قدميه، لا ينتظرون حتى يقرأها، يندفعون جميعا في الحديث بألسنتهم المتعددة، كأنهم لسان واحد ممتد، يقول أول العيون: إنهم ذئاب في ثياب الحملان، تسللوا إلى أوصال دولة بني العباس ولا يبغون إلا امتلاكها، يدعي أبوهم الأكبر يحيى البرمكي أنه هو الذي رباك، وأنك أخو ابنه االفضلب في الرضاعة، لذلك لا تستطيع أن ترفض له طلبا، وسيربون ابنك الأمين على نفس طريقتهم، يلتقط عين ثان منه طرف الكلام: لقد قبض جعفر البرمكي على عدوك يحيى بن عبدالله الذي أراد أن يستقل ببلاد الديلم، ورغم أوامرك له بقتله فإنه لم يفعل، لقد وجد أن الحفاظ على وعده له بالإبقاء على حياته أهم من عصيانه لأمرك، لذا أعطاه أموالا وجوادا وساعده على الهرب، قبل أن يفيق الرشيد من ذهوله يتدخل العين الثالث: ربما تعرفون يا مولاي أنه كون في خراسان جيشا تابعا له، عدده 50 ألف جندي يتبعون له ولا يأتمرون إلا بأمره، ولكن الذي لم يصل إلى علم مولاي أنه استقدم إلى بغداد عشرين ألفا منهم ونشرهم في كل مكان، يتأوه الرشيد، لم يتصور أن الأمر قد بلغ هذا الحد من الخطورة، فهو ليس مهددًا بفقد أختيه فقط، ولكن فقد عرشه كله، يكمل العين الرابع الكلام: لقد تمكنت من دخول بعض قصورهم، لا توجد مدينة إلا وفيها قصر يخصهم، الجدران مكسوة بالذهب، والدرج مكسو بالفضة، وقد بنى جعفر لنفسه بيتا كلفه 20 مليون درهم، إنهم يعيشون في ترف لا مثيل له، وقد أبقوا لأنفسهم معظم الغنائم ولم يعطوا للدولة إلا القليل، ويسارع العين الخامس بالتدخل: في كل يوم يقف على بابهم العشرات من طالبي الحاجة، فقد أوهموا الجميع أنهم أصحاب الحل والعقد في الدولة، وقد أعطى جعفر للشعراء الذين توافدوا على مدحه ثلاثة ملايين درهم في يوم واحد، لا تتوقف الألسنة، ولا الحقائق المرعبة، لا يتصور أن الأمور قد وصلت إلى هذا الحد، هناك دولة أخرى أقامها جعفر وإخوته داخل دولته، هي الأقوى، وهي التي تستعد لالتهامه، لا يطيق مواصلة الاستماع، ما يقال فوق طاقته، يصرفهم جميعا، لا يستطع أن ينام الليل، ويقبل الصباح عليه وشعوره بالخطر قد أصبح قاتلا، لا يبالي بنظرات الكراهية في عيني أختيه، ولا بالغضب المكتوم في نفوس القادة من بني العباس، وأخيرا.. أخيرا يقف أمامه جعفر البرمكي ليقول له:
- غدا ستكون ليلة دخلتك على العباسة، إنها تنتظرك في شوق.
تبدو على وجه جعفر سعادة مشوبة بالقلق، ولكن الفرصة لا تفوت.
ليلة هادئة في القصر، قمر متوهج على نهر دجلة، وجعفر البرمكي يخطو داخلا للقصر، عندما يرى صف الجواري الواقفات في انتظاره يأمر أتباعه بالبقاء في الخارج، يسير وسطهن، وسط عبق عطورهن كأن الحفلة الماضية لم تنقطع، أفضل ما فيها أن الرشيد غير موجود، وأن الجواري يقدنه مباشرة إلى جناحها، وأوراق الورد لا تكف عن التساقط عليه، ينفتح باب العباسة أمامه أخيرا وهي جالسة في انتظاره، شاحبة قليلا ولكنها تبتسم وعصبة اللؤلؤ تتألق على جبينها، تتراجع الجواري ويغلقن الباب، أخيرا تجمعهما غرفة واحدة، يقبل يديها: اشتقت إليك، تتلقى قبلاته في استمتاع: الشوق متبادل، كلاهما جائع للآخر، ولكن الأمور يجب أن تمضي بروية كما يجب أن تكون، تقول له: أحضرت لك خمرا من كرم شيراز، تعرف أنه شرابه المفضل، تحضر له قارورة وحيدة وكأسا وحيدة، يقول: هل شاركتني الشراب؟ تمسك بالعود بين أناملها: سأكون مغنيتك وأنت نديمي، أغني لك وأنت تنتشي، الآن تستطيع أن تنظر إلي بملء عينيك، تنساب أناملها على الأوتار مثلما تتشرب خلايا جسده خمر شيراز، نشوة مفعمة بالبهجة، تتشكل الحروف في فمها وتكتسب سحر الإيقاع، تتداخل الأنغام مع عبق العطور، يراها وهي عارية تتضوع بين ذراعيه، هذه هي المرأة التي ستغنيه عن بقية النساء، صوتها والخمر سواء، وممارسة الحب معها ستصل به إلى عنان السماء، يسمع ويشرب ولا يتوقف الغناء، حتى بعد أن تصمت وتترك العود من يدها وتحدق في وجهه يستمر الغناء، تبدأ الشموع في الانطفاء، واحدة وراء الأخرى، يتبدد العطر ويستمر الغناء حتى يسود الظلام، ظلام كثيف، طبقاته بلا نهاية، يجوس فيه بحثا عن دفء جسدها فلا يجده، عن لمسة من المتعة فلا يجدها، لا يجد سوى ألم قاس ممض يخترق أطرافه، كيف انقلب الحلم إلى كابوس، وأي كابوس هذا الذي لا ينتهي، ماذا كان في خمر شيراز، وماذا في غنائك أيتها العباسة، مطارق لا تكف عن الدق، وألم يوشك أن يزهق روحي، ومن أين تأتي هذه الحرارة اللاسعة؟ يفتح عينيه لعله يرى العالم، إن كان ثمة عالم، إن كان هناك منفذ من الظلمة، يرفع أجفانه بصعوبة، يرى السماء في لمحة خاطفة، ينحني رأسه متثاقلا فيلمح النهر في الأسفل، انقشعت الظلمة وبقي الكابوس وتواصل الألم، لا يستطيع أن يضم ذراعيه، أو يحرك ساقيه، يفتح عينيه للمرة الثانية، يدرك بشكل غائم أين هو.. ولماذا يتألم، يصرخ متفجعا، ولكن فمه المليء بالدم، يكتم صرخته، يتقلص جسده منفعلا، فيزداد ألمه ويدرك أنه لا خلاص، كان مصلوبا، معلقا عند جسر بغداد، وعشرات المارة مثل نقاط سوداء غائمة يتطلعون نحوه، لم يكن كابوسا، كان حقيقة مرة، غدروا به جميعا، الجواري اللاتي استقبلنه، والعباسة التي غنت، والرشيد الذي أحكم الشرك، هل يوجد من ينقذه، إخوته وأبوه، جيشه الذي أعده لهذه اللحظة، الأعوان والشعراء والذين كانوا يلوذون به، أين ذهبوا جميعا، كيف تركوه للصليب، لهذه الدرجة من الضعف والهوان؟ جمع في صدره كل ما قدر عليه من الهواء القادم من النهر، ثم بصق كل ما في فمه من دم جاف، أخذ يصرخ ويعوي في صوت عال، لعل هناك من يجرؤ على إنقاذه؟ .