لحظة تاريخ.. زفــاف أخــت الـرشيـد

لحظة تاريخ.. زفــاف أخــت الـرشيـد

ليلة‭ ‬لا‭ ‬تُنسى‭ ‬من‭ ‬ليالي‭ ‬بغداد،‭ ‬المدينة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تُنسى،‭ ‬تنعكس‭ ‬أضواء‭ ‬قصر‭ ‬الرشيد‭ ‬على‭ ‬مياه‭ ‬نهر‭ ‬دجلة‭ ‬الرخوة،‭ ‬فتملأه‭ ‬بحيوية‭ ‬متألقة،‭ ‬في‭ ‬داخل‭ ‬القصر‭ ‬تدور‭ ‬طقوس‭ ‬عرس‭ ‬لا‭ ‬تعرف‭ ‬عنه‭ ‬المدينة‭ ‬النائمة‭ ‬شيئا،‭ ‬وحتى‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬داخل‭ ‬القصر‭ ‬لم‭ ‬يعرفوا‭ ‬الكثير،‭ ‬يراقبون‭ ‬طقوسه‭ ‬غير‭ ‬مصدقين،‭ ‬نساء‭ ‬لا‭ ‬تكف‭ ‬عن‭ ‬التهامس،‭ ‬ورجال‭ ‬بني‭ ‬العباس‭ ‬مصدومون،‭ ‬الدهشة‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬الفرح،‭ ‬والهمس‭ ‬أعلى‭ ‬من‭ ‬الأغاريد،‭ ‬يخرج‭ ‬جعفر‭ ‬البرمكي‭ ‬من‭ ‬حمامه،‭ ‬يقف‭ ‬وسط‭ ‬الجواري‭ ‬وهن‭ ‬يدرن‭ ‬حوله‭ ‬بالمباخر،‭ ‬يعبقن‭ ‬خلاياه‭ ‬برائحة‭ ‬البخور‭ ‬الذكية‭.‬

كان‭ ‬أجمل‭ ‬عريس‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تراه‭ ‬امرأة،‭ ‬وكن‭ ‬جميعا‭ ‬قد‭ ‬ذقن‭ ‬طعمه‭ ‬بطريقة‭ ‬أو‭ ‬بأخرى،‭ ‬كان‭ ‬أشبه‭ ‬بنحلة‭ ‬قارصة‭ ‬توزع‭ ‬رحيقها‭ ‬على‭ ‬الأجساد‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تبالي‭ ‬بالتعرف‭ ‬على‭ ‬الوجوه،‭ ‬ولكنه‭ ‬الليلة‭ ‬سيستقر‭ ‬راضيا‭ ‬أو‭ ‬مرغما‭ ‬عند‭ ‬جسد‭ ‬واحد،‭ ‬يسبح‭ ‬وسط‭ ‬سحابة‭ ‬البخور‭ ‬راضيا‭ ‬ومنتشيا،‭ ‬أخيرا،‭ ‬لن‭ ‬يكون‭ ‬تابعا‭ ‬أو‭ ‬بالأحرى‭ ‬خادما‭ ‬عند‭ ‬بني‭ ‬العباس،‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬بلغ‭ ‬أقصى‭ ‬مكانة‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يحلم‭ ‬بها‭ ‬مسئول‭ ‬أصوله‭ ‬فارسية،‭ ‬وزير‭ ‬مفوض‭ ‬للخليفة،‭ ‬يمكنه‭ ‬أن‭ ‬يصدر‭ ‬أي‭ ‬قرارات‭ ‬دون‭ ‬حاجة‭ ‬لتوقيع‭ ‬الخليفة،‭ ‬بعد‭ ‬الآن‭ ‬لن‭ ‬تكون‭ ‬هذه‭ ‬حدوده،‭ ‬عندما‭ ‬يعلو‭ ‬جسد‭ ‬سيدة‭ ‬بني‭ ‬العباس،‭ ‬وسيعلو‭ ‬فوق‭ ‬رءوسهم‭ ‬جميعا،‭ ‬جسدها‭ ‬سيكون‭ ‬الدرب‭ ‬الذي‭ ‬يسير‭ ‬عليه‭ ‬للعرش‭ ‬المحرم‭.‬

وفي‭ ‬الجانب‭ ‬الآخر‭ ‬من‭ ‬القصر‭ ‬كانت‭ ‬علية‭ ‬بنت‭ ‬المهدي‭ ‬تخرج‭ ‬أيضا‭ ‬من‭ ‬حمامها،‭ ‬االعباسةب‭ ‬كما‭ ‬يحلو‭ ‬للجميع‭ ‬أن‭ ‬ينادوها،‭ ‬يختصرون‭ ‬الدولة‭ ‬كلها‭ ‬في‭ ‬اسمها،‭ ‬تقف‭ ‬وسط‭ ‬جواريها،‭ ‬يضمخن‭ ‬جسدها‭ ‬بكل‭ ‬أنواع‭ ‬العطور،‭ ‬ويمسدن‭ ‬خصلات‭ ‬شعرها‭ ‬بالمسك،‭ ‬تبدو‭ ‬رائعة‭ ‬الجمال،‭ ‬لا‭ ‬يعيب‭ ‬وجهها‭ ‬إلا‭ ‬جبين‭ ‬واسع،‭ ‬كانت‭ ‬تعتقد‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬ينظر‭ ‬إليها‭ ‬تتعلق‭ ‬عيناه‭ ‬بها،‭ ‬وكان‭ ‬يضايقها‭ ‬أن‭ ‬يختصر‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬يراها‭ ‬شكلها‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الجبهة‭ ‬الواسعة،‭ ‬لذلك‭ ‬وضعت‭ ‬فوقها‭ ‬قلادة‭ ‬من‭ ‬اللؤلؤ،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تخلعها‭ ‬حتى‭ ‬تميزت‭ ‬بها،‭ ‬لم‭ ‬تخلعها‭ ‬حتى‭ ‬وهي‭ ‬تقف‭ ‬الآن‭ ‬بين‭ ‬وصيفاتها،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تحلم‭ ‬بهذه‭ ‬الليلة‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬حلمت‭ ‬بهذا‭ ‬الزوج،‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬اكتشف‭ ‬أخوها‭ ‬هارون‭ ‬الرشيد‭ ‬جمال‭ ‬صوتها،‭ ‬وشغفها‭ ‬بالغناء‭ ‬والعزف،‭ ‬وقد‭ ‬جعلها‭ ‬أنيسته،‭ ‬رفيقة‭ ‬دائمة‭ ‬في‭ ‬مجلسه،‭ ‬وهناك‭ ‬رأت‭ ‬جعفر‭ ‬البرمكي‭ ‬عن‭ ‬قرب،‭ ‬طالما‭ ‬سمعت‭ ‬نساء‭ ‬القصر‭ ‬وهن‭ ‬يتحدثن‭ ‬عن‭ ‬سحره‭ ‬وفتوته،‭ ‬ولكن‭ ‬حين‭ ‬جلست‭ ‬في‭ ‬مواجهته‭ ‬أحست‭ ‬بأن‭ ‬كلماتهن‭ ‬لا‭ ‬ترقى‭ ‬لأوصافه،‭ ‬كان‭ ‬دائما‭ ‬خافض‭ ‬الرأس،‭ ‬لا‭ ‬ينظر‭ ‬إليها‭ ‬بطريقة‭ ‬مباشرة‭ ‬حفظا‭ ‬لمجلس‭ ‬الخليفة،‭ ‬ولكنها‭ ‬كانت‭ ‬فرصة‭ ‬لتتأمله‭ ‬هي،‭ ‬أن‭ ‬تغني‭ ‬أيضا‭ ‬لرأسه‭ ‬المنخفض‭ ‬الذي‭ ‬يهتز‭ ‬طربا‭ ‬كلما‭ ‬علا‭ ‬صوتها،‭ ‬كانت‭ ‬أخبار‭ ‬فحولته‭ ‬تأتيها‭ ‬أيضا،‭ ‬كيف‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬أسبوع‭ ‬يفتض‭ ‬جارية‭ ‬عذراء،‭ ‬صدمتها‭ ‬هذه‭ ‬المعلومات‭ ‬أولا‭ .. ‬ثم‭ ‬أصبحت‭ ‬أمرا‭ ‬مثيرًا،‭ ‬قابلاً‭ ‬للتحدي،‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬هي‭ ‬المرأة‭ ‬التي‭ ‬تجعله‭ ‬يستغني‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬النساء،‭ ‬أن‭ ‬يسد‭ ‬جسدها‭ ‬عليه‭ ‬كل‭ ‬منافذ‭ ‬المتعة،‭ ‬استغلت‭ ‬كل‭ ‬سحرها‭ ‬لتجعل‭ ‬أخاها‭ ‬يتقبل‭ ‬هذه‭ ‬الفكرة‭ ‬الغريبة،‭ ‬أن‭ ‬تتزوج‭ ‬أخت‭ ‬الخليفة‭ ‬القرشية‭ ‬الهاشمية‭ ‬الأصل‭ ‬العالية‭ ‬النسب،‭ ‬من‭ ‬مخدوم‭ ‬فارسي‭.‬

الخليفة‭ ‬هارون‭ ‬الرشيد‭ ‬بنفسه‭ ‬كان‭ ‬يقف‭ ‬أيضا،‭ ‬يقوم‭ ‬غلام‭ ‬رومي‭ ‬بتجفيف‭ ‬جلده‭ ‬بمسحة‭ ‬من‭ ‬المسك،‭ ‬ويمسك‭ ‬غلام‭ ‬آخر‭ ‬بثيابه،‭ ‬وتعبق‭ ‬الغرفة‭ ‬بروائح‭ ‬المر‭ ‬والبخور،‭ ‬كان‭ ‬يعرف‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬الكثيرين‭ ‬من‭ ‬يعارضون‭ ‬هذا‭ ‬الزفاف،‭ ‬اعتراضات‭ ‬مكتومة،‭ ‬ولكنه‭ ‬في‭ ‬قرارة‭ ‬نفسه‭ ‬كان‭ ‬يعرف‭ ‬أنه‭ ‬قام‭ ‬بالصواب،‭ ‬استجاب‭ ‬لرغبات‭ ‬أخته‭ ‬الأثيرة،‭ ‬وعقد‭ ‬حلفا‭ ‬مع‭ ‬البرامكة،‭ ‬العائلة‭ ‬التي‭ ‬خدمته‭ ‬طويلا‭ ‬هو‭ ‬وأباه‭ ‬المهدي‭ ‬من‭ ‬قبله،‭ ‬كان‭ ‬يعرف‭ ‬أنهم‭ ‬أقوياء،‭ ‬ولكن‭ ‬قوتهم‭ ‬في‭ ‬مصلحته،‭ ‬موظفة‭ ‬من‭ ‬أجله،‭ ‬زواج‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬سيضمن‭ ‬ولاءهم،‭ ‬لن‭ ‬ينقلبوا‭ ‬عليه،‭ ‬سيوسعون‭ ‬حدود‭ ‬دولته،‭ ‬وسيدافعون‭ ‬عنها‭ ‬دون‭ ‬مساس‭ ‬به،‭ ‬زواج‭ ‬متكافئ‭ ‬بين‭ ‬النسب‭ ‬الشريف‭ ‬ومصادر‭ ‬القوة،‭ ‬أي‭ ‬معادلة‭ ‬أفضل‭ ‬من‭ ‬ذلك؟‭ ‬حمل‭ ‬الغلام‭ ‬العباءة‭ ‬واستعد‭ ‬لوضعها‭ ‬على‭ ‬كتفيه،‭ ‬ولكن‭ ‬باب‭ ‬المغطس‭ ‬فتح‭ ‬فجأة،‭ ‬شيء‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬حدوثه،‭ ‬حتى‭ ‬ازبيدةب‭ ‬سيدة‭ ‬القصر‭ ‬لا‭ ‬تقدر‭ ‬على‭ ‬ذلك،‭ ‬أسرع‭ ‬االرشيدب‭ ‬بضم‭ ‬العباءة‭ ‬حتى‭ ‬يخفي‭ ‬لحمه‭ ‬العاري،‭ ‬ورفع‭ ‬رأسه‭ ‬ليصرخ‭ ‬ولكنه‭ ‬وجد‭ ‬أمامه‭ ‬االفاختةب‭ ‬أصغر‭ ‬إخوته،‭ ‬ابنة‭ ‬أبيه‭ ‬المدللة،‭ ‬التي‭ ‬تعودت‭ ‬أن‭ ‬تفعل‭ ‬دائما‭ ‬ما‭ ‬تريد،‭ ‬تقف‭ ‬بطولها‭ ‬السامق‭ ‬وشعرها‭ ‬المتهدل،‭ ‬غير‭ ‬مبالية‭ ‬بملامح‭ ‬الغضب‭ ‬التي‭ ‬تبدو‭ ‬على‭ ‬وجهه،‭ ‬يصيح‭ ‬فيها‭:‬

‭- ‬أي‭ ‬شيطان‭ ‬دفعك‭ ‬لاقتحام‭ ‬حمامي‭ ‬وجسمي‭ ‬مازال‭ ‬عاريا؟

‭ ‬لا‭ ‬يبدو‭ ‬أنها‭ ‬تأبه‭ ‬لغضبه،‭ ‬ولا‭ ‬لجسده‭ ‬الذي‭ ‬يهتز،‭ ‬تجلس‭ ‬في‭ ‬هدوء‭ ‬وهي‭ ‬تقول‭:‬

‭- ‬جسمك‭ ‬ليس‭ ‬غريبا‭ ‬علي،‭ ‬وسواء‭ ‬كنت‭ ‬عاريا‭ ‬أو‭ ‬كاسيا‭ ‬فأنت‭ ‬أخي،‭ ‬لكنني‭ ‬لم‭ ‬آت‭ ‬إلى‭ ‬هنا‭ ‬إلا‭ ‬لأمر‭ ‬مهم‭.‬

‭ ‬يقف‭ ‬أمامها‭ ‬وقد‭ ‬وضع‭ ‬يده‭ ‬على‭ ‬خاصرته‭:‬

‭- ‬ليس‭ ‬لدي‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الوقت؟

‭ ‬تقول‭ ‬في‭ ‬سرعة‭: ‬ولا‭ ‬أنا‭.. ‬ما‭ ‬أقوله‭ ‬بسيط‭ ‬وموجز،‭ ‬هذا‭ ‬الزفاف‭ ‬يجب‭ ‬ألا‭ ‬يتم‭.‬

‭ ‬يقول‭ ‬في‭ ‬استهزاء‭: ‬الكثيرون‭ ‬يقولون‭ ‬كما‭ ‬قلت،‭ ‬ولكن‭ ‬هذه‭ ‬إرادتي‭ ‬ولا‭ ‬أحد‭ ‬يقف‭ ‬ضدها‭.‬

تنهض‭ ‬واقفة،‭ ‬تقول‭ ‬في‭ ‬تحدٍ‭ ‬لا‭ ‬يليق‭ ‬بقدها‭ ‬النحيف‭:‬

‭- ‬جسدي‭ ‬يقف‭ ‬دونها،‭ ‬هذا‭ ‬الرجل‭ ‬مس‭ ‬جسدي‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬ويجب‭ ‬ألا‭ ‬يمس‭ ‬جسد‭ ‬أختي‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭.‬

‭ ‬يتراجع‭ ‬مذهولا‭ ‬حتى‭ ‬يجلس‭ ‬على‭ ‬أحد‭ ‬المقاعد،‭ ‬فتاة‭ ‬صغيرة‭ ‬كلماتها‭ ‬كبيرة،‭ ‬تتحدث‭ ‬ببساطة‭ ‬وفحش،‭ ‬ينظر‭ ‬إليها‭ ‬ببلاهة،‭ ‬ويتساءل‭ ‬مترددا‭:‬

‭- ‬هل‭ ‬تقولين‭ ‬الحق‭.. ‬هل‭ ‬أغواك؟

تنظر‭ ‬إليه‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تطرف‭ ‬عيناها‭: ‬

‭- ‬لم‭ ‬يفعل،‭ ‬أنا‭ ‬التي‭ ‬فعلت،‭ ‬رأيته‭ ‬وأردته‭ ‬وقررت‭ ‬أن‭ ‬أناله،‭ ‬كنت‭ ‬أعرف‭ ‬أن‭ ‬أمه‭ ‬تهديه‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬أسبوع‭ ‬جارية‭ ‬عذراء‭ ‬ليفتضها،‭ ‬وزاد‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬من‭ ‬إثارتي،‭ ‬ولكني‭ ‬كنت‭ ‬أدرك‭ ‬أنه‭ ‬لو‭ ‬عرف‭ ‬حقيقتي‭ ‬فسيرفضني،‭ ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬يجرؤ‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يضع‭ ‬إصبعه‭ ‬على‭ ‬أخت‭ ‬الخليفة،‭ ‬لذلك‭ ‬تنكرت‭ ‬في‭ ‬زي‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬هاتيك‭ ‬الجواري‭ ‬ودخلت‭ ‬إلى‭ ‬فراشه‭.‬

لا‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يتحملها‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬هذا،‭ ‬يصيح‭ ‬فيها‭: ‬اغربي‭ ‬عن‭ ‬وجهي،‭ ‬لا‭ ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أراك‭ ‬بعد‭ ‬الآن‭.‬

‭ ‬تنهض‭ ‬وتنصرف‭ ‬ببطء،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬خائفة‭ ‬منه،‭ ‬في‭ ‬لمحة‭ ‬عين‭ ‬هدمت‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬هذه‭ ‬الكلمات‭.. ‬حقيقية‭ ‬أم‭ ‬غيرة؟‭ ‬هل‭ ‬يتصارعان‭ ‬على‭ ‬رجل‭ ‬واحد،‭ ‬ولكن‭ ‬هل‭ ‬يصل‭ ‬الحد‭ ‬بـ‭ ‬االفاختةب‭ ‬حتى‭ ‬توسم‭ ‬نفسها‭ ‬بالعار‭ ‬وتعرضها‭ ‬للقتل؟‭ ‬افتضاضه‭ ‬للعذارى‭ ‬كان‭ ‬حكاية‭ ‬شائعة،‭ ‬تثير‭ ‬إعجاب‭ ‬الخليفة‭ ‬نفسه‭ ‬لهذه‭ ‬الفحولة،‭ ‬ولكنها‭ ‬أوصلت‭ ‬أخته‭ ‬إلى‭ ‬فراشه،‭ ‬مصيبة‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬هذا‭ ‬أيضا‭ ‬حصل‭ ‬مع‭ ‬العباسة،‭ ‬وأن‭ ‬يكون‭ ‬هذا‭ ‬سبب‭ ‬إصرارها‭ ‬على‭ ‬الزواج،‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يبقى‭ ‬وحيدا‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬هذا،‭ ‬يسير‭ ‬في‭ ‬ممرات‭ ‬القصر،‭ ‬وسط‭ ‬حشد‭ ‬من‭ ‬بني‭ ‬العباس،‭ ‬وقادة‭ ‬الجند،‭ ‬وأعيان‭ ‬بغداد،‭ ‬وولاة‭ ‬الأمصار،‭ ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬جمعهم‭ ‬هكذا،‭ ‬من‭ ‬أوصل‭ ‬الخبر‭ ‬للأمصار‭ ‬البعيدة،‭ ‬هل‭ ‬فعلها‭ ‬البرامكة‭ ‬مستغلين‭ ‬انتشار‭ ‬أتباعهم؟‭ ‬تلاحقه‭ ‬أصوات‭ ‬التهاني‭ ‬والدعاء‭ ‬بالنصر،‭ ‬ترتفع‭ ‬الأغاريد‭ ‬من‭ ‬أجنحة‭ ‬الحريم،‭ ‬وتنثر‭ ‬عليه‭ ‬أوراق‭ ‬الورد‭ ‬من‭ ‬مكان‭ ‬ما‭.‬

‭ ‬القاعة‭ ‬الكبرى‭ ‬في‭ ‬القصر‭ ‬مزدحمة‭ ‬أيضا،‭ ‬في‭ ‬صدرها‭ ‬يجلس‭ ‬العريس‭ ‬المنتظر،‭ ‬حوله‭ ‬إخوته‭ ‬وأعوانه،‭ ‬الرجال‭ ‬الذين‭ ‬يمسكون‭ ‬مفاصل‭ ‬دولته،‭ ‬يقفون‭ ‬وينحنون‭ ‬أمامه،‭ ‬بمن‭ ‬فيهم‭ ‬جعفر‭ ‬البرمكي‭ ‬أعلى‭ ‬وجهه‭ ‬ابتسامة‭ ‬صفراء،‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬مخلصا‭ ‬له‭ ‬حقا‭ ‬فلماذا‭ ‬لم‭ ‬يبادر‭ ‬بالاعتراف؟‭ ‬لماذا‭ ‬لم‭ ‬يقل‭ ‬له‭ ‬إن‭ ‬أخته‭ ‬قد‭ ‬خدعته‭ ‬واللذة‭ ‬قد‭ ‬أعمته؟‭ ‬يجلس‭ ‬الرشيد‭ ‬جامد‭ ‬الوجه،‭ ‬محاطًا‭ ‬بأقارب‭ ‬البرامكة‭ ‬وأعوانهم،‭ ‬وفي‭ ‬الخارج‭ ‬يحيط‭ ‬جنودهم‭ ‬بقصره،‭ ‬كيف‭ ‬وصل‭ ‬الأمر‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬الحد؟‭ ‬يتأمل‭ ‬الوجوه‭ ‬الكاظمة‭ ‬غيظها‭ ‬من‭ ‬بني‭ ‬العباس،‭ ‬يعرفون‭ ‬جميعا‭ ‬بطريقة‭ ‬غامضة‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬ورطة،‭ ‬وكل‭ ‬مراسم‭ ‬الزفاف‭ ‬هذه‭ ‬هي‭ ‬أبلغ‭ ‬دليل‭ ‬على‭ ‬ضعفه‭ ‬وقلة‭ ‬حيلته،‭ ‬عليه‭ ‬الآن‭ ‬أن‭ ‬ينهض‭ ‬ويفض‭ ‬المجلس‭ ‬حتى‭ ‬ينصرف‭ ‬الجميع،‭ ‬ولكن‭ ‬مفتي‭ ‬بغداد‭ ‬يقف‭ ‬أمامه،‭ ‬ينحني‭ ‬طالبا‭ ‬الإذن‭ ‬ببدء‭ ‬المراسم،‭ ‬لا‭ ‬يجيبه،‭ ‬ولكن‭ ‬المفتي‭ ‬اللعين‭ ‬يعتبر‭ ‬أن‭ ‬صمته‭ ‬إجابة،‭ ‬تدور‭ ‬العجلة‭ ‬رغما‭ ‬عن‭ ‬أنفه،‭ ‬يواجه‭ ‬المفتي‭ ‬الجمع‭ ‬المحتشد‭ ‬ويطلب‭ ‬من‭ ‬الجميع‭ ‬قراءة‭ ‬الفاتحة،‭ ‬يرفعون‭ ‬أكفهم‭ ‬ويأخذون‭ ‬في‭ ‬الهمهمة،‭ ‬يدير‭ ‬الرشيد‭ ‬وجهه،‭ ‬يشاهد‭ ‬عيونهم‭ ‬المغمضة‭ ‬وأكفهم‭ ‬المرفوعة‭ ‬وهم‭ ‬يتمتمون‭ ‬بالآيات،‭ ‬جعفر‭ ‬وحده‭ ‬هو‭ ‬المفتوح‭ ‬العينين،‭ ‬يحرك‭ ‬شفتيه‭ ‬وعيناه‭ ‬عليه،‭ ‬يحاول‭ ‬قراءة‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬داخله‭ ‬كعادته،‭ ‬لن‭ ‬تنجح‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬يا‭ ‬ابن‭ ‬البرمكي؟‭ ‬يخاطب‭ ‬المفتي‭ ‬الجمع،‭ ‬يقول‭ ‬كلاما‭ ‬كثيرا‭ ‬عن‭ ‬سنة‭ ‬رسول‭ ‬الله،‭ ‬وأهمية‭ ‬الزواج‭ ‬في‭ ‬إعمار‭ ‬الأرض،‭ ‬ثم‭ ‬يعلن‭ ‬شروط‭ ‬العقد‭ ‬وصحة‭ ‬إتمامه،‭ ‬تبدأ‭ ‬دورة‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬التهاني‭ ‬والتبريكات،‭ ‬ألا‭ ‬يمل‭ ‬هؤلاء‭ ‬القوم؟‭ ‬كان‭ ‬عاجزا‭ ‬عن‭ ‬ضبط‭ ‬حركتهم،‭ ‬أي‭ ‬سخرية‭ ‬أن‭ ‬يحكم‭ ‬ثلث‭ ‬العالم‭ ‬ويكون‭ ‬عاجزا‭ ‬عن‭ ‬التحكم‭ ‬في‭ ‬حركة‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬القاعة‭ ‬الصغيرة؟‭! ‬يظل‭ ‬جالسا‭ ‬متمسكا‭ ‬بمقعده،‭ ‬يصبح‭ ‬جعفر‭ ‬هو‭ ‬المحور‭ ‬الذي‭ ‬يدورون‭ ‬حوله،‭ ‬كأنه‭ ‬لم‭ ‬يمتلك‭ ‬جسد‭ ‬العباسة‭ ‬فقط،‭ ‬ولكن‭ ‬جسد‭ ‬الدولة‭ ‬كلها‭.‬

تظهر‭ ‬الجواري،‭ ‬وهن‭ ‬يمسكن‭ ‬بالدفوف،‭ ‬يقفن‭ ‬عند‭ ‬باب‭ ‬القاعة‭ ‬في‭ ‬صفين‭ ‬متقابلين،‭ ‬ينقرن‭ ‬الدفوف‭ ‬في‭ ‬إيقاع‭ ‬متصل،‭ ‬ينتظرن‭ ‬أن‭ ‬ينهض‭ ‬جعفر‭ ‬ويسير‭ ‬بينهن‭ ‬إلى‭ ‬غرفتها،‭ ‬يتطلع‭ ‬جعفر‭ ‬إليه،‭ ‬يتطلعون‭ ‬جميعا‭ ‬إليه،‭ ‬ينتظرون‭ ‬إشارة‭ ‬الموافقة،‭ ‬يظل‭ ‬يحدق‭ ‬فيهن‭ ‬بنظرة‭ ‬غائمة،‭ ‬غير‭ ‬مصدق‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬قد‭ ‬حدث،‭ ‬ينهض‭ ‬واقفا‭ ‬فينهضون‭ ‬جميعا،‭ ‬يشير‭ ‬لجعفر‭ ‬أن‭ ‬يقف‭ ‬بجانبه،‭ ‬يسير‭ ‬متقدما‭ ‬خطوة‭ ‬ويتبعه‭ ‬جعفر‭ ‬مندهشا،‭ ‬تتوقف‭ ‬الجواري‭ ‬للحظة‭ ‬عن‭ ‬نقر‭ ‬الدفوف،‭ ‬ثم‭ ‬يخضعن‭ ‬لإشارة‭ ‬الخليفة‭ ‬ويبدأن‭ ‬النقر‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬يكاد‭ ‬الرشيد‭ ‬يختنق‭ ‬من‭ ‬عطرهن،‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬مبالغ‭ ‬فيه،‭ ‬يتجهون‭ ‬جميعا‭ ‬نحو‭ ‬الجناح‭ ‬الذي‭ ‬تنتظر‭ ‬فيه‭ ‬العروس،‭ ‬والخليفة‭ ‬يحث‭ ‬الخطى‭ ‬بحماس‭ ‬كأنه‭ ‬العريس،‭ ‬يتبعه‭ ‬جعفر‭ ‬مندهشا،‭ ‬وتزداد‭ ‬الدهشة‭ ‬عندما‭ ‬يتجاوز‭ ‬الممر‭ ‬المؤدي‭ ‬إلى‭ ‬جناح‭ ‬العباسة،‭ ‬يبتعدون‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬المدعوين،‭ ‬يقودهم‭ ‬الرشيد‭ ‬إلى‭ ‬مكان‭ ‬ناء‭ ‬من‭ ‬القصر،‭ ‬لا‭ ‬تحيط‭ ‬به‭ ‬إلا‭ ‬الأبهاء‭ ‬الخالية،‭ ‬يشير‭ ‬الرشيد‭ ‬للجواري‭ ‬أن‭ ‬يتوقفن‭ ‬ويبتعدن،‭ ‬إشارة‭ ‬قاطعة‭ ‬تثير‭ ‬فزعهن،‭ ‬لا‭ ‬يبقى‭ ‬إلا‭ ‬هما،‭ ‬يصلان‭ ‬إلى‭ ‬سور‭ ‬القصر‭ ‬الأخير،‭ ‬يلتفت‭ ‬إليه‭ ‬أخيرا‭ ‬وهو‭ ‬يلتقط‭ ‬أنفاسه‭ ‬بصعوبة،‭ ‬وجه‭ ‬جعفر‭ ‬أيضا‭ ‬كان‭ ‬ممتقعا،‭ ‬وحلقه‭ ‬جافا،‭ ‬يشير‭ ‬الرشيد‭ ‬إلى‭ ‬باب‭ ‬صغير‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬الجدار،‭ ‬يقول‭ ‬في‭ ‬صوت‭ ‬هادئ‭ ‬ولكنه‭ ‬حازم‭:‬

‭- ‬ستخرج‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الباب‭ ‬الصغير،‭ ‬ستمارس‭ ‬عملك‭ ‬في‭ ‬الصباح‭ ‬في‭ ‬تدبير‭ ‬أمور‭ ‬الدولة،‭ ‬لن‭ ‬تتحدث‭ ‬لأحد‭ ‬بكلمة‭ ‬واحدة‭ ‬عما‭ ‬دار‭ ‬الآن،‭ ‬وسنحدد‭ ‬ليلة‭ ‬أخرى‭ ‬حتى‭ ‬تدخل‭ ‬إلى‭ ‬عروسك‭.‬

‭ ‬يدب‭ ‬الخوف‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬جعفر،‭ ‬ربما‭ ‬تذكر‭ ‬الفاختة‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬اللحظة،‭ ‬ربما‭ ‬تساءل‭ ‬إن‭ ‬كانت‭ ‬قد‭ ‬باحت‭ ‬بسرها‭ ‬الدفين،‭ ‬السر‭ ‬الذي‭ ‬سيشينها‭ ‬قبل‭ ‬أحد‭ ‬آخر،‭ ‬يواجهه‭ ‬الرشيد‭ ‬حازما،‭ ‬ولكنه‭ ‬لا‭ ‬يصل‭ ‬لدرجة‭ ‬العداء،‭ ‬يقول‭ ‬جعفر‭ ‬مترددا‭ ‬وحائرا‭: ‬ولكن‭ ‬العروس‭ ‬تجلس‭ ‬الآن‭ ‬في‭ ‬انتظاري؟

لكن‭ ‬الرشيد‭ ‬لا‭ ‬يتخلى‭ ‬عن‭ ‬حزمه‭:‬

‭- ‬ليلة‭ ‬أخرى‭ ‬لن‭ ‬تقتلها،‭ ‬أما‭ ‬أنت‭ ‬فلديك‭ ‬كل‭ ‬جواري‭ ‬الدنيا‭.‬

‭ ‬مات‭ ‬الكلام،‭ ‬يظل‭ ‬جعفر‭ ‬واقفا‭ ‬لبرهة،‭ ‬ثم‭ ‬لا‭ ‬يملك‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬يحني‭ ‬رأسه‭ ‬ويتجه‭ ‬للباب‭ ‬الصغير،‭ ‬يتنهد‭ ‬الرشيد‭ ‬حين‭ ‬يراه‭ ‬يختفي‭ ‬من‭ ‬أمامه،‭ ‬انزاح‭ ‬الكابوس‭.. ‬مؤقتا‭.‬

في‭ ‬اليوم‭ ‬التالي‭ ‬يبدو‭ ‬الأمر‭ ‬وكأن‭ ‬شيئا‭ ‬لم‭ ‬يكن،‭ ‬همسات‭ ‬عابرة‭ ‬وإحباط‭ ‬مقيم،‭ ‬وقادة‭ ‬جند‭ ‬لا‭ ‬يكفون‭ ‬عن‭ ‬التوافد،‭ ‬لا‭ ‬تغادر‭ ‬العباسة‭ ‬جناحها‭ ‬ولكن‭ ‬الرشيد‭ ‬يقوم‭ ‬بزيارتها‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرة،‭ ‬يشاهد‭ ‬شحوب‭ ‬وجهها،‭ ‬ووجبات‭ ‬الطعام‭ ‬التي‭ ‬تمتنع‭ ‬عنها،‭ ‬يحاول‭ ‬الحديث‭ ‬معها‭ ‬فتستمع‭ ‬إليه‭ ‬ساهمة،‭ ‬لا‭ ‬يبدو‭ ‬أنها‭ ‬قد‭ ‬وعت‭ ‬أو‭ ‬تفهمت،‭ ‬االفاختةب‭ ‬أيضا‭ ‬لا‭ ‬تغادر‭ ‬غرفتها،‭ ‬يمنعها‭ ‬الحراس‭ ‬الأشداء‭ ‬من‭ ‬الخروج،‭ ‬تسبهم‭ ‬وتهددهم،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يأبهوا‭ ‬بها،‭ ‬يجيء‭ ‬جعفر‭ ‬إلى‭ ‬القصر،‭ ‬يستقبله‭ ‬الخليفة‭ ‬بوجه‭ ‬جامد،‭ ‬لا‭ ‬باش‭ ‬ولا‭ ‬عدائي،‭ ‬يستمع‭ ‬إليه‭ ‬في‭ ‬صمت،‭ ‬ويتسلم‭ ‬منه‭ ‬كل‭ ‬الرقاع،‭ ‬ويوافق‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬اتخذ‭ ‬من‭ ‬تدابير،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يتطرق‭ ‬أحد‭ ‬منهما‭ ‬إلى‭ ‬ليلة‭ ‬الزفاف‭ ‬المؤجلة‭.‬

‭ ‬ليس‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬الاجتماع‭ ‬الذي‭ ‬ينتظره‭ ‬الرشيد،‭ ‬الاجتماع‭ ‬المنتظر‭ ‬حدث‭ ‬بعد‭ ‬عدة‭ ‬أيام،‭ ‬وبعد‭ ‬منتصف‭ ‬الليل‭ ‬أيضا،‭ ‬يتسلل‭ ‬إلى‭ ‬القصر‭ ‬عشرة‭ ‬رجال،‭ ‬لم‭ ‬يرهم‭ ‬أحد‭ ‬غير‭ ‬بضعة‭ ‬أفراد‭ ‬من‭ ‬الحرس‭ ‬هم‭ ‬الذين‭ ‬قادوهم‭ ‬لمجلس‭ ‬الرشيد،‭ ‬يرتدون‭ ‬أسمالا‭ ‬كالشحاذين،‭ ‬دبغت‭ ‬الشمس‭ ‬جلودهم‭ ‬وتفوح‭ ‬منهم‭ ‬رائحة‭ ‬الطرقات،‭ ‬يمسكون‭ ‬في‭ ‬أيديهم‭ ‬رقعا‭ ‬مطوية‭ ‬ينتظرون‭ ‬أمره‭ ‬بالكلام،‭ ‬يقدم‭ ‬الأول‭ ‬رقعته‭ ‬وهو‭ ‬يقول‭: ‬نحن‭ ‬عيونك‭ ‬يا‭ ‬مولاي،‭ ‬وقد‭ ‬نفذنا‭ ‬أوامرك‭ ‬وسعينا‭ ‬خلف‭ ‬كل‭ ‬البرامكة‭ ‬فلم‭ ‬نترك‭ ‬لهم‭ ‬مخرجا،‭ ‬خاصة‭ ‬جعفر‭ ‬البرمكي،‭ ‬يشير‭ ‬لبقية‭ ‬رفاقه‭ ‬من‭ ‬العيون،‭ ‬يضعون‭ ‬الرقع‭ ‬كلها‭ ‬تحت‭ ‬قدميه،‭ ‬لا‭ ‬ينتظرون‭ ‬حتى‭ ‬يقرأها،‭ ‬يندفعون‭ ‬جميعا‭ ‬في‭ ‬الحديث‭ ‬بألسنتهم‭ ‬المتعددة،‭ ‬كأنهم‭ ‬لسان‭ ‬واحد‭ ‬ممتد،‭ ‬يقول‭ ‬أول‭ ‬العيون‭: ‬إنهم‭ ‬ذئاب‭ ‬في‭ ‬ثياب‭ ‬الحملان،‭ ‬تسللوا‭ ‬إلى‭ ‬أوصال‭ ‬دولة‭ ‬بني‭ ‬العباس‭ ‬ولا‭ ‬يبغون‭ ‬إلا‭ ‬امتلاكها،‭ ‬يدعي‭ ‬أبوهم‭ ‬الأكبر‭ ‬يحيى‭ ‬البرمكي‭ ‬أنه‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬رباك،‭ ‬وأنك‭ ‬أخو‭ ‬ابنه‭ ‬االفضلب‭ ‬في‭ ‬الرضاعة،‭ ‬لذلك‭ ‬لا‭ ‬تستطيع‭ ‬أن‭ ‬ترفض‭ ‬له‭ ‬طلبا،‭ ‬وسيربون‭ ‬ابنك‭ ‬الأمين‭ ‬على‭ ‬نفس‭ ‬طريقتهم،‭ ‬يلتقط‭ ‬عين‭ ‬ثان‭ ‬منه‭ ‬طرف‭ ‬الكلام‭: ‬لقد‭ ‬قبض‭ ‬جعفر‭ ‬البرمكي‭ ‬على‭ ‬عدوك‭ ‬يحيى‭ ‬بن‭ ‬عبدالله‭ ‬الذي‭ ‬أراد‭ ‬أن‭ ‬يستقل‭ ‬ببلاد‭ ‬الديلم،‭ ‬ورغم‭ ‬أوامرك‭ ‬له‭ ‬بقتله‭ ‬فإنه‭ ‬لم‭ ‬يفعل،‭ ‬لقد‭ ‬وجد‭ ‬أن‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬وعده‭ ‬له‭ ‬بالإبقاء‭ ‬على‭ ‬حياته‭ ‬أهم‭ ‬من‭ ‬عصيانه‭ ‬لأمرك،‭ ‬لذا‭ ‬أعطاه‭ ‬أموالا‭ ‬وجوادا‭ ‬وساعده‭ ‬على‭ ‬الهرب،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يفيق‭ ‬الرشيد‭ ‬من‭ ‬ذهوله‭ ‬يتدخل‭ ‬العين‭ ‬الثالث‭: ‬ربما‭ ‬تعرفون‭ ‬يا‭ ‬مولاي‭ ‬أنه‭ ‬كون‭ ‬في‭ ‬خراسان‭ ‬جيشا‭ ‬تابعا‭ ‬له،‭ ‬عدده‭ ‬50‭ ‬ألف‭ ‬جندي‭ ‬يتبعون‭ ‬له‭ ‬ولا‭ ‬يأتمرون‭ ‬إلا‭ ‬بأمره،‭ ‬ولكن‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬علم‭ ‬مولاي‭ ‬أنه‭ ‬استقدم‭ ‬إلى‭ ‬بغداد‭ ‬عشرين‭ ‬ألفا‭ ‬منهم‭ ‬ونشرهم‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان،‭ ‬يتأوه‭ ‬الرشيد،‭ ‬لم‭ ‬يتصور‭ ‬أن‭ ‬الأمر‭ ‬قد‭ ‬بلغ‭ ‬هذا‭ ‬الحد‭ ‬من‭ ‬الخطورة،‭ ‬فهو‭ ‬ليس‭ ‬مهددًا‭ ‬بفقد‭ ‬أختيه‭ ‬فقط،‭ ‬ولكن‭ ‬فقد‭ ‬عرشه‭ ‬كله،‭ ‬يكمل‭ ‬العين‭ ‬الرابع‭ ‬الكلام‭: ‬لقد‭ ‬تمكنت‭ ‬من‭ ‬دخول‭ ‬بعض‭ ‬قصورهم،‭ ‬لا‭ ‬توجد‭ ‬مدينة‭ ‬إلا‭ ‬وفيها‭ ‬قصر‭ ‬يخصهم،‭ ‬الجدران‭ ‬مكسوة‭ ‬بالذهب،‭ ‬والدرج‭ ‬مكسو‭ ‬بالفضة،‭ ‬وقد‭ ‬بنى‭ ‬جعفر‭ ‬لنفسه‭ ‬بيتا‭ ‬كلفه‭ ‬20‭ ‬مليون‭ ‬درهم،‭ ‬إنهم‭ ‬يعيشون‭ ‬في‭ ‬ترف‭ ‬لا‭ ‬مثيل‭ ‬له،‭ ‬وقد‭ ‬أبقوا‭ ‬لأنفسهم‭ ‬معظم‭ ‬الغنائم‭ ‬ولم‭ ‬يعطوا‭ ‬للدولة‭ ‬إلا‭ ‬القليل،‭ ‬ويسارع‭ ‬العين‭ ‬الخامس‭ ‬بالتدخل‭: ‬في‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬يقف‭ ‬على‭ ‬بابهم‭ ‬العشرات‭ ‬من‭ ‬طالبي‭ ‬الحاجة،‭ ‬فقد‭ ‬أوهموا‭ ‬الجميع‭ ‬أنهم‭ ‬أصحاب‭ ‬الحل‭ ‬والعقد‭ ‬في‭ ‬الدولة،‭ ‬وقد‭ ‬أعطى‭ ‬جعفر‭ ‬للشعراء‭ ‬الذين‭ ‬توافدوا‭ ‬على‭ ‬مدحه‭ ‬ثلاثة‭ ‬ملايين‭ ‬درهم‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬واحد،‭ ‬لا‭ ‬تتوقف‭ ‬الألسنة،‭ ‬ولا‭ ‬الحقائق‭ ‬المرعبة،‭ ‬لا‭ ‬يتصور‭ ‬أن‭ ‬الأمور‭ ‬قد‭ ‬وصلت‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬الحد،‭ ‬هناك‭ ‬دولة‭ ‬أخرى‭ ‬أقامها‭ ‬جعفر‭ ‬وإخوته‭ ‬داخل‭ ‬دولته،‭ ‬هي‭ ‬الأقوى،‭ ‬وهي‭ ‬التي‭ ‬تستعد‭ ‬لالتهامه،‭ ‬لا‭ ‬يطيق‭ ‬مواصلة‭ ‬الاستماع،‭ ‬ما‭ ‬يقال‭ ‬فوق‭ ‬طاقته،‭ ‬يصرفهم‭ ‬جميعا،‭ ‬لا‭ ‬يستطع‭ ‬أن‭ ‬ينام‭ ‬الليل،‭ ‬ويقبل‭ ‬الصباح‭ ‬عليه‭ ‬وشعوره‭ ‬بالخطر‭ ‬قد‭ ‬أصبح‭ ‬قاتلا،‭ ‬لا‭ ‬يبالي‭ ‬بنظرات‭ ‬الكراهية‭ ‬في‭ ‬عيني‭ ‬أختيه،‭ ‬ولا‭ ‬بالغضب‭ ‬المكتوم‭ ‬في‭ ‬نفوس‭ ‬القادة‭ ‬من‭ ‬بني‭ ‬العباس،‭ ‬وأخيرا‭.. ‬أخيرا‭ ‬يقف‭ ‬أمامه‭ ‬جعفر‭ ‬البرمكي‭ ‬ليقول‭ ‬له‭: ‬

‭- ‬غدا‭ ‬ستكون‭ ‬ليلة‭ ‬دخلتك‭ ‬على‭ ‬العباسة،‭ ‬إنها‭ ‬تنتظرك‭ ‬في‭ ‬شوق‭.‬

‭ ‬تبدو‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬جعفر‭ ‬سعادة‭ ‬مشوبة‭ ‬بالقلق،‭ ‬ولكن‭ ‬الفرصة‭ ‬لا‭ ‬تفوت‭.‬

ليلة‭ ‬هادئة‭ ‬في‭ ‬القصر،‭ ‬قمر‭ ‬متوهج‭ ‬على‭ ‬نهر‭ ‬دجلة،‭ ‬وجعفر‭ ‬البرمكي‭ ‬يخطو‭ ‬داخلا‭ ‬للقصر،‭ ‬عندما‭ ‬يرى‭ ‬صف‭ ‬الجواري‭ ‬الواقفات‭ ‬في‭ ‬انتظاره‭ ‬يأمر‭ ‬أتباعه‭ ‬بالبقاء‭ ‬في‭ ‬الخارج،‭ ‬يسير‭ ‬وسطهن،‭ ‬وسط‭ ‬عبق‭ ‬عطورهن‭ ‬كأن‭ ‬الحفلة‭ ‬الماضية‭ ‬لم‭ ‬تنقطع،‭ ‬أفضل‭ ‬ما‭ ‬فيها‭ ‬أن‭ ‬الرشيد‭ ‬غير‭ ‬موجود،‭ ‬وأن‭ ‬الجواري‭ ‬يقدنه‭ ‬مباشرة‭ ‬إلى‭ ‬جناحها،‭ ‬وأوراق‭ ‬الورد‭ ‬لا‭ ‬تكف‭ ‬عن‭ ‬التساقط‭ ‬عليه،‭ ‬ينفتح‭ ‬باب‭ ‬العباسة‭ ‬أمامه‭ ‬أخيرا‭ ‬وهي‭ ‬جالسة‭ ‬في‭ ‬انتظاره،‭ ‬شاحبة‭ ‬قليلا‭ ‬ولكنها‭ ‬تبتسم‭ ‬وعصبة‭ ‬اللؤلؤ‭ ‬تتألق‭ ‬على‭ ‬جبينها،‭ ‬تتراجع‭ ‬الجواري‭ ‬ويغلقن‭ ‬الباب،‭ ‬أخيرا‭ ‬تجمعهما‭ ‬غرفة‭ ‬واحدة،‭ ‬يقبل‭ ‬يديها‭: ‬اشتقت‭ ‬إليك،‭ ‬تتلقى‭ ‬قبلاته‭ ‬في‭ ‬استمتاع‭: ‬الشوق‭ ‬متبادل،‭ ‬كلاهما‭ ‬جائع‭ ‬للآخر،‭ ‬ولكن‭ ‬الأمور‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تمضي‭ ‬بروية‭ ‬كما‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تكون،‭ ‬تقول‭ ‬له‭: ‬أحضرت‭ ‬لك‭ ‬خمرا‭ ‬من‭ ‬كرم‭ ‬شيراز،‭ ‬تعرف‭ ‬أنه‭ ‬شرابه‭ ‬المفضل،‭ ‬تحضر‭ ‬له‭ ‬قارورة‭ ‬وحيدة‭ ‬وكأسا‭ ‬وحيدة،‭ ‬يقول‭: ‬هل‭ ‬شاركتني‭ ‬الشراب؟‭ ‬تمسك‭ ‬بالعود‭ ‬بين‭ ‬أناملها‭: ‬سأكون‭ ‬مغنيتك‭ ‬وأنت‭ ‬نديمي،‭ ‬أغني‭ ‬لك‭ ‬وأنت‭ ‬تنتشي،‭ ‬الآن‭ ‬تستطيع‭ ‬أن‭ ‬تنظر‭ ‬إلي‭ ‬بملء‭ ‬عينيك،‭ ‬تنساب‭ ‬أناملها‭ ‬على‭ ‬الأوتار‭ ‬مثلما‭ ‬تتشرب‭ ‬خلايا‭ ‬جسده‭ ‬خمر‭ ‬شيراز،‭ ‬نشوة‭ ‬مفعمة‭ ‬بالبهجة،‭ ‬تتشكل‭ ‬الحروف‭ ‬في‭ ‬فمها‭ ‬وتكتسب‭ ‬سحر‭ ‬الإيقاع،‭ ‬تتداخل‭ ‬الأنغام‭ ‬مع‭ ‬عبق‭ ‬العطور،‭ ‬يراها‭ ‬وهي‭ ‬عارية‭ ‬تتضوع‭ ‬بين‭ ‬ذراعيه،‭ ‬هذه‭ ‬هي‭ ‬المرأة‭ ‬التي‭ ‬ستغنيه‭ ‬عن‭ ‬بقية‭ ‬النساء،‭ ‬صوتها‭ ‬والخمر‭ ‬سواء،‭ ‬وممارسة‭ ‬الحب‭ ‬معها‭ ‬ستصل‭ ‬به‭ ‬إلى‭  ‬عنان‭ ‬السماء،‭ ‬يسمع‭ ‬ويشرب‭ ‬ولا‭ ‬يتوقف‭ ‬الغناء،‭ ‬حتى‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تصمت‭ ‬وتترك‭ ‬العود‭ ‬من‭ ‬يدها‭ ‬وتحدق‭ ‬في‭ ‬وجهه‭ ‬يستمر‭ ‬الغناء،‭ ‬تبدأ‭ ‬الشموع‭ ‬في‭ ‬الانطفاء،‭ ‬واحدة‭ ‬وراء‭ ‬الأخرى،‭ ‬يتبدد‭ ‬العطر‭ ‬ويستمر‭ ‬الغناء‭ ‬حتى‭ ‬يسود‭ ‬الظلام،‭ ‬ظلام‭ ‬كثيف،‭ ‬طبقاته‭ ‬بلا‭ ‬نهاية،‭ ‬يجوس‭ ‬فيه‭ ‬بحثا‭ ‬عن‭ ‬دفء‭ ‬جسدها‭ ‬فلا‭ ‬يجده،‭ ‬عن‭ ‬لمسة‭ ‬من‭ ‬المتعة‭ ‬فلا‭ ‬يجدها،‭ ‬لا‭ ‬يجد‭ ‬سوى‭ ‬ألم‭ ‬قاس‭ ‬ممض‭ ‬يخترق‭ ‬أطرافه،‭ ‬كيف‭ ‬انقلب‭ ‬الحلم‭ ‬إلى‭ ‬كابوس،‭ ‬وأي‭ ‬كابوس‭ ‬هذا‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬ينتهي،‭ ‬ماذا‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬خمر‭ ‬شيراز،‭ ‬وماذا‭ ‬في‭ ‬غنائك‭ ‬أيتها‭ ‬العباسة،‭ ‬مطارق‭ ‬لا‭ ‬تكف‭ ‬عن‭ ‬الدق،‭ ‬وألم‭ ‬يوشك‭ ‬أن‭ ‬يزهق‭ ‬روحي،‭ ‬ومن‭ ‬أين‭ ‬تأتي‭ ‬هذه‭ ‬الحرارة‭ ‬اللاسعة؟‭ ‬يفتح‭ ‬عينيه‭ ‬لعله‭ ‬يرى‭ ‬العالم،‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬ثمة‭ ‬عالم،‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬منفذ‭ ‬من‭ ‬الظلمة،‭ ‬يرفع‭ ‬أجفانه‭ ‬بصعوبة،‭ ‬يرى‭ ‬السماء‭ ‬في‭ ‬لمحة‭ ‬خاطفة،‭ ‬ينحني‭ ‬رأسه‭ ‬متثاقلا‭ ‬فيلمح‭ ‬النهر‭ ‬في‭ ‬الأسفل،‭ ‬انقشعت‭ ‬الظلمة‭ ‬وبقي‭ ‬الكابوس‭ ‬وتواصل‭ ‬الألم،‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يضم‭ ‬ذراعيه،‭ ‬أو‭ ‬يحرك‭ ‬ساقيه،‭ ‬يفتح‭ ‬عينيه‭ ‬للمرة‭ ‬الثانية،‭ ‬يدرك‭ ‬بشكل‭ ‬غائم‭ ‬أين‭ ‬هو‭.. ‬ولماذا‭ ‬يتألم،‭ ‬يصرخ‭ ‬متفجعا،‭ ‬ولكن‭ ‬فمه‭ ‬المليء‭ ‬بالدم،‭ ‬يكتم‭ ‬صرخته،‭ ‬يتقلص‭ ‬جسده‭ ‬منفعلا،‭ ‬فيزداد‭ ‬ألمه‭ ‬ويدرك‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬خلاص،‭ ‬كان‭ ‬مصلوبا،‭ ‬معلقا‭ ‬عند‭ ‬جسر‭ ‬بغداد،‭ ‬وعشرات‭ ‬المارة‭ ‬مثل‭ ‬نقاط‭ ‬سوداء‭ ‬غائمة‭ ‬يتطلعون‭ ‬نحوه،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬كابوسا،‭ ‬كان‭ ‬حقيقة‭ ‬مرة،‭ ‬غدروا‭ ‬به‭ ‬جميعا،‭ ‬الجواري‭ ‬اللاتي‭ ‬استقبلنه،‭ ‬والعباسة‭ ‬التي‭ ‬غنت،‭ ‬والرشيد‭ ‬الذي‭ ‬أحكم‭ ‬الشرك،‭ ‬هل‭ ‬يوجد‭ ‬من‭ ‬ينقذه،‭ ‬إخوته‭ ‬وأبوه،‭ ‬جيشه‭ ‬الذي‭ ‬أعده‭ ‬لهذه‭ ‬اللحظة،‭ ‬الأعوان‭ ‬والشعراء‭ ‬والذين‭ ‬كانوا‭ ‬يلوذون‭ ‬به،‭ ‬أين‭ ‬ذهبوا‭ ‬جميعا،‭ ‬كيف‭ ‬تركوه‭ ‬للصليب،‭ ‬لهذه‭ ‬الدرجة‭ ‬من‭ ‬الضعف‭ ‬والهوان؟‭ ‬جمع‭ ‬في‭ ‬صدره‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬قدر‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬الهواء‭ ‬القادم‭ ‬من‭ ‬النهر،‭ ‬ثم‭ ‬بصق‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬فمه‭ ‬من‭ ‬دم‭ ‬جاف،‭ ‬أخذ‭ ‬يصرخ‭ ‬ويعوي‭ ‬في‭ ‬صوت‭ ‬عال،‭ ‬لعل‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬يجرؤ‭ ‬على‭ ‬إنقاذه؟‭ .