القدماء والمعاصرون في استعمال النون النون الأصليّة أو الـمعاملة معاملة الأصليّة

درج الإعلاميّون والمحلّلون السياسيّون، في أيّامنا، على إلحاق النون بكلّ فعل ومصدر يراد بهما معنى التصيير، مع إلحاق التاء بالمصدر وكأنّه مصدر صناعيّ، لكن في صيغة غير صيغة النسبة اليائيّة؛ فاستعملوا ألفاظ العَلْمَنة (تصيير الدولة مدنيّة لا سلطة لرجال الدين عليها)، والبَلْقَنة (تفتيت أحد البلدان على نمط ما حدث في بلاد البلقان) واللبْنَنة (إدخال بعض البلاد في انقسامات وحروب طائفيّة كالّتي جرت في لبنان) والعَرْقَنة (إدخال بلد ما في شبه التجربة العراقيّة من حيث الصراع المذهبيّ والتقسيم)، وفِعل قَرْصَنَ (بمعنى: سطا على مِلكيّة فكريّة أو فنيّة، ولاسيّما على صفحات الإنترنت). لكن ابن منظور قصر مثل هذا الاشتقاق على الأسماء، نحو: عَلْجَنٍ (سمينة) وخَلْبَنٍ (خرقاء)، ونفاه عن الأفعال لأنّه ليس فيها ما وزنه فَعْلَنَ. وهو يقصد بالأسماء الصفات، على الأرجح.
وقد استقصينا استعمالات هذه الصيغة في المعاجم فوجدنا للنون التي قد توحي الزيادة في آخر الأفعال الرباعيّة، وكذلك في الأسماء والصفات المشابهة لها، ثلاثة أحوال:
أولاها: أن تكون النون أصليّة في آخر الصفة أو الفعل أو المصدر، أو في ما أُخذت هذه منه.
وثانيتها: أن يؤخذ الفعل أو المصدر ممّا آخره نون زائدة.
وثالثتها: أن تلحق النون بما يخلو آخره منها، ولا يكون مأخوذاً ممّا ينتهي بنون زائدة.
وسنقصر مقالتنا هذه على الحالتين الأوليين، على أن نفرد للحالة الثالثة مقالة أخرى.
والحالة الأولى كثيرة العدد ويؤخذ الفعل أو المصدر أو الصفة فيها من كلمات عربيّة أو معرّبة، لكنها تحيّر غالباً بسبب الجهل بأكثر أصولها وعدم التيقّن من أصليّة النون في تلك الأصول أو زيادتها، ولاسيّما أنّ شروح المعاجم مقتضبة في شأنها، نحو: الزَرْبَنة والرَّعْثَنة وبِهْكَنة والكَِرْدَن وشَفْتَنَ وعَرْتَنَ وفَرْجَنَ وبأْذنَ، إلخ، التي يكتفي معجم اللسان، مثلاً، بالإشارة إلى أنّ معانيها على التوالي هي: لحمة...، ووعاء للشرب، وغَضّة، والفأس العظيمة، وجَامَعَ، ودبَغَه بالعرتَن - والعَرْتَنُ ضرب من الشجر - وحسَّ الدابة بالفِرْجَوْن (المِحَسّة)؛ أمّا بَأْذنَ فلا يشرح اللسان معناها بل يجعلها في جملة؛ حتى ليخيّل إلينا أنّ معظم تلك الكلمات نادرة الاستعمال. لكنّ ممّا نونه أصليّة بصورة مؤكّدة الأفعالُ الثنائيّة المكرّرة الملحقة بالرباعيّ، وكذلك مشتقّاتها والمصادر التي من جنسها، نحو: دَنْدَنَ. هذا واشتقاق الأفعال من الأسماء والصفات أمر قياسيّ، ومنه في القديم: شَيْطَنَ وتَشَيْطَنَ (من الشيطان اساطان بالعبريّةب)، وتَفَرْعَنَ فَرْعَنةً (تكبّر)، وعَرْبَنَ (دفع العُرْبون)، ودُهْقِن (جُعِل دِهقاناً) وتَدَهْقَنَ (اتّخذ صفة الدِهْقان)، وبَرْهَنَ، وعَيْدَنَ النخلُ (طال)، وعَرْجَنَ (صبغه بالعُرْجُون)، وإن اختلف اللغويّون في أصليّة النون وزيادتها في هذه الكلمات أيضاً؛ وفي العصر الحديث نجد نحو فعل قَوْنَنَ أو قَنَّنَ (من القانون) وهو شبه عَنْوَنَ وعَنَّنَ (من العنوان)، وسَرْطَنَ (من داء السرطان) ومَكْنَنَ مَكْنَنَة (من الماكينة)، فضلاً عن بعض ما سبق ذكره، نعني البَلْقَنة (من البلقان)، واللبْنَنَة (من لُبنان) والقَرْصَنة (من قرصان)، أي من كلمات غير عربيّة أو دخيلة تنتهي بنون أصليّة.
أما الحالة الثانية فنادرة، وهي تقوم على اعتبار الزائد أو توهّمه أصلاً، ولا نجد إلاّ ثلاثة أمثلة مفترضة على ذلك هي العَشْزَنة والرَّهْبَنة والنَّصْرَنة:
فأمّا العَشْزنة (الخِلاف) فلا فعل لها، لكنّها تبدو مأخوذة من صفة العَشَوْزَن، أي السيئ الخلق، حيث النون زائدة، بدليل أنّها تقال أيضاً بصيغتي العَشْوَز والعَشَوَّز. وأمّا الرَّهْبَنة فيراها ابن منظور مأخوذة من الرَّهبانيّة على تقدير أصليّة النون الزائدة في هذه الكلمة، لكنّ ابن الأثير يرى العكس، ومن الصعب ترجيح أحد الرأيين؛ فمن مصادر فعل رهِبَ الرَّهْب والرَّهْبة، والنسبة إليهما رَهْبيّ أو رَهْبانيّ، واشتقاق الرهْبَنة لا يقتضي سبق كلمة الرهبانيّة، بدليل وجود المصدر عَشْزَنة من غير وجود مصدر عشزانيّة.
وأمّا النصرانيّة فمأخوذة، في رأي سيبويه وغيره، من الصفة نَصْران التي تُجمع على نصارى، مثل حَيْران حيارى، وإن لم تستعمل الكلمة إلاّ منسوبة: نصرانيّ ونصرانيّة؛ وما نَصْرانة الواردة في بعض الشعر بمعنى نصرانيّة إلاّ صيغة اقتضتها الضرورة الشعريّة. أي أنّ النصرانيّة نسبة إلى ما نونه زائدة: نَصْران المشتقّ من فعل نَصَرَ. لكنّ الأصحّ ما قال به ياقوت وبعض اللغويّين، وهو أنّ الكلمة مأخوذة من الناصِرة بلد المسيح؛ ودليلنا على ذلك أنّ الناصريّ في اللغة العبريّة هو ابن الناصرة والنصرانيّ أيضاً؛ والنصرانيّة يقال لها نَصْروت بالعبريّة؛ فالكلمة ذات أصل عبريّ أو آراميّ، وليس في جذرها نون أصليّة ولا زائدة؛ ويبدو أنّ العرب رجعوا إلى لفظ الناصرة العبريّ الذي لا ألِف فيه: نصْرَت، وجعلوا النسبة إليه بالألف والنون والياء بعد حذف التاء: نصرانيّ. لكنّ بعض العامّة في أيامنا يقولون نَصْرنَ، أي نَصّرَ؛ وتَنَصْرَنَ، أي تَنَصَّرَ؛ وكأنّهم يعوّلون على النون الزائدة في نصرانيّ تلك.
وقد استعملت الناس النون الزائدة كالأصليّة بكثرة في العصر الحديث، فقالوا: أَنْسَنَ أَنْسَنةً، أي جعله إنسانيّاً أو على صورة الإنسان، وقالوا: سَلْطَن سَلْطَنة، أي جعله سُلطاناً، وجعلوا السلطنة بمعنى الدولة التي يحكمها سلطان، واستعملوا فعل سَلْطَنَ ومصدرَه في الموسيقى والطرب، فقالوا: سَلْطَنَ عليه اللحنُ، أي تسلّط عليه.
والنتيجة أنّ صوغ الأسماء والصفات والأفعال الرباعيّة من جذر نونيّ الآخِر أو اشتقاقها منه هو الأصل الذي لا خلاف فيه، لكن لا دليل على أخذ الفعل ممّا نون آخره زائدة إلاّ في فعلي نصرنَ وتنصرنَ العاميّين المأخوذين من صفة النصرانيّ، فهما ليسا شاهدين. وكذلك أخْذ المصدر ممّا نونه زائدة، إذ لم نجد ذلك إلاّ في العَشْزَنة المأخوذة من صفة غريبة لا شاهد على استعمالها، وفي الرهبنة المختلَف في أصل نونها.
واللافت أنّ كثيراً من الكلمات التي أُخذت الأفعال الرباعيّة منها أجنبيّة الأصل، ولاسيّما فارسيّة، وتناهز ربع الكلمات الرباعيّة المنتهية بنون، وأنّ عدداً من سائر الكلمات الرباعيّة يوحي كذلك أنه من أصل أجنبي، مثل الزَّرَامِين (الحَلَق)، وزَهْدَنٍ (لئيم)، والبرهان، والفِرْجَوْن، والكَِرْدَن، والكِرْزَن، والكَسْطَن. وهذا قد يجعل نحو نصف الكلمات الرباعيّة المنتهية بنون، أو يجعل أصولها المأخوذة منها أعجميّة أو شبه أعجميّة. فإذا تذكّرنا أن معظم الكلمات الرباعيّة المتبقيّة المنتهية بالنون غريبة ونادرة الاستعمال، استنتجنا أن العرب تميل عن وضع النون في أواخر الكلمات الرباعيّة، ربّما تحاشياً لالتباسها بتنوين الحركات، أو نون التأنيث؛ ومع ذلك أكثر المحدَثون من إلحاق النون بالمصادر والأفعال للتعبير عن التصيير، سواء كانت النون أصليّة أو زائدة .