في المدائح النبوية بين البوصيري والبارودي وشوقي
لم يكن البوصيري يبدع على غير مثال حين أنجز قصيدته «البردة» في مدح الرسول الكريم. ولم يكن مصادفةً أن يختار لها بحر «البسيط» أو قافية «الميم»، وهو يستهل قصيدته بقوله:
أمن تذكّر جيرانٍ بذي سَلَم
أم بارقٌ لاح في الزَّوْراءِ فالعلمِ
أم هبَّت الريحُ من تِلقاءِ كاظمةٍ
وأومض البرقُ في الظلماءِ من إضمِ
ذلك أن المثال كان أمام عينيه وهو يطالع في شعر ابن الفارض قصيدته البديعة التي يقول فيها:
هل نارُ ليلى بدت ليلاً بذي سَلَمِ
أم بارقٌ لاح في الزّوْراءِ فالعَلَمِ
أرواحَ نعْمانَ هلاّ نسمةٌ سَحرًا
وماء وَجْرَةَ هلاَّ نهلةٌ بفمِ
يا سائق الظعن يطوي البيد معتسفًا
طيَّ السجلِّ بذات الشّيحِ من إِضمِ
وهكذا فرضت قصيدة ابن الفارض نَفْسها إيقاعًا وقافية على قصيدة البوصيري أولاً، ثم على قصيدتي البارودي وشوقي من بعده، كما فرضت على كل الشعراء المتابعين مفردات: االبانب واالَعلَمب واذي سَلَمب وفكرة االلائمب الذي يلوم الشاعر العاشق على فرط حبه ووجده وصبابته، فلم يكن ابن الفارض يدري عندما قال:
يا لائما لامني في حُبِّهم سفها
كُفَّ الـمَلام، فلو أحبْبتَ لم تلُمِ
أن البوصيري سيتابعه قائلاً:
يا لائما في الهوى العُذريِّ معذرةً
مني إليكَ، ولو أنصفْتَ لم تلُمِ
ثم سيتابعهما شوقي في قصيدته انهج البردةب وهو يقول:
يا لائمي في هواه، والهوى قدرٌ،
لو شفَّك الوجدُ لم تعذلْ ولم تلمُ
بل إن ابن الفارض حين أتى بصورة الأصَمّ الذي لم يسمع الشكوى والأبكم الذي لا يحُيرُ جوابا والأعمى الذي لم يشاهد حال المشوق قال:
طوْعاً لقاضٍ أتى في حُكمهِ عجبًا
أفتى بسفك دمي في الحِلِّ والحرم
أَصمَّ لم يسمع الشكوى، وأَبْكَمُ لَم
يُحرْ جوابًا وعن حال المشوقِ عمي
فإن البوصيري دار حول هذا المعنى وهو يقول:
عدْتكَ حاليَ لا سرِّي بمستترٍ
عن الوشاةِ، ولا دائي بمُنْحسمِ
محَّضتني النصح، لكن لستُ أسمعهُ
إنَّ المحبَّ عن العذّالِ في صَممِ
ولم يبتعد شوقي عن هذا السياق، وهو يضيف إلى بيته السابق قوله مخاطبًا لائمه في حُبِّه:
لقد أنلْتُكَ أذنًا غير واعيةِ
ورُبَّ مُنتصتٍ والقلبُ في صمم
إذن فقد فتح ابن الفارض الطريق لمن بَعده، ورسم لهم من المعالم والمواطن المتصـــلة بالرسول الكريم ما جعل الشعراء يتغنون بها على سبيل التذكر والشجـــــن والمحبة، فضلا عن الإكبار والإجلال لمن يتجهون إليه بمدائحهم، وهكذا امتدّ ذكر هذه الأماكن في قصائد عشرات الشعراء، واستيقظت - من جديد - في حُميّا هذه النشوة الروحية أسماءُ ذي سلم والعلم ونَعْمان ووجْرة وذات الشيح وإضم والحمى وخميلة الضال وإضم وسَلْع والجزْع والرَّقْمتين والعقيق والخيف والمنحنى، وغيرها من المفردات الدالّة، التي تناثرت في ديوان المدائح النبوية كلّه.
ولا شك في أن البوصـــــيري هو أول من أتاح لهذا النــــهج في صيــــاغة المدحة النــــبوية ذيـــــوعه وانتشاره، وأنه هو الــــذي أغرى متابعيه من الشعراء، بـــــمحاكـــــاته وتقليـــــده. وقد أحصى الدكتور زكي مبارك في كتابه عن المدائح النبوية في الأدب العربيِّ أكثــر من ثلاثين اسمًا لشعراء، اقتربوا من بردة البوصـــيري وشطَّروها وخمَّسوها ونظموا على منوالها.
لكن ذاكرة التاريخ الأدبي لم تحتفظ لنا إلا باسمين اثنين لشاعرين كبيرين هما: البارودي وشوقي. يتجلى البوصيري في قصيدته، وكأنه شيخ بدويّ، ينطق بلغــــة الحجـــــاز ونجـــد، تغمره طاقة روحية كبرى وتعمره نزعة إيمانية مشبوبة ويدفعه حرص شديد على الاقتراب من حمى الرسول الكريمِ وهالة نورانيته، وهو يقول:
محمدٌ سيدُ الكونيْن والثَّقليـْ
نِ، والفريقين من عُرْبٍ ومن عجمِ
نبينا الآمر الناهي فلا أحدٌ
أبرُّ في قول لا منه ولا نَعمِ
هو الحبيبُ الذي تُرجى شفاعتهُ
لكلِّ هولٍ من الأهوالِ مُقْتَحمِ
دعا إلى الله فالمستمسكون بِهِ
مُستمسكون بِحبْلٍ غيرِ مُنفصمِ
فاق النبيِّين في خَلْقٍ وفي خُلقٍ
ولم يدانوه في علمٍ ولا كرمِ
وكلهم من رسول الله مُلتمسٌ
غرْفا من البحر أو رشْفًا من الدِّيمِ
وواقفون لديه عند حدِّهمو
من نُقطة العِلْم أو من شكْلةِ الحِكَمِ
فهو الذي تمَّ معناهُ وصورتُه
ثم اصطفاهُ حبيبًا بارئُ النَّسمِ
مُنزّهٌ عن شريكٍ في محاسنهِ
فجوهرُ الحسْنِ فيه غير مُنقسمِ
وانسُبْ إلى ذاتهِ ما شئْتَ من شرفٍ
وانسُبْ إلى قدْرهِ ما شئتَ من عِظمِ
لو ناسَبَتْ قدْرَهُ آياتهُ عِظمًا
أحيا اسمهُ حين يُدْعَى دارسَ الرِّممِ
لم يمتحنَّا بما تعْيا العقولُ بِه
حرصًا علينا، فلم نَرْتَبْ ولم نَهِمِ
أعيا الورى فهمُ معناهُ، فليس يُرى
في القُربِ والبعدِ فيه غيرُ مُنْفحمِ
كالشمس تظهر للعينيْن من بُعدٍ
صغيرةً، وتُكلُّ الطرف من أَمَمِ
وكيف يدرك في الدنيا حقيقتهُ
قومٌ نيامٌ تسلَّوْا عنه بالحُلُمِ
فمبلغُ العلمِ فيه أنَّهُ بَشرٌ
وأنه خيرُ خلْقِ اللهِ كُلِّهمِ
فإنه شمسُ فضلٍ هم كواكبُها
يُظهرْنَ أنوارها للناسِ في الظُّلَمِ
أكرمْ بِخَلْق نبيٍّ زاَنهُ خُلُقٌ
بالحسن مُشتملٍ، بالبِشْرِ مُتّسمِ
كالزهر في ترفٍ والبدر في شرفٍ
والبحر في كرمٍ، والدهرِ في هِمَمِ
كأنه وهو فردٌ من جلالتهِ
في عسكرٍ حينِ تلقاهُ وفي حَشَمِ
كأنما اللؤلؤ المكنونُ في صَدفٍ
من معدنيْ منطقٍ منه ومُبْتَسم
لا طيبَ يعدلُ تُرْبًا ضمَّ أعُظمَهُ
طوبى لمنتشقٍ منه ومُلْتثمِ
وصولاً إلى حديث البوصيري عن آيات ممدوحه ومعجزاته، متوقّفًا عند آية الآيات وهي القرآن الكريم، وكاشفًا عن إيمانه بأن هذه المعجزة قد فاقت في روعتها وبيانها وقَدْرها وتأثيرها معجزاتِ كلِّ النبيِّين، وأن ما تضمَّنته من عجائب لا يُعدُّ ولا يُحْصى ولا يُسأمُ ولا يُمَلُّ. يقول البوصيري:
دعْنىِ ووصفيَ آياتٍ له ظَهرتْ
ظهور نار القِرى ليلاً على عَلَمِ
فالدرُّ يزداد حُسْنًا وهو منتظمٌ
وليس ينقصُ قدرًا غير مُنتظمِ
فما تطاوُلُ آمالِ المديحِ إلى
ما فيه من كرمِ الأخلاقِ والشِّيم
آياتُ حقٍّ من الرحمن مُحدثةٌ
قديمةٌ صفةُ الموصوفِ بالقِدمِ
لم تقترنْ بزمانٍ وهي تُخبرنا
عن المعاد وعن عادٍ وعن إرمِ
دامت لديْنا ففاقتْ كلَّ مُعجزةٍ
من النبيِّينَ إذ جاءتْ ولم تدُمِ
مُحكَماتٌ، فما تُبقين من شُبَهٍ
لدى شِقاقٍ، وما تبغين من حَكَمِ
ما حُوربتْ قطُّ إلا عاد من حَربٍ
أعدى الأعادي إليها مُلقيَ السَّلَمِ
ردّت بلاغتها دعوى مُعارضِها
ردَّ الغيور يدَ الجاني عن الحُرَمِ
لها معانٍ كموج البحر في مَددٍ
وفوق جوهرهِ في الحسْنِ والقيمِ
فلا تُعدُّ ولا تُحصى عجائبُها
ولا تسامُ على الإكثارِ بالسَّأمِ
لا تعْجَبنْ لحسودٍ راح يُنكرها
تجاهُلاً، وهو عينُ الحاذقِ الفَهمِ
قد تُنكر العينُ ضوءَ الشمسِ من رمدٍ
ويُنكر الفمُ طعْمَ الماء من سقمِ
***
لم يُتح لمدحة البارودي من الشهرة وذيوع الصيت ما أتيح لبردة البوصيري ونهج البردة لشوقي، كما لم يُتح لأبياتها من التردُّد على الألسنة والأقلام ما أتيح لأبيات المدحتين الأخرييْن. وفي مقدمتها يقول البارودي: اهذه قصيدة ضمّنتها سيرة النبي (صلى الله عليه وسلم) من حين مولده الكريم إلى يوم انتقاله إلى جوار ربه، وقد بَنيْتها على سيرة ابن هشام وسمَّيْتُها اكشف الغُمَّة في مدح سيد الأمةب ورغبتي إلى الله أن تكون لي ذريعةً أَمُتُّ بها يوم المعاد (أي وسيلة أتوسل بها يوم القيامة)، وسُلَّمًا إلى النجاة من هول المحشر، اللهم فحقِّقْ رغبتي إليكْ، واكْسُها بفضلك رونق القبول، آمينب.
ومدحة البارودي هي أطول مدحــة في ديوان المدائح النبوية، تقع في أربع مئة وسبعة وأربعين بيتًا، وقد نظمها وهو في منفاه بسيلان (الآن تسمّى سريلانكا) وقد ألـمّت به أحداث أليمة، ونزلت به مصائب فاجعة، فانصرف - كما يقول ناشرو القصيدة والشارحون لها - إلى الحضرة النبوية، ليعالج نفسه المتألمة، ويواسي قلبه المفجوع، مستعينًا بما في تاريخ الرسول الكريم - على مدار حياته - من مواقف وصعاب، فهو بهذا التاريخ يأتسي ويقتدي حين يقول:
تكاءدتني خطوبٌ لو رميْتُ بها
مناكب الأرضِ لم تثبت على قَدمِ
في بلدة مثل جوف العير، لستُ أرى
فيها سوى أُممٍ تحنو على صَنمِ
لا أستقرُّ بها إلا على قلقٍ
ولا ألذُّ بها إلا على ألمٍ
إذا تلفّتُّ حولي لم أجد أثرًا
إلا خيالي، ولم أسمع سوى كلمي
فمن يردُّ على نفسي لُبانَتها
أو من يُجيرُ فؤادي من يد السَّقمِ
ليت القطا حين سارت غدوةً حَملتْ
عني رسائل أشواقي إلى إِضمِ
لقد نظمها في سيلان في ظروف نفسية صعبة، فهو غريب عن الأهل والوطن والأحباب، مُنتزع من مجده وتاريخه ومنزلته التي حازها في بلده، بعد أن أصبح مجرد أسير منفيٍّ، وقصيدته أيضًا غريبة لأنها عربية في قومٍ لا يحسنون العربية:
فهاكها يا رسول الله زاهرةً
تُهدي إلى النفس ريَّا الآسِ والبَرمِ
وسمْتُها باسمكَ الغالي، فألبسها
ثوبًا من الفخر لا يبلى على القدمِ
غريبةٌ في إسار البيْن لو أَنِسَتْ
بنظرةٍ منك لاستغنت عن النَّسَم
ويبدو أن استعارة البارودي لكثير من ألفاظه وأساليبه من معجمات الشعراء الأقدمين وقواميسهم اللغوية - نتيجة لكثرة محفوظه الشعري وولعه بمحاكاتهم ومعارضتهم - هو الذي جعل شعره في هذه القصيدة بعيدًا عن الدوران والذيوع، مقارنة بشاعر آخر مثل شوقي، كان أكثر حرصًا على كيمياء شعره ومائيته لغةً وتعابير وصورًا ومجازات، الأمر الذي جعله قريبًا من ذوق الناس في الاستشهاد والاستئناس بالمأثور من الشعر. ويعلن البارودي في صراحة كاشفة:
تابعتُ كعبًا وحسّانا ولي بهما
في القول أُسْوةُ برٍّ غير مُتَّهَمِ
ثمّ يقدم هذه الصورة الوصفية لممدوحه سيد الرسل:
محمّد خاتم الرُّسْلِ الذي خضعتْ
له البريةُ من عُرْبٍ ومن عَجَمِ
سمير وحيٍ، ومَجْنى حكمةٍ، وندى
سماحةٍ، وقِرى عافٍ، وريُّ ظمِي
قد أبلغَ الوحيُ عنهُ قَبْلَ بَعْثَتهِ
مسامعَ الرُّسْلِ قولاً غير مُنْكتمِ
فذاك دعوةُ إبراهيمَ خالقَهُ
وسرُّ ما قاله عيسى من القِدمِ
أكرمْ به وبآباءٍ مُحجَّلةٍ
جاءت به غُرّةً في الأعصرِ الدُّهُمِ
قد كان في ملكوت الله مُدَّخرًا
لدعوةٍ كان فيها صاحبَ العَلَمِ
نور تنقَّلَ في الأكوان ساطعهُ
تنقُّلَ البدر من صُلبٍ إلى رَحمِ
حتى استقرَّ بعبدالله فانبلجتْ
أنوارُ غُرَّتهِ كالبدْرِ في البُهمِ
واختار آمنة العذراءَ صاحبةً
لفضلها بين أهلِ الحلِّ والحَرمِ
كلاهما في العلا كُفْءٌ لصاحبهِ
والكفءُ في المجد لا يُسْتامُ بالقيمِ
فأصبحت عنده في بيت مكرُمةٍ
شيدت دعائمهُ في منصبٍ سَنِمِ
***
ونصل إلى شوقي، شاعر العصر الحديث، الذي يقول ديوانه إنه أنشأ قصيدته معارضة لقصيدة البردة للإمام البوصيري، لكن شوقي - في حقيقة الأمر - لم يكن يعارض البوصيري وحده، فقد كانت أمامه أيضًا قصيدة البارودي، وبالتالي فإن معارضة شوقي كانت في حَقيقتها معارضة لكل من سبقوه إلى المديح النبوي، وفي المقدمة منهم أكثرهم شهرة وذيوع صيت وهو البوصيري. ويبدع شوقي وهو يقدم لنا هذه الصورة الشعرية البديعة لشخصية ممدوحه: سيد الخلق وأمير الأنبياء كما سمّاه، حين يقول:
إن جلّ ذنبي عن الغفران، لي أملٌ
في الله يجعلني في خير مُعتَصمِ
أُلقِي رجائي، إذا عزَّ المجيرُ، على
مُفرّج الكرْبِ في الدارين، والغُمم
إذا خفضْتُ جناح الذلِّ أسألهُ
عزَّ الشفاعة لم أسألْ سوى أَمَمِ
وإن تقدّمَ ذو تقوى بصالحةٍ
قدَّمتُ بين يديه عَبْرةَ النَّدَمِ
لزمتُ باب أمير الأنبياءِ، ومَنْ
يُمسكْ بمفتاحَ باب الله يَغْتنمِ
فكلُّ فضلٍ، وإحسانٍ، وعارفةٍ
ما بين مُسْتلَمٍ منه ومُلْتزَمِ
علِقْتُ من مدحه حبْلاً أَعِزُّ به
في يومِ لا عزَّ بالأنسابِ واللُّحَمِ
يُزْري قريضي زُهيْرًا حين أمدحُه
ولا يقاسُ إلى جودي ندى هَرِم
محمدٌ صفوةُ الباري، ورحمتهُ
وبُغْيةُ الله من خلْقٍ ومن نَسمِ
وصاحبُ الحوض يَوْمَ الرُّسْلُ سائلةٌ
متى الورودُ؟ وجبريل الأمينُ ظمي
سناؤه وسناهُ الشمسُ طالعةً
فالجِرْمُ في فَلكٍ، والضوءُ في عَلمِ
نمُوا إليه، فزادوا في الورى شرفًا
ورُبَّ أصلٍ لِفرْعٍ في الفخارِ نُمي
حواهُ في سُبُحاتِ الطهرِ قبلهمو
نورانِ قاما مَقامَ الصُّلْبِ والرَّحمِ
لما رآه بحيرا قال: نعرفهُ
بما حفِظْنا من الأسماءِ والسِّيَمِ
سائلْ حِراءَ وروح القُدْسِ، هل علما
مصون سرًّ عن الإدراك منكتم
كم جيئة وذهابٍ شُرّفت بهما
بطحاءُ مكةَ في الإصباحِ والغَسَم
وصولاً إلى قوله:
ونُوديَ: اقرأ، تعالى الله قائلُها
لم تتّصل قبل من قيلتْ له بفمِ
هناك أُذِّن للرحمن، فامتلأَتْ
أسماعُ مكة من قُدْسيَّة النَّغمِ
وهكذا يتيح لنا جمال العربية في المدائح النبوية لهؤلاء الشعراء الثلاثة: البوصيري والبارودي وشوقي، رؤية مقارنة لإبداع كل منهم في رسم صورة شعرية للرسول الكريم ، واختيار الجوانب التي يركّز عليها في صورته المتوهّجة بإعجاب الشاعر ومحبته وإجلاله. ومقارنة بين الأساليب الشعرية الثلاثة، التي حملت قسمات من قصيدة ابن الفارض تسللت إلى قصيدة البوصيري، ووهجًا من شعر الأعلام القدامى انتقل إلى قصيدة البارودي، وروحًا عصْرية تموج به قصيدة شوقي تعبيرًا عن لغة تنزع إلى الجديد وتحْتفي بخصوصية صاحبها وحرصه على التفرُّد والاختلاف.
لقد كشفت كلُّ قصيدة من القصائد الثلاث، عن الحاجة الروحية التي حرَّكت شاعرها إلى لزوم باب أمير الأنبياء - بتعبير شوقي - أملاً في رحمة أو نظرة أو شفاعة، تحقِّق لصاحبها فيض رضًا ويقين إيمان، ومزيدًا من الاعتزاز بشاعرية استطاعت أن تشارك في الزحام أمام الحوض المورود.
ذلك أن اجمال العربيةب يتحقق بالتنوُّع والاختلاف، ويَغْنى بالتَّكامل والائتلاف، بقدر ما يحمل الإبداع من تعدُّد، ويغامر بين شواطئ بلا ضفاف .