في المدائح النبوية بين البوصيري والبارودي وشوقي

في المدائح النبوية بين البوصيري والبارودي وشوقي

لم‭ ‬يكن‭ ‬البوصيري‭ ‬يبدع‭ ‬على‭ ‬غير‭ ‬مثال‭ ‬حين‭ ‬أنجز‭ ‬قصيدته‭ ‬‮«‬البردة‮»‬‭ ‬في‭ ‬مدح‭ ‬الرسول‭ ‬الكريم‭. ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬مصادفةً‭ ‬أن‭ ‬يختار‭ ‬لها‭ ‬بحر‭ ‬‮«‬البسيط‮»‬‭ ‬أو‭ ‬قافية‭ ‬‮«‬الميم‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬يستهل‭ ‬قصيدته‭ ‬بقوله‭:‬

أمن‭ ‬تذكّر‭ ‬جيرانٍ‭ ‬بذي‭ ‬سَلَم

أم‭ ‬بارقٌ‭ ‬لاح‭ ‬في‭ ‬الزَّوْراءِ‭ ‬فالعلمِ

أم‭ ‬هبَّت‭ ‬الريحُ‭ ‬من‭ ‬تِلقاءِ‭ ‬كاظمةٍ

وأومض‭ ‬البرقُ‭ ‬في‭ ‬الظلماءِ‭ ‬من‭ ‬إضمِ

ذلك‭ ‬أن‭ ‬المثال‭ ‬كان‭ ‬أمام‭ ‬عينيه‭ ‬وهو‭ ‬يطالع‭ ‬في‭ ‬شعر‭ ‬ابن‭ ‬الفارض‭ ‬قصيدته‭ ‬البديعة‭ ‬التي‭ ‬يقول‭ ‬فيها‭:‬

هل‭ ‬نارُ‭ ‬ليلى‭ ‬بدت‭ ‬ليلاً‭ ‬بذي‭ ‬سَلَمِ

أم‭ ‬بارقٌ‭ ‬لاح‭ ‬في‭ ‬الزّوْراءِ‭ ‬فالعَلَمِ

أرواحَ‭ ‬نعْمانَ‭ ‬هلاّ‭ ‬نسمةٌ‭ ‬سَحرًا

وماء‭ ‬وَجْرَةَ‭ ‬هلاَّ‭ ‬نهلةٌ‭ ‬بفمِ

يا‭ ‬سائق‭ ‬الظعن‭ ‬يطوي‭ ‬البيد‭ ‬معتسفًا

طيَّ‭ ‬السجلِّ‭ ‬بذات‭ ‬الشّيحِ‭ ‬من‭ ‬إِضمِ

وهكذا‭ ‬فرضت‭ ‬قصيدة‭ ‬ابن‭ ‬الفارض‭ ‬نَفْسها‭ ‬إيقاعًا‭ ‬وقافية‭ ‬على‭ ‬قصيدة‭ ‬البوصيري‭ ‬أولاً،‭ ‬ثم‭ ‬على‭ ‬قصيدتي‭ ‬البارودي‭ ‬وشوقي‭ ‬من‭ ‬بعده،‭ ‬كما‭ ‬فرضت‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬الشعراء‭ ‬المتابعين‭ ‬مفردات‭: ‬االبانب‭ ‬واالَعلَمب‭ ‬واذي‭ ‬سَلَمب‭ ‬وفكرة‭ ‬االلائمب‭ ‬الذي‭ ‬يلوم‭ ‬الشاعر‭ ‬العاشق‭ ‬على‭ ‬فرط‭ ‬حبه‭ ‬ووجده‭ ‬وصبابته،‭ ‬فلم‭ ‬يكن‭ ‬ابن‭ ‬الفارض‭ ‬يدري‭ ‬عندما‭ ‬قال‭: ‬

يا‭ ‬لائما‭ ‬لامني‭ ‬في‭ ‬حُبِّهم‭ ‬سفها

كُفَّ‭ ‬الـمَلام،‭ ‬فلو‭ ‬أحبْبتَ‭ ‬لم‭ ‬تلُمِ

أن‭ ‬البوصيري‭ ‬سيتابعه‭ ‬قائلاً‭:‬

يا‭ ‬لائما‭ ‬في‭ ‬الهوى‭ ‬العُذريِّ‭ ‬معذرةً

مني‭ ‬إليكَ،‭ ‬ولو‭ ‬أنصفْتَ‭ ‬لم‭ ‬تلُمِ

ثم‭ ‬سيتابعهما‭ ‬شوقي‭ ‬في‭ ‬قصيدته‭ ‬انهج‭ ‬البردةب‭ ‬وهو‭ ‬يقول‭:‬

يا‭ ‬لائمي‭ ‬في‭ ‬هواه،‭ ‬والهوى‭ ‬قدرٌ،

لو‭ ‬شفَّك‭ ‬الوجدُ‭ ‬لم‭ ‬تعذلْ‭ ‬ولم‭ ‬تلمُ

بل‭ ‬إن‭ ‬ابن‭ ‬الفارض‭ ‬حين‭ ‬أتى‭ ‬بصورة‭ ‬الأصَمّ‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يسمع‭ ‬الشكوى‭ ‬والأبكم‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يحُيرُ‭ ‬جوابا‭ ‬والأعمى‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يشاهد‭ ‬حال‭ ‬المشوق‭ ‬قال‭:‬

طوْعاً‭ ‬لقاضٍ‭ ‬أتى‭ ‬في‭ ‬حُكمهِ‭ ‬عجبًا

أفتى‭ ‬بسفك‭ ‬دمي‭ ‬في‭ ‬الحِلِّ‭ ‬والحرم

أَصمَّ‭ ‬لم‭ ‬يسمع‭ ‬الشكوى،‭ ‬وأَبْكَمُ‭ ‬لَم

يُحرْ‭ ‬جوابًا‭ ‬وعن‭ ‬حال‭ ‬المشوقِ‭ ‬عمي

فإن‭ ‬البوصيري‭ ‬دار‭ ‬حول‭ ‬هذا‭ ‬المعنى‭ ‬وهو‭ ‬يقول‭: ‬

عدْتكَ‭ ‬حاليَ‭ ‬لا‭ ‬سرِّي‭ ‬بمستترٍ

عن‭ ‬الوشاةِ،‭ ‬ولا‭ ‬دائي‭ ‬بمُنْحسمِ

محَّضتني‭ ‬النصح،‭ ‬لكن‭ ‬لستُ‭ ‬أسمعهُ

إنَّ‭ ‬المحبَّ‭ ‬عن‭ ‬العذّالِ‭ ‬في‭ ‬صَممِ

ولم‭ ‬يبتعد‭ ‬شوقي‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬السياق،‭ ‬وهو‭ ‬يضيف‭ ‬إلى‭ ‬بيته‭ ‬السابق‭ ‬قوله‭ ‬مخاطبًا‭ ‬لائمه‭ ‬في‭ ‬حُبِّه‭:‬

لقد‭ ‬أنلْتُكَ‭ ‬أذنًا‭ ‬غير‭ ‬واعيةِ

ورُبَّ‭ ‬مُنتصتٍ‭ ‬والقلبُ‭ ‬في‭ ‬صمم

إذن‭ ‬فقد‭ ‬فتح‭ ‬ابن‭ ‬الفارض‭ ‬الطريق‭ ‬لمن‭ ‬بَعده،‭ ‬ورسم‭ ‬لهم‭ ‬من‭ ‬المعالم‭ ‬والمواطن‭ ‬المتصـــلة‭ ‬بالرسول‭ ‬الكريم‭ ‬ما‭ ‬جعل‭ ‬الشعراء‭ ‬يتغنون‭ ‬بها‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬التذكر‭ ‬والشجـــــن‭ ‬والمحبة،‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬الإكبار‭ ‬والإجلال‭ ‬لمن‭ ‬يتجهون‭ ‬إليه‭ ‬بمدائحهم،‭ ‬وهكذا‭ ‬امتدّ‭ ‬ذكر‭ ‬هذه‭ ‬الأماكن‭ ‬في‭ ‬قصائد‭ ‬عشرات‭ ‬الشعراء،‭ ‬واستيقظت‭ - ‬من‭ ‬جديد‭ - ‬في‭ ‬حُميّا‭ ‬هذه‭ ‬النشوة‭ ‬الروحية‭ ‬أسماءُ‭ ‬ذي‭ ‬سلم‭ ‬والعلم‭ ‬ونَعْمان‭ ‬ووجْرة‭ ‬وذات‭ ‬الشيح‭ ‬وإضم‭ ‬والحمى‭ ‬وخميلة‭ ‬الضال‭ ‬وإضم‭ ‬وسَلْع‭ ‬والجزْع‭ ‬والرَّقْمتين‭ ‬والعقيق‭ ‬والخيف‭ ‬والمنحنى،‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬المفردات‭ ‬الدالّة،‭ ‬التي‭ ‬تناثرت‭ ‬في‭ ‬ديوان‭ ‬المدائح‭ ‬النبوية‭ ‬كلّه‭.‬

ولا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬البوصـــــيري‭ ‬هو‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬أتاح‭ ‬لهذا‭ ‬النــــهج‭ ‬في‭ ‬صيــــاغة‭ ‬المدحة‭ ‬النــــبوية‭ ‬ذيـــــوعه‭ ‬وانتشاره،‭ ‬وأنه‭ ‬هو‭ ‬الــــذي‭ ‬أغرى‭ ‬متابعيه‭ ‬من‭ ‬الشعراء،‭ ‬بـــــمحاكـــــاته‭ ‬وتقليـــــده‭. ‬وقد‭ ‬أحصى‭ ‬الدكتور‭ ‬زكي‭ ‬مبارك‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬عن‭ ‬المدائح‭ ‬النبوية‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬العربيِّ‭ ‬أكثــر‭ ‬من‭ ‬ثلاثين‭ ‬اسمًا‭ ‬لشعراء،‭ ‬اقتربوا‭ ‬من‭ ‬بردة‭ ‬البوصـــيري‭ ‬وشطَّروها‭ ‬وخمَّسوها‭ ‬ونظموا‭ ‬على‭ ‬منوالها‭. ‬

لكن‭ ‬ذاكرة‭ ‬التاريخ‭ ‬الأدبي‭ ‬لم‭ ‬تحتفظ‭ ‬لنا‭ ‬إلا‭ ‬باسمين‭ ‬اثنين‭ ‬لشاعرين‭ ‬كبيرين‭ ‬هما‭: ‬البارودي‭ ‬وشوقي‭. ‬يتجلى‭ ‬البوصيري‭ ‬في‭ ‬قصيدته،‭ ‬وكأنه‭ ‬شيخ‭ ‬بدويّ،‭ ‬ينطق‭ ‬بلغــــة‭ ‬الحجـــــاز‭ ‬ونجـــد،‭ ‬تغمره‭ ‬طاقة‭ ‬روحية‭ ‬كبرى‭ ‬وتعمره‭ ‬نزعة‭ ‬إيمانية‭ ‬مشبوبة‭ ‬ويدفعه‭ ‬حرص‭ ‬شديد‭ ‬على‭ ‬الاقتراب‭ ‬من‭ ‬حمى‭ ‬الرسول‭ ‬الكريمِ‭ ‬وهالة‭ ‬نورانيته،‭ ‬وهو‭ ‬يقول‭:‬

محمدٌ‭ ‬سيدُ‭ ‬الكونيْن‭ ‬والثَّقليـْ

نِ،‭ ‬والفريقين‭ ‬من‭ ‬عُرْبٍ‭ ‬ومن‭ ‬عجمِ

نبينا‭ ‬الآمر‭ ‬الناهي‭ ‬فلا‭ ‬أحدٌ

أبرُّ‭ ‬في‭ ‬قول‭ ‬لا‭ ‬منه‭ ‬ولا‭ ‬نَعمِ

هو‭ ‬الحبيبُ‭ ‬الذي‭ ‬تُرجى‭ ‬شفاعتهُ

لكلِّ‭ ‬هولٍ‭ ‬من‭ ‬الأهوالِ‭ ‬مُقْتَحمِ

دعا‭ ‬إلى‭ ‬الله‭ ‬فالمستمسكون‭ ‬بِهِ

مُستمسكون‭ ‬بِحبْلٍ‭ ‬غيرِ‭ ‬مُنفصمِ

فاق‭ ‬النبيِّين‭ ‬في‭ ‬خَلْقٍ‭ ‬وفي‭ ‬خُلقٍ

ولم‭ ‬يدانوه‭ ‬في‭ ‬علمٍ‭ ‬ولا‭ ‬كرمِ

وكلهم‭ ‬من‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ ‬مُلتمسٌ

غرْفا‭ ‬من‭ ‬البحر‭ ‬أو‭ ‬رشْفًا‭ ‬من‭ ‬الدِّيمِ

وواقفون‭ ‬لديه‭ ‬عند‭ ‬حدِّهمو

من‭ ‬نُقطة‭ ‬العِلْم‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬شكْلةِ‭ ‬الحِكَمِ

فهو‭ ‬الذي‭ ‬تمَّ‭ ‬معناهُ‭ ‬وصورتُه

ثم‭ ‬اصطفاهُ‭ ‬حبيبًا‭ ‬بارئُ‭ ‬النَّسمِ

مُنزّهٌ‭ ‬عن‭ ‬شريكٍ‭ ‬في‭ ‬محاسنهِ

فجوهرُ‭ ‬الحسْنِ‭ ‬فيه‭ ‬غير‭ ‬مُنقسمِ

وانسُبْ‭ ‬إلى‭ ‬ذاتهِ‭ ‬ما‭ ‬شئْتَ‭ ‬من‭ ‬شرفٍ

وانسُبْ‭ ‬إلى‭ ‬قدْرهِ‭ ‬ما‭ ‬شئتَ‭ ‬من‭ ‬عِظمِ

لو‭ ‬ناسَبَتْ‭ ‬قدْرَهُ‭ ‬آياتهُ‭ ‬عِظمًا

أحيا‭ ‬اسمهُ‭ ‬حين‭ ‬يُدْعَى‭ ‬دارسَ‭ ‬الرِّممِ

لم‭ ‬يمتحنَّا‭ ‬بما‭ ‬تعْيا‭ ‬العقولُ‭ ‬بِه

حرصًا‭ ‬علينا،‭ ‬فلم‭ ‬نَرْتَبْ‭ ‬ولم‭ ‬نَهِمِ

أعيا‭ ‬الورى‭ ‬فهمُ‭ ‬معناهُ،‭ ‬فليس‭ ‬يُرى

في‭ ‬القُربِ‭ ‬والبعدِ‭ ‬فيه‭ ‬غيرُ‭ ‬مُنْفحمِ

كالشمس‭ ‬تظهر‭ ‬للعينيْن‭ ‬من‭ ‬بُعدٍ

صغيرةً،‭ ‬وتُكلُّ‭ ‬الطرف‭ ‬من‭ ‬أَمَمِ

وكيف‭ ‬يدرك‭ ‬في‭ ‬الدنيا‭ ‬حقيقتهُ

قومٌ‭ ‬نيامٌ‭ ‬تسلَّوْا‭ ‬عنه‭ ‬بالحُلُمِ

فمبلغُ‭ ‬العلمِ‭ ‬فيه‭ ‬أنَّهُ‭ ‬بَشرٌ

وأنه‭ ‬خيرُ‭ ‬خلْقِ‭ ‬اللهِ‭ ‬كُلِّهمِ

فإنه‭ ‬شمسُ‭ ‬فضلٍ‭ ‬هم‭ ‬كواكبُها

يُظهرْنَ‭ ‬أنوارها‭ ‬للناسِ‭ ‬في‭ ‬الظُّلَمِ

أكرمْ‭ ‬بِخَلْق‭ ‬نبيٍّ‭ ‬زاَنهُ‭ ‬خُلُقٌ

بالحسن‭ ‬مُشتملٍ،‭ ‬بالبِشْرِ‭ ‬مُتّسمِ

كالزهر‭ ‬في‭ ‬ترفٍ‭ ‬والبدر‭ ‬في‭ ‬شرفٍ

والبحر‭ ‬في‭ ‬كرمٍ،‭ ‬والدهرِ‭ ‬في‭ ‬هِمَمِ

كأنه‭ ‬وهو‭ ‬فردٌ‭ ‬من‭ ‬جلالتهِ

في‭ ‬عسكرٍ‭ ‬حينِ‭ ‬تلقاهُ‭ ‬وفي‭ ‬حَشَمِ

كأنما‭ ‬اللؤلؤ‭ ‬المكنونُ‭ ‬في‭ ‬صَدفٍ

من‭ ‬معدنيْ‭ ‬منطقٍ‭ ‬منه‭ ‬ومُبْتَسم

لا‭ ‬طيبَ‭ ‬يعدلُ‭ ‬تُرْبًا‭ ‬ضمَّ‭ ‬أعُظمَهُ

طوبى‭ ‬لمنتشقٍ‭ ‬منه‭ ‬ومُلْتثمِ

وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬حديث‭ ‬البوصيري‭ ‬عن‭ ‬آيات‭ ‬ممدوحه‭ ‬ومعجزاته،‭ ‬متوقّفًا‭ ‬عند‭ ‬آية‭ ‬الآيات‭ ‬وهي‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم،‭ ‬وكاشفًا‭ ‬عن‭ ‬إيمانه‭ ‬بأن‭ ‬هذه‭ ‬المعجزة‭ ‬قد‭ ‬فاقت‭ ‬في‭ ‬روعتها‭ ‬وبيانها‭ ‬وقَدْرها‭ ‬وتأثيرها‭ ‬معجزاتِ‭ ‬كلِّ‭ ‬النبيِّين،‭ ‬وأن‭ ‬ما‭ ‬تضمَّنته‭ ‬من‭ ‬عجائب‭ ‬لا‭ ‬يُعدُّ‭ ‬ولا‭ ‬يُحْصى‭ ‬ولا‭ ‬يُسأمُ‭ ‬ولا‭ ‬يُمَلُّ‭. ‬يقول‭ ‬البوصيري‭:‬

دعْنىِ‭ ‬ووصفيَ‭ ‬آياتٍ‭ ‬له‭ ‬ظَهرتْ

ظهور‭ ‬نار‭ ‬القِرى‭ ‬ليلاً‭ ‬على‭ ‬عَلَمِ

فالدرُّ‭ ‬يزداد‭ ‬حُسْنًا‭ ‬وهو‭ ‬منتظمٌ

وليس‭ ‬ينقصُ‭ ‬قدرًا‭ ‬غير‭ ‬مُنتظمِ

فما‭ ‬تطاوُلُ‭ ‬آمالِ‭ ‬المديحِ‭ ‬إلى

ما‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬كرمِ‭ ‬الأخلاقِ‭ ‬والشِّيم

آياتُ‭ ‬حقٍّ‭ ‬من‭ ‬الرحمن‭ ‬مُحدثةٌ

قديمةٌ‭ ‬صفةُ‭ ‬الموصوفِ‭ ‬بالقِدمِ

لم‭ ‬تقترنْ‭ ‬بزمانٍ‭ ‬وهي‭ ‬تُخبرنا

عن‭ ‬المعاد‭ ‬وعن‭ ‬عادٍ‭ ‬وعن‭ ‬إرمِ

دامت‭ ‬لديْنا‭ ‬ففاقتْ‭ ‬كلَّ‭ ‬مُعجزةٍ

من‭ ‬النبيِّينَ‭ ‬إذ‭ ‬جاءتْ‭ ‬ولم‭ ‬تدُمِ

مُحكَماتٌ،‭ ‬فما‭ ‬تُبقين‭ ‬من‭ ‬شُبَهٍ

لدى‭ ‬شِقاقٍ،‭ ‬وما‭ ‬تبغين‭ ‬من‭ ‬حَكَمِ

ما‭ ‬حُوربتْ‭ ‬قطُّ‭ ‬إلا‭ ‬عاد‭ ‬من‭ ‬حَربٍ

أعدى‭ ‬الأعادي‭ ‬إليها‭ ‬مُلقيَ‭ ‬السَّلَمِ

ردّت‭ ‬بلاغتها‭ ‬دعوى‭ ‬مُعارضِها

ردَّ‭ ‬الغيور‭ ‬يدَ‭ ‬الجاني‭ ‬عن‭ ‬الحُرَمِ‭ ‬

لها‭ ‬معانٍ‭ ‬كموج‭ ‬البحر‭ ‬في‭ ‬مَددٍ

وفوق‭ ‬جوهرهِ‭ ‬في‭ ‬الحسْنِ‭ ‬والقيمِ

فلا‭ ‬تُعدُّ‭ ‬ولا‭ ‬تُحصى‭ ‬عجائبُها

ولا‭ ‬تسامُ‭ ‬على‭ ‬الإكثارِ‭ ‬بالسَّأمِ

لا‭ ‬تعْجَبنْ‭ ‬لحسودٍ‭ ‬راح‭ ‬يُنكرها

تجاهُلاً،‭ ‬وهو‭ ‬عينُ‭ ‬الحاذقِ‭ ‬الفَهمِ

قد‭ ‬تُنكر‭ ‬العينُ‭ ‬ضوءَ‭ ‬الشمسِ‭ ‬من‭ ‬رمدٍ

ويُنكر‭ ‬الفمُ‭ ‬طعْمَ‭ ‬الماء‭ ‬من‭ ‬سقمِ

‭***‬

لم‭ ‬يُتح‭ ‬لمدحة‭ ‬البارودي‭ ‬من‭ ‬الشهرة‭ ‬وذيوع‭ ‬الصيت‭ ‬ما‭ ‬أتيح‭ ‬لبردة‭ ‬البوصيري‭ ‬ونهج‭ ‬البردة‭ ‬لشوقي،‭ ‬كما‭ ‬لم‭ ‬يُتح‭ ‬لأبياتها‭ ‬من‭ ‬التردُّد‭ ‬على‭ ‬الألسنة‭ ‬والأقلام‭ ‬ما‭ ‬أتيح‭ ‬لأبيات‭ ‬المدحتين‭ ‬الأخرييْن‭. ‬وفي‭ ‬مقدمتها‭ ‬يقول‭ ‬البارودي‭: ‬اهذه‭ ‬قصيدة‭ ‬ضمّنتها‭ ‬سيرة‭ ‬النبي‭ (‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭) ‬من‭ ‬حين‭ ‬مولده‭ ‬الكريم‭ ‬إلى‭ ‬يوم‭ ‬انتقاله‭ ‬إلى‭ ‬جوار‭ ‬ربه،‭ ‬وقد‭ ‬بَنيْتها‭ ‬على‭ ‬سيرة‭ ‬ابن‭ ‬هشام‭ ‬وسمَّيْتُها‭ ‬اكشف‭ ‬الغُمَّة‭ ‬في‭ ‬مدح‭ ‬سيد‭ ‬الأمةب‭ ‬ورغبتي‭ ‬إلى‭ ‬الله‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬لي‭ ‬ذريعةً‭ ‬أَمُتُّ‭ ‬بها‭ ‬يوم‭ ‬المعاد‭ (‬أي‭ ‬وسيلة‭ ‬أتوسل‭ ‬بها‭ ‬يوم‭ ‬القيامة‭)‬،‭ ‬وسُلَّمًا‭ ‬إلى‭ ‬النجاة‭ ‬من‭ ‬هول‭ ‬المحشر،‭ ‬اللهم‭ ‬فحقِّقْ‭ ‬رغبتي‭ ‬إليكْ،‭ ‬واكْسُها‭ ‬بفضلك‭ ‬رونق‭ ‬القبول،‭ ‬آمينب‭.‬

ومدحة‭ ‬البارودي‭ ‬هي‭ ‬أطول‭ ‬مدحــة‭ ‬في‭ ‬ديوان‭ ‬المدائح‭ ‬النبوية،‭ ‬تقع‭ ‬في‭ ‬أربع‭ ‬مئة‭ ‬وسبعة‭ ‬وأربعين‭ ‬بيتًا،‭ ‬وقد‭ ‬نظمها‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬منفاه‭ ‬بسيلان‭ (‬الآن‭ ‬تسمّى‭ ‬سريلانكا‭) ‬وقد‭ ‬ألـمّت‭ ‬به‭ ‬أحداث‭ ‬أليمة،‭ ‬ونزلت‭ ‬به‭ ‬مصائب‭ ‬فاجعة،‭ ‬فانصرف‭ - ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬ناشرو‭ ‬القصيدة‭ ‬والشارحون‭ ‬لها‭ - ‬إلى‭ ‬الحضرة‭ ‬النبوية،‭ ‬ليعالج‭ ‬نفسه‭ ‬المتألمة،‭ ‬ويواسي‭ ‬قلبه‭ ‬المفجوع،‭ ‬مستعينًا‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الرسول‭ ‬الكريم‭ - ‬على‭ ‬مدار‭ ‬حياته‭ - ‬من‭ ‬مواقف‭ ‬وصعاب،‭ ‬فهو‭ ‬بهذا‭ ‬التاريخ‭ ‬يأتسي‭ ‬ويقتدي‭ ‬حين‭ ‬يقول‭: 

تكاءدتني‭ ‬خطوبٌ‭ ‬لو‭ ‬رميْتُ‭ ‬بها

مناكب‭ ‬الأرضِ‭ ‬لم‭ ‬تثبت‭ ‬على‭ ‬قَدمِ

في‭ ‬بلدة‭ ‬مثل‭ ‬جوف‭ ‬العير،‭ ‬لستُ‭ ‬أرى

فيها‭ ‬سوى‭ ‬أُممٍ‭ ‬تحنو‭ ‬على‭ ‬صَنمِ

لا‭ ‬أستقرُّ‭ ‬بها‭ ‬إلا‭ ‬على‭ ‬قلقٍ

ولا‭ ‬ألذُّ‭ ‬بها‭ ‬إلا‭ ‬على‭ ‬ألمٍ

إذا‭ ‬تلفّتُّ‭ ‬حولي‭ ‬لم‭ ‬أجد‭ ‬أثرًا

إلا‭ ‬خيالي،‭ ‬ولم‭ ‬أسمع‭ ‬سوى‭ ‬كلمي

فمن‭ ‬يردُّ‭ ‬على‭ ‬نفسي‭ ‬لُبانَتها

أو‭ ‬من‭ ‬يُجيرُ‭ ‬فؤادي‭ ‬من‭ ‬يد‭ ‬السَّقمِ

ليت‭ ‬القطا‭ ‬حين‭ ‬سارت‭ ‬غدوةً‭ ‬حَملتْ

عني‭ ‬رسائل‭ ‬أشواقي‭ ‬إلى‭ ‬إِضمِ

لقد‭ ‬نظمها‭ ‬في‭ ‬سيلان‭ ‬في‭ ‬ظروف‭ ‬نفسية‭ ‬صعبة،‭ ‬فهو‭ ‬غريب‭ ‬عن‭ ‬الأهل‭ ‬والوطن‭ ‬والأحباب،‭ ‬مُنتزع‭ ‬من‭ ‬مجده‭ ‬وتاريخه‭ ‬ومنزلته‭ ‬التي‭ ‬حازها‭ ‬في‭ ‬بلده،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أصبح‭ ‬مجرد‭ ‬أسير‭ ‬منفيٍّ،‭ ‬وقصيدته‭ ‬أيضًا‭ ‬غريبة‭ ‬لأنها‭ ‬عربية‭ ‬في‭ ‬قومٍ‭ ‬لا‭ ‬يحسنون‭ ‬العربية‭:‬

فهاكها‭ ‬يا‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ ‬زاهرةً

تُهدي‭ ‬إلى‭ ‬النفس‭ ‬ريَّا‭ ‬الآسِ‭ ‬والبَرمِ

وسمْتُها‭ ‬باسمكَ‭ ‬الغالي،‭ ‬فألبسها

ثوبًا‭ ‬من‭ ‬الفخر‭ ‬لا‭ ‬يبلى‭ ‬على‭ ‬القدمِ

غريبةٌ‭ ‬في‭ ‬إسار‭ ‬البيْن‭ ‬لو‭ ‬أَنِسَتْ

بنظرةٍ‭ ‬منك‭ ‬لاستغنت‭ ‬عن‭ ‬النَّسَم

ويبدو‭ ‬أن‭ ‬استعارة‭ ‬البارودي‭ ‬لكثير‭ ‬من‭ ‬ألفاظه‭ ‬وأساليبه‭ ‬من‭ ‬معجمات‭ ‬الشعراء‭ ‬الأقدمين‭ ‬وقواميسهم‭ ‬اللغوية‭ - ‬نتيجة‭ ‬لكثرة‭ ‬محفوظه‭ ‬الشعري‭ ‬وولعه‭ ‬بمحاكاتهم‭ ‬ومعارضتهم‭ - ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬جعل‭ ‬شعره‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬الدوران‭ ‬والذيوع،‭ ‬مقارنة‭ ‬بشاعر‭ ‬آخر‭ ‬مثل‭ ‬شوقي،‭ ‬كان‭ ‬أكثر‭ ‬حرصًا‭ ‬على‭ ‬كيمياء‭ ‬شعره‭ ‬ومائيته‭ ‬لغةً‭ ‬وتعابير‭ ‬وصورًا‭ ‬ومجازات،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬جعله‭ ‬قريبًا‭ ‬من‭ ‬ذوق‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬الاستشهاد‭ ‬والاستئناس‭ ‬بالمأثور‭ ‬من‭ ‬الشعر‭. ‬ويعلن‭ ‬البارودي‭ ‬في‭ ‬صراحة‭ ‬كاشفة‭:‬

تابعتُ‭ ‬كعبًا‭ ‬وحسّانا‭ ‬ولي‭ ‬بهما

في‭ ‬القول‭ ‬أُسْوةُ‭ ‬برٍّ‭ ‬غير‭ ‬مُتَّهَمِ

ثمّ‭ ‬يقدم‭ ‬هذه‭ ‬الصورة‭ ‬الوصفية‭ ‬لممدوحه‭ ‬سيد‭ ‬الرسل‭:‬

محمّد‭ ‬خاتم‭ ‬الرُّسْلِ‭ ‬الذي‭ ‬خضعتْ

له‭ ‬البريةُ‭ ‬من‭ ‬عُرْبٍ‭ ‬ومن‭ ‬عَجَمِ

سمير‭ ‬وحيٍ،‭ ‬ومَجْنى‭ ‬حكمةٍ،‭ ‬وندى

سماحةٍ،‭ ‬وقِرى‭ ‬عافٍ،‭ ‬وريُّ‭ ‬ظمِي

قد‭ ‬أبلغَ‭ ‬الوحيُ‭ ‬عنهُ‭ ‬قَبْلَ‭ ‬بَعْثَتهِ

مسامعَ‭ ‬الرُّسْلِ‭ ‬قولاً‭ ‬غير‭ ‬مُنْكتمِ

فذاك‭ ‬دعوةُ‭ ‬إبراهيمَ‭ ‬خالقَهُ

وسرُّ‭ ‬ما‭ ‬قاله‭ ‬عيسى‭ ‬من‭ ‬القِدمِ‭ ‬

أكرمْ‭ ‬به‭ ‬وبآباءٍ‭ ‬مُحجَّلةٍ‭ ‬

جاءت‭ ‬به‭ ‬غُرّةً‭ ‬في‭ ‬الأعصرِ‭ ‬الدُّهُمِ

قد‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬ملكوت‭ ‬الله‭ ‬مُدَّخرًا

لدعوةٍ‭ ‬كان‭ ‬فيها‭ ‬صاحبَ‭ ‬العَلَمِ

نور‭ ‬تنقَّلَ‭ ‬في‭ ‬الأكوان‭ ‬ساطعهُ

تنقُّلَ‭ ‬البدر‭ ‬من‭ ‬صُلبٍ‭ ‬إلى‭ ‬رَحمِ

حتى‭ ‬استقرَّ‭ ‬بعبدالله‭ ‬فانبلجتْ

أنوارُ‭ ‬غُرَّتهِ‭ ‬كالبدْرِ‭ ‬في‭ ‬البُهمِ

واختار‭ ‬آمنة‭ ‬العذراءَ‭ ‬صاحبةً

لفضلها‭ ‬بين‭ ‬أهلِ‭ ‬الحلِّ‭ ‬والحَرمِ

كلاهما‭ ‬في‭ ‬العلا‭ ‬كُفْءٌ‭ ‬لصاحبهِ

والكفءُ‭ ‬في‭ ‬المجد‭ ‬لا‭ ‬يُسْتامُ‭ ‬بالقيمِ

فأصبحت‭ ‬عنده‭ ‬في‭ ‬بيت‭ ‬مكرُمةٍ

شيدت‭ ‬دعائمهُ‭ ‬في‭ ‬منصبٍ‭ ‬سَنِمِ

‭***‬

ونصل‭ ‬إلى‭ ‬شوقي،‭ ‬شاعر‭ ‬العصر‭ ‬الحديث،‭ ‬الذي‭ ‬يقول‭ ‬ديوانه‭ ‬إنه‭ ‬أنشأ‭ ‬قصيدته‭ ‬معارضة‭ ‬لقصيدة‭ ‬البردة‭ ‬للإمام‭ ‬البوصيري،‭ ‬لكن‭ ‬شوقي‭ - ‬في‭ ‬حقيقة‭ ‬الأمر‭ - ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يعارض‭ ‬البوصيري‭ ‬وحده،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬أمامه‭ ‬أيضًا‭ ‬قصيدة‭ ‬البارودي،‭ ‬وبالتالي‭ ‬فإن‭ ‬معارضة‭ ‬شوقي‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬حَقيقتها‭ ‬معارضة‭ ‬لكل‭ ‬من‭ ‬سبقوه‭ ‬إلى‭ ‬المديح‭ ‬النبوي،‭ ‬وفي‭ ‬المقدمة‭ ‬منهم‭ ‬أكثرهم‭ ‬شهرة‭ ‬وذيوع‭ ‬صيت‭ ‬وهو‭ ‬البوصيري‭. ‬ويبدع‭ ‬شوقي‭ ‬وهو‭ ‬يقدم‭ ‬لنا‭ ‬هذه‭ ‬الصورة‭ ‬الشعرية‭ ‬البديعة‭ ‬لشخصية‭ ‬ممدوحه‭: ‬سيد‭ ‬الخلق‭ ‬وأمير‭ ‬الأنبياء‭ ‬كما‭ ‬سمّاه،‭ ‬حين‭ ‬يقول‭: ‬

إن‭ ‬جلّ‭ ‬ذنبي‭ ‬عن‭ ‬الغفران،‭ ‬لي‭ ‬أملٌ

في‭ ‬الله‭ ‬يجعلني‭ ‬في‭ ‬خير‭ ‬مُعتَصمِ

أُلقِي‭ ‬رجائي،‭ ‬إذا‭ ‬عزَّ‭ ‬المجيرُ،‭ ‬على

مُفرّج‭ ‬الكرْبِ‭ ‬في‭ ‬الدارين،‭ ‬والغُمم

إذا‭ ‬خفضْتُ‭ ‬جناح‭ ‬الذلِّ‭ ‬أسألهُ

عزَّ‭ ‬الشفاعة‭ ‬لم‭ ‬أسألْ‭ ‬سوى‭ ‬أَمَمِ

وإن‭ ‬تقدّمَ‭ ‬ذو‭ ‬تقوى‭ ‬بصالحةٍ

قدَّمتُ‭ ‬بين‭ ‬يديه‭ ‬عَبْرةَ‭ ‬النَّدَمِ

لزمتُ‭ ‬باب‭ ‬أمير‭ ‬الأنبياءِ،‭ ‬ومَنْ

يُمسكْ‭ ‬بمفتاحَ‭ ‬باب‭ ‬الله‭ ‬يَغْتنمِ

فكلُّ‭ ‬فضلٍ،‭ ‬وإحسانٍ،‭ ‬وعارفةٍ

ما‭ ‬بين‭ ‬مُسْتلَمٍ‭ ‬منه‭ ‬ومُلْتزَمِ

علِقْتُ‭ ‬من‭ ‬مدحه‭ ‬حبْلاً‭ ‬أَعِزُّ‭ ‬به

في‭ ‬يومِ‭ ‬لا‭ ‬عزَّ‭ ‬بالأنسابِ‭ ‬واللُّحَمِ

يُزْري‭ ‬قريضي‭ ‬زُهيْرًا‭ ‬حين‭ ‬أمدحُه

ولا‭ ‬يقاسُ‭ ‬إلى‭ ‬جودي‭ ‬ندى‭ ‬هَرِم

محمدٌ‭ ‬صفوةُ‭ ‬الباري،‭ ‬ورحمتهُ

وبُغْيةُ‭ ‬الله‭ ‬من‭ ‬خلْقٍ‭ ‬ومن‭ ‬نَسمِ

وصاحبُ‭ ‬الحوض‭ ‬يَوْمَ‭ ‬الرُّسْلُ‭ ‬سائلةٌ‭ ‬

متى‭ ‬الورودُ؟‭ ‬وجبريل‭ ‬الأمينُ‭ ‬ظمي‭ ‬

سناؤه‭ ‬وسناهُ‭ ‬الشمسُ‭ ‬طالعةً

فالجِرْمُ‭ ‬في‭ ‬فَلكٍ،‭ ‬والضوءُ‭ ‬في‭ ‬عَلمِ

نمُوا‭ ‬إليه،‭ ‬فزادوا‭ ‬في‭ ‬الورى‭ ‬شرفًا

ورُبَّ‭ ‬أصلٍ‭ ‬لِفرْعٍ‭ ‬في‭ ‬الفخارِ‭ ‬نُمي

حواهُ‭ ‬في‭ ‬سُبُحاتِ‭ ‬الطهرِ‭ ‬قبلهمو

نورانِ‭ ‬قاما‭ ‬مَقامَ‭ ‬الصُّلْبِ‭ ‬والرَّحمِ

لما‭ ‬رآه‭ ‬بحيرا‭ ‬قال‭: ‬نعرفهُ

بما‭ ‬حفِظْنا‭ ‬من‭ ‬الأسماءِ‭ ‬والسِّيَمِ

سائلْ‭ ‬حِراءَ‭ ‬وروح‭ ‬القُدْسِ،‭ ‬هل‭ ‬علما

مصون‭ ‬سرًّ‭ ‬عن‭ ‬الإدراك‭ ‬منكتم

كم‭ ‬جيئة‭ ‬وذهابٍ‭ ‬شُرّفت‭ ‬بهما

بطحاءُ‭ ‬مكةَ‭ ‬في‭ ‬الإصباحِ‭ ‬والغَسَم

وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬قوله‭:‬

ونُوديَ‭: ‬اقرأ،‭ ‬تعالى‭ ‬الله‭ ‬قائلُها

لم‭ ‬تتّصل‭ ‬قبل‭ ‬من‭ ‬قيلتْ‭ ‬له‭ ‬بفمِ

هناك‭ ‬أُذِّن‭ ‬للرحمن،‭ ‬فامتلأَتْ

أسماعُ‭ ‬مكة‭ ‬من‭ ‬قُدْسيَّة‭ ‬النَّغمِ

وهكذا‭ ‬يتيح‭ ‬لنا‭ ‬جمال‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬المدائح‭ ‬النبوية‭ ‬لهؤلاء‭ ‬الشعراء‭ ‬الثلاثة‭: ‬البوصيري‭ ‬والبارودي‭ ‬وشوقي،‭ ‬رؤية‭ ‬مقارنة‭ ‬لإبداع‭ ‬كل‭ ‬منهم‭ ‬في‭ ‬رسم‭ ‬صورة‭ ‬شعرية‭ ‬للرسول‭ ‬الكريم‭ ‬،‭ ‬واختيار‭ ‬الجوانب‭ ‬التي‭ ‬يركّز‭ ‬عليها‭ ‬في‭ ‬صورته‭ ‬المتوهّجة‭ ‬بإعجاب‭ ‬الشاعر‭ ‬ومحبته‭ ‬وإجلاله‭. ‬ومقارنة‭ ‬بين‭ ‬الأساليب‭ ‬الشعرية‭ ‬الثلاثة،‭ ‬التي‭ ‬حملت‭ ‬قسمات‭ ‬من‭ ‬قصيدة‭ ‬ابن‭ ‬الفارض‭ ‬تسللت‭ ‬إلى‭ ‬قصيدة‭ ‬البوصيري،‭ ‬ووهجًا‭ ‬من‭ ‬شعر‭ ‬الأعلام‭ ‬القدامى‭ ‬انتقل‭ ‬إلى‭ ‬قصيدة‭ ‬البارودي،‭ ‬وروحًا‭ ‬عصْرية‭ ‬تموج‭ ‬به‭ ‬قصيدة‭ ‬شوقي‭ ‬تعبيرًا‭ ‬عن‭ ‬لغة‭ ‬تنزع‭ ‬إلى‭ ‬الجديد‭ ‬وتحْتفي‭ ‬بخصوصية‭ ‬صاحبها‭ ‬وحرصه‭ ‬على‭ ‬التفرُّد‭ ‬والاختلاف‭.‬

لقد‭ ‬كشفت‭ ‬كلُّ‭ ‬قصيدة‭ ‬من‭ ‬القصائد‭ ‬الثلاث،‭ ‬عن‭ ‬الحاجة‭ ‬الروحية‭ ‬التي‭ ‬حرَّكت‭ ‬شاعرها‭ ‬إلى‭ ‬لزوم‭ ‬باب‭ ‬أمير‭ ‬الأنبياء‭ - ‬بتعبير‭ ‬شوقي‭ - ‬أملاً‭ ‬في‭ ‬رحمة‭ ‬أو‭ ‬نظرة‭ ‬أو‭ ‬شفاعة،‭ ‬تحقِّق‭ ‬لصاحبها‭ ‬فيض‭ ‬رضًا‭ ‬ويقين‭ ‬إيمان،‭ ‬ومزيدًا‭ ‬من‭ ‬الاعتزاز‭ ‬بشاعرية‭ ‬استطاعت‭ ‬أن‭ ‬تشارك‭ ‬في‭ ‬الزحام‭ ‬أمام‭ ‬الحوض‭ ‬المورود‭.‬

ذلك‭ ‬أن‭ ‬اجمال‭ ‬العربيةب‭ ‬يتحقق‭ ‬بالتنوُّع‭ ‬والاختلاف،‭ ‬ويَغْنى‭ ‬بالتَّكامل‭ ‬والائتلاف،‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬يحمل‭ ‬الإبداع‭ ‬من‭ ‬تعدُّد،‭ ‬ويغامر‭ ‬بين‭ ‬شواطئ‭ ‬بلا‭ ‬ضفاف‭ .