غزة أريحا أولا: ربما يتوقف القتـال.. ولكن هل ينتهي الصراع؟ أمين هويدي

غزة أريحا أولا: ربما يتوقف القتـال.. ولكن هل ينتهي الصراع؟

إنها خطوة صعبة في طريق صعب، هذه هي اتفاقية "غزة- أريحا" التي أريد بها أن يحُل واحد من أصعب الصراعات البشرية وأشدها مرارة، فهل يمكن أن تمثل هذه الاتفاقية خطوة حقيقية على طريق الحل؟.

في يوم 13 سبتمبر 1993 تم الاتفاق بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل على اتفاق مبادىء تجري على أساسه مباحثات الحل السلمي لإنهاء الصراع بينهما، وكان الطرفان قد وقعا في يوم 9 سبتمبر 1993 خطابين للاعتراف المتبادل بينهما، فقد وجه ياسر عرفات خطابا إلى إسحاق رابين بصفته "السيد رئيس الوزراء"، ووجه إسحاق رابين رده إلى ياسر عرفات بصفته " السيد الرئيس" وقد تم التوقيع في الحديقة الجنوبية للبيت الأبيض في واشنطن على نفس المائدة التي وقع عليها الرئيس أنور السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلى مناحيم بيغن على اتفاقية إطار السلام للشرق الأوسط يوم 17 سبتمبر 1978 أي منذ 15 عاما وبضعة أيام، وحرص الجانب الأمريكي على حفظ المائدة بعد ذلك في مخازن البيت الأبيض لاستخدامها في توقيعات أخرى منتظرة أو ربما لمآرب أخرى كعصا سيدنا موسى عليه السلام.

والاتفاقية تاريخية بكل معاني الكلمة، لأنها خلقت موقفا جديدا على المسرح السياسي للمنطقة إذ إنها أنهت استخدام القتال بين الطرفين للحصول على الأغراض السياسية لها وإن لم تنه الصراع. وسواء وافق البعض على الاتفاق أو اعترض عليه البعض فإنه من المحتم على الجميع التعامل مع الواقع، الذي جسده كل بطريقته الخاصة، فلم يعد كافيا قول "نعم" أو "لا" فإن هذا لا يبني فوق ما تم أو يصلح ما أفسد.

الصراع والقتال

الصراع CONFLICT في مفهومنا هو تصادم إرادات وقوى خصمين أو أكثر، حيث يكون هدف كل طرف من الأطراف تليين إرادة الطرف الآخر لإنهاء الصراع بما يحقق الأغراض الرئيسية للأطراف المتصارعة.

ولم يكن هذا المفهوم المعتدل للصراع هو السائد من قبل، فقد كان كل طرف يحاول تحطيم الطرف الآخر وليس تليينه بحيث ينتهي الصراع بتحقيق الأغراض الكافية تبعا لما كتبه فون كلاوزويتز في كتابه "في الحرب On War" ، فقد كانت إسرائيل تسعى لتحقيق "إسرائيل الكبرى" عن طريق تدمير الإرادة الأخرى وكانت تطلق تبعا لذلك اسم "يهودا والسامرا" على الضفة الغربية، ولا تعترف بمنظمة التحرير الفلسطينية، بل كانت تعتبرها منظمة إرهابية محرم على الإسرائيليين الاتصال بها بموجب القانون، وكانت لا تقبل الحوار على مشكلة القدس، بل وكانت ترفض الحوار على أساس قاعدة الأرض مقابل السلام، فكان إسحاق شامير يريد حوارا على أساس "السلام مقابل السلام " فما استولوا عليه بالقوة هو غنيمة حرب لا يجوز ردها، فالأرض لها مفهوم ديني تاريخي ولا يجوز التنازل عنها بموجب ما ورد فى التوراة "فكل أرض يصل إليها الإسرائيليون ملك لهم وحدودهم السياسية يحددها المدى الذي تصل إليه قوة الدفاع الإسرائيلية تزاحال" وهي بذلك حق تاريخي كان ملكا للأجداد ولا يجوز ترتيبا على ذلك للأحفاد أن يفرطوا فيه، علاوة على أن إسرائيل كانت تؤمن أن القوة العسكرية هي الوسيلة الوحيدة لممارسة السياسة، فهي دولة زرعت فى أرض عليها شعب وليس كما خيل لتيودور هيرتزل "أنهم ذاهبون إلى أرض بلا شعب" فالقوة هي الدرع الوحيد الذي يحمي البلاد.

والفلسطينيون بدورهم، بل والعرب جميعا من المحيط إلى الخليج، لا يعترفون بهذه الدولة الدخيلة التي أسست نفسها على أرض الأجداد وشعبها "ملموم" من كل أنحاء الدنيا، وبذلك فهي دولة لا يحق لها البقاء ولهذا كان الصراع هو صراع وجود لا حدود، فالدولة الدخيلة لا يعترف بها حتى ضمن قرار التقسيم، والشعب يجب أن يعيش في "الجيتو" في ظل المقاطعة والحرب، والجهود كلها تحشد لإزالة الدولة، ففلسطين كلها للعرب فالتاريخ يؤيد ذلك وإن كان الأمر الواقع المفروض بالقوة يخالفه.

فالإرادات المتصارعة كانت تسعى إلى تحقيق المطلق، كل إرادة تريد أن تلغي الأخرى وتحطمها، ولكن هذا ضد الطبيعة. فالإرادات لا تلغى ولا تتلاشى، قد تتقوقع أو تكمن نتيجة للهزيمة أو الخوف أو اليأس، ولكن كل هذه الظواهر مؤقتة، فالخوف رذيلة مؤقتة تزول بزوال الظروف التي فرضته وكذلك الحال مع العوامل الضاغطة الأخرى التي تخلق إرادات "كامنة" ما تبث أن تنطلق من جديد حينما تزول أو تتآكل هذه الضغوط، فالدولة كائن حى تخلق وتبنى ومعها إرادتها.

تؤكد هذه الظاهرة الحروب المتوالية التي خاضها العرب من قبل 1948 وأثناءها وفي حرب 1967 والاستنزاف وحرب رمضان وحروب لبنان إلى حروب الانتفاضة، فقد أثبتت هذه الحروب وإن كانت هزائم متتابعة للعرب:

  • أن الرفض مستمر وبعزيمة لرفض الأمر الواقع. وأن الهزيمة في جولة لا تمنع من الاستعداد لجولة تالية.
  • وأن الإرادة ربما تتقوقع حتى يظن أنها تلاشست في وقت ما، ولكنها ما تلبث أن تنطلق وبعناد من جديد.
  • وأن القتال وحده لا يمكن أن يزيل أسباب الصراع.
  • وأن الانتصار الكاملى لتحقيق الأغراض الإسرائيلية الكاملة مجرد وهم.
  • وأن نهاية الصراع أو بمعنى أدق تطويقه لابد أن. يتمثل في موقف بين الهزيمة والانتصار، أي بحلول وسط كل يأخذ ويعطي بأن تتنازل الأطراف عن أغراضها الكاملة إلى مستوى الأغراض الناقصة.
  • وأن القتال ليس هو الأداة الوحيدة للصراع بل توجد المعركة جنبا إلى جنب مع وسائل سياسية واقتصادية ومعنوية أخرى لا بد من توظيفها للوصول بالإرادات الغامضة إلى نقطة اتفاق على أغراض ناقصة.

وفي هذه النتائج المنطقية أبلغ رد على الأقلام التي تنتقد الوقفة التي وقفها عبدالناصر في مواجهة إسرائيل، والتي- كانت وما زالت- تنادي بأنه كان على مصر أن تنغلق على نفسها ولا تتصدى للخطر القابع على حدودها الشرقية، فبدون هذه الحروب المتتالية لكنا الآن أمام إسرائيل الكبرى التي كانت تنادي بها الصهيونية بالأقوال والأفعال ولم تتراجع عن ترديدها الا أخيرا ولكن ربما إلى حين، ولا بد أن نضع هذه النتائج في إطار القواعد التي شكلها النظام العالمي المراوغ الذي نعيش في ظله والذي عبر عنه الرئيس ريتشارد نيكسون بواقعية شديدة في كتابه "1999" والذي نصه "يعيش العالم في ظل سلام واقعي Real Peace يتعايش فيه مع تناقضاته ويحاول حلها بوسائل الصراع المختلفة عدا استخدام القوة المسلحة، لأن العيش في ظل سلام كامل Perfect peace تختفي فيه الخلافات والتناقضات هو مجرد وهم".

في ظل هذه الوقائع تركت أطراف الصراع نزعة التطرف التي دار الصراع في ظلها عشرات السنين، وبدأت تتجه إلى نزعة أكثر اعتدالا بالتراجع عن الأغراض المطلقة من جانب وبالرغبة في العزوف عن استخدام القتال كوسيلة رئيسية من جانب آخر وبمعنى أدق فحينما أجبرت المقاومة العربية إسرائيل على التراجع عن أهدافها لتحقيق إسرائيل الكبرى. وحينما أجبرت القوة الإسرائيلية والتوازنات الدولية والإقليمية العرب على القبول بوجود إسرائيل في المنطقة عن طريق الرضا بفلسطين الصغرى حدث الاختراق Break Through على مائدة المفاوضات وبالقنوات السرية لصياغة الواقع الجديد في اتفاقيات تعبر عن توازن قوى الموقعين عليها وليس توازن المصالح بينهما.

ضعف القوة وقوة الضعف

The Inpotence of Power and Power of Onpotence هذا المبدأ المهم من مبادىء الصراع له جذوره التاريخية التي تنعكس على النظام العالمي المعاصر، فالقوة وحدها - القوة العسكرية- ليست هى الضمان الأوحد لفرض الأغراض السياسية الجامحة،وإن كانت عاملا مهما في إدارة الصراع، فالاتحاد السوفييتي مثلا والذي كان يمتلك ثاني قوة نووية في العالم وأكبر قوة تقليدية في الكوكب الذي نعيش عليه تحلل كدولة وانهزم كعقيدة في ظل قوته الحربية الفائقة حتى بدون قتال، وألمانيا النازية والتي فرضت إرادتها عن طريق آلتها الحربية الجبارة في الحرب العالمية الثانية على كل أوربا سقطت في النهاية ووقعت على معاهدة ريمز Rheims عام 1945 مستسلمة للحلفاء، وإسرائيل التي احتلت بالقوة سيناء عام 1956 اضطرت للانسحاب منها عام 1957، وإسرائيل أيضا التي احتلت بالقوة سيناء عام 1967 مرة أخرى اضطرت للانسحاب منها عام 1982 تنفيذا لاتفاقية كامب ديفيد عام 1979. وهذه الأمثلة كلها تؤكد ضعف القوة إن استخدمت كوسيلة وحيدة لحسم الصراع.

إذن فالصراع لا يدور باستخدام القوة وحدها وإلا انتهى إلى الفشل، فلابد له أن يدور باستخدام القدرة التي هي عبارة عن مجموع قوى الدولة في المجالات العسكرية والسياسية والاقتصادية والمعنوية. وترتيبا على ذلك فإسرائيل لا تتحمل هزيمة واحدة لأنها تفتقر إلى عناصر القدرة عدا عنصر القوة العسكـرية التي تعتمد على الولايات المتحدة في توفيرها، أما العرب فقد تمكنوا من تحمل هزائم متعددة يستأنفون بعدها الاستعداد لنزال جديد لامتلاكهم عناصر القدرة التي أثبتت أهميتها في إمكان استمرار الصراع لفترة طويلة حتى في ظل تفتتهم وخلافاتهم، بما أقنع الجانب الآخر بأن يستبدل باستراتيجية التطرف استراتيجية الاعتدال، إذ ظهر ألا نهاية لهذا الصراع الذي استمر مائة عام!!.

وهناك عنصر آخر دخل في مجال حسابات القوى، وهو القدرة على ضرب العمق، فكانت إسرائيل حريصة دائما على حماية عمقها ولذلك فقد شكلت دفاعاتها على هيئة "القنفذ"، أشواكه وهي المستعمرات المسلحة في الخارج تحمي العمق "اللين أو الطري" في الداخل، وكذا بنقل المعركة إلى خارج أراضيها، وهذا تطلب منها قوة جوية قادرة تشكل لها ذراعا طويلة قادرة على ضرب أي غرض في الساحة العربية والقيام بالضربات الوقائية عند استشعارها الخطر، ولكن دخول الصواريخ العربية كأداة من أدوات الصراع جعل القدرة على الاختراق في حالة تعادل Parity فركزت إسرائيل على الصواريخ المضادة للصواريخ "الصاروخ آرو Arrow والصاروخ باتريوت Patriot" كنوع من أسلحة الاعتراض. ولكن كل هذا لم يجد إذ حدثت "الفرقعة" في العمق نفسه بدخول معركة "الحجارة" وانتهى الموقف بأنه إذا كان العمق العربي مهددا بالأسلحة الإسرائيلية فإن العمق الإسرائيلي أصبح مهددا بدوره بالأسلحة العربية والحجارة الفلسطينية، وتضاءلت أهمية اكتساب الأراضي كعامل يحقق الأمن وإن زادت أهمية اللجوء إلى المناطق المنزوعة السلاح أو التي توضع تحت إشراف القوات الدولية أو القوات المتعددة الجنسيات للتقليل من تأثير زيادة مدى الأسلحة التقليدية من جانب وزيادة مدة الإنذار من جانب آخر.

توقف القتال ليس معناه نهاية الصراع

انتقلت الاتفاقيات الحالية بالمنطقة من مرحلة الصراع بالقتال إلى مرحلة الصراع بوسائل أخرى، فالصراع هو سمة من سمات الكائنات الحية في سبيل البقاء والارتقاء لأن المصالح متضاربة والحقوق ما زالت غائبة، فنحن في أول الطريق الشاق الطويل، فقد أصبح للفلسطينيين مجرد "رأس جسر" صغير على أرضهم وأصبح لهم مجرد "شقه" في عمارة صاحبها "إسرائيلي" وحارسها "إسرائيلي" وفي جيبهم وعود غامضة عن قضايا مصيرية ليس عليها اتفاق محدد، فالذي يقول إن إسرائيل لم تعط شيئا محددا قد يكون على حق، والذي يقول إن الفلسطينيين حصلوا على أشياء ليست بالهينة على حق أيضا، فالأمر إذن غامض والغموض في الاتفاقيات الأولية هو الدافع لاستمرار الحوار حولها لأنه يجبر الأطراف على استمرار اللقاء والحوار. وفي هذا الصدد كتب "أبا إيبان" مقالا جيدا بعنوانا "ال The" مشيرا إلى قرار مجلس الأمن 242 والذي يتحدث عن "أراض" و "الأراضى" فهذا التضارب كان مقصودا به "الغموض الذي يحث الأطراف على الحوار المتبادل لإجلائه وتوضيحه".

إذن القتال هو جزء من الصراع ومجرد أداة واحدة من أدواته المتعددة، والقوة هنا لم يبطل مفعولها تماما فإنها تتفاعل وهي في حالة سكون Static بدلا من حالة الحركة Dynamic بمعنى أن الصراع يستمر دون الاستخدام الفعلى للقوة، ولكن هذا لا يحول دون الاستمرار في بنائها تحسبا للظروف. والقوة في حالة الحركة تعني "القتال" والقوة في حالة السكون تعني "الردع Deterence" والفلسطينيون والعرب لديهم وسائل أخرى متعددة صالحة تماما للإطار المفروض أن يتحرك الصراع بين أضلاعه دون قتال، هذه الوسائل تكفل الحياة والبقاء مثل المياه والنفط والسوق والاستقرار، وهي وسائل حيوية تجعل إسرائيل مصرة على ربط أي اتفاق "ثنائي" مع مصالحها الإقليمية، لأن الاتفاق على المبادىء هو في حقيقته اتفاق اقتصادي تحت ستار سياسي أو هو ربط كامل بين المفاوضات الثنائية والمفاوضات متعددة الأطراف.

فالصراع والحالة هذه مستمر في المرحلة الانتقالية أو بعدها، لان مصالح الدول- حتى لو ضمتها منظومات جماعية- متضاربة، لأنها في حالة تغيير مستمر، فالمصلحة المتفق عليها اليوم قد تتغير في المستقبل وتصبح موضع خلاف، وعلينا أن نتعايش مع هذا الوضع وننمي قدرتنا. هذا المفهوم العلمى والعملي للصراع يلزمه تخطيط متكامل له أهدافه المرحلية التي تصل بنا إلى أغراضنا الاستراتيجية، فالدول لا تتقـاتل حبا في القتال ولا تستخدم أسلحتها لمجرد الرغبة في الدمار والقتل ولكنها - أي الدول- تريد في النهاية نظاما مستقرا يحقق لها السلام والعدل، إذن فالغرض الاستراتيجي هو تحقيق الوضع المستقر العادل، والقتال هو مجرد الوسيلة لتحقيق الغرض، ومن المهم جدا:

  • أن نعرف الفرق بين الغرض Object وبين الهدف Objevtive فللحصول على الغرض لابد من تحقيق أهداف متتالية في مراحل متعاقبة على طريقة "خذ وطالب".
  • وأن نعرف أيضا متى نوقف القتال عند النقطة التي يتجسد فيها موقف سياسي يمكننا الانطلاق منه، وبمعنى آخر تحديد نقطة الاختراق Break - Through التي ننطلق منهـا لاستغـلال النجـاح Exploitation لتكملة المشوار.
  • وأن ندرك أن المناخ الدولي ضاق باستمرار قتال الصغار وعراكهم فالتسلح الذي يـؤدي إلى استمرار القتال أصبح ترفا لا يقدر عليه إلا دول العالم الثالث، كما أن التوازنات الدولية أصبحت تعتمد على السوق أكثر من اعتمادها على التقاتل ولو كان بالوكالة Proxy كما تفعل الدول الكبرى مع الدول الصغرى للحفاظ على مصالحها، كما أن التوازنات الإقليمية تغيرت كلية بعد "عاصفة الصحراء" وكل يعيد حساباته للدخول في القرن الحادي والعشرين في صورة ملائمة.

الأغراض والوسائل

لا يجوز الخلط بين الأغـراض والوسائل فكل غرض لا يمكن أن يتحقق إلا فى حدود الإمكانات المتيسرة، ومن الخطأ الشديد ان تتجاوز الأغراض المرغوبة الإمكانات المتاحة، ومع الأسف الشديد فإن الإمكانات العربية المتاحة كان يمكنها تحقيق الأغراض الرئيسية التي كانت تؤمل فيها الأمة العربية في قضيتها الرئيسية وهي فلسطين إلا أنه ثبت من خلال الصراع أن حيازة الإمكانات شيء والكفاءة في استخدامها شيء آخر، فالبلاد العربية تمتلك القدرة الشاملة ولكنها الأسف الشديد- لا توظفها بطريقة سليمة، فهي لا تلعب مع بعضها البعض ولكنها تلعب على بعضها أو من وراء بعضها فقد انتهت الأمور بالسادات لكي يحقق صلحا منفردا وانتهى الأمر بالمنظمة أن تحقق اتفاقا عبر قناة سرية وقعت عليه بالأحرف الأولى في أوسلو فاجأت به الجميع.

ومن أسوأ الأمثلة على توقيت وحشد الإمكانات العربية هو ما قامت به الأمانة العامة للجامعة العربية من عرض تقرير لجنة الخبراء بخصوص الأمن القومي العربي على اجتماع مجلس الجامعة بالقاهرة في منتصف شهر سبتمبر 1993، فهو إن دل على شيء فإنما يدل على عدم معرفة دقيقة بمعالجة شئون الأمن القومي الذي يتعامل مع إرادات مجتمعة تهدف إلى عمل عربي جماعي، وأظن أن لا خلاف على أن الإرادات العربية ليست مشتتة فحسب ولكنها غائبة أيضا فكيف يمكن أن نطالب مثل هذه الإرادات أن تقرر شيئا خاصا بالأمن القومى العربي الذي يحتاج إلى الاتفاق على التهديدات والتحديات أولا ثم حشد الإمكانات المتاحة لمواجهتها ثانيا؟!! وقد أحسن مجلس الجامعة بقراره تأجيل النظر في التقرير المقدم لمزيد من الدراسة، كما أجل النظر في التعديلات المقترحة لميثاق الجامعة إذ إن مصيرها نفسه محل دراسة وتساؤل في ظل الظروف الحالية وبذلك رفض مجلس الجامعة- عن حق- كل البنود المهمة على جدول الأعمال المقدم، لأن البرنامج لم يعرف الطريقة الصحيحة أو التوقيت السليم لفرض نفسه على الأعضاء. وفي تقديري أن التحدي الحقيقي للإمكانات الفلسطينية والعربية المتاحة هو في مواجهة الموقف عند تنفيذ الاتفاق لأن من "منزلقاته" الشديدة والخطيرة استبدال "البديل الفلسطينى الأردني" بالبديل "الفلسطيني الإسرائيلي" فالاتفاق يكرس هذا الارتباط ويحول "القبضة العسكرية القبيحة" إلى "قبضة اقتصادية مقبولة" ويستبدل فك الارتباط العسكري بارتباط اقتصادي، عن طريق اللجنة الإسرائيلية الفلسطينية للتعاون الاقتصادي لتطبيق الملحقين الثالث والرابـع للاتفاق بدعوى أن الاقتصاد الفلسطيني سيصاب بكارثة حقيقية لو أنه حاول فك ارتباطه مع الاقتصاد الإسرائيلي تبعا لما جاء في تقرير "عيزرا سيدان" الذي نص على أن "قطاع غزة سيفقد 70% من ناتجه لفترة طويلة فيما لن تتجاوز خسارة إسرائيل 4% من ناتجها لفترة محدودة" مما يعطي انطباعا أن تقليص الارتباط مع إسرائيل لن ينتج عنه كارثة اقتصادية فقط بل سياسية أيضا. لأنه قد يثير غضب الفلسطينيين الذين يعملون في إسرائيل ومناطق الحكم الذاتي من أجل "لقمة العيش".

يمثل الاتفاق تحديا حقيقيا للفلسطينيين- المؤيدين والمعترضين - والعرب أيضا، فهو يحقق هدفا مرحليا للوصول إلى الغرض، والحصول على الهدف كان أمرا صعبا أوصلنا بلى أول خطوة في طريق أصعب يحتاج إلى الخطط الشجاعة والتنفيذ القادر فالمحافظة على الهدف أصعب من الحصول عليه خاصة إذا كانت تكسوه الأشواك و"الخوازيق"، وإذا كانت أراضي الحكم الذاتي ليست إلا "جزرا" عائمة في بحر المستعمرات التي تحيطها من كل جانب، والخوض في هذا البحر يحتاج إلى ربان ماهر وبحارة ماهرين ولكنه يحتاج أيضا إلى العمل أكثر مما يحتاج إلى الحوار.

 

أمين هويدي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات