عندما أخطأ عبدالوهاب!

عندما أخطأ عبدالوهاب!

في‭ ‬اأوراقه‭ ‬الخاصة‭ ‬جدًاب،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬حواره‭ ‬مع‭ ‬سعد‭ ‬الدين‭ ‬وهبة،‭ ‬وقد‭ ‬جُمع‭ ‬في‭ ‬كتاب،‭ ‬يتوقع‭ ‬المطرب‭ ‬محمد‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬مستقبلاً‭ ‬باهرًا‭ ‬للأغنية‭ ‬المكتوبة‭ ‬بالفصحى‭ ‬ويشرح‭ ‬لماذا‭ ‬ستتغلّب‭ ‬هذه‭ ‬الأغنية‭ ‬على‭ ‬شقيقتها‭ ‬المكتوبة‭ ‬بالعامية،‭ ‬وفي‭ ‬شرحه‭ ‬يروي‭ ‬جوانب‭ ‬من‭ ‬تجربته،‭ ‬ويدلي‭ ‬بما‭ ‬يؤكد‭ ‬أنه‭ ‬مثقف‭ ‬كبير‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬فنان‭ ‬كبير،‭ ‬وإن‭ ‬لم‭ ‬يصحّ‭ ‬توقعه‭ ‬على‭ ‬الإطلاق،‭ ‬فالأغنية‭ ‬المكتوبة‭ ‬بالفصحى‭ ‬لم‭ ‬تتغلّب‭ ‬على‭ ‬الأغنية‭ ‬المكتوبة‭ ‬بالعامية‭ ‬لسبب‭ ‬بسيط‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬الأغنيتين‭ ‬معًا‭ ‬قد‭ ‬زالتا‭ ‬تقريبًا‭ ‬من‭ ‬الوجود،‭ ‬ولم‭ ‬يبق‭ ‬في‭ ‬سوق‭ ‬الطرب‭ ‬ما‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬صراع‭ ‬بينهما،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬لوجود‭ ‬لإحداهما‭! ‬ولكن‭ ‬لاشك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬عندما‭ ‬توقع‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬المستقبل‭ ‬الباهر‭ ‬لقصيدة‭ ‬الفصحى‭ ‬كان‭ ‬ينطلق‭ ‬من‭ ‬واقع‭ ‬كان‭ ‬يعيشه‭ ‬العرب‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬المرحلة‭. ‬فالمدّ‭ ‬القومي‭ ‬العربي‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬أوجه‭ ‬االأرض‭ ‬بتتكلم‭ ‬عربيب،‭ ‬ولا‭ ‬صوت‭ ‬يعلو‭ ‬على‭ ‬صوت‭ ‬الوحدة‭. ‬وقد‭ ‬نهضت‭ ‬الأمة‭ ‬العربية‭ ‬يومها‭ ‬من‭ ‬سبات‭ ‬القرون‭ ‬تطالب‭ ‬بحقها‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬الحرّة،‭ ‬وفي‭ ‬لمّ‭ ‬شتاتها‭. ‬وكانت‭ ‬القاهرة‭ ‬بالذات‭ ‬هي‭ ‬قطب‭ ‬هذه‭ ‬الحركة‭ ‬الداعية‭ ‬إلى‭ ‬الحرية‭ ‬والوحدة،‭ ‬فمن‭ ‬الطبيعي‭ ‬أن‭ ‬يتجاوب‭ ‬معها‭ ‬كبير‭ ‬الفنانين‭ ‬المصريين‭ ‬والعرب،‭ ‬وأن‭ ‬يلحّن‭ ‬لها‭ ‬الأغاني‭ ‬والأناشيد،‭ ‬وأن‭ ‬يتوقع‭ ‬لها‭ ‬الانتصار‭. ‬

ولكن‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬ذلك،‭ ‬كان‭ ‬مطربًا‭ ‬يعرف‭ ‬العرب‭ ‬جيدًا‭ ‬كما‭ ‬يعرف‭ ‬العربية‭ ‬والثقافة‭ ‬العربية‭. ‬فقد‭ ‬سبق‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬زار‭ ‬لبنان‭ ‬وهو‭ ‬صغير‭ ‬بصحبة‭ ‬بديعة‭ ‬مصابني‭. ‬ثم‭ ‬زاره‭ ‬مرارًا‭ ‬بلا‭ ‬حصر،‭ ‬وقد‭ ‬بلغ‭ ‬سن‭ ‬الشباب‭ ‬بصحبة‭ ‬أمير‭ ‬الشعراء‭ ‬شوقي‭. ‬ومن‭ ‬الطبيعي‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬قد‭ ‬مرّ‭ ‬بفلسطين‭ ‬وهو‭ ‬يسلك‭ ‬سبيل‭ ‬البر‭ ‬إلى‭ ‬لبنان،‭ ‬وأن‭ ‬يزور‭ ‬دمشق‭ ‬مع‭ ‬شوقي‭ ‬أيضًا‭. ‬وفي‭ ‬دمشق‭ ‬يستمع‭ ‬إلى‭ ‬قصيدة‭ ‬شوقي‭ ‬الخالدة‭ ‬اقم‭ ‬ناج‭ ‬جلّقب،‭ ‬وإلى‭ ‬قصيدته‭ ‬الخالدة‭ ‬الأخرى‭: ‬اسلام‭ ‬من‭ ‬صبا‭ ‬بردى‭ ‬أرقّب،‭ ‬ولعله‭ ‬استمع‭ ‬إليهما‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يستمع‭ ‬إليهما‭ ‬أو‭ ‬يقرأهما‭ ‬ملايين‭ ‬العرب‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭. ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬غنّى‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬زحلة‭ ‬اللبنانية‭ ‬ايا‭ ‬جارة‭ ‬الواديب‭ ‬فقد‭ ‬غنّى‭ ‬في‭ ‬بغداد‭ ‬ايا‭ ‬شراعًا‭ ‬وراء‭ ‬دجلةب‭ ‬في‭ ‬بلاط‭ ‬الملك‭ ‬فيصل‭ ‬الأول‭ ‬ملك‭ ‬العراق‭. ‬وفي‭ ‬القاهرة‭ ‬يرحّب‭ ‬بوَلي‭ ‬العهد‭ ‬السعودي‭ ‬الأمير‭ (‬يومها‭) ‬سعود‭ ‬بن‭ ‬عبدالعزيز‭ ‬بقصيدة‭: ‬ايا‭ ‬رفيع‭ ‬التاج‭ ‬من‭ ‬آل‭ ‬سعودب،‭ ‬ويغني‭ ‬لفلسطين‭ ‬قصيدة‭ ‬علي‭ ‬محمود‭ ‬طه‭: ‬أخي‭ ‬جاوز‭ ‬الظالمون‭ ‬المدىب،‭ ‬ويزور‭ ‬السعودية‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬ويذهل‭ ‬بمدينة‭ ‬الطائف‭. ‬ويغني‭ ‬لاحقًا‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬وليبيا‭ ‬وتونس،‭ ‬وتنشأ‭ ‬صداقة‭ ‬له‭ ‬مع‭ ‬ملك‭ ‬المغرب‭ ‬الحسن‭ ‬الثاني،‭ ‬كما‭ ‬يزور‭ ‬الأردن‭ ‬وتنشأ‭ ‬له‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الصداقة‭ ‬مع‭ ‬الملك‭ ‬حسين‭ ‬بن‭ ‬طلال‭. ‬فهو‭ ‬عربي‭ ‬إذن‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬مصري،‭ ‬وتاريخه‭ ‬العربي‭ ‬لا‭ ‬يقلّ‭ ‬نفاذًا‭ ‬وتألقًا‭ ‬عن‭ ‬تاريخه‭ ‬المصري‭. ‬فهو‭ ‬إذن‭ ‬ابن‭ ‬مصر‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬ابن‭ ‬العرب‭ ‬سواء‭ ‬بسواء،‭ ‬وفي‭ ‬سيرته‭ ‬الذاتية‭ ‬والفنية‭ ‬ما‭ ‬يؤكد‭ ‬ذلك‭.‬

وهو‭ ‬مطرب‭ ‬مثقف‭ ‬مطّلع‭ ‬اطلاعًا‭ ‬واسعًا‭ ‬على‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية،‭ ‬ماضيها‭ ‬وحاضرها‭. ‬وكثيرًا‭ ‬ما‭ ‬استلّ‭ ‬بنفسه‭ ‬من‭ ‬كنوز‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬المعاصر‭ ‬على‭ ‬الخصوص،‭ ‬ما‭ ‬أكّد‭ ‬اطلاعه‭ ‬الوافر‭ ‬وذوقه‭ ‬الرفيع‭. ‬فعندما‭ ‬قرأ‭ ‬االجندولب‭ ‬في‭ ‬االأهرامب‭ ‬اتصل‭ ‬بمؤلفها‭ ‬واستأذنه‭ ‬بغنائها‭. ‬وعندما‭ ‬اطلع‭ ‬على‭ ‬االكرنكب‭ ‬عمد‭ ‬فورًا‭ ‬إلى‭ ‬تلحينها‭. ‬وقد‭ ‬لا‭ ‬يختلف‭ ‬اثنان‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬بذرة‭ ‬الأدب‭ ‬والثقافة‭ ‬في‭ ‬ذاته‭ ‬قد‭ ‬غرسها‭ ‬شوقي‭ ‬الذي‭ ‬لازمه‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬الثماني‭ ‬أو‭ ‬العشر‭ ‬الأخيرة‭ ‬من‭ ‬حياته‭. ‬كان‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬يمضي‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يقل‭ ‬عن‭ ‬14‭ ‬ساعة‭ ‬يوميًا‭ ‬مع‭ ‬شوقي،‭ ‬وكثيرًا‭ ‬ما‭ ‬شهد‭ ‬ولادة‭ ‬بعض‭ ‬قصائده‭. ‬ولاشك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬انحيازه‭ ‬للأغنية‭ ‬المكتوبة‭ ‬بالفصحي‭ ‬سببه‭ ‬شعوره‭ ‬أن‭ ‬الفصحى‭ ‬ذات‭ ‬مقام‭ ‬رفيع‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تبلغه‭ ‬العامية‭. ‬لكن‭ ‬وياللأسف‭! ‬فلا‭ ‬النبوءة‭ ‬تحققت،‭ ‬ولا‭ ‬بقي‭ ‬ما‭ ‬يستحق‭ ‬الذكر‭ ‬من‭ ‬الأغنيتين‭ ‬معًا‭! ‬ .