سلام أبوأحمد.. شاعرة فلسطينية عمرها عشر سنوات

كالعصفورة‭ ‬تهدهد‭ ‬دفترها‭ ‬المهترئ‭ .. ‬تقلب‭ ‬صفحاته‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬أنها‭ ‬تحتضن‭ ‬كنزًا‭ ‬ثمينًا‭ ‬صنعته‭ ‬يداها‭ ‬النحيفتان‭. ‬تلملم‭ ‬أفكارها‭ ‬بين‭ ‬الحين‭ ‬والآخر‭ ‬لتنظم‭ ‬شعرًا‭ ‬وخواطر‭ ‬تحكي‭ ‬عن‭ ‬مآسي‭ ‬الوطن‭ ‬المحتل‭ ‬وحكايات‭ ‬الأطفال‭ ‬الميتمين‭ ‬بفعل‭ ‬آلة‭ ‬القتل‭.‬

سلام‭ ‬أبو‭ ‬أحمد‭ ‬طفلة،‭ ‬كصغار‭ ‬غزة،‭ ‬تعيش‭ ‬تحت‭ ‬وقع‭ ‬القصف‭ ‬والحصار،‭ ‬لكنها‭ ‬تختلف‭ ‬عن‭ ‬كثير‭ ‬منهم‭ ‬في‭ ‬فطنتها‭ ‬ونباهتها‭... ‬تقول‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬الدعابة‭ ‬‮«‬ألقطها‭ ‬وهي‭ ‬طائرة‮»‬،‭ ‬لذا‭ ‬فهي‭ ‬تكتب‭ ‬الآهات‭ ‬بصورة‭ ‬شعر‭ ‬وتحكي‭ ‬عن‭ ‬الألم‭ ‬الساكن‭ ‬في‭ ‬عيون‭ ‬الأطفال‭ ‬بقلم‭ ‬رصاص‭ ‬ذي‭ ‬ممحاة‭ ‬متآكلة‭.‬

الطفلة‭ ‬سلام‭ ‬ذات‭ ‬السنوات‭ ‬العشر،‭ ‬تمتلك‭ ‬موهبة‭ ‬الكتابة،‭ ‬ويصح‭ ‬وصفها‭ ‬بأصغر‭ ‬كاتبة‭ ‬في‭ ‬قطاع‭ ‬غزة‭ ‬الذي‭ ‬عاش‭ ‬أهله‭ ‬حربا‭ ‬ضروسا‭ ‬عام‭ ‬2008‭ ‬وهو‭ ‬العام‭ ‬نفسه‭ ‬الذي‭ ‬خرجت‭ ‬فيه‭ ‬موهبتها‭ ‬للنور،‭ ‬حينما‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬الصف‭ ‬الثالث‭ ‬الابتدائي‭.‬

طريقة‭ ‬حديثها‭ ‬تشعر‭ ‬محاورها‭ ‬بأنها‭ ‬شابة‭ ‬عشرينية،‭ ‬لكن‭ ‬ملامحها‭ ‬البريئة‭ ‬تحكي‭ ‬عكس‭ ‬ذلك،‭ ‬وبخاصة‭ ‬أن‭ ‬ضحكاتها‭ ‬تكشف‭ ‬ضروسا‭ ‬صغيرة‭ ‬حديثة‭ ‬التبديل‭.‬

ترتدي‭ ‬الطفلة‭ ‬معطفًا‭ ‬رماديًا‭ ‬بلون‭ ‬أجواء‭ ‬غزة‭ ‬الشتوية‭ ‬الغائمة،‭ ‬تعصر‭ ‬طرفيه‭ ‬على‭ ‬وسطها‭ ‬لتقي‭ ‬نفسها‭ ‬من‭ ‬البرد‭ ‬القارس،‭ ‬وتقول‭ ‬إنها‭ ‬اكتشفت‭ ‬نفسها‭ ‬فجأة،‭ ‬حين‭ ‬راودتها‭ ‬فكرة‭ ‬الكتابة‭ ‬بلغة‭ ‬شعرية‭ ‬ذات‭ ‬مساء‭ ‬شتوي‭ ‬يحمل‭ ‬معه‭ ‬صور‭ ‬الصغار‭ ‬الذين‭ ‬يتموا‭ ‬بفعل‭ ‬الحرب‭.‬

حنينها‭ ‬لبلدها‭ ‬‮«‬أسدود‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬هاجر‭ ‬منه‭ ‬أجدادها‭ ‬إبان‭ ‬نكبة‭ ‬عام‭ ‬1948،‭ ‬يكسر‭ ‬قاعدة‭ ‬عدو‭ ‬بلادها‭ ‬الذي‭ ‬قال‭ ‬‮«‬الكبار‭ ‬يموتون‭ ‬والصغار‭ ‬ينسون‮»‬‭.‬

تقول‭ ‬سلام‭: ‬‮«‬لا‭ ‬أحد‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬ينسى‭ ‬بلده‭ ‬الأصلي‭ (..) ‬صحيح‭ ‬أننا‭ ‬مرتبطون‭ ‬بغزة‭ ‬ارتباطًا‭ ‬وثيقًا،‭ ‬ولكن‭ ‬البلد‭ ‬الذي‭ ‬هاجر‭ ‬منه‭ ‬أجدادي‭ ‬يدعونا‭ ‬للسعي‭ ‬لاسترداده،‭ ‬لكن‭ ‬هذا‭ ‬لن‭ ‬يأتي‭ ‬إلا‭ ‬بالوحدة‭ ‬الوطنية‮»‬‭.‬

تستشهد‭ ‬الطفلة‭ ‬ببيت‭ ‬شعري‭ ‬تحفظه‭ ‬منذ‭ ‬سنوات‭ ‬الدراسة‭ ‬الأولى،‭ ‬للتأكيد‭ ‬على‭ ‬ضرورة‭ ‬العودة‭ ‬للوطن‭ ‬الأصل،‭ ‬قائلة‭ ‬‮«‬كَـمْ‭ ‬مَنْـزِلٍ‭ ‬فِي‭ ‬الأَرْضِ‭ ‬يَأْلَفُهُ‭ ‬الفَتَـى‭ ... ‬وحَـنِينُــهُ‭ ‬أَبَــدًا‭ ‬لأَوَّلِ‭ ‬مَنْــزِلِ‮»‬‭. ‬

تسجل‭ ‬الطفلة‭ ‬ذات‭ ‬الوجه‭ ‬القمحي‭ ‬والصوت‭ ‬الحنون‭ ‬اعتراضها‭ ‬على‭ ‬الانقسام‭ ‬السياسي‭ ‬الحاصل‭ ‬في‭ ‬الأراضي‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬ولكنها‭ ‬لا‭ ‬تهوى‭ ‬الكتابة‭ ‬عن‭ ‬الانقسام،‭ ‬تقول‭: ‬‮«‬أنا‭ ‬أركز‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬على‭ ‬الطفل‭ ‬والاحتلال‭ ‬والمعاناة‮»‬‭.‬

عن‭ ‬حياتها‭ ‬تقول‭ ‬إنها‭ ‬عادية‭ ‬كأي‭ ‬طفلة،‭ ‬تستفيق‭ ‬من‭ ‬نومها‭ ‬باكرًا،‭ ‬ترتب‭ ‬حجرتها‭ ‬ثم‭ ‬تتناول‭ ‬الفطور‭ ‬وتعد‭ ‬نفسها‭ ‬للذهاب‭ ‬لمدرستها‭ ‬‮«‬بنات‭ ‬غزة‭ ‬الإعدادية‭ ‬ب‮»‬‭ ‬التابعة‭ ‬لوكالة‭ ‬غوث‭ ‬وتشغيل‭ ‬اللاجئين‭ (‬أونروا‭).‬

ترى‭ ‬سلام‭ ‬في‭ ‬معلماتها‭ ‬أمهات‭ ‬لها،‭ ‬حيث‭ ‬تلقى‭ ‬منهن‭ ‬كل‭ ‬حب‭ ‬وتقدير‭ ‬وتشجيع‭ ‬على‭ ‬الموهبة،‭ ‬شأنهن‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬شأن‭ ‬أسرتها‭ ‬التي‭ ‬تحثها‭  ‬دومًا‭ ‬على‭ ‬مواصلة‭ ‬الكتابة‭ ‬الأدبية‭.‬

تدرس‭ ‬سلام‭ ‬في‭ ‬الفترة‭ ‬المسائية،‭ ‬لذا‭ ‬فهي‭ ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬المنزل‭ ‬مع‭ ‬غروب‭ ‬الشمس،‭ ‬وتشير‭ ‬إلى‭ ‬أنها‭ ‬ليست‭ ‬مثالًا‭ ‬للنظام،‭ ‬فقد‭ ‬تضع‭ ‬حقيبتها‭ ‬عند‭ ‬العودة‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬مكان،‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬تقول‭ ‬‮«‬أحرص‭ ‬دومًا‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬أكون‭ ‬منضبطة‭ ‬ومنظمة‭ ‬في‭ ‬أعمالي‭ ‬وتصرفاتي‮»‬‭.‬

تشيح‭ ‬سلام‭ ‬بخصلات‭ ‬شعرها‭ ‬المنسابة‭ ‬على‭ ‬عينيها،‭ ‬وتوضح‭ ‬أنها‭ ‬مولعة‭ ‬بثلاثة‭ ‬شعراء‭ ‬هم‭ (‬أحمد‭ ‬مطر،‭ ‬ومحمود‭ ‬درويش،‭ ‬وتميم‭ ‬برغوثي‭)‬،‭ ‬معبرة‭ ‬عن‭ ‬أملها‭ ‬بأن‭ ‬ترتقي‭ ‬كتاباتها‭ ‬لما‭ ‬كتب‭ ‬هؤلاء‭ ‬الشعراء‭.‬

وتحرص‭ ‬سلام‭ ‬على‭ ‬مطالعة‭ ‬الأدب‭ ‬عمومًا‭ ‬والدواوين‭ ‬الشعرية‭ ‬بشكل‭ ‬خاص،‭ ‬مبينةً‭ ‬أنه‭ ‬كانت‭ ‬لها‭ ‬محاولات‭ ‬عدة‭ ‬لكتابة‭ ‬القصص‭ ‬القصيرة‭.‬

وتستغل‭ ‬فترة‭ ‬الإجازة‭ ‬المدرسية‭ ‬بين‭ ‬الفصلين‭ ‬للمطالعة،‭ ‬حيث‭ ‬تمضي‭ ‬معظم‭ ‬وقتها‭ ‬في‭ ‬قراءة‭ ‬المؤلفات‭ ‬الأدبية،‭ ‬مشيرة‭ ‬إلى‭ ‬أنها‭ ‬طالعت‭ ‬سلسلة‭ ‬قصص‭ ‬‮«‬رجل‭ ‬المستحيل‮»‬‭ ‬لنبيل‭ ‬فاروق،‭ ‬و‭ ‬‮«‬لافتات‮»‬‭ ‬لأحمد‭ ‬مطر‭.‬

تكشف‭ ‬الطفلة‭ ‬صاحبة‭ ‬العينين‭ ‬السوداوين‭ ‬عن‭ ‬أن‭ ‬قلمها‭ ‬حين‭ ‬يشرع‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬‮«‬ينساب‭ ‬وحده‭ ‬ليخط‭ ‬الكلمات،‭ ‬وكأن‭ ‬الأمر‭ ‬إلهام‮»‬‭ ‬كما‭ ‬تقول‭.‬

تسعى‭ ‬سلام‭ ‬جاهدة‭ ‬لتصقل‭ ‬موهبتها‭ ‬بذاتها‭ ‬معتمدة‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬شقيقتها‭ ‬الكبرى‭ ‬التي‭ ‬ترى‭ ‬فيها‭ ‬الموجه‭ ‬الأول،‭ ‬حيث‭ ‬تركض‭ ‬نحوها‭ ‬كلما‭ ‬كتبت‭ ‬شيئا‭ ‬لتقرأ‭ ‬على‭ ‬مسامعها‭ ‬ما‭ ‬خطت‭ ‬الأنامل‭ ‬الرفيعة،‭ ‬وبعدها‭ ‬تحظى‭ ‬إما‭ ‬بالثناء‭ ‬أو‭ ‬بالتوجيه‭ ‬لتصحيح‭ ‬مفرداتها‭.‬

لا‭ ‬تطمح‭ ‬الطفلة‭ ‬الموهبة،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تمتهن‭ ‬مستقبلًا‭ ‬مهنة‭ ‬والدها‭ ‬الطبيب،‭ ‬ولا‭ ‬والدتها‭ ‬المعلمة،‭ ‬فهي‭ ‬تتطلع‭ ‬لأن‭ ‬تصبح‭ ‬صحفية‭ ‬صاحبة‭ ‬قلم‭ ‬وفكر‭ ‬مستنير‭.‬

قلَّبت‭ ‬سلام‭ ‬دفترها‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬اللقاء‭ ‬وقرأت‭ ‬بعضًا‭ ‬مما‭ ‬كتبت،‭ ‬فكان‭ ‬آخر‭ ‬ما‭ ‬قرأت‭ ‬بنبرة‭ ‬حزينة‭:‬

أنا‭ ‬الملطخ‭ ‬بالدماء‭..‬

أنا‭ ‬عروس‭ ‬البحر‭ ‬السوداء

أنا‭ ‬صاحب‭ ‬الخطوط‭ ‬الحمراء‭ ‬

أنا‭ ‬صاحب‭ ‬القلم‭ ‬الذي‭ ‬سال‭ ‬بالدماء

‮ ‬أنا‭ ‬آخر‭ ‬صيحة‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬العناء

‮ ‬أنا‭ ‬أول‭ ‬مجني‭ ‬عليه‭ ‬عنده‭ ‬ولاء