من انكسار الأجنحة إلى عودة الديناصورات محمد الرميحي

من انكسار الأجنحة إلى عودة الديناصورات

حديث الشهر
في إحدى قصصه القصيرة يتخيل الكاتب الشهير "غابرييل غارسيا ماركيز" كائنا مجنحا يسقط في عشة للدجاج فيتقصف ريشه وتنكسر أجنحته. وهكذا يجد نفسه راقدا عاجزا والدجاجات تنق من حوله وبدلا من أن يقوم أهل المنزل بتضميد جراحه ويساعدوه على الطيران، استغلوا الفرصة وحولوه إلى مادة للفرجة ودعوا الناس لمشاهدته لقاء رسم للدخول، وأصبح الكائن المجنح قليل الحيلة، ريشه آخذ في التساقط، وهو يذوي محسورا بين الدجاج، وتحول جسده الأبيض الوديع إلى مسخ شائه.

قصة مريرة تحمل أهم سمات الواقعية السحرية التي تميز بها أدب ماركيز، حيث يمتزج الخيال بالواقع في سخرية مريرة، يرثي فيها عالما يفتقد إلى الدهشة والبراءة. تكسرت فيه أجنحة القيم والفلسفات ولم تبق إلا الشعارات. لا رحمة فيه للضعيف أو المغلوب على أمره ولكنه قانون السوق يفرض آلياته ويلتهم الغرباء!.

ولا أدري لماذا تذكرني هذه القصة بأحداث عامنا المنصرم 93 الذي يمضي كما تعود الزمن أن يمضي، دون تمهل أو أسى. ربما لأن في أحداثه ذلك الجانب الغرائبي الذي تميزت به قصص ماركيز، وربما لأنه لا يخلو أيضا من الدلالة الرمزية.

الزمن الذي لا يتمهل

ها نحن نودع عاما مزدحما من تاريخ البشرية الطويل ومن أعمارنا البالغة القصر. ونهايات الأعوام تثير في النفس دائما نوعا من الشجن، فهي تعني أن جزءا من زمننا يمضي بلا رجعة، ومهما كان سيئا فإن هناك أسفا على فراقه وسواء أحسنا استغلال هذا الزمن أو أسأنا فإنه يمضي بلا رحمة كانت الحضارات القديمة تتصور الزمن في دورات متصلة ولكن تصورنا الحديث يسير فيه الزمن في خط واحد لا رجعة فيه! ولا توقف. وقديما قال الشاعر الألماني جوته: "قل للحظة العابرة تمهلي قليلا فما أجملك.." ولكن الزمن لا يبقي لنا سوى الذكرى وبضعة من خطوط التجاعيد. فالزمن الإنساني مكون من مزاجين متداخلين: ذاكرة الماضي وتوقعات المستقبل وما بينهما يمتد نسيج متشابك من اللحظات يمتزج فيه الماضي والحاضر والمستقبل.

كانت الحضارات القديمة- وقبل أن تظهر المقاييس المحددة والقاطعة لحركة الزمن التي نعرفها الآن- تتصوره دورة متصلة في الليل والنهار والموت والبعث. وكان هذا التصور يعطيها إحساسا بالديمومة والرغبة في الخلود فكل ما مضى سوف يأخذ دورته ويعود من جديد وهي نفس الفكرة التي اعتمدت عليها العديد من الديانات حين حاولت أن تعطي للإنسان الإحساس بالأمان والعيش دون خوف من الفناء. ففي ظل تعاليم الدين أصبحت حركة الزمن جزءا من قانون أعلى تأخذ فيه الحياة دورتها المتصلة حيث لا يضيع شيء ولا يتبدد.

ولكن الزمن الحديث الآن يسير في خط مستقيم لا رجعة فيه، زمن مقسم إلى ساعات ودقائق وثوان. لكل حدث فيه فترة ولكل فترة كيان مستقل. وهناك دائما نوع من المفارقة الزمنية بين الماضي والحاضر، وهو بذلك يمثل جوهر التقدم.

وهكذا نصل إلى أطراف عالمنا الحديث. عالم متقدم حقا ولكنه مصاب بالقلق والهدوء غير المستقر والرغبات غير المشبعة، وكأن التطور قد خلق نقيضه الخاص فنزع الأمان وترك الإنسان عاريا أمام حقيقته الآنية حيث يمضي زمنه الخاص بلا رجعة.

ولكن دعونا لا نذهب بعيدا عن 93 فلنقترب منه لعلنا نرى تفاصيله الدقيقة التي حاصرتنا على مدى 52 أسبوعا أو 365 يوما أو 8760 ساعة كاملة.

لنبتعد عن مانشيتات الصحف، ذات الأحـرف البارزة، عن أخبار الملوك والرؤساء والوزراء والقادة والألعاب السياسية التي سئمنا منها طويلا، لنبتعد عن أخبار التاريخ الكبير الذي تتعلق به مصائرنا الواهية ومخاوفنا الدائمة، ولكن لنقترب قليلا من أخبار التاريخ الصغير، البشر الصغار بكل ما في تصرفاتهم من رقة وحماقة وبعد عن التآمر وعفوية بعيدا عن الصفحات الأولى، ورغم ذلك فهي تكشف عن دلالات العصر الذي نعيش فيه.

يأتي حصاد عام 93 غريبا ومتنافرا مليئا بالعنف المتبادل بين الطبيعة والإنسان.

ورغم أننا نعيش في هذا النصف الأخير من القرن العشرين في حروب متصلة بعضها كان بعيدا وبعضها كان في عقر ديارنا إلا أن هذا العنف الكبير ما زال يدهشنا.

فالطبيعة قد أصابها هذا العام نوع من الجنون المبالغ فيه. الأعاصير لا تكف عن ضرب الجزر والشواطئ الساكنة فتقتلع الأشجار والبيوت وتطيح بالسيارات وتشرد العشرات كل يوم. ولا تكف الأرض أيضا عن التقلصات فتنتقل الزلازل من أماكنها التقليدية لتضرب بلدانا لم تتعود عليها. ولم تتأخر البراكين أيضا هذا العام عن إبداء رأيها، وبدا واضحا أن حالة الغضب تعم كل عناصر الطبيعة وليس الإنسان فقط.

الوجه العنصري لأوربا

ولا يوازي غضب الطبيعة إلا الغضب الذي يتصرف به الإنسان في رقعة الأرض التي يعيش عليها. في أوربا تتصاعد - بجانب الحروب الأهلية ومذابح المسلمين اليومية- النزعات العنصرية القديمة التي كنا نعتقد أنها ماتت مع هزيمة النازية. وقد أخذت هذه النزعات صورتها في حركات العنف الموجهة ضد العمال المهاجرين إلى بلدان أوربا. وكالعادة كانت البداية من ألمانيا فأخذوا يلصقون بالمهاجرين الأتراك كل أنواع التهم من أول جفاف الغابات السوداء وتلوث نهر الراين وحتى اختراق طبقة الأوزون!! وتشكلت جماعات نازية صغيرة أخذت تهاجم البيوت وتحرقها وتبعث بالرعب في قلوب الأسر التركية ضحايا الإرهاب والاغتيالات يدفعون ثمنا باهظا للديمقراطية المفتقدة! الضعيفة، وبلغ هذا الأمر ذروته في هولندا عندما وقف عشرات المواطنين المتحضرين يشاهدون فتاة مغربية صغيرة وهي تغرق في إحدى البحيرات التي يتنزه الجميع حولها. لم يتحرك أحد لإنقاذها بل إن البعض كان يتمتم في تشف: "إنهم جميعا يستحقون هذا المصير". وفي ظل هذا التواطؤ العنصري ماتت الفتاة الصغيرة دون ذرة من ندم!.

ومازالت هذه النزعات تواصل انتقالها عبر بلدان أوربا من ألمانيا وهولندا إلى فرنسا وإيطاليا وإنجلترا.

حالة البطالة التي يعاني منها المواطن الأوربي ليست السبب الأوحد في ظهور مثل هذه النزعات فهؤلاء المهاجرون يشغلون نمطا من الأعمال يأنف الأوربي المرفه أن يعمل به، وهو يفضل عنه البقاء متعطلا مكتفيا بإعانة البطالة التي تقدمها الدولة التي تكفي احتياجاته الأساسية، تزيد في معظمها على الأجر الذي يتلقاه هؤلاء المهاجرون من عملهم المضني. العنصرية هنا فلسفة مغلقة تأخذ من الذات محورا لها وتدور في دوائر محددة تدل على الفقر والخواء الروحي الذي يعاني منه الإنسان الأوربي. ولعل هذا هو نفس السبب الذي دفع أحد الآباء في ألمانيا لأن يستغل سذاجة ابنته منذ أن كانت في الرابعة عشرة من عمرها وأن يعاشرها جنسيا حتى أنجب منها ولدين وعندما حاولت الابنة بعد مرور هذه السنوات الهروب من ربقة الأسر الذي يمارسه عليها وقف الأب يشكوها أمام المحكمة مطالبا بحضانة الولدين اللذين هما ابناه وحفيداه في نفس الوقت، بل وليصرح أمام المحكمة أنه "لا يوجد في القانون ما يمنعني من معاشرة ابنتي ".. وكان مثل هذا الأمر في حاجة إلى قانون مكتوب!.

ووجه الإرهاب في عالمنا العربي

كذلك ترتفع صيحات الغضب في عالمنا العربي، ويوما بعد يوم يختفي أسلوب الحوار كي يحل بدلا منه الاغتيال السياسي والإرهاب الفردي.

مازالت الكويت بعد مرور ثلاث سنوات على التحرير تعاني من آثار هذه الحرب. فبينما كان بعض العمال يقومون بتعبيد الطريق في منطقة الجهراء - وعلى مدى يومين متتاليين- انفجرت فيهم ألغام قديمة كانت مدفونة قبل الانسحاب العراقي.مات اثنان من العمال وأصيب أكثر من خمسة، ويبدو أن هناك الكثير من فواتير هذه الحرب لم يسدد بعد.

والانفجارات لم تتوقف في عواصم الوطن العربي الكبيرة أيضا، فمازالت المعركة مستمرة بين رجال الشرطة والإرهابيين في مصر وقد بلغت ذروتها في محاولة اغتيال وزير الداخلية. أما في الجزائر فقد أصبح مقتل حملة الرأي وكتاب الصحف خبرا يوميا، وكلهم يدفعون بذلك ثمنا باهظا للديمقراطية المفتقدة. ولكن أغرب أنواع هذه الاغتيالات بالطبع هي التي تدور داخل الأرض المحتلة، ففي قطاع غزة وعلى فترات متساوية من الزمن تطول يد الاغتيال إحدى الشخصيات البارزة بها. وفي البداية كانت التهمة الموجهة إليهم هي التعاون مع إسرائيل. وبعد توقيع اتفاقية غزة- أريحا أصبحت التهمة هي التعامل مع منظمة التحرير الفلسطينية ولايزال القتلى يتساقطون، ولعل هذا يثير العجب في موقف الفلسطينيين، فمنذ سنوات وهم يحاربون إسرائيل بواسطة الأحجار حتى إذا اختلفوا مع كان هذا هو عام الجنس الأسود ولكن إفريقيا رغم ذلك كانت أتعس القارات حظا! بعضهم البعض لم يتحدثوا سوى بالرصاص، ولو أنهم وجهوا كل هذه القدرات والطاقات الإبداعية في فن الاغتيال إلى الشخصيات الإسرائيلية البارزة لظفروا باتفاق أفضل بكثير من غزة - أريحا.

ولا ندري بالضبط ما هو شعور خليل الوزاعي إزاء كل ما حدث ويحدث، فهذا الرجل خرج للحياة أخيرا بعد أن قضى في سجون إسرائيل أكثر من 23 عاما ولم يتفوق عليه في هذا الأمر إلا نيلسون مانديلا الذي احتجزته سجون جنوب إفريقيا 27 عاما. ماذا سيقول الوزاعي عندما يكتشف أن وطنه الذي حاول العودة إليه ذات يوم قد تضاءل إلى شريط ضيق من الأرض، وأن قادته في منظمة التحرير خلف مكاتبهم الأنيقة في تونس قد وقعوا على اتفاقية غامضة لا تضمن شيئا ومن السهل على إسرائيل التنصل منها؟!.

العام الحزين لإفريقيا

وما دمنا قد أتينا على ذكر نيلسون مانديلا فإن الحديث يقودنا إلى عالم السود الجديد، فقد كان هذا هو عامهم، شهدت جنوب إفريقيا بداية النهاية لواحد من أطول وأقسى الأنظمة العنصرية في تاريخ العالم، ووقف الزعيم الأسود ليطالب الدول المختلفة برفع عقوبات المقاطعة عن جنوب إفريقيا لأن حكومتها قد بدأت الخطوة الأولى في إنهاء القوانين التي كانت تعطي كل الامتيازات لـ 5% من السكان البيض وتحرم 95% من السود من كل شيء.

مانديلا هو أيضا رجل هذا العام فقد فاز بجائزة نوبل للسلام مناصفة مع دي كليرك رئيس الدولة لجهودهما معا من أجل إحلال السلام، وسوف تتواضع هذه الجائزة حين تتحول إلى ميدالية يقدمها اليونسكو لكل من ياسر عرفات وإسحاق رابين من أجل جهودهما أيضا لإحلال السلام في الشرق الأوسط. جائزة نوبل للآداب ذهبت إلى السود أيضا. فازت بها الأديبة توني موريسون من الجنوب الأمريكي، المكان الذي شهد أكثر المناطق العنصرية تطرفا في تاريخ الولايات المتحدة، فهي من مواليد عام 1931 وليس لها أكثر من ست روايات وتأثرت بشخصية أبيها الذي رفض الخضوع لهذا العسف وهاجر بعيدا وعمل في ثلاثة أعمال في وقت واحد حتى يستطيع الإنفاق على أسرته. وتقول موريسون في روايتها "العيون الأكثر زرقة" تصف إحساسها كامرأة سوداء تناضل كي تجد لنفسها مكانا في صفوف الجامعة: "لم أشعر بالنقص. لم أحاول أن أشعر به. فقد كانت جدتي أحلك الناس لونا ومع ذلك كان يحترمها الجميع.. ". لقد كان فوز توني موريسون مفاجأة للجميع. فلم يتوقع أحد أن تتفوق على زميلتيها آن تيللور وكارول جونس أوتس بهذا العدد القليل من الروايات والرصيد الأدبي غير المشهور، ولكن عند نشر التفاصيل الكاملة لحيثيات الفوز أحس الكثيرون بالارتياح فقد انحازت الجائزة إلى الجانب الإنساني وابتعدت قليلا عن المناورات السياسية.

ولكن إفريقيا السوداء مازالت رغم ذلك أتعس القارات حظا هذا العام، السمات الرئيسية فيها هي الجوع والفقر والحروب الأهلية وتسلط الأنظمة العسكرية. ولكنه كان عاما هادئا بالنسبة للمقاييس الإفريقية فلم عندما تترك للدول الإفريقية حرية التعامل مع بيئتها فإنها قادرة على التصرف بشكل متحضر ومسئول. يهرب سوى زعيم واحد هو محمد فارح عيديد، ولم يقتل إلا رئيس واحد أيضا في بوروندي، ولكن هذه الأمور لا تقاس بجانب المتاعب التي عانى منها وزير داخلية زامبيا مع زوجته، فقد كان للوزير البالغ من العمر 52 عاما علاقة مع فتاة صغيرة في عمر ابنته. وعندما اكتشفت زوجته الأمر هجمت على منزل الفتاة وجرجرتها من شعرها تحت أنظار عدسات الصحافة وكاميرات التلفزيون عبر شوارع العاصمة إلى مكتب زوجها في الوزارة، وحين نهرها زوجها دون أن يستطيع أن يقوم بعمل حاسم عادت تجر الفتاة المسكينة من شعرها إلى البيت لتقوم بتعذيبها بنفس الأساليب التي تعلمتها من زوجها. وقد خاف الوزير من العودة إلى البيت فأصدر أوامره بالقبض على زوجته وتخليص الفتاة، ولكن أبناءه تضامنوا مع أمهم واستطاعوا أن يساعدوها على الهرب ومازالت الزوجة هاربة والوزير خائفا من العودة إلى البيت!! والفضائح الجنسية تمثل جانبا مهما من جوانب الحياة السياسية في إفريقيا.

ولكن أخبار القارة السوداء ليست كلها بمثل هذا الهزل. فوسط المتاعب الاقتصادية والمشكلات السياسية تحاول زيمبابوي أن تقوم بعمل كبير تحافظ به على الحياة البرية بها وبالتالي تحافظ على توازن البيئة في وسط القارة. وهو عمل بمقاييس القارة الفقيرة حضاري في فكرته وتطبيقه، فهي تقوم بأكبر عملية في التاريخ لنقل مئات الأفيال من إحدى المحميات البرية المزدحمة إلى أماكن أخرى اقل ازدحاما. وكان الإجراء المتبع في مثل هذه الحالة من قبل هو قتل الأفيال الأضعف للاستفادة من بيع العاج، ولكن زيمبابوي استبدلت برصاصات القتل رصاصات التخدير الرحيمة وتدخلت العشرات من وسائل النقل عبر مئات الكيلو مترات كي تعاود الأفيال العيش من جديد، وقد أثبتت زيمبابوي بذلك أن الدول الإفريقية عندما تترك لها الحرية في التعامل مع بيئتها قادرة على التصرف بشكل متحضر ومسئول.

الديناصورات تعود.. وتنقرض

في هذا العام أيضا عادت الديناصورات إلى الحياة، فقد اجتاحت العالم هذه الحمى أو الصرعة الجديدة التي محورها تلك المخلوقات البالغة الضخامة والوداعة والتي تعتمد في غذائها الأساسي على العشب. لقد فشلت هذه الحيوانات رغم ذلك في التطور مع الحياة فانقرضت بينما بقيت "الأميبا" المتناهية الصغر حتى أيامنا هذه. وهي بذلك كانت عنوانا على القوة والجبروت والغباء في نفس الوقت.

وفي هذه العودة اختلطت الحقائق العلمية مع خيالات السينما بل انتقلت أمثولة انقراض الديناصورات إلى الحياة السياسية. ويعتمد فيلم "الحديقة الجوراسكية" لمخرجه ستيفن سبيلبرج والذي حقق أكبر الإيرادات هذا العام، يعتمد على حقيقة علمية تقول إنه من الممكن إعادة خلق الديناصورات مرة أخرى من خلال اكتشاف شفرة الـ D.N.A الموجود فيها الجينات الوراثية الخاصة بهذه المخلوقات. مسألة معقدة بعض الشيء. ولكن الفرضية الأساسية التي يطرحها الفيلم هي أن وجود الديناصورات والإنسان على الأرض يفصل بينهما ملايين السنين فماذا يحدث عندما يتواجهان معا في زمن واحد؟ هل يمكن أن يحافظ الإنسان على شجاعته وتحافظ الديناصورات على براءتها؟. أم أن الثورة والصراع الضاري سوف يكون هو مصير هذه العلاقة؟ وهذا هو ما يصوره الفيلم بالفعل.

وقد اجتاحت حمى الديناصورات العالم بعد الفيلم وتلقف مصممو ألعاب الأطفال هذا الشكل الجديد فتراجعت ألعاب الضفادع وسلاحف النينجا ومخلوقات الكواكب الأخرى كي تبرز أحجام الديناصورات غير المتناسقة بأجسادها الضخمة ورءوسها البالغة الصغر.

سر الإثارة في فيلم الحديقة الجوراسكية أنه ليس بعيدا عن الواقع، فقد شاهدنا انقراض أحد الديناصورات السياسية الضخمة في عالمنا المعاصر، وأعني به الاتحاد السوفييتي وبقية منظومته من الدول الاشتراكية. وأيا كانت أسباب الصعود والانهيار، وبغض النظر عن كون هذا الديناصور طيبا أم شريرا، يتغذى على العشب أو الدم، فسوف يشكل هذا الحدث معالم القرن الذي نعيش فيه.

لقد نجح الرئيس الروسي يلتسين في القضاء على منافسيه الذين كانوا معتصمين داخل مبنى البرلمان في سكون الديناصورات العاجزة التي تنتظر لحظة النهاية. ولكنه لم يستطع القضاء على "الأميبا" المتمثلة في عصابات الهامبورجر التي تحوم في شوارع موسكو. إنهم أطفال صغار هربوا من صفوف الدراسة ليقيموا سوقا سوداء أمام محلات الهامبورجر يعقدون فيها الصفقات مع العاملين في هذه المحلات ويبيعون السندوتشات بضعف الثمن للزبائن المتلهفين. ومع انتشار هذه الظاهرة أصبح لهؤلاء الأطفال تنظيم خاص وأصبحوا أكثر ارتباطا بجماعات المافيا الروسية الجديدة وامتد نشاطهم إلى الأسواق والمدارس ومحطات المترو وشاركوا في عمليات السرقة وترويج المخدرات والجريمة المنظمة.

ولم يستطع يلتسين أيضا أن يقاوم مكاتب الزواج التي تنتشر في كل مكان وتبيع أحلامها للفتيات الصغيرات. فهي تروج لزواج هـؤلاء الفتيات الجميلات من زوج غربي وسيـم وثري. ولهذا السبب يتقاطر على هذه المكاتب المئات كل يوم. وتقودهن هذه المكاتب عبر سلسلة طويلة من الخداع والتزييف وانهيار الأحلام إلى أن يصبحن أسيرات لشبكات الدعارة المنتشرة في أوربا. وأصبح المنظر المألوف في كل علب الليل هو بنات الهوى الروسيات العاجزات عن العودة إلى أوطانهن والمرغمات على بيـع أجسادهن.

وحتى الآن لم يبت الرئيس الروسي في العرض الذي تقدم به متعهد ألماني بان يدفع مليون مارك (620.000 دولار) لقاء تنظيـم جولة عالمية يعرض فيها الجثمان المحنط لزعيم الثورة السوفييتية فلادمير إيليتش لينين. وقد قدم المتعهد هذا العرض السخي لأن لديه بالفعل طلبات ملحة لعرض هذا الجثمان في برلن وباريس وواشنطن. ومادام يلتسين قد أوقف مراسيم حرس الشرف الواقفين على الضريح وأنهى علامات الاحترام لهذا الجسد فلماذا لا يستفيد منه تجاريا لقاء حفنة من الماركات؟!

والأمر لا يختلف كثيرا في بولندا التي دقت المسمار الأول في نعش الشيوعية ومع ذلك لم تستطع أن تخرج من مرحلة الفوضى والديون المتراكمة التي تمر بها. فقد اكتشفت الشرطة عصابات منظمة تساعد على بيع الأطفال إلى آباء غربيين يعانون من العقم، وأصبحت بولندا بذلك منافسة لدول جنوب شرق آسيا التعيسة الحظ.

ومازالت الأخبار القادمة من شرق أوربا تثير الرثاء. ولا أعتقد أن الحال سوف ينصلح كثيرا في عامنا القادم.

مذابح وأشياء أخرى

ولكن الأزمات والانهيارات ليست وقفا على الدول الاشتراكية السابقة فالدول الرأسمالية العتيدة تعاني منها بنفس الدرجة، بل إن انتهاء الاتحاد السوفييتي قد أظهر عوامل الضعف الكامنة في هذه المجتمعات على حقيقتها. المجتمعات التي تتمتع بالرفاهية وتعاني من الخواء الروحي والعنف الموجه ضد الآخر.

في الولايات المتحدة لم تتوقف حوادث القتل الجماعي وامتدت إلى أكثر من مدينة دون أن يكون هناك دافع محدد إلا إذكاء نزعات العنف وتصاعد حدة درجة الحنق لدى بعض الناس. ولعل أشهر هذه الحوادث هو ما حدث في ولاية فلوريدا عندما اقتحم شاب عمره 25 عاما أحد محلات ماكدونالد الشهيرة وأطلق النار على كل الجالسين حول المناضد يتناولون الطعام.. قاتل غريب لأناس غرباء لم يرهم ولم يروه قبل هذه اللحظة. مجتمع خائف يبادر الآخرين بالعدوان قبل أن يعتدوا هم عليه!.

تجسيد بشع لما كان يحدث في الغرب المتوحـش القديم، مجتمع خطر يعيش على حافة الانتحار على حد تعبير البروفيسور جيمس ليسون عالم الاجتماع بجامعة فلوريدا.

وظاهرة الانتحار في هذا العام امتدت من الصين حيث قامت الآلاف من الفئران السمينة بالانتحار الجماعي وهي تندفع إلى البحار والآبار وحواف الصخور في سرعة مجنونة، إلى إيطاليا التي انتحر فيها اثنا عشر فأرا سمينا من رجال الأعمال بعد أن حامت حولهم شبهات الفساد السياسي والاقتصادي وعن علاقتهم بعصابات المافيا، وتؤكد أخبار هذا العام أن أخبار الفساد في أوساط رجال الأعمال لم تعد مقصورة على إيطاليا فقط.

رقصة حسيبة! "

لقد تعلمت أن أقذف بالكرة أكثر من سرعة أفكاري".

كانت هذه كلمات لاعبة التنس العالمية سانشيز قبل أن تتلقى طعنة في ظهرها من عاشق غيور كان يخشى أن تفوز على لاعبته المفضلة شتيفي غراف.

نزعات العنف لم تزك عالم الرياضة أيضا هذا العام، أحداث الشغب لم تتوقف في الملاعب وخارج الملاعب أيضا، المشجعون الإنجليز مارسوا هوايتهم المعتادة، شربوا وسكروا وانهزم فريقهم فانهالوا تحطيما على شوارع هولندا، ومن الغريب أن بريطانيا التي هي مهد كرة القدم والتي من حقها وحدها أن تدخل بثلاث فرق إلى كأس العالم تمتلك أسوأ جمهور مشجعين في العالم، ولا بد أن رجال الأمن قد تنفسوا الصعداء أخيرا حين اطمأنوا على خروج الإنجليز من البطولة لأن هذا يعني شغبا أقل وفنا أكثر.

والعكس من ذلك فإن خروج زامبيا من كأس العالم قد أحزن الكثيرين، ففي بداية التصفيات سقطت الطائرة التي كانت تقل الفريق الأول لزامبيا وهي في طريقها إلى السنغال ومات جميع أفراده، وأثارت هذه الفاجعة الحزن لجميع عشاق الرياض، ولم تنسحب زامبيا من التصفيات رغم ذلك، ولكنها كونت فريقا جديدا من الصف الثاني وتبرعت بعض الدول الأوربية بالمعسكرات التدريبية والمساعدات، وبدأ الفريق الصغير رحلته الشاقة نحو التصفيات واستطاعوا أن يجتازوا عقبات كل الفرق العتيدة حتى وصلوا إلى المحطة الأخيرة وكان يكفيهم التعادل مع المغرب كي يتأهلوا لنهائيات الكأس في أمريكا ولكنهم انهزموا بهدف وحيد.

على أية حال علينا أن نهلل لأن فريقين عربيين هما السعودية والمغرب قد استطاعا أن يصلا إلى هذه النهائيات وأن ننظر إلى حال الكرة المصرية التي ما زالت تتعثر منذ أن فقدت فرصتها، وهي تمر بأزمة حقيقية، ولعل أكثر الأحداث تجسيدا لها هي ما يطلق عليه "معركة رضا عبدالعال " فهذا اللاعب الذي كان يلعب لسنوات طويلة ضمن صفوف نادى الزمالك القاهري قرر الانتقال للعب مع منافسه التقليدي النادي الأهلي لقاء مبلغ كبير، وهكذا فتح المزاد، رفض الزمالك أن يتنازل، وعرض على اللاعب مبلغا أكبر فزاد الأهلي في سعره المعروض وبدأ اللاعب- الذي لم يكن ماهرا في الملعب بنفس مهارته في المساومة- اللعب على كل الحبال، وبدأت المبالغ في التصاعد وسط أزمة اقتصادية خانقة وديون متراكمة وأناس مثقلين بهموم الحياة ومخاوف الحركات الإرهابية بذلت كل هذه المبالغ سهلة ورخيصة تحت قدمي لاعب كرة وانشغلت الصحف اليومية بتتبع تفاصيلها وترك كتاب الأعمدة في الصحف اليومية الكبرى انشغالاتهم السياسية كي يشاركوا في المعركة وأعلن الكاتب صلاح عيسى في سخرية أنه كاتب وسياسي ومفكر ومؤرخ ومع ذلك يعرض نفسه للبيع بربع المبلغ الذي وصل إليه ثمن لاعب الكرة رضا عبدالعال، ولم يفطن أحد من الذين جروا وراء هذه الصفقة أنها وغيرها من الصفقات المشابهة هي التي تجعل مراجل الغضب على درجة دائمة من الغليان.

ولا توازي شهرة رضا عبدالعال شهرة اللاعب الكبير مارادونا بطبيعة الحال، فقد خرج أخيرا من ركام الفضائح التي طاردته طويلا واتهمته بالتهرب من الضرائب والاتجار في المخدرات وقرر الاستجابة لنداء رئيس جمهورية الأرجنتين والعودة إلى الملاعب، ولكن اللاعب الأسطوري حتى الآن لم يبق منه إلا الذكرى ويبدو أن الزمن القاسي لا يرحم أحدا.

ولكن أغرب أخبار العام الرياضية في رأيي هو ما فعلته العداءة الجزائرية حسيبة بومرقة، فهي بطلة نادرة في عالمنا العربي الذي تعود أن يقبع دائما في ذيل البطولات الدولية، ولكن حسيبة كانت بطلة نادرة وعندما اشتركت في بطولة العالم لألعاب القوى كانت مهيأة للفوز بالميدالية الذهبية، وقد اجتازت حسيبة المراحل الأولى بالفعل ولكنها حين اكتشفت الفارق الكبير بينها وبين منافستها الفرنسية توقفت وأخذت ترقص وتحيي الجمهور وتغيظ العداءة الفرنسية التي واصلت جريها بلا مبالاة حتى اخترقت حاجز السباق وفازت بالمركز الأول وتركت حسيبة تواصل رقصها في المركز الثاني. هل تذكرون قصة الأرنب المغرور والسلحفاة الدءوب؟ هذا ما حدث بالضبط!.

وبعد...

حصاد غريب لعام أشد غرابة، البكاء فيه أكثر من الضحك، وأخبار التعاسة تطغى على أخبار الفرح، ربما كان علينا أن نتذكر أن عجلة التطور لم تتوقف، وأننا نعيش على أعتاب ثورة علمية جديدة تتمثل في إنجازات الهندسة الوراثية ولكن التطور الحقيقي لا يكون إلا بتطوير أساليب مقاومة الاستغلال والتسلط والقمع الذي يواجهه إنسان العالم، ولعلنا يمكن أن نقول في النهاية إن هذا العام كان قاسيا على الإنسان وعلى الديناصورات وعلى الكائنات المجنحة أيضا.

 

محمد الرميحي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات