رِحْلَةٌ إلـى مالـي!

لَعَلَّكُمْ،‭ ‬أَصْدِقائي،‭ ‬مازِلْتُمْ‭ ‬تَذْكُرونَ‭ ‬جَيِّداً‭ ‬رِحْلَتي‭ ‬إلى‭ ‬الصُّومالِ،‭ ‬عِنْدَما‭ ‬نَجَحْتُ‭ ‬في‭ ‬الاِمْتِحانِ،‭ ‬فَأَهْدَتْني‭ ‬جَدَّتي‭ ‬جِلْباباً‭ ‬أبْيَضَ‭ ‬اللَّوْنِ،‭ ‬وَرِثَتْهُ‭ ‬عَنْ‭ ‬جَدِّها‭. ‬ولَمَّا‭ ‬لَبِسْتُهُ،‭ ‬اخْتَفَيْتُ‭ ‬عَنِ‭ ‬الْعُيونِ،‭ ‬ولَمْ‭ ‬يَعُدْ‭ ‬أقارِبي‭ ‬وأصْحابي‭ ‬يَرَوْنَني،‭ ‬أوْ‭ ‬يَعْرِفونَ‭ ‬شَيْئاً‭ ‬عَنِّي،‭ ‬ماعَدا‭ ‬جَدَّتي‭ ‬صاحِبَةَ‭ ‬الْهَدِيَّةِ‭!‬

لَقَدْ‭ ‬أعْجَبَتْني‭ ‬تِلْكَ‭ ‬الرِّحْلَةُ،‭ ‬الَّتي‭ ‬لَمْ‭ ‬يُصِبْني‭ ‬فيها‭ ‬خَطَرٌ،‭ ‬إِذْ‭ ‬سافَرْتُ‭ ‬إلى‭ ‬الصُّومالِ‭ ‬سالِماً،‭ ‬وعُدْتُ‭ ‬مِنْها‭ ‬سالِماً،‭ ‬والْفَضْلُ‭ ‬يَرْجِعُ‭ ‬إلى‭ ‬الْجِلْبابِ‭ ‬السِّحْري‭ ‬الَّذي‭ ‬حَجَبَني‭ (‬أخْفاني‭) ‬عَنِ‭ ‬الْحَيَواناتِ‭ ‬الْمُفْتَرِسَةِ،‭ ‬كما‭ ‬حَجَبَني‭ ‬عَنِ‭ ‬الْمُتَحارِبينَ‭!‬

لَكِنْ،‭ ‬في‭ ‬هَذِهِ‭ ‬الْمَرَّةِ،‭ ‬خَطَرَ‭ ‬بِبالي‭ (‬لاحَ‭ ‬بِهِ‭) ‬أنْ‭ ‬أرْحَلَ‭ ‬إلى‭ ‬مالي،‭ ‬وهِيَ‭ ‬بِلادٌ‭ ‬لا‭ ‬تَقِلُّ‭ ‬خَطَراً‭ ‬عَنِ‭ ‬الصُّومالِ‭. ‬فَنَزَلْتُ‭ ‬إلى‭ ‬الْقَبْوَ‭ (‬بِناء‭ ‬تَحْتَ‭ ‬الأرْضِ‭) ‬بِحَـذَرٍ‭ ‬دَرَجَةً‭ ‬دَرَجَةً،‭ ‬ويَداي‭  ‬تَتَلَمَّسُان‭ ‬الْجِدارَ،‭ ‬كَيْ‭ ‬لا‭ ‬أزْلَقَ،‭ ‬فَتَلْتَوِيَ‭ ‬رِجْلي‭ ‬أوْ‭ ‬تَنْكَسِرَ،‭ ‬وأقَـعَ‭ ‬على‭ ‬وَجْهي،‭ ‬وبَدَل‭ ‬أنْ‭ ‬أقْضِيَ‭ ‬عُطْلَتي‭ ‬في‭ ‬مالي،‭ ‬أُمْضيها،‭ ‬لا‭ ‬سَمَحَ‭ ‬اللَّهُ،‭ ‬بِالْمَشْفى‭!‬

وفي‭ ‬آخِرِ‭ ‬دَرَجَةٍ‭ ‬بِالسُّلَّمِ،‭ ‬وَجَدْتُ‭ ‬الصُّنْدوقَ‭ ‬الأَسْوَدَ‭ ‬الْمُزَرْكَشَ‭ (‬الْمُزَيَّنَ‭) ‬بِنُقوشٍ‭ ‬وزَخارِفَ‭ ‬فِضِّيَّةٍ،‭ ‬فَفَتَحْتُهُ‭ ‬بِيَدٍ‭ ‬مُرْتَعِشَةٍ‭ (‬مُضْطَرِبَةٍ‭) ‬ثُمَّ‭ ‬أخْرَجْتُ‭ ‬مِنْهُ‭ ‬جِلْباباً‭ ‬وطُرْبوشاً،‭ ‬لَبِسْتُهُما‭ ‬في‭ ‬الْحينِ،‭ ‬وأنا‭ ‬أُرَدِّدُ‭ ‬في‭ ‬نَفْسي‭ ‬كَلِمَةَ‭ ‬السِّرِّ،‭ ‬ثَلاثَ‭ ‬مَرَّاتٍ‭: ‬لِتَصْحَبْني،‭ ‬يا‭ ‬جِلْبابي،‭ ‬في‭ ‬حَلِّي‭ ‬وتَرْحالي،‭ ‬إلى‭ ‬بِلادِ‭ ‬مالي‭!‬

وبِمُجَرَّدِ‭ ‬ما‭ ‬نَطَقْتُ‭ ‬بِالْحَرْفِ‭ ‬الأَخيرِ،‭ ‬وَجَدْتُني‭ ‬تَحْتَ‭ ‬نَخْلَةٍ‭ ‬باسِقَةٍ‭ (‬عالِيَةٍ‭ ‬جِداًّ‭)  ‬وأمامَ‭ ‬طِفْلٍ‭ ‬يَعْزِفُ‭ ‬على‭ ‬النَّايِ،‭ ‬وحَوْلَهُ‭ ‬جَمَلانِ،‭ ‬يَسْتَمِعانِ‭ ‬إلى‭ ‬نَغَماتِهِ‭ ‬الرَّقيقةِ،‭ ‬فَحَيَّيْتُهُ‭ ‬بِصَوْتٍ‭ ‬هادِئٍ،‭ ‬كَيْ‭ ‬لا‭ ‬يَنْزَعِجَ‭ (‬يَقْلَقَ‭) ‬مِنِّي‭: ‬اَلسَّلامُ‭ ‬عَلَيْكَ،‭ ‬أخي‭!‬

  ‬تَوَقَّفَ‭ ‬عَنِ‭ ‬الْعَزْفِ،‭ ‬بَغْتَةً،‭ ‬وأخَذَ‭ ‬يَنْظُرُ‭ ‬في‭ ‬ذُهولٍ‭ (‬دَهْشَةٍ‭) ‬يَميناً‭ ‬ويَساراً،‭ ‬ويَدورُ‭ ‬حَوْلَ‭ ‬النَّخْلَةِ،‭ ‬باحِثاً‭ ‬عَنِّي‭. ‬ولَمَّا‭ ‬لَمْ‭ ‬يَعْثُرْ‭ ‬عَلَيَّ‭ (‬لَمْ‭ ‬يَجِدْني‭) ‬طَمْأَنْتُهُ‭ ‬باسِماً‭: ‬اِهْدَأْ،‭ ‬أَخي،‭ ‬لا‭ ‬تَخْشَ‭ ‬أَذًى‭ ‬مِنِّي‭ (‬لا‭ ‬تَخَفْ‭ ‬سوءاً‭)!..‬فَأنا‭ ‬طِفْلٌ‭ ‬مِنَ‭ ‬الإِنْسِ،‭ ‬مِثْلُكَ‭ ‬تَماماً،‭ ‬ألْبَسُ‭ ‬جِلْباباً‭ ‬أبْيَضَ،‭ ‬يَحْجُبُني‭ ‬عَنْكَ‭!‬

سَألَني‭ ‬في‭ ‬دَهْشَةٍ‭: ‬يالَلْغَرابَةِ‭!.. ‬ما‭ ‬الَّذي‭ ‬أتى‭ ‬بِكَ‭ ‬إلى‭ ‬هَذِهِ‭ ‬الْبِلادِ‭ ‬غَيْرِ‭ ‬السَّاحِلِيَّةِ،‭ ‬الَّتي‭ ‬يُحيطُ‭ ‬بِها‭ ‬الْيابِسُ‭ ‬مِنْ‭ ‬كُلِّ‭ ‬جِهاتِها،‭ ‬وتوجَدُ‭ ‬في‭ ‬الْجُزْءِ‭ ‬الدَّاخِلي‭ ‬مِنْ‭ ‬غَرْبِ‭ ‬إفْريقْيا؟‭!‬

  ‬ضَحِكْتُ‭ ‬قائلاً‭:  ‬أنا‭ ‬لا‭ ‬أُريدُ‭ ‬أنْ‭ ‬أسْبَحَ‭ ‬في‭ ‬بَحْرٍ،‭ ‬أوْ‭ ‬أسْتَظِلَّ‭ ‬بِشَجَرٍ،‭ ‬إنَّما‭ ‬أنْ‭ ‬أجولَ‭ ‬هَذِهِ‭ ‬الْبِلادَ‭ ‬الَّتي‭ ‬كانَتْ‭ ‬في‭ ‬الْماضي‭ ‬أغْنى‭ ‬وأقْوى‭ ‬الدُّوَلِ‭ ‬الإفْريقِيَّةِ‭!‬

قالَ‭ ‬الطِّفْلُ‭ ‬مُوافِقاً‭: ‬حَقاًّ‭ ‬ما‭ ‬تَقولُ،‭ ‬أخي‭!.. ‬ولِكَيْ‭ ‬تَعْرِفَها‭ ‬أكْثَرَ،‭ ‬سَآخُذُكَ‭ ‬إلى‭ ‬الْمَدينَةِ‭ ‬الْعِلْمِيَّةِ‭ (‬تُمْبُكْتو‭)!‬

تَرَكْنا‭ ‬الْجَمَلَيْنِ‭ ‬في‭ ‬الْمَرْعى،‭ ‬وسِـرْنا‭ ‬في‭ ‬طريقٍ‭ ‬رَمْلِيٍّ،‭ ‬نَتَحَدَّثُ‭ ‬مَعاً،‭ ‬فيما‭ ‬الْمارُّونَ‭ ‬يَسْتَغْرِبونَ‭ ‬مِنْ‭ ‬صاحِبي،‭ ‬إذْ‭ ‬كانوا‭ ‬لا‭ ‬يَرَوْنَهُ‭ ‬إلاَّ‭ ‬وَحْدَهُ،‭ ‬فَيَظُنُّونَهُ‭ ‬مَجْنوناً‭ ‬أوْ‭ ‬مَخْبولاً،‭ ‬يَسْألُ‭ ‬ويُجيبُ‭ ‬نَفْسَهُ‭ ‬حيناً،‭ ‬يَضْحَكُ‭ ‬مَعَها‭ ‬حيناً‭ ‬آخَرَ‭!‬

سَألْتُهُ‭ ‬عَنْ‭ ‬مَعْنى‭ ‬اسْمِ‭ (‬مالي‭) ‬فَأجابَني‭: ‬يَدُلُّ‭ ‬هذا‭ ‬الاِسْمُ‭ ‬في‭ ‬لُغَتِنا‭ (‬الْمانْدِيَّةِ‭) ‬على‭ ‬الْمَكانِ‭ ‬الَّذي‭ ‬يَعيشُ‭ ‬فيهِ‭ ‬الْمَلِكُ،‭ ‬وهُناكَ‭ ‬مَنْ‭ ‬يَظُنُّهُ‭ ‬تَغْييراً‭ ‬لِكَلِمَةِ‭ (‬مانْدوجو‭) ‬الْقَبيلَةِ‭ ‬الزِّنْجِيَّةِ‭ ‬الأولى،‭ ‬الْمُعْتَنِقةِ‭ ‬للإسْلامِ‭ ‬في‭ ‬آخِر‭ ‬الْقَرْنِ‭ ‬الْحادي‭ ‬عَشَرَ،‭ ‬والْمُؤَسِّسَةِ‭ ‬لِلْمَمْلَكَةِ‭ ‬الْمالِيَّةِ‭ ‬في‭ ‬عَهْدِ‭ ‬الْمُرابِطينَ‭. ‬ويَجْري‭ ‬في‭ ‬بِلادي‭ ‬نَهْرانِ‭ ‬عَظيمانِ،‭ ‬هُما‭ ‬نَهْرُ‭ ‬السِّنِغالِ‭ ‬ونَهْرُ‭ ‬النِّيجَرِ،‭ ‬اللَّذَانِ‭ ‬يَهَبانِ‭ (‬يُعْطِيانِ‭) ‬لَنا‭ ‬الْحَياةَ،‭ ‬نَحْنُ‭ ‬الْمالِيِّينَ‭. ‬ألَمْ‭ ‬يَقُلِ‭ ‬اللَّهُ‭ ‬تَعالَى‭: ‬‮«‬وجَعَلْنا‭ ‬مِنَ‭ ‬الْماءِ‭ ‬كُلَّ‭ ‬شَيْءٍ‭ ‬حَيٍّ‮»‬؟‭!.. ‬فَبِماءِ‭ ‬هَذَيْنِ‭ ‬النَّهْرَيْنِ‭ ‬الْجارِيَيْنِ،‭ ‬نَسْقي‭ ‬نَباتاتِنا‭ ‬وحَيَواناتِنا،‭ ‬وفيهِما‭ ‬تَعْبُرُ‭ ‬سُفُنُنا‭ ‬وقَوارِبُنا‭ ‬نَحْوَ‭ ‬الْمُدُنِ‭ ‬والْبُلْدانِ‭ ‬الأُخْرى،‭ ‬ومِنْهُما‭ ‬نَصيدُ‭ ‬أنْواعاً‭ ‬مِنَ‭ ‬الأسْماكِ،‭ ‬نُصَدِّرُها‭ ‬إلى‭ ‬الدُّوَلِ‭ ‬الأُوربِّيَّةِ‭ ‬والآسْيَوِيَّةِ‭. ‬كما‭ ‬نُصَدِّرُ‭ ‬عَبْرَ‭ ‬النَّهْرَيْنِ‭ ‬الْقُطْنَ‭ ‬والْجِلْدَ،‭ ‬والزَّيْتَ‭ ‬النَّباتِيَّ‭ ‬والْفولَ‭ ‬والأُرْزَ‭ ‬والذُّرَةَ‭ ‬وفاكِهَةَ‭ ‬الْمانْجا،‭ ‬والْمِلْحَ‭ ‬والتَّوابِلَ،‭ ‬والنَّفْطَ‭ ‬والْفوسْفاتَ‭ ‬والذَهَبَ،‭ ‬وبقية‭ ‬الْمَعادِنِ‭...!   

ونَحْنُ‭ ‬كَذَلِكَ،‭ ‬إذا‭ ‬بِنا‭ ‬نَصِلُ‭ ‬إلى‭ ‬مَدينَةً‭ ‬كبيرَةً،‭ ‬على‭ ‬ضِفَّةِ‭ ‬نَهْرِ‭ ‬النِّيجَرِ،‭ ‬قَوِيَّةَ‭ ‬الْحَرَكَةِ،‭ ‬تَنْتَشِرُ‭ ‬فيها‭ ‬أسْواقُ‭ ‬الْمَلابِسِ‭ ‬والأواني،‭ ‬والْمَنْحوتاتِ‭ ‬والأقْنِعَةِ‭ ‬الْخَشَبِيَّةِ،‭ ‬وآلاتِ‭ ‬وأقْراصِ‭ ‬الْموسيقى‭ ‬الإفْريقِيَّةِ،‭ ‬والْمُجَسَّماتِ‭ ‬الْفَنِّيَّةِ‭ ‬الرَّفيعَةِ‭ ‬لِلْحَيَواناتِ،‭ ‬كَالْفِيَلَةِ‭ ‬وأفْراسِ‭ ‬النَّهْرِ‭ ‬والزَّرافاتِ‭...!‬

اِنْبَهَرْتُ‭ ‬بِها‭ (‬اِنْدَهَشْتُ‭)  ‬فَقُلْتُ‭ ‬بِدونِ‭ ‬شُعورٍ‭ ‬مِنِّي‭:‬

ـ‭ ‬ما‭ ‬أجْمَلَها‭ ‬مَدينَةً‭!.. ‬إنَّها‭ ‬تَنْبُضُ‭ ‬بِالْحَياةِ‭ (‬تَنْشَطُ‭)!‬

اِلْتَفَتَ‭ ‬الطِّفْلُ‭ ‬نَحْوي‭ ‬مُؤَكِّداً‭:‬

  ‬ـ‭ ‬أجَلْ،‭ ‬إنَّها‭ ‬كَذَلِكَ،‭ ‬لأنَّها‭ ‬أكْبَرُ‭ ‬مَوانِئِ‭ ‬بِلادي،‭ ‬وأكْبَرُ‭ ‬مُدُنِها،‭ ‬وهِيَ‭ ‬عاصِمَتُها‭...!‬

ـ‭ ‬أتَعْني‭ (‬باماكو‭)‬؟‭!‬

ـ‭ ‬نَعَمْ،‭ ‬أخي‭!.. ‬كانَتْ‭  ‬في‭ ‬سَنَةِ‭ ‬1806‭ ‬مُجَـرَّدَ‭ ‬قَرْيَةٍ‭ ‬صَغيرَةٍ،‭ ‬يَتَرَدَّدُ‭ ‬عَلَيْها‭ ‬الصَّيَّادونَ،‭ ‬إلى‭ ‬أنْ‭ ‬نَزَلَ‭ ‬بِها‭ ‬الرَّحَّالَةُ‭ ‬الأُسْكتلَنْدي‭ ‬الشَّهيرُ‭ ‬مونْجو‭ ‬بارْكْ،‭ ‬فَكَتَبَ‭ ‬عَنْها،‭ ‬ما‭ ‬جَعَلَ‭ ‬الْفَرَنْسِيِّينَ‭ ‬يُفَكِّرونَ‭ ‬في‭ ‬بِنائِها‭ ‬سَنَةَ‭ ‬1883‭ ‬ثُمَّ‭ ‬أصْبَحَتْ‭ ‬عاصِمَةً‭ ‬عامَ‭ ‬1905‭. ‬

وبِما‭ ‬أنَّ‭ ‬التَّماسيحَ‭ ‬كانَتْ‭ ‬تَعيشُ‭ ‬في‭ ‬نَهْرِها،‭ ‬أطْلَقوا‭ ‬عَلَيْها‭ ‬اسْمَ‭ (‬باماكو‭) ‬أيْ‭ (‬نَهْرُ‭ ‬التِّمْساحِ‭).. ‬لَكِنْ،‭ ‬إذا‭ ‬أرَدْتَ‭ ‬السِّباحَةَ‭ ‬فيهِ،‭ ‬يُمْكِنُكَ‭ ‬بِلا‭ ‬خَوْفٍ،‭ ‬لأنَّ‭ ‬التَّماسيحَ‭ ‬انْقَرَضَتْ‭ ‬مِنْهُ‭ ‬بِالْمَرَّةِ،‭ ‬مُنْذُ‭ ‬سَنَواتٍ‭ ‬طَويلةٍ‭!   

  ‬قُلْتُ‭ ‬لَهُ‭ ‬ضاحِكاً‭:‬

ـ‭ ‬دَعْنا‭ ‬مِنَ‭ ‬السِّباحَةِ،‭ ‬وهَيَّا‭ ‬بِنا‭ ‬إلى‭ ‬مَدينَةِ‭ ‬الْعِلْمِ‭ ‬والدِّينِ‭ ‬والأدَبِ‭ (‬تُمْبُكْتو‭)!‬

وهُنا،‭ ‬لاحَظْتُهُ‭ ‬يَتَرَدَّدُ‭ ‬في‭ ‬كَلامِـهِ،‭ ‬كَأنَّهُ‭ ‬يُخْفي‭ ‬عَنِّي‭ ‬شَيْئاً،‭ ‬لا‭ ‬يُريدُ‭ ‬أنْ‭ ‬يُخْبِرَني‭ ‬بِهِ،‭ ‬فَسَألْتُهُ‭:‬

ـ‭ ‬إِيهِ،‭ ‬أخي‭!.. ‬ماذا‭ ‬بِكَ؟‭!.. ‬كُلُّ‭ ‬مُشْكِلَةٍ‭ ‬لَها‭ ‬حَلٌّ‭!‬

رَدَّ‭ ‬عَلَيَّ‭ ‬مُتَمْتِماً‭:‬

ـ‭ ‬يَلْزَمُنا‭.. ‬مالٌ‭ ‬كَثيرٌ،‭ ‬كَيْ‭ ‬نَحْجِزَ‭ ‬تَذاكِرَ‭ ‬السَّفَرِ‭ ‬في‭ ‬الطَّائرَةِ،‭ ‬لأنَّ‭ (‬تُمْبُكْتو‭) ‬تَبْعُدُ‭ ‬عَنِ‭ ‬الْعاصِمَةِ‭ ‬ِثَلاث‭ ‬ساعاتٍ‭! ‬

أطْلَقْتُ‭ ‬ضِحْكَةً،‭ ‬وأنا‭ ‬أَمْسِكْ‭ ‬بِهِ‭:‬

ـ‭ ‬لا‭ ‬تَشْغَلْ‭ ‬بالَكَ‭!.. ‬سَتَصِلُها‭ ‬في‭ ‬طَرْفَةِ‭ ‬عَيْنٍ‭!.. ‬يَكْفي‭ ‬أنْ‭ ‬

تَحْسُبْ‭ ‬مَعي‭: ‬واحِدٌ،‭ ‬اِثْنانِ،‭ ‬ثَلاثَةٌ‭.. ‬أيْنَ‭ ‬نَحْنُ‭ ‬الآنَ؟‭!‬

أرْسَلْنا‭ ‬النَّظَرَ،‭ ‬فَوَجَدْنا‭ ‬أنْفُسَنا‭ ‬في‭ ‬مَدينةِ‭ ‬عَتيقةٍ‭ (‬قَديـمةٍ‭ ‬جِداًّ‭) ‬بَيْنَ‭ ‬تِلالٍ‭ ‬رَمْلِيَّةٍ،‭ ‬جَوُّها‭ ‬حارٌّ،‭ ‬يَصِلُ‭ ‬إلى‭ ‬أرْبَعينَ‭ ‬دَرَجَةً‭. ‬ولِكَيْ‭ ‬لا‭ ‬تَضْرِبَنا‭ ‬الشَّمْسُ‭ ‬الْحامِيةُ،‭ ‬دَخَلْنا‭ ‬مَتْحَفاً،‭ ‬فَشاهَدْنا‭ ‬فيهِ‭ ‬بَعْضَ‭ ‬الأَدَواتِ،‭ ‬كَالْبِئْرِ‭ ‬والدَّلْوِ‭ ‬والْخَيْمَةِ‭ ‬والرَّحى‭ ‬والْكيسِ‭ ‬والْقُدورِ‭ ‬الطِّينِيَّةِ‭.‬

سَألْتُ‭ ‬الْمُرْشِدَ‭ ‬عَنْ‭ ‬هَذِهِ‭ ‬الأَدَواتِ،‭ ‬فَأجابَني‭:‬

ـ‭ ‬إنَّها‭ ‬لامْـرَأةٍ‭  ‬مُسِنَّةٍ،‭ ‬عَرَفَها‭ ‬النَّاسُ‭ ‬قَديـماً‭ ‬بِكَرَمِها‭ ‬وإخْلاصِها‭ ‬وصِدْقِها‭ ‬وأمانَتِها‭ ‬وقَناعَتِها‭. ‬فَكانَتْ‭ ‬قَبائلُ‭ ‬الرُّحَّلِ،‭ ‬وقَوافِلُ‭ ‬الْمُسافِرينَ‭  ‬والتُّجَّارِ،‭  ‬تَتْرُكَ‭ ‬أمْتِعَتَها‭ ‬أمانةً‭ ‬عِنْدَها‭. ‬ولِذَلِكَ‭ ‬سَمَّـوْا‭ ‬الْمَدينةَ‭ ‬باسْمِها‭ (‬بُِوكْتو‭) ‬بِإضافَةِ‭ (‬تِينْ‭) ‬أيْ‭ (‬مَوْضِعٌ‭).. ‬وأحْياناً،‭ ‬تُقْلَبُ‭ ‬النُّونُ‭ ‬ميماً‭ (‬تُمْبُكْتو‭)!   

خَرَجْنا‭ ‬مِنَ‭ ‬الْمَتْحَفِ،‭ ‬وسِرْنا‭ ‬في‭ ‬طَريقِنا‭ ‬نَتَجَوَّلُ‭ ‬في‭ ‬الْمَدينةِ،‭ ‬وما‭ ‬إنْ‭ ‬دَخَلْنا‭ ‬الْحَيَّ‭ ‬الْقَديـمَ،‭ ‬حَتَّى‭ ‬سَمِعْنا‭ ‬لَغَطاً‭ (‬أصْواتاً‭ ‬مُخْتَلِطَةً‭) ‬يَمْلأُ‭ ‬الْجَوَّ‭ ‬ضَوْضاءَ‭ (‬ضَجيجاً‭) ‬فَظَنَنَّاهُ‭ ‬سوقاً‭ ‬لِلْمَعْزِ‭ ‬والْجِمالِ،‭ ‬أوْ‭ ‬ما‭ ‬شابَهَ‭ ‬ذَلِكَ‭. ‬وبِمُجَرَّدِ‭ ‬أنْ‭ ‬تَقَدَّمْنا‭ ‬فيهِ‭ ‬خَطَواتٍ‭ ‬قَليلةً،‭ ‬ظَهَرَ‭ ‬لَنا‭ ‬بابٌ‭ ‬كَبيرٌ،‭ ‬تَحْرُسُهُ‭ ‬امْرَأةٌ‭ ‬بَدينةٌ‭ ‬وطَويلةٌ،‭ ‬والنِّساءُ‭ ‬والرِّجالُ‭ ‬يَقِفونَ‭ ‬جَماعاتٍ‭ ‬ووُحْداناً‭!‬

سَألْتُ‭ ‬صَديقي‭ ‬الْمالي‭ ‬عَنْهُمْ‭:‬

ـ‭ ‬ماذا‭ ‬يَنْتَظِرُ‭ ‬هَؤُلاءِ؟‭!.. ‬وماذا‭ ‬يوجَدُ‭ ‬وَراءَ‭ ‬الْبابِ؟‭! ‬هَلْ‭ ‬سَتُقَدَّمُ‭ ‬لَهُمْ‭ ‬هَدايا‭ ‬أوْ‭ ‬عَطايا؟‭! ‬إذَنْ،‭ ‬لِنَأْخُذْ،‭ ‬نَحْنُ‭ ‬كَذَلِكَ،‭ ‬دَوْرَنا‭ ‬مَعَهُمْ‭!‬

ضَحِكَ‭ ‬مِنِّي‭ ‬قائلاً‭:‬

ـ‭ ‬لا‭ ‬تَكُنْ‭ ‬جَشِعاً‭ (‬طَمَّاعاً‭)! ‬كُلُّ‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬الأَمْرِ‭ ‬أنَّ‭ ‬بَعْضَ‭ ‬سُكَّانِ‭ ‬الْمَدينةِ،‭ ‬يَظُنُّونَ‭ ‬أنَّ‭ ‬هُناكَ‭ ‬مَلَكاً‭ ‬بِجَناحَيْنِ،‭ ‬يَمْتَطي‭ ‬حِصاناً،‭ ‬هُوَ‭ ‬مَنْ‭ ‬يَحْرُسُ‭ ‬الْمَدينةَ،‭ ‬لَيْلَ‭ ‬نَهارَ‭. ‬فَيَأتونَ،‭ ‬كُلَّ‭ ‬يَوْمٍ،‭ ‬لِيَتَبَرَّكوا‭ ‬بِهِ‭!      

فَكَّرْتُ‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الأَمْرِ،‭ ‬ثُمَّ‭ ‬قُلْتُ‭ ‬لِصَديقي‭:‬

ـ‭ ‬لَوْ‭ ‬بَقِيَتِ‭ ‬الْمَدينَةُ،‭ ‬كما‭ ‬كانَتْ‭ ‬في‭ ‬الْقَرْنِ‭ ‬السَّادِسَ‭ ‬عَشَرَ،‭ ‬تَزْخَرُ‭ (‬تَمْتَلِئُ‭) ‬بِعَشَراتٍ‭ ‬مِنْ‭ ‬مَساجِدِها‭ ‬ومَراكِزِها‭ ‬الثَّقافِيَّةِ،‭ ‬وبِمَدارِسِها‭ ‬الْمِئةِ‭ ‬والثَّمانينَ،‭ ‬وبِعُلَمائِها‭ ‬الثَّلاثِمِائةِ‭ ‬والثَّلاثينَ‭.. ‬ولَوْ‭ ‬قَرَأ‭ ‬أهْلُها‭ ‬الآلافَ‭ ‬مِنْ‭ ‬مَخْطوطاتِها‭ ‬الْمَحْفوظةِ‭ ‬في‭ ‬مَكْتَباتِها،‭ ‬لَمَا‭ ‬مَلأوا‭ ‬عُقولَهُمْ‭ ‬بِهَذِهِ‭ ‬الأفْكارِ‭!‬

ـ‭ ‬صَدَقْتَ،‭ ‬أخي‭! ‬والْمَثَلُ‭ ‬يَقولُ‭: ‬الْعِلْمُ‭ ‬نورٌ‭! ‬تَعالَ‭ ‬نَرْجِعْ‭ ‬حالاً‭ ‬إلى‭ ‬مَكانِنا‭!‬

أمْسَكْتُ‭ ‬بِصَديقي،‭ ‬وطِرْتُ‭ ‬بِهِ‭ ‬إلى‭ ‬الْمَرْعى‭ ‬الَّذي‭ ‬لَقيتُهُ‭ ‬فيهِ،‭ ‬ثُمَّ‭ ‬تَرَكْتُهُ،‭ ‬وقَفَلْتُ‭ ‬عائداً‭ ‬إلى‭ ‬بَلَدي‭...! 

 

رسوم‭: ‬ماهر‭ ‬عبدالقادر