رِحْلَةٌ إلـى مالـي!
لَعَلَّكُمْ، أَصْدِقائي، مازِلْتُمْ تَذْكُرونَ جَيِّداً رِحْلَتي إلى الصُّومالِ، عِنْدَما نَجَحْتُ في الاِمْتِحانِ، فَأَهْدَتْني جَدَّتي جِلْباباً أبْيَضَ اللَّوْنِ، وَرِثَتْهُ عَنْ جَدِّها. ولَمَّا لَبِسْتُهُ، اخْتَفَيْتُ عَنِ الْعُيونِ، ولَمْ يَعُدْ أقارِبي وأصْحابي يَرَوْنَني، أوْ يَعْرِفونَ شَيْئاً عَنِّي، ماعَدا جَدَّتي صاحِبَةَ الْهَدِيَّةِ!
لَقَدْ أعْجَبَتْني تِلْكَ الرِّحْلَةُ، الَّتي لَمْ يُصِبْني فيها خَطَرٌ، إِذْ سافَرْتُ إلى الصُّومالِ سالِماً، وعُدْتُ مِنْها سالِماً، والْفَضْلُ يَرْجِعُ إلى الْجِلْبابِ السِّحْري الَّذي حَجَبَني (أخْفاني) عَنِ الْحَيَواناتِ الْمُفْتَرِسَةِ، كما حَجَبَني عَنِ الْمُتَحارِبينَ!
لَكِنْ، في هَذِهِ الْمَرَّةِ، خَطَرَ بِبالي (لاحَ بِهِ) أنْ أرْحَلَ إلى مالي، وهِيَ بِلادٌ لا تَقِلُّ خَطَراً عَنِ الصُّومالِ. فَنَزَلْتُ إلى الْقَبْوَ (بِناء تَحْتَ الأرْضِ) بِحَـذَرٍ دَرَجَةً دَرَجَةً، ويَداي تَتَلَمَّسُان الْجِدارَ، كَيْ لا أزْلَقَ، فَتَلْتَوِيَ رِجْلي أوْ تَنْكَسِرَ، وأقَـعَ على وَجْهي، وبَدَل أنْ أقْضِيَ عُطْلَتي في مالي، أُمْضيها، لا سَمَحَ اللَّهُ، بِالْمَشْفى!
وفي آخِرِ دَرَجَةٍ بِالسُّلَّمِ، وَجَدْتُ الصُّنْدوقَ الأَسْوَدَ الْمُزَرْكَشَ (الْمُزَيَّنَ) بِنُقوشٍ وزَخارِفَ فِضِّيَّةٍ، فَفَتَحْتُهُ بِيَدٍ مُرْتَعِشَةٍ (مُضْطَرِبَةٍ) ثُمَّ أخْرَجْتُ مِنْهُ جِلْباباً وطُرْبوشاً، لَبِسْتُهُما في الْحينِ، وأنا أُرَدِّدُ في نَفْسي كَلِمَةَ السِّرِّ، ثَلاثَ مَرَّاتٍ: لِتَصْحَبْني، يا جِلْبابي، في حَلِّي وتَرْحالي، إلى بِلادِ مالي!
وبِمُجَرَّدِ ما نَطَقْتُ بِالْحَرْفِ الأَخيرِ، وَجَدْتُني تَحْتَ نَخْلَةٍ باسِقَةٍ (عالِيَةٍ جِداًّ) وأمامَ طِفْلٍ يَعْزِفُ على النَّايِ، وحَوْلَهُ جَمَلانِ، يَسْتَمِعانِ إلى نَغَماتِهِ الرَّقيقةِ، فَحَيَّيْتُهُ بِصَوْتٍ هادِئٍ، كَيْ لا يَنْزَعِجَ (يَقْلَقَ) مِنِّي: اَلسَّلامُ عَلَيْكَ، أخي!
تَوَقَّفَ عَنِ الْعَزْفِ، بَغْتَةً، وأخَذَ يَنْظُرُ في ذُهولٍ (دَهْشَةٍ) يَميناً ويَساراً، ويَدورُ حَوْلَ النَّخْلَةِ، باحِثاً عَنِّي. ولَمَّا لَمْ يَعْثُرْ عَلَيَّ (لَمْ يَجِدْني) طَمْأَنْتُهُ باسِماً: اِهْدَأْ، أَخي، لا تَخْشَ أَذًى مِنِّي (لا تَخَفْ سوءاً)!..فَأنا طِفْلٌ مِنَ الإِنْسِ، مِثْلُكَ تَماماً، ألْبَسُ جِلْباباً أبْيَضَ، يَحْجُبُني عَنْكَ!
سَألَني في دَهْشَةٍ: يالَلْغَرابَةِ!.. ما الَّذي أتى بِكَ إلى هَذِهِ الْبِلادِ غَيْرِ السَّاحِلِيَّةِ، الَّتي يُحيطُ بِها الْيابِسُ مِنْ كُلِّ جِهاتِها، وتوجَدُ في الْجُزْءِ الدَّاخِلي مِنْ غَرْبِ إفْريقْيا؟!
ضَحِكْتُ قائلاً: أنا لا أُريدُ أنْ أسْبَحَ في بَحْرٍ، أوْ أسْتَظِلَّ بِشَجَرٍ، إنَّما أنْ أجولَ هَذِهِ الْبِلادَ الَّتي كانَتْ في الْماضي أغْنى وأقْوى الدُّوَلِ الإفْريقِيَّةِ!
قالَ الطِّفْلُ مُوافِقاً: حَقاًّ ما تَقولُ، أخي!.. ولِكَيْ تَعْرِفَها أكْثَرَ، سَآخُذُكَ إلى الْمَدينَةِ الْعِلْمِيَّةِ (تُمْبُكْتو)!
تَرَكْنا الْجَمَلَيْنِ في الْمَرْعى، وسِـرْنا في طريقٍ رَمْلِيٍّ، نَتَحَدَّثُ مَعاً، فيما الْمارُّونَ يَسْتَغْرِبونَ مِنْ صاحِبي، إذْ كانوا لا يَرَوْنَهُ إلاَّ وَحْدَهُ، فَيَظُنُّونَهُ مَجْنوناً أوْ مَخْبولاً، يَسْألُ ويُجيبُ نَفْسَهُ حيناً، يَضْحَكُ مَعَها حيناً آخَرَ!
سَألْتُهُ عَنْ مَعْنى اسْمِ (مالي) فَأجابَني: يَدُلُّ هذا الاِسْمُ في لُغَتِنا (الْمانْدِيَّةِ) على الْمَكانِ الَّذي يَعيشُ فيهِ الْمَلِكُ، وهُناكَ مَنْ يَظُنُّهُ تَغْييراً لِكَلِمَةِ (مانْدوجو) الْقَبيلَةِ الزِّنْجِيَّةِ الأولى، الْمُعْتَنِقةِ للإسْلامِ في آخِر الْقَرْنِ الْحادي عَشَرَ، والْمُؤَسِّسَةِ لِلْمَمْلَكَةِ الْمالِيَّةِ في عَهْدِ الْمُرابِطينَ. ويَجْري في بِلادي نَهْرانِ عَظيمانِ، هُما نَهْرُ السِّنِغالِ ونَهْرُ النِّيجَرِ، اللَّذَانِ يَهَبانِ (يُعْطِيانِ) لَنا الْحَياةَ، نَحْنُ الْمالِيِّينَ. ألَمْ يَقُلِ اللَّهُ تَعالَى: «وجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ»؟!.. فَبِماءِ هَذَيْنِ النَّهْرَيْنِ الْجارِيَيْنِ، نَسْقي نَباتاتِنا وحَيَواناتِنا، وفيهِما تَعْبُرُ سُفُنُنا وقَوارِبُنا نَحْوَ الْمُدُنِ والْبُلْدانِ الأُخْرى، ومِنْهُما نَصيدُ أنْواعاً مِنَ الأسْماكِ، نُصَدِّرُها إلى الدُّوَلِ الأُوربِّيَّةِ والآسْيَوِيَّةِ. كما نُصَدِّرُ عَبْرَ النَّهْرَيْنِ الْقُطْنَ والْجِلْدَ، والزَّيْتَ النَّباتِيَّ والْفولَ والأُرْزَ والذُّرَةَ وفاكِهَةَ الْمانْجا، والْمِلْحَ والتَّوابِلَ، والنَّفْطَ والْفوسْفاتَ والذَهَبَ، وبقية الْمَعادِنِ...!
ونَحْنُ كَذَلِكَ، إذا بِنا نَصِلُ إلى مَدينَةً كبيرَةً، على ضِفَّةِ نَهْرِ النِّيجَرِ، قَوِيَّةَ الْحَرَكَةِ، تَنْتَشِرُ فيها أسْواقُ الْمَلابِسِ والأواني، والْمَنْحوتاتِ والأقْنِعَةِ الْخَشَبِيَّةِ، وآلاتِ وأقْراصِ الْموسيقى الإفْريقِيَّةِ، والْمُجَسَّماتِ الْفَنِّيَّةِ الرَّفيعَةِ لِلْحَيَواناتِ، كَالْفِيَلَةِ وأفْراسِ النَّهْرِ والزَّرافاتِ...!
اِنْبَهَرْتُ بِها (اِنْدَهَشْتُ) فَقُلْتُ بِدونِ شُعورٍ مِنِّي:
ـ ما أجْمَلَها مَدينَةً!.. إنَّها تَنْبُضُ بِالْحَياةِ (تَنْشَطُ)!
اِلْتَفَتَ الطِّفْلُ نَحْوي مُؤَكِّداً:
ـ أجَلْ، إنَّها كَذَلِكَ، لأنَّها أكْبَرُ مَوانِئِ بِلادي، وأكْبَرُ مُدُنِها، وهِيَ عاصِمَتُها...!
ـ أتَعْني (باماكو)؟!
ـ نَعَمْ، أخي!.. كانَتْ في سَنَةِ 1806 مُجَـرَّدَ قَرْيَةٍ صَغيرَةٍ، يَتَرَدَّدُ عَلَيْها الصَّيَّادونَ، إلى أنْ نَزَلَ بِها الرَّحَّالَةُ الأُسْكتلَنْدي الشَّهيرُ مونْجو بارْكْ، فَكَتَبَ عَنْها، ما جَعَلَ الْفَرَنْسِيِّينَ يُفَكِّرونَ في بِنائِها سَنَةَ 1883 ثُمَّ أصْبَحَتْ عاصِمَةً عامَ 1905.
وبِما أنَّ التَّماسيحَ كانَتْ تَعيشُ في نَهْرِها، أطْلَقوا عَلَيْها اسْمَ (باماكو) أيْ (نَهْرُ التِّمْساحِ).. لَكِنْ، إذا أرَدْتَ السِّباحَةَ فيهِ، يُمْكِنُكَ بِلا خَوْفٍ، لأنَّ التَّماسيحَ انْقَرَضَتْ مِنْهُ بِالْمَرَّةِ، مُنْذُ سَنَواتٍ طَويلةٍ!
قُلْتُ لَهُ ضاحِكاً:
ـ دَعْنا مِنَ السِّباحَةِ، وهَيَّا بِنا إلى مَدينَةِ الْعِلْمِ والدِّينِ والأدَبِ (تُمْبُكْتو)!
وهُنا، لاحَظْتُهُ يَتَرَدَّدُ في كَلامِـهِ، كَأنَّهُ يُخْفي عَنِّي شَيْئاً، لا يُريدُ أنْ يُخْبِرَني بِهِ، فَسَألْتُهُ:
ـ إِيهِ، أخي!.. ماذا بِكَ؟!.. كُلُّ مُشْكِلَةٍ لَها حَلٌّ!
رَدَّ عَلَيَّ مُتَمْتِماً:
ـ يَلْزَمُنا.. مالٌ كَثيرٌ، كَيْ نَحْجِزَ تَذاكِرَ السَّفَرِ في الطَّائرَةِ، لأنَّ (تُمْبُكْتو) تَبْعُدُ عَنِ الْعاصِمَةِ ِثَلاث ساعاتٍ!
أطْلَقْتُ ضِحْكَةً، وأنا أَمْسِكْ بِهِ:
ـ لا تَشْغَلْ بالَكَ!.. سَتَصِلُها في طَرْفَةِ عَيْنٍ!.. يَكْفي أنْ
تَحْسُبْ مَعي: واحِدٌ، اِثْنانِ، ثَلاثَةٌ.. أيْنَ نَحْنُ الآنَ؟!
أرْسَلْنا النَّظَرَ، فَوَجَدْنا أنْفُسَنا في مَدينةِ عَتيقةٍ (قَديـمةٍ جِداًّ) بَيْنَ تِلالٍ رَمْلِيَّةٍ، جَوُّها حارٌّ، يَصِلُ إلى أرْبَعينَ دَرَجَةً. ولِكَيْ لا تَضْرِبَنا الشَّمْسُ الْحامِيةُ، دَخَلْنا مَتْحَفاً، فَشاهَدْنا فيهِ بَعْضَ الأَدَواتِ، كَالْبِئْرِ والدَّلْوِ والْخَيْمَةِ والرَّحى والْكيسِ والْقُدورِ الطِّينِيَّةِ.
سَألْتُ الْمُرْشِدَ عَنْ هَذِهِ الأَدَواتِ، فَأجابَني:
ـ إنَّها لامْـرَأةٍ مُسِنَّةٍ، عَرَفَها النَّاسُ قَديـماً بِكَرَمِها وإخْلاصِها وصِدْقِها وأمانَتِها وقَناعَتِها. فَكانَتْ قَبائلُ الرُّحَّلِ، وقَوافِلُ الْمُسافِرينَ والتُّجَّارِ، تَتْرُكَ أمْتِعَتَها أمانةً عِنْدَها. ولِذَلِكَ سَمَّـوْا الْمَدينةَ باسْمِها (بُِوكْتو) بِإضافَةِ (تِينْ) أيْ (مَوْضِعٌ).. وأحْياناً، تُقْلَبُ النُّونُ ميماً (تُمْبُكْتو)!
خَرَجْنا مِنَ الْمَتْحَفِ، وسِرْنا في طَريقِنا نَتَجَوَّلُ في الْمَدينةِ، وما إنْ دَخَلْنا الْحَيَّ الْقَديـمَ، حَتَّى سَمِعْنا لَغَطاً (أصْواتاً مُخْتَلِطَةً) يَمْلأُ الْجَوَّ ضَوْضاءَ (ضَجيجاً) فَظَنَنَّاهُ سوقاً لِلْمَعْزِ والْجِمالِ، أوْ ما شابَهَ ذَلِكَ. وبِمُجَرَّدِ أنْ تَقَدَّمْنا فيهِ خَطَواتٍ قَليلةً، ظَهَرَ لَنا بابٌ كَبيرٌ، تَحْرُسُهُ امْرَأةٌ بَدينةٌ وطَويلةٌ، والنِّساءُ والرِّجالُ يَقِفونَ جَماعاتٍ ووُحْداناً!
سَألْتُ صَديقي الْمالي عَنْهُمْ:
ـ ماذا يَنْتَظِرُ هَؤُلاءِ؟!.. وماذا يوجَدُ وَراءَ الْبابِ؟! هَلْ سَتُقَدَّمُ لَهُمْ هَدايا أوْ عَطايا؟! إذَنْ، لِنَأْخُذْ، نَحْنُ كَذَلِكَ، دَوْرَنا مَعَهُمْ!
ضَحِكَ مِنِّي قائلاً:
ـ لا تَكُنْ جَشِعاً (طَمَّاعاً)! كُلُّ ما في الأَمْرِ أنَّ بَعْضَ سُكَّانِ الْمَدينةِ، يَظُنُّونَ أنَّ هُناكَ مَلَكاً بِجَناحَيْنِ، يَمْتَطي حِصاناً، هُوَ مَنْ يَحْرُسُ الْمَدينةَ، لَيْلَ نَهارَ. فَيَأتونَ، كُلَّ يَوْمٍ، لِيَتَبَرَّكوا بِهِ!
فَكَّرْتُ في هذا الأَمْرِ، ثُمَّ قُلْتُ لِصَديقي:
ـ لَوْ بَقِيَتِ الْمَدينَةُ، كما كانَتْ في الْقَرْنِ السَّادِسَ عَشَرَ، تَزْخَرُ (تَمْتَلِئُ) بِعَشَراتٍ مِنْ مَساجِدِها ومَراكِزِها الثَّقافِيَّةِ، وبِمَدارِسِها الْمِئةِ والثَّمانينَ، وبِعُلَمائِها الثَّلاثِمِائةِ والثَّلاثينَ.. ولَوْ قَرَأ أهْلُها الآلافَ مِنْ مَخْطوطاتِها الْمَحْفوظةِ في مَكْتَباتِها، لَمَا مَلأوا عُقولَهُمْ بِهَذِهِ الأفْكارِ!
ـ صَدَقْتَ، أخي! والْمَثَلُ يَقولُ: الْعِلْمُ نورٌ! تَعالَ نَرْجِعْ حالاً إلى مَكانِنا!
أمْسَكْتُ بِصَديقي، وطِرْتُ بِهِ إلى الْمَرْعى الَّذي لَقيتُهُ فيهِ، ثُمَّ تَرَكْتُهُ، وقَفَلْتُ عائداً إلى بَلَدي...!
رسوم: ماهر عبدالقادر