سويسْرا.. بِعَيْنِ الطَّائرِ!
حَكى لَنا مُعَلِّمُنا حِكاياتٍ مُدْهِشةً عَنِ الرَّحَّالَةِ والْفَنَّانِ الْعالَمي إيدْوارْدْ سَبِلْتِريني الَّذي قامَ بِرَحَلاتٍ على مَتْنِ (ظَهْرِ) مُنْطادٍ ما بَيْنَ عامي 1890 و 1910 إلى مِصْرَ وسويسْرا ودُوَلٍ أُخْرى، وأخَذَ لَها صُوَرًا جَميلَةً، سَمَّاها (عَيْنَ الطَّائرِ)!
أُعْجِبْتُ كَثيرًا بِما حَكاهُ مُعَلِّمُنا، لِمَا فيهِ مِنْ مُغامَراتٍ، وحينَ عُدْتُ إلى بَيْتي في الْمَساءِ، ودَخَلْتُ غُرْفَتي، فاجَأَني مُنْطادٌ صَغيرٌ فَوْقَ مَكْتَبي. فَتَحْتُهُ بِيَدٍ مُرْتَعِشةٍ (مُضْطَرِبَةٍ) فَوَجَدْتُ بَيْنَ ثَناياهُ (طَيَّاتِهِ) بِطاقةً، تَحْمِلُ الْجُمْلةَ التَّالِيةَ: (تَقَبَّلْ مِنِّي هَذِهِ الْهَدِيةَ الْبَسيطةَ، وتَذَكَّرْني دائِمًا)!
اِسْتَغْرَبْتُ مِـنَ الْهَـدِيةِ، الَّتي لَمْ أكُنْ أتَوَقَّعُها يَوْمًا، وتَساءَلْتُ في نَفْسي:
- مَنْ أرْسَلَها إلَيَّ، وعيدُ ميلادي مازالَ بَعيدًا؟!.. ألا يَكونُ الرَّحَّالَةُ؟!..لا لا، لَقَدْ تُوُفِّيَ مُنْذُ عَشَراتِ السِّنينَ!... ألا يَكونُ مُعَلِّمي؟!.. لَكِنْ، لِماذا خَصَّني بِها دونَ كُلِّ أصْدِقائي؟... رُبَّما لأنَّني مُجْتَهِدٌ ومُهَذَّبٌ، أوْ لأنَّني أُعْجِبْتُ بِحِكاياتِهِ الْغَريبةِ!
وأنا كَذَلِكَ، حائـرٌ بَيْنَ سُؤالٍ وجَـوابٍ، إذْ بِكيسِ الْمُنْطادِ يَنْتَفِخُ قَليلًا، ثُمَّ ظَهَرَ مِنْهُ الرَّحّالةُ إيدْوارْدْ مُتَكَوِّمًا في سَلَّتِهِ، فَابْتَسَمَ في وَجْهي قائلًا:
- مَساءُ الْخَيْرِ، بُنَيَّ!... هَلْ تُرافِقُني إلى سويسْرا، لِتُشاهِدَ مَناظِرَها الْجَميلةَ!
لَمْ أُفَكِّرْ في سُؤالِهِ، أوْ أتَرَدَّدْ لَحْظَةً، ووَجَدْتُني أُلْقي بِنَفْسي في السَّلَّةِ، فَانْطَلَقَ الْمُنْطادُ بِنا خارِجًا مِنْ شُرْفَةِ غُرْفَتي، ثُمَّ انْتَفَخَ أكْثَرَ في الْعُلى، حَتَّى صارَ ضَخْمًا (كَبيرًا جِدًاّ) وحَلَّقَ بِنا خَفيفًا في السَّماءِ!
- إذَنْ، أنْتَ الَّذي أكْرَمْتَني بِهَذا الْمُنْطادِ؟!
سَألْتُ الرَّحَّالَةَ، فَأَجابَني باسِمًا:
- أجَلْ!... لَقَدْ لاحَظْتُ إعْجابَكَ بِرَحَلاتي، ومُعَلِّمُكَ يَحْكي عَنِّي، فَأرَدْتُ أنْ أُحَقِّقَ أُمْنِيَّتَكَ في السَّفَرِ!
قُلْتُ لَهُ فَرِحًا:
- شُكْرًا، سَيِّدي!... وإلى أيْنَ تُريدُ أنْ تَأْخُذَني؟!
- إلى بَلَدِ الْمالِ الْكَثيرِ، والسَّاعاتِ الْمُمْتازَةِ، والْموسيقى الرَّاقِيةِ (الرَّفيعةِ).. سَتَجولُ وتَرى سويسْرا بِعَيْنِ الطَّائرِ، الْبِلادَ الَّتي يوجَدُ فيها مَتْحَفٌ كَبيرٌ، يَحْتَوي على كُلِّ صُوَري!
فَكَّرْتُ قَليلًا، ثُمَّ قُلْتُ لَهُ:
- يَعْني سَأَظَلُّ في سَلَّةِ الْمُنْطادِ، ولا أتَرَجَّلُ مِنْها!
أكَّدَ كَلامي، وهُوَ يُشيرُ بِأُصْبُعِهِ:
- تَمامًا، بُنَيَّ!... اُنْظُرْ، ومَتِّعْ عَيْنَيْكَ بِأجْمَلِ الْمَناظِرِ الطَّبيعِيَّةِ!...جِبالٌ عالِيةٌ، مِنْها (الأَلْبُ) يَكْسو قِمَمَها الثَّلْجُ (يُغَطِّي أعالِيَها) كَأنَّهُ فُسْتانٌ أبْيَضُ، تَرْتَديهِ الْعَروسُ لَيْلَةَ زِفافِها. وانْظُرْ إلى الْبَقَرِ، تَرْعى في سُفوحِها الْخَضْراءِ (أسافِلِها) بينما الأجْراسُ الَّتي تُطَوِّقُ أعْناقَها تَرِنُّ رَنَّاتٍ عَذْبَةً، كَيْ تَظَلَّ مُجْتَمِعَةً. وإلى الأطْفالِ فَرِحينَ، وهُمْ يَتَزَحْلَقونَ على الْجَليدِ، وإلى أكْثَرَ مِنْ ألْفٍ وخَمْسِمِئةِ بُحَيْرَةٍ، تَحُفُّها الأشْجارُ والأزْهارُ (تُحيطُ بِها) مِنْها بُحَيْرَةُ (جُنيفْ) على حافَّةِ «الألْبِ» تُشْبِهُ الْهِلالَ، وهِيَ أطْوَلُ بُحَيْرَةٍ في قارّةِ أُورباَّ كُلِّها..!
قاطَعْتُهُ في دَهْشةٍ:
- ومِنْ أيْنَ تَأْتيها هَذِهِ الْمِياهُ؟!
- ألا تَرى نَهْرَ «الرُّونْ» الَّذي يَمُدُّها بِمِياهِهِ الْعَذْبَةِ؟!... ولَوْلا تِلْكَ الْمِياهُ، الَّتي جَعَلَ اللَّهُ مِنْها «كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ» لَمَا انْتَشَرَتْ على ضِفافِها الْواسِعَةِ الْمُدُنُ السِّياحِيَّةُ، كَمَدينةِ جُنيفْ...!
- حَقًاّ، ما تَقولُ، سَيِّدي!... أرى كَذَلِكَ مِياهَها تَعْلو تَعْلو إلى السَّماءِ، ثُمَّ تَنْزِلُ تَنْزِلُ إلى سَطْحِها، بِسُرْعَةِ أرْبَعينَ كيلومِتْرًا في السَّاعَةِ!
- إنَّها نافورةٌ طَويلةٌ، يَمْتَدُّ عُلُوُّها مِئَةً وأرْبَعينَ مِتْرًا، أُنْشِئَتْ سَنَةَ 1886. كما أُنْشِئَتْ حَدائِقُ لِلنُّزْهَةِ واللَّعِبِ والْقَوارِبِ ورُكوبِ الدَّرَّاجاتِ الْهَوائِيَّةِ، وبِها ساعةٌ ضَخْمَةٌ، مُكَوَّنَةٌ مِنْ آلافِ الزُّهورِ الْجَميلةِ الأَشْكالِ والأَلْوانِ.
اِلْتَفَتَ إلَيَّ، فَرَأى عَيْنَيَّ سابِحَتَيْنِ بَعيدًا، وأحَسَّ بِعَقْلي غائبًا عَنْهُ، فَضَحِكَ مِنِّي قائلًا:
- إيهِ!... أيْنَ سَرَحْتَ بِعَيْنَيْكَ وعَقْلِكَ؟!
تَنَبَّهْتُ لِكَلامِهِ، فَأَجَبْتُهُ:
- لَقَدْ سَحَرَتْني تِلْكَ الطُّيورُ، الَّتي تَنْقَضُّ (تَهْجُمُ) على أسْماكِ الْبُحَيْرَةِ، لِتَجْعَلَها غَذاءً شَهِيًاّ لَها ولِفِراخِها!
أطْلَقَ ضَحْكَةً:
- أَجَلْ، بُنَيَّ!... لِهَذِهِ الْبُحَيْرَاتِ فَوائدُ صِحِّيَّةٌ، تَعودُ على الْبيئةِ والإنْسانِ والْحَيَوانِ.
وهُناكَ بُحَيْراتٌ أُخْرى، تُهَذِّبُ سُلوكَ الإنْسانِ، كَالْبُحَيْرَةِ الزَّرْقاءِ، الَّتي تَبْعُدُ عَنْ جُنيفَ بِمِئَتَيْن وأحَدَ عَشَرَ كيلومِتْرًا. وتُسَمَّى بُحَيْرَةِ الدُّموعِ، لأنَّها تُذَكِّرُ زائِرِيها بِقِصَّةِ الْوالِدَيْنِ اللَّذَيْنِ عاشا سَعيدَيْنِ عُمْرًا طَويلًا، ولَمَّا فَرَّقَ بَيْنَهُما الْمَوْتُ، ظَلَّتِ الزَّوْجَةُ تَبْكي، حَتَّى سالَتْ دُموعُها، لِتَمْلأَ الْبُحَيْرَةَ بِها، إخْلاصًا لِزَوْجِها...!
لَكِنْ، لا تَظُنَّ أنَّ هذا الْبَلَدَ طَبيعَةٌ فَقَطُّ، إنَّهُ قَلْبُ أُوربّا، الَّذي يُنْتِجُ السَّاعاتِ الرَّفيعةَ، ويَحْفَظُ أمْوالَ وثَرَواتِ الدُّوَلِ في مَصارِفِهِ، ويُقيمُ مِهْرَجاناتٍ لِلْموسيقى، يَحْضُرُها فَنَّانونَ كِبارٌ مِنْ كُلِّ الْقارَّاتِ والْبُلْدانِ...!
سَألْتُهُ باسِمًا:
- عُذْرًا، سَيِّدي، أنا لا أعْرِفُ مِنْ هذا الْبَلَدِ الأُوربي إلاَّ مَدينَةَ جُنيفْ، الَّتي يَتَرَدَّدُ اسْمُها على كُلِّ لِسانٍ، فَهَلْ هِيَ عاصِمَتُهُ؟
ـ لا، يا بُنَيَّ!... عاصِمَةُ سويسْرا، هِيَ الْمَدينَةُ الْهادِئةُ (بيرْنْ) ولَها مَكانَةٌ عالِيَةٌ بَيْنَ الْعُلَماءِ، لأنَّ فيها اكْتَشَفَ الْعالِمُ ألْبِرْتْ أَيْنْشْتايَنْ نَظَرِيَّةَ الْجاذِبِيَّةِ. وفيها وُلِدَ الْمُفَكِّرُ والْمُرَبِّي الْكَبيرُ جانْ جاكْ روسو عامَ 1712.
- حَسَنًا، سَيِّدي!... لَكِنَّني لا أعْلَمُ شَيْئًا عَنْ أسْماءِ هَذِهِ الْبِلادِ ومُدُنِها الْفاتِنَةِ!
- يَرى الْبَعْضُ أنَّ اسْمَ (سويسْرا) مُشْتَقٌّ مِنْ (سْويتْزَرْ) وهِيَ كَلِمَةٌ ألْمانِيَّةٌ، تَعْني (حَرْقَ) الْغابَةِ، الَّتي أُنْشِئَتْ على أرْضِها الْبِلادُ. ويُرْجِعُهُ آخَرُ إلى (شْويزْ) أرْضِ سُكَّانِها الأَوائلِ، وتَحَوَّلَ إلى (سويسْرا) ويَرى ثالِثٌ أنَّ (هَلْفِتيكا) اسْمُ قَبيلَةٍ، كانَتْ تَعيشُ على هَضْبَتِها، أصْبَحَ، لاحِقًا، سَويسْرا.
ويَدُلُّ اسْمُ جُنيفْ على شَجَرَةِ الْعَرْعَرِ، وعلى مَصَبِّ الْماءِ، وتُسَمَّى بِهِ الإناثُ، وفي دُوَلٍ أُخْرى، يُسَمَّى بِهِ الذُّكورُ أيْضًا، لأنَّهُ جَميلٌ، ويَتَفاءَلُ بِهِ الآباءُ والأُمَّهاتُ.
أمَّا اسْمُ (بيرْنْ) فَيَعْني (حَظيرَةً) لأَنَّها تُشْبِهُ (قَرْيَةً) رَغْمَ أنَّها أثَرِيَّةٌ، ويُقالُ إنَّ الإمْبْراطورَ بِرْنولْدْ الْخامِسَ، أطْلَقَ عَلَيْها هذا الاِسْمَ، بَعْدَ أنْ طارَدَ دُبًاّ. وصارَ هذا الْحَيَوانُ الْمُتَوَحِّشُ شِعارًا لِجَيْشِ الْبِلادِ.
فَتَحَ الرَّحالَةُ عُلْبَةً، وقالَ لي:
- تَفَضَّلْ، بُنَيَّ!
- ما هَذا؟!
- جُبْنٌ وشُكُولاتَةٌ، هُما مِنْ أفْضَلِ ما تُنْتِجُهُ سويسْرا، لأنَّها تَتَوَفَّرُ على الْمَراعي الْخُضْرِ، الَّتي تَظَلُّ الْبَقَرُ والْماعِزُ فيها النَّهارَ كُلَّهُ، تَرْعى الْكَلأَ والْحَشائِشَ الطَّرِيَّةَ، لِتُعْطِيَها حَليبًا وجُبْنًا. وتَتَوَفَّرُ على مَصانِعَ لِتَحْضيرِ الشُّكولاتة الْمُمْتازِة مِنْ حُبوبِ الْكاْكاوْ!... إذَنْ، خُذْ قِطْعَتَيْنِ مِنَ الْجُبْنِ والشُّكولاتة، ولا تُكْثِرْ مِنْهُما...!
اِبْتَسَمْتُ، وأنا أَمُدُّ يَدي إلى الْعُلْبَةِ:
- شُكْرًا جَزيلًا، سَيِّدي!... يَظْهَرُ لي أنَّكَ خَتَمْتَ هَذِهِ الرِّحْلَةِ بِالْجُبْنِ والشُّكولاتَة!... ألَيْسَ كَذَلِكَ؟!
- أَجَلْ، بُنَيَّ!... يا لَكَ مِنْ طِفْلٍ ذَكِيٍّ!.. هَيَّا نَعُودُ إلى عالَمِكَ الْعَرَبِيِّ الْجَميلِ، فَفيهِ مِنْ الْبُلْدانِ ما هُوَ أبْهى مَنْظَرًا، وأصْفى هَواءً، وأنْقى ماءً، كَأنَّهُ سويسْرا، أوْ أجْمَلُ...!
رسوم: ماهر عبدالقادر