سويسْرا.. بِعَيْنِ الطَّائرِ!

  ‬حَكى‭ ‬لَنا‭ ‬مُعَلِّمُنا‭ ‬حِكاياتٍ‭ ‬مُدْهِشةً‭ ‬عَنِ‭ ‬الرَّحَّالَةِ‭ ‬والْفَنَّانِ‭ ‬الْعالَمي‭ ‬إيدْوارْدْ‭ ‬سَبِلْتِريني‭ ‬الَّذي‭ ‬قامَ‭ ‬بِرَحَلاتٍ‭ ‬على‭ ‬مَتْنِ‭ (‬ظَهْرِ‭) ‬مُنْطادٍ‭ ‬ما‭ ‬بَيْنَ‭ ‬عامي‭ ‬1890‭ ‬و‭ ‬1910‭ ‬إلى‭ ‬مِصْرَ‭ ‬وسويسْرا‭ ‬ودُوَلٍ‭ ‬أُخْرى،‭ ‬وأخَذَ‭ ‬لَها‭ ‬صُوَرًا‭ ‬جَميلَةً،‭ ‬سَمَّاها‭ (‬عَيْنَ‭ ‬الطَّائرِ‭)!‬

  ‬أُعْجِبْتُ‭ ‬كَثيرًا‭ ‬بِما‭ ‬حَكاهُ‭ ‬مُعَلِّمُنا،‭ ‬لِمَا‭ ‬فيهِ‭ ‬مِنْ‭ ‬مُغامَراتٍ،‭ ‬وحينَ‭ ‬عُدْتُ‭ ‬إلى‭ ‬بَيْتي‭ ‬في‭ ‬الْمَساءِ،‭ ‬ودَخَلْتُ‭ ‬غُرْفَتي،‭ ‬فاجَأَني‭ ‬مُنْطادٌ‭ ‬صَغيرٌ‭ ‬فَوْقَ‭ ‬مَكْتَبي‭. ‬فَتَحْتُهُ‭ ‬بِيَدٍ‭ ‬مُرْتَعِشةٍ‭ (‬مُضْطَرِبَةٍ‭) ‬فَوَجَدْتُ‭ ‬بَيْنَ‭ ‬ثَناياهُ‭ (‬طَيَّاتِهِ‭) ‬بِطاقةً،‭ ‬تَحْمِلُ‭ ‬الْجُمْلةَ‭ ‬التَّالِيةَ‭: (‬تَقَبَّلْ‭ ‬مِنِّي‭ ‬هَذِهِ‭ ‬الْهَدِيةَ‭ ‬الْبَسيطةَ،‭ ‬وتَذَكَّرْني‭ ‬دائِمًا‭)!     

  ‬اِسْتَغْرَبْتُ‭ ‬مِـنَ‭ ‬الْهَـدِيةِ،‭ ‬الَّتي‭ ‬لَمْ‭ ‬أكُنْ‭ ‬أتَوَقَّعُها‭ ‬يَوْمًا،‭ ‬وتَساءَلْتُ‭ ‬في‭ ‬نَفْسي‭:                             ‬‭                 

  - ‬مَنْ‭ ‬أرْسَلَها‭ ‬إلَيَّ،‭ ‬وعيدُ‭ ‬ميلادي‭ ‬مازالَ‭ ‬بَعيدًا؟‭!.. ‬ألا‭ ‬يَكونُ‭ ‬الرَّحَّالَةُ؟‭!..‬لا‭ ‬لا،‭ ‬لَقَدْ‭ ‬تُوُفِّيَ‭ ‬مُنْذُ‭ ‬عَشَراتِ‭ ‬السِّنينَ‭!... ‬ألا‭ ‬يَكونُ‭ ‬مُعَلِّمي؟‭!.. ‬لَكِنْ،‭ ‬لِماذا‭ ‬خَصَّني‭ ‬بِها‭ ‬دونَ‭ ‬كُلِّ‭ ‬أصْدِقائي؟‭... ‬رُبَّما‭ ‬لأنَّني‭ ‬مُجْتَهِدٌ‭ ‬ومُهَذَّبٌ،‭ ‬أوْ‭ ‬لأنَّني‭ ‬أُعْجِبْتُ‭ ‬بِحِكاياتِهِ‭ ‬الْغَريبةِ‭! ‬

  ‬وأنا‭ ‬كَذَلِكَ،‭ ‬حائـرٌ‭ ‬بَيْنَ‭ ‬سُؤالٍ‭ ‬وجَـوابٍ،‭ ‬إذْ‭ ‬بِكيسِ‭ ‬الْمُنْطادِ‭ ‬يَنْتَفِخُ‭ ‬قَليلًا،‭ ‬ثُمَّ‭ ‬ظَهَرَ‭ ‬مِنْهُ‭ ‬الرَّحّالةُ‭ ‬إيدْوارْدْ‭ ‬مُتَكَوِّمًا‭ ‬في‭ ‬سَلَّتِهِ،‭ ‬فَابْتَسَمَ‭ ‬في‭ ‬وَجْهي‭ ‬قائلًا‭:‬

  - ‬مَساءُ‭ ‬الْخَيْرِ،‭ ‬بُنَيَّ‭!... ‬هَلْ‭ ‬تُرافِقُني‭ ‬إلى‭ ‬سويسْرا،‭ ‬لِتُشاهِدَ‭ ‬مَناظِرَها‭ ‬الْجَميلةَ‭!‬

  ‬لَمْ‭ ‬أُفَكِّرْ‭ ‬في‭ ‬سُؤالِهِ،‭ ‬أوْ‭ ‬أتَرَدَّدْ‭ ‬لَحْظَةً،‭ ‬ووَجَدْتُني‭ ‬أُلْقي‭ ‬بِنَفْسي‭ ‬في‭ ‬السَّلَّةِ،‭ ‬فَانْطَلَقَ‭ ‬الْمُنْطادُ‭ ‬بِنا‭ ‬خارِجًا‭ ‬مِنْ‭ ‬شُرْفَةِ‭ ‬غُرْفَتي،‭ ‬ثُمَّ‭ ‬انْتَفَخَ‭ ‬أكْثَرَ‭ ‬في‭ ‬الْعُلى،‭ ‬حَتَّى‭ ‬صارَ‭ ‬ضَخْمًا‭ (‬كَبيرًا‭ ‬جِدًاّ‭)  ‬وحَلَّقَ‭ ‬بِنا‭ ‬خَفيفًا‭ ‬في‭ ‬السَّماءِ‭!‬

  - ‬إذَنْ،‭ ‬أنْتَ‭ ‬الَّذي‭ ‬أكْرَمْتَني‭ ‬بِهَذا‭ ‬الْمُنْطادِ؟‭!‬

  ‬سَألْتُ‭ ‬الرَّحَّالَةَ،‭ ‬فَأَجابَني‭ ‬باسِمًا‭:‬

  - ‬أجَلْ‭!... ‬لَقَدْ‭ ‬لاحَظْتُ‭ ‬إعْجابَكَ‭ ‬بِرَحَلاتي،‭ ‬ومُعَلِّمُكَ‭ ‬يَحْكي‭ ‬عَنِّي،‭ ‬فَأرَدْتُ‭ ‬أنْ‭ ‬أُحَقِّقَ‭ ‬أُمْنِيَّتَكَ‭ ‬في‭ ‬السَّفَرِ‭!‬

  ‬قُلْتُ‭ ‬لَهُ‭ ‬فَرِحًا‭:‬

  - ‬شُكْرًا،‭ ‬سَيِّدي‭!... ‬وإلى‭ ‬أيْنَ‭ ‬تُريدُ‭ ‬أنْ‭ ‬تَأْخُذَني؟‭!‬

  - ‬إلى‭ ‬بَلَدِ‭ ‬الْمالِ‭ ‬الْكَثيرِ،‭ ‬والسَّاعاتِ‭ ‬الْمُمْتازَةِ،‭ ‬والْموسيقى‭ ‬الرَّاقِيةِ‭ (‬الرَّفيعةِ‭).. ‬سَتَجولُ‭ ‬وتَرى‭ ‬سويسْرا‭ ‬بِعَيْنِ‭ ‬الطَّائرِ،‭ ‬الْبِلادَ‭ ‬الَّتي‭ ‬يوجَدُ‭ ‬فيها‭ ‬مَتْحَفٌ‭ ‬كَبيرٌ،‭ ‬يَحْتَوي‭ ‬على‭ ‬كُلِّ‭ ‬صُوَري‭!‬

    ‬فَكَّرْتُ‭ ‬قَليلًا،‭ ‬ثُمَّ‭ ‬قُلْتُ‭ ‬لَهُ‭:‬

  - ‬يَعْني‭ ‬سَأَظَلُّ‭ ‬في‭ ‬سَلَّةِ‭ ‬الْمُنْطادِ،‭ ‬ولا‭ ‬أتَرَجَّلُ‭ ‬مِنْها‭!‬

  ‬أكَّدَ‭ ‬كَلامي،‭ ‬وهُوَ‭ ‬يُشيرُ‭ ‬بِأُصْبُعِهِ‭:‬

  - ‬تَمامًا،‭ ‬بُنَيَّ‭!... ‬اُنْظُرْ،‭ ‬ومَتِّعْ‭ ‬عَيْنَيْكَ‭ ‬بِأجْمَلِ‭ ‬الْمَناظِرِ‭ ‬الطَّبيعِيَّةِ‭!...‬جِبالٌ‭ ‬عالِيةٌ،‭ ‬مِنْها‭ (‬الأَلْبُ‭) ‬يَكْسو‭ ‬قِمَمَها‭ ‬الثَّلْجُ‭ (‬يُغَطِّي‭ ‬أعالِيَها‭) ‬كَأنَّهُ‭ ‬فُسْتانٌ‭ ‬أبْيَضُ،‭ ‬تَرْتَديهِ‭ ‬الْعَروسُ‭ ‬لَيْلَةَ‭ ‬زِفافِها‭. ‬وانْظُرْ‭ ‬إلى‭ ‬الْبَقَرِ،‭ ‬تَرْعى‭ ‬في‭ ‬سُفوحِها‭ ‬الْخَضْراءِ‭ (‬أسافِلِها‭)  ‬بينما‭ ‬الأجْراسُ‭ ‬الَّتي‭ ‬تُطَوِّقُ‭ ‬أعْناقَها‭ ‬تَرِنُّ‭ ‬رَنَّاتٍ‭ ‬عَذْبَةً،‭ ‬كَيْ‭ ‬تَظَلَّ‭ ‬مُجْتَمِعَةً‭. ‬وإلى‭ ‬الأطْفالِ‭ ‬فَرِحينَ،‭ ‬وهُمْ‭ ‬يَتَزَحْلَقونَ‭ ‬على‭ ‬الْجَليدِ،‭ ‬وإلى‭ ‬أكْثَرَ‭ ‬مِنْ‭ ‬ألْفٍ‭ ‬وخَمْسِمِئةِ‭ ‬بُحَيْرَةٍ،‭ ‬تَحُفُّها‭ ‬الأشْجارُ‭ ‬والأزْهارُ‭ (‬تُحيطُ‭ ‬بِها‭) ‬مِنْها‭ ‬بُحَيْرَةُ‭ (‬جُنيفْ‭) ‬على‭ ‬حافَّةِ‭ ‬‮«‬الألْبِ‮»‬‭ ‬تُشْبِهُ‭ ‬الْهِلالَ،‭ ‬وهِيَ‭ ‬أطْوَلُ‭ ‬بُحَيْرَةٍ‭ ‬في‭ ‬قارّةِ‭ ‬أُورباَّ‭ ‬كُلِّها‭..!‬

  ‬قاطَعْتُهُ‭ ‬في‭ ‬دَهْشةٍ‭:‬

  - ‬ومِنْ‭ ‬أيْنَ‭ ‬تَأْتيها‭ ‬هَذِهِ‭ ‬الْمِياهُ؟‭!‬

  - ‬ألا‭ ‬تَرى‭ ‬نَهْرَ‭ ‬‮«‬الرُّونْ‮»‬‭ ‬الَّذي‭ ‬يَمُدُّها‭ ‬بِمِياهِهِ‭ ‬الْعَذْبَةِ؟‭!... ‬ولَوْلا‭ ‬تِلْكَ‭ ‬الْمِياهُ،‭ ‬الَّتي‭ ‬جَعَلَ‭ ‬اللَّهُ‭ ‬مِنْها‭ ‬‮«‬كُلَّ‭ ‬شَيْءٍ‭ ‬حَيٍّ‮»‬‭ ‬لَمَا‭ ‬انْتَشَرَتْ‭ ‬على‭ ‬ضِفافِها‭ ‬الْواسِعَةِ‭ ‬الْمُدُنُ‭ ‬السِّياحِيَّةُ،‭ ‬كَمَدينةِ‭ ‬جُنيفْ‭...!‬

  - ‬حَقًاّ،‭ ‬ما‭ ‬تَقولُ،‭ ‬سَيِّدي‭!... ‬أرى‭ ‬كَذَلِكَ‭ ‬مِياهَها‭ ‬تَعْلو‭ ‬تَعْلو‭ ‬إلى‭ ‬السَّماءِ،‭ ‬ثُمَّ‭ ‬تَنْزِلُ‭ ‬تَنْزِلُ‭ ‬إلى‭ ‬سَطْحِها،‭ ‬بِسُرْعَةِ‭ ‬أرْبَعينَ‭ ‬كيلومِتْرًا‭ ‬في‭ ‬السَّاعَةِ‭!‬

  - ‬إنَّها‭ ‬نافورةٌ‭ ‬طَويلةٌ،‭ ‬يَمْتَدُّ‭ ‬عُلُوُّها‭ ‬مِئَةً‭ ‬وأرْبَعينَ‭ ‬مِتْرًا،‭ ‬أُنْشِئَتْ‭ ‬سَنَةَ‭ ‬1886‭. ‬كما‭ ‬أُنْشِئَتْ‭ ‬حَدائِقُ‭ ‬لِلنُّزْهَةِ‭ ‬واللَّعِبِ‭ ‬والْقَوارِبِ‭ ‬ورُكوبِ‭ ‬الدَّرَّاجاتِ‭ ‬الْهَوائِيَّةِ،‭ ‬وبِها‭ ‬ساعةٌ‭ ‬ضَخْمَةٌ،‭ ‬مُكَوَّنَةٌ‭ ‬مِنْ‭ ‬آلافِ‭ ‬الزُّهورِ‭ ‬الْجَميلةِ‭ ‬الأَشْكالِ‭ ‬والأَلْوانِ‭. ‬

  ‬اِلْتَفَتَ‭ ‬إلَيَّ،‭ ‬فَرَأى‭ ‬عَيْنَيَّ‭ ‬سابِحَتَيْنِ‭ ‬بَعيدًا،‭ ‬وأحَسَّ‭ ‬بِعَقْلي‭ ‬غائبًا‭ ‬عَنْهُ،‭ ‬فَضَحِكَ‭ ‬مِنِّي‭ ‬قائلًا‭:‬

  - ‬إيهِ‭!... ‬أيْنَ‭ ‬سَرَحْتَ‭ ‬بِعَيْنَيْكَ‭ ‬وعَقْلِكَ؟‭!‬

  ‬تَنَبَّهْتُ‭ ‬لِكَلامِهِ،‭ ‬فَأَجَبْتُهُ‭:‬

  - ‬لَقَدْ‭ ‬سَحَرَتْني‭ ‬تِلْكَ‭ ‬الطُّيورُ،‭ ‬الَّتي‭ ‬تَنْقَضُّ‭ (‬تَهْجُمُ‭) ‬على‭ ‬أسْماكِ‭ ‬الْبُحَيْرَةِ،‭ ‬لِتَجْعَلَها‭ ‬غَذاءً‭ ‬شَهِيًاّ‭ ‬لَها‭ ‬ولِفِراخِها‭!‬

  ‬أطْلَقَ‭ ‬ضَحْكَةً‭:‬

  - ‬أَجَلْ،‭ ‬بُنَيَّ‭!... ‬لِهَذِهِ‭ ‬الْبُحَيْرَاتِ‭ ‬فَوائدُ‭ ‬صِحِّيَّةٌ،‭ ‬تَعودُ‭ ‬على‭ ‬الْبيئةِ‭ ‬والإنْسانِ‭ ‬والْحَيَوانِ‭. ‬

  ‬وهُناكَ‭ ‬بُحَيْراتٌ‭ ‬أُخْرى،‭ ‬تُهَذِّبُ‭ ‬سُلوكَ‭ ‬الإنْسانِ،‭ ‬كَالْبُحَيْرَةِ‭ ‬الزَّرْقاءِ،‭ ‬الَّتي‭ ‬تَبْعُدُ‭ ‬عَنْ‭ ‬جُنيفَ‭ ‬بِمِئَتَيْن‭ ‬وأحَدَ‭ ‬عَشَرَ‭ ‬كيلومِتْرًا‭. ‬وتُسَمَّى‭ ‬بُحَيْرَةِ‭ ‬الدُّموعِ،‭ ‬لأنَّها‭ ‬تُذَكِّرُ‭ ‬زائِرِيها‭ ‬بِقِصَّةِ‭ ‬الْوالِدَيْنِ‭ ‬اللَّذَيْنِ‭ ‬عاشا‭ ‬سَعيدَيْنِ‭ ‬عُمْرًا‭ ‬طَويلًا،‭ ‬ولَمَّا‭ ‬فَرَّقَ‭ ‬بَيْنَهُما‭ ‬الْمَوْتُ،‭ ‬ظَلَّتِ‭ ‬الزَّوْجَةُ‭ ‬تَبْكي،‭ ‬حَتَّى‭ ‬سالَتْ‭ ‬دُموعُها،‭ ‬لِتَمْلأَ‭ ‬الْبُحَيْرَةَ‭ ‬بِها،‭ ‬إخْلاصًا‭ ‬لِزَوْجِها‭...!‬

  ‬لَكِنْ،‭ ‬لا‭ ‬تَظُنَّ‭ ‬أنَّ‭ ‬هذا‭ ‬الْبَلَدَ‭ ‬طَبيعَةٌ‭ ‬فَقَطُّ،‭ ‬إنَّهُ‭ ‬قَلْبُ‭ ‬أُوربّا،‭ ‬الَّذي‭ ‬يُنْتِجُ‭ ‬السَّاعاتِ‭ ‬الرَّفيعةَ،‭ ‬ويَحْفَظُ‭ ‬أمْوالَ‭ ‬وثَرَواتِ‭ ‬الدُّوَلِ‭ ‬في‭ ‬مَصارِفِهِ،‭ ‬ويُقيمُ‭ ‬مِهْرَجاناتٍ‭ ‬لِلْموسيقى،‭ ‬يَحْضُرُها‭ ‬فَنَّانونَ‭ ‬كِبارٌ‭ ‬مِنْ‭ ‬كُلِّ‭ ‬الْقارَّاتِ‭ ‬والْبُلْدانِ‭...!‬

  ‬سَألْتُهُ‭ ‬باسِمًا‭:‬

  - ‬عُذْرًا،‭ ‬سَيِّدي،‭ ‬أنا‭ ‬لا‭ ‬أعْرِفُ‭ ‬مِنْ‭ ‬هذا‭ ‬الْبَلَدِ‭ ‬الأُوربي‭ ‬إلاَّ‭ ‬مَدينَةَ‭ ‬جُنيفْ،‭ ‬الَّتي‭ ‬يَتَرَدَّدُ‭ ‬اسْمُها‭ ‬على‭ ‬كُلِّ‭ ‬لِسانٍ،‭ ‬فَهَلْ‭ ‬هِيَ‭ ‬عاصِمَتُهُ؟

  ‬ـ‭ ‬لا،‭ ‬يا‭ ‬بُنَيَّ‭!... ‬عاصِمَةُ‭ ‬سويسْرا،‭ ‬هِيَ‭ ‬الْمَدينَةُ‭ ‬الْهادِئةُ‭ (‬بيرْنْ‭) ‬ولَها‭ ‬مَكانَةٌ‭ ‬عالِيَةٌ‭ ‬بَيْنَ‭ ‬الْعُلَماءِ،‭ ‬لأنَّ‭ ‬فيها‭ ‬اكْتَشَفَ‭ ‬الْعالِمُ‭ ‬ألْبِرْتْ‭ ‬أَيْنْشْتايَنْ‭ ‬نَظَرِيَّةَ‭ ‬الْجاذِبِيَّةِ‭. ‬وفيها‭ ‬وُلِدَ‭ ‬الْمُفَكِّرُ‭ ‬والْمُرَبِّي‭ ‬الْكَبيرُ‭ ‬جانْ‭ ‬جاكْ‭ ‬روسو‭ ‬عامَ‭ ‬1712‭.‬

  - ‬حَسَنًا،‭ ‬سَيِّدي‭!... ‬لَكِنَّني‭ ‬لا‭ ‬أعْلَمُ‭ ‬شَيْئًا‭ ‬عَنْ‭ ‬أسْماءِ‭ ‬هَذِهِ‭ ‬الْبِلادِ‭ ‬ومُدُنِها‭ ‬الْفاتِنَةِ‭!‬

  - ‬يَرى‭ ‬الْبَعْضُ‭ ‬أنَّ‭ ‬اسْمَ‭ (‬سويسْرا‭) ‬مُشْتَقٌّ‭ ‬مِنْ‭ (‬سْويتْزَرْ‭) ‬وهِيَ‭ ‬كَلِمَةٌ‭ ‬ألْمانِيَّةٌ،‭ ‬تَعْني‭ (‬حَرْقَ‭) ‬الْغابَةِ،‭ ‬الَّتي‭ ‬أُنْشِئَتْ‭ ‬على‭ ‬أرْضِها‭  ‬الْبِلادُ‭. ‬ويُرْجِعُهُ‭ ‬آخَرُ‭ ‬إلى‭ (‬شْويزْ‭) ‬أرْضِ‭ ‬سُكَّانِها‭ ‬الأَوائلِ،‭ ‬وتَحَوَّلَ‭ ‬إلى‭ (‬سويسْرا‭) ‬ويَرى‭ ‬ثالِثٌ‭ ‬أنَّ‭ (‬هَلْفِتيكا‭) ‬اسْمُ‭ ‬قَبيلَةٍ،‭ ‬كانَتْ‭ ‬تَعيشُ‭ ‬على‭ ‬هَضْبَتِها،‭ ‬أصْبَحَ،‭ ‬لاحِقًا،‭ ‬سَويسْرا‭. ‬

  ‬ويَدُلُّ‭ ‬اسْمُ‭ ‬جُنيفْ‭ ‬على‭ ‬شَجَرَةِ‭ ‬الْعَرْعَرِ،‭ ‬وعلى‭ ‬مَصَبِّ‭ ‬الْماءِ،‭ ‬وتُسَمَّى‭ ‬بِهِ‭ ‬الإناثُ،‭ ‬وفي‭ ‬دُوَلٍ‭ ‬أُخْرى،‭ ‬يُسَمَّى‭ ‬بِهِ‭ ‬الذُّكورُ‭ ‬أيْضًا،‭ ‬لأنَّهُ‭ ‬جَميلٌ،‭ ‬ويَتَفاءَلُ‭ ‬بِهِ‭ ‬الآباءُ‭ ‬والأُمَّهاتُ‭.‬

  ‬أمَّا‭ ‬اسْمُ‭ (‬بيرْنْ‭) ‬فَيَعْني‭ (‬حَظيرَةً‭) ‬لأَنَّها‭ ‬تُشْبِهُ‭ (‬قَرْيَةً‭) ‬رَغْمَ‭ ‬أنَّها‭ ‬أثَرِيَّةٌ،‭ ‬ويُقالُ‭ ‬إنَّ‭ ‬الإمْبْراطورَ‭ ‬بِرْنولْدْ‭ ‬الْخامِسَ،‭ ‬أطْلَقَ‭ ‬عَلَيْها‭ ‬هذا‭ ‬الاِسْمَ،‭ ‬بَعْدَ‭ ‬أنْ‭ ‬طارَدَ‭ ‬دُبًاّ‭. ‬وصارَ‭ ‬هذا‭ ‬الْحَيَوانُ‭ ‬الْمُتَوَحِّشُ‭ ‬شِعارًا‭ ‬لِجَيْشِ‭ ‬الْبِلادِ‭.‬

  ‬فَتَحَ‭ ‬الرَّحالَةُ‭ ‬عُلْبَةً،‭ ‬وقالَ‭ ‬لي‭:‬

  - ‬تَفَضَّلْ،‭ ‬بُنَيَّ‭!‬

  - ‬ما‭ ‬هَذا؟‭!‬

  - ‬جُبْنٌ‭ ‬وشُكُولاتَةٌ،‭ ‬هُما‭ ‬مِنْ‭ ‬أفْضَلِ‭ ‬ما‭ ‬تُنْتِجُهُ‭ ‬سويسْرا،‭ ‬لأنَّها‭ ‬تَتَوَفَّرُ‭ ‬على‭ ‬الْمَراعي‭ ‬الْخُضْرِ،‭ ‬الَّتي‭ ‬تَظَلُّ‭ ‬الْبَقَرُ‭ ‬والْماعِزُ‭ ‬فيها‭ ‬النَّهارَ‭ ‬كُلَّهُ،‭ ‬تَرْعى‭ ‬الْكَلأَ‭ ‬والْحَشائِشَ‭ ‬الطَّرِيَّةَ،‭ ‬لِتُعْطِيَها‭ ‬حَليبًا‭ ‬وجُبْنًا‭. ‬وتَتَوَفَّرُ‭ ‬على‭ ‬مَصانِعَ‭ ‬لِتَحْضيرِ‭ ‬الشُّكولاتة‭ ‬الْمُمْتازِة‭ ‬مِنْ‭ ‬حُبوبِ‭ ‬الْكاْكاوْ‭!... ‬إذَنْ،‭ ‬خُذْ‭ ‬قِطْعَتَيْنِ‭ ‬مِنَ‭ ‬الْجُبْنِ‭ ‬والشُّكولاتة،‭ ‬ولا‭ ‬تُكْثِرْ‭ ‬مِنْهُما‭...!‬

  ‬اِبْتَسَمْتُ،‭ ‬وأنا‭ ‬أَمُدُّ‭ ‬يَدي‭ ‬إلى‭ ‬الْعُلْبَةِ‭:‬

  - ‬شُكْرًا‭ ‬جَزيلًا،‭ ‬سَيِّدي‭!... ‬يَظْهَرُ‭ ‬لي‭ ‬أنَّكَ‭ ‬خَتَمْتَ‭ ‬هَذِهِ‭ ‬الرِّحْلَةِ‭ ‬بِالْجُبْنِ‭ ‬والشُّكولاتَة‭!... ‬ألَيْسَ‭ ‬كَذَلِكَ؟‭!‬

  - ‬أَجَلْ،‭ ‬بُنَيَّ‭!... ‬يا‭ ‬لَكَ‭ ‬مِنْ‭ ‬طِفْلٍ‭ ‬ذَكِيٍّ‭!.. ‬هَيَّا‭ ‬نَعُودُ‭ ‬إلى‭ ‬عالَمِكَ‭ ‬الْعَرَبِيِّ‭ ‬الْجَميلِ،‭ ‬فَفيهِ‭ ‬مِنْ‭ ‬الْبُلْدانِ‭ ‬ما‭ ‬هُوَ‭ ‬أبْهى‭ ‬مَنْظَرًا،‭ ‬وأصْفى‭ ‬هَواءً،‭ ‬وأنْقى‭ ‬ماءً،‭ ‬كَأنَّهُ‭ ‬سويسْرا،‭ ‬أوْ‭ ‬أجْمَلُ‭...!‬

 

 

رسوم‭: ‬ماهر‭ ‬عبدالقادر