مقاربة الحَجْر الصّحي واللغوي

يطرح هذا المقال فكرة لا تكاد تخطر على بال الخاصة، ناهيك بالعامة. هذه الفكرة ذات علاقة بجائحة كورونا. وكما ذكرتْ افتتاحيةُ مجلة العربي بالعدد 751 (يونيو 2021)، الأوبئة قد تكون ملهمة لبعض الأفكار والتصورات والرؤى الجديدة المتنوعة لدى أهل الفكر والأدب والفنون على الخصوص.
وقد رأينا أن الملاحظات الميدانية تشير إلى وجود تشابه بين الإجراءات الصحية الشديدة ضد تفشّي فيروس جائحة كورونا (الابتعاد الاجتماعي ولبس الكمامات وغسل اليدين والعزل المنزلي)، والإجراءات اللغوية الصارمة المتمثلة في استعمال اللغة الأم أو الوطنية فقط في التدريس بالمراحل الثلاث للتعليم؛ الابتدائية والإعدادية والثانوية، ويتمثّل هذا التشابه في أن كلا منهما يؤدي بمن يلتزم بالكامل بتلك الإجراءات إلى حظ أكبر في تحاشي الإصابة بفيروس كورونا، من جهة، أو تحاشي تفشّي المزج اللغوي بين اللغة الأم، أو الوطنية، واللغة الأجنبية في الحديث والكتابة، من جهة أخرى.
يمكن تطبيق هذه الفكرة على أكثر من نظام تعليمي في المجتمعات العربية، لكن نقتصر هنا أساسًا على إلقاء الضوء على نظام التعليم التونسي.
فقد تبنّى نظام التعليم في المدارس التونسية نمطين في لغة التدريس؛ التدريس بلغتين هما العربية (اللغة الوطنية)، والفرنسية كلغة أجنبية استعمارية في مراحل التعليم الثلاث المذكورة، والتدريس بلُغة واحدة هي «العربية» في تلك المراحل الثلاث.
مواصفات العلاقة السليمة مع اللغات
تتمثّل العلاقة السليمة مع اللغات الوطنية أو لغات الأم في استعمال أي منهما فقط شفويًا وكتابيًا في كل شيء. فالمجتمعات الأوربية، مثلًا، تدرس جميع المواد العلمية وغيرها بلغاتها الوطنية حتى نهاية مرحلة التعليم الثانوي على الأقل، أي إن طبيعة الأشياء تنادي بصوت عالٍ باستعمال لغة الأم أو اللغة الوطنية، وأن استعمال غيرهما أمر غير طبيعي؛ أي إنّه عبارة عن إقامة علاقة غير سليمة مع اللغة الوطنية أو لغة الأم، وبالتالي يمكن اعتباره سلوك غشٍّ نحوها وللوطنية اللغوية نفسها.
الحجر اللغوي والعلاقة مع «العربية»
نذكر هنا مثالين للعلاقة السليمة أو غير السليمة التي ينشئها الحجر اللغوي أو فقدانه مع اللغة العربية في المجتمع التونسي بعد الاستقلال:
إن خريجي التعليم التونسي فيما يسمى «شعبة أ» مطلع الاستقلال بالمجتمع التونسي مثال للآثار الإيجابية للحجر اللغوي على العلاقة مع اللغة العربية/ الوطنية. لقد درس هؤلاء الخريجون كل المواد باللغة العربية فقط من المرحلة الابتدائية حتى السنة الأخيرة من المرحلة الثانوية.
أما خريجو بقية التعليم التونسي - وهم اليوم أغلبية المتعلمين التونسيين - فهم فاقدون للحجْر اللغوي، أي إنّهم درسوا أو يدرسون باللغة الفرنسية بعض المواد أو معظمها في تلك المراحل الثلاث المذكورة.
وقد هيمنت اللغة الفرنسية في المدرسة الصادقية الثنائية اللغة (الفرنسية والعربية) قبل الاستقلال كوسيلة لتدريس التلاميذ التونسيين المواد المختلفة، بما فيها تدريسهم أحيانًا حتى النحو العربي باللغة الفرنسية، خصوصًا من طرف بعض المدرسين الفرنسيين.
في حين همّشت مدارس البعثات الفرنسية، بطريقة شبه كاملة، تدريس اللغة العربية وثقافتها واستعمالهما، ويمثّل الخريجون من هذه المدارس عيّنة تونسية مرشّحة أكثر من غيرها لتبنّي ثنائية لغوية يكاد يغيب فيها استعمال الكلمات العربية، لأنّ هؤلاء الخريجين شبه أميّين بالكامل في اللغة العربية، فبحوث العلوم الاجتماعية ترى أن مثل ذلك التكوين اللغوي الثقافي الفرنسي يُحدث غربةً جسيمة بين المتعلمات والمتعلمين التونسيين ولغتهم وثقافتهم العربيتين، فلطالما ترتبك لديهم وتتشوه تصوّراتهم الصحيحة إزاء لغتهم وثقافتهم، حيث يصبحون مرشّحين للنظر إليهما بقليل أو بكثير أو ما بينهما من التحقير.
يجوز القول إن التعليم في كل من مدارس البعثات الفرنسية والمدرسة الصادقية هو تعليم مرشح لكي يمهّد لقبول وحتى الترحيب بالاستعمار اللغوي الثقافي الفرنسي لدى عديد التونسيات والتونسيين، ويعود ذلك أساسًا إلى فقدان خريجي تلك المدارس ما نسمّيه في هذا المقال «الحجر اللغوي».
أما النظام التربوي التونسي منذ الاستقلال، فقد كرّس ويكرّس تواصل فقدان الحجر اللغوي. وهكذا، فالأجيال التونسية المتعلمة منذ الاستقلال هي أجيال لم تطبّق الحجر اللغوي، ومن ثم يستمر مرض فيروس عدوى استعمال اللغات الأجنبية بين معظم فئات المجتمع التونسي. ومما يزيد الطين بلّة، في اتجاه معاكس للحجر اللغوي، أن التلاميذ التونسيين يدرسون حاليًا مادة اللغة الفرنسية لمدة 8 ساعات أسبوعيًا، أما اللغة العربية فلها 6 ساعات فقط.
غياب الحجر اللغوي بعد الاستقلال
إن ما يجمع بين شخصيات العهد الأول للاستقلال هو أن معظم المتعلمين التونسيين تعليمهم ثنائي لغة التدريس (العربية والفرنسية)، أي إنه نظام تعليم فاقد للحجر اللغوي. وهكذا، فموقف أكثر التونسيات والتونسيين اليوم يساند نظام التعليم التونسي الثنائي اللغة، ويعتبر إيجابيات هذا النظام التعليمي مسلّمة من المسلمات غير القابلة للمساءلة والشك في أفضليتها.
ورغم أن عددًا ضخمًا من خريجي التعليم الثنائي ليست لهم علاقة سليمة مع اللغة العربية/ لغتهم الوطنية التي طالما يعتبرونها نفسيًّا وفي الاستعمال بشؤونهم الشخصية والمجتمعية، كأنها لغة ثانية أو ثالثة.
التعليم التونسي الثنائي اللغة لا يكاد يحمي التونسيات والتونسيين من معالم الاستلاب اللغوي، كما سنرى لاحقًا، فخريجو المدرسة الصادقية الثنائية اللغوية ونظراؤهم المتعلمون في المدارس والمعاهد والجامعات التونسية في عهد الاستقلال يشكون من معالم الاستلاب اللغوي بسبب فقدانهم نظام تعليم يكون فيه الحجر اللغوي هو الأساس الطبيعي، كما تفعل أنظمة التعليم في المجتمعات المتقدمة على الخصوص.
الحجر اللغوي في كيبك
لا تكاد تُحصى أمثلةُ المجتمعات المتقدمة التي تُستعمل فيها اللغات الوطنية أو لغات الأم وحدها في كل شيء.
على سبيل المثال، الوطنية اللغوية في مقاطعة كيبك الناطقة بالفرنسية في كندا جعلت استعمال اللغة الفرنسية فقط في الكتابة أمرًا إجباريًا في كل شؤون الحياة في المقاطعة، فقوانين السياسة اللغوية في هذه الأخيرة تطبّق بقوة الحجر اللغوي الكامل، فتمنع نتيجة ذلك كتابة كلمة توقُّف باللغة الإنجليزية stop (ستوب) في الشوارع والطرقات، وتُكتب هذه الكلمة بالفرنسية فقط Arret (أراي).
الحجر اللغوي والتقدّم العلمي
كما أكدنا، العلاقة الطبيعية/ السليمة مع اللغة الوطنية تتطلّب استعمالها في كل الميادين بما فيها تدريس العلوم. فمثل هذه السياسة اللغوية لا تخدم تطبيع العلاقة مع اللغة العربية فقط في المجتمع التونسي والمجتمعات العربية الأخرى، وإنّما تخدم أيضًا نهضة العلم فيها جميعًا.
وترى نتائج بحوث الكثيرين أن البلدان تحتاج إلى تعليم العلوم باللغة الوطنية أو لغة الأم كي ترسي الأساس الضروري لما يسمّى البيئة المنتجة للعلم، أي إن البيئة الاجتماعية المساندة لإنتاج العلم هي تلك التي ينتشر فيها العلم بين عامة الناس ولا يقتصر على النخبة فقط.
وبالتعبير السوسيولوجي، يُكتب للعلم أن يصبح ظاهرة اجتماعية واسعة عندما ينسجم العلم مع الثقافة العامة للمجتمع ويتفاعل معها أفقيًا. ويعني ذلك أن تعزيز العلم في أي بلد يتوقف كثيرًا على مدى انفتاح الثقافة العامة على العلم. ووفقًا لرؤية علم الاجتماع، فذلك مستحيل ما لم تكن لغة العلم والثقافة العامة لغة واحدة، أليس هذا إنجازًا نبيلًا للحجر اللغوي؟
سلبيات نفسية وثقافية
يشخّص مؤلف كتاب العقل العربي (1983)، رفاييل بتاي، آثار التعليم الثنائي اللغة «استعمال لغتين كوسيلتَي تدريس»، كما الحال في نظام التعليم التونسي، فيجد أن التعليم الثنائي اللغة يؤدي عمومًا إلى الأعراض التالية لدى خريجيه:
الانتماء إلى ثقافتين دون القدرة على تعريف الذات بالانتماء الكامل لأيّ منهما.
التذبذب المزدوج: رغبتهم في كسب علاقة حميمة كاملة مع الغرب ومع مجتمعهم في الوقت نفسه دون النجاح في أي منهما.
يتصف خريجو ذلك التعليم بشخصية منفصمة ناتجة عن معايشة عاملين قويين متعاكسين: الارتباط بالثقافة العربية والانجذاب إلى الثقافة الغربية.
عداء سافر للاستعمار الفرنسي يقابله ترحيب كبير بلغته وثقافته.
دعاة الاستعمار اللاحق
يُقسم الاستعمار إلى صنفين؛ الاستعمار الرسمي، أي الاحتلال العسكري والإدارة العسكرية والحكم السياسي، ثم يأتي ما يسمى «الاستعمار اللاحق» بعد زوال الاستعمار رقم 1، مثل استعمال من كانوا مستعمَرين لغة المستعمِر وتفضيلها على اللغة الوطنية.
ومن المؤكد أن دعاة الطلاق بين العربية وتدريس العلوم في المجتمعات العربية ينتمون إلى الاستعمار اللاحق. وقد يجادل هؤلاء وغيرهم في المجتمع التونسي بأن الكثيرين من التونسيين خارج نظام الحجر اللغوي يتقنون اللغة العربية، مثل خريجي المدرسة الصادقية، وهذا صحيح، لكن الإتقان لا يعني بالضرورة وجود علاقة سليمة مع اللغة الوطنية (استعمالها وحدها شفويًا وكتابة في كل شيء والدفاع عنها والاعتزاز بها قبل أي لغة أخرى).
هل تدلّ السلوكيات اللغوية التالية لهؤلاء على علاقة سليمة مع لغتهم الوطنية؟
يكتب معظم التونسيين شيكاتهم البنكية بالفرنسية. تنطق أغلبيتهم الأرقام بالفرنسية. لا يكاد يحتج أحد على اللافتات المكتوبة بالفرنسية فقط.
وفي الختام، يساند المفكرون أهمية الحجر اللغوي في حماية حدود وهويات وحدود الشعوب. يجمع أهل الذّكر بهذا الصدد على الأولوية الكبرى بالنسبة إلى تمسُّك المجتمعات بلغاتها، لأنّ مَن يخسر لغته يكتب غيره مسيرة مستقبله. وهذا ما يعبّر عنه هؤلاء بقولهم: فشعب من دون لغته الأصلية ما هو إلّا نصف أمة. فيجب، إذن، على الأمة حماية لغتها أكثر من حمايتها لأراضيها، إذ اللغة أمتن وأقوى حاجز حامٍ لحدودها من الغابات والجبال والأنهار والبحار ■