العوامل الاقتصادية والثقافية و«التقدم» النسبيّ الغربي

العوامل الاقتصادية والثقافية و«التقدم» النسبيّ الغربي

يشير العديد من المختصين بدراسة «عوامل التخلف النسبي العربي»، إلى أن العلاقة بين التطور الاقتصادي/ المادي والتطور الثقافي علاقة تبادلية، لا يمكن توقّع حصول أحدهما دون الآخر؛ فالثقافة بنت بيئتها الاجتماعية والاقتصادية، والحضارة الحديثة تشمل كل العوامل المؤثرة في تركيبة البشر حسب ظروفهم المادية والثقافية المكانية والزمانية.   وقد جذبني رثاء الباحثة التونسية نسرين بوزازي للمفكر العربي المصري حسن حنفي، حيث لخصت تجربته بالقول: «الرهان الحقيقي عند حنفي هو إحداث ثورة صناعية وأخرى زراعية، وهو ما لا يمكن تحقيقه إلا بعد إعادة بناء الإنسان».

 

 كانت تلك نصف الحقيقة، لأن النصف الآخر منها صائب أيضًا ولو بدا معاكسًا للوصف الأول، أي إن «إعادة بناء الإنسان لا تتحقق إلّا إذا حدثت ثورة أو ثورات صناعية وأخرى زراعية»، لكننا نعتقد أن العمليتين متلازمتان في حدّهما الأدنى، فلا يمكن أن يكون الفكر السائد حديثًا ووسائل الإنتاج السائدة قديمة أو أن يكون الفكر السائد متخلفًا ووسائل الإنتاج السائدة حديثة، فهناك علاقة تبادلية بين الطرفين. نحن إذن أمام مجموعتين متوازيتين من الأسباب أو العوامل: من هنا سأركز، كمثال، على جزئية اقتصادية/ تجارية من ناحية، ثم على جزئية ثانية ثقافية/ لغوية.

التفوق المتحول جغرافيًا
 يرفض المستشرق والمؤرخ الروسي فاسيلي بارتولد (1869 - 1930)، وبالمناسبة (ليس كل ما يقوله المستشرقون خبيثًا) في كتابه «التاريخ الثقافي للمسلمين» كل تفسير عرقي أو ديني أو جغرافي لتفوق ثقافة على ثقافة. فهو يقول إنه مهما تكن الأفضليات التي كانت تتمتع بها أوربا مقارنة بالعالم الإسلامي، فإن هذا الأخير ظل متفوقًا طوال المدة التي كان يمسك بيديه طرق التجارة العالمية الرئيسة (بالتحديد خلال القرون الوسطى المبكرة حين سيطر المسلمون على التجارة الهائلة التي كانت تمتد من الصين حتى غرب إفريقيا وتشمل جميع أنواع البضائع).
 كذلك، ومهما كانت الظروف الجغرافية والمناخية المتفوقة التي تتمتع بها أوربا مقارنة بمناطق أخرى من العالم، فإن هذه القارة لم تبدأ في احتلال المكانة العالمية الأولى إلّا عندما سيطرت على التجارة العالمية. ولم تبدأ أوربا بالتفوق إلا عندما حسّنت وسائل صناعة السفن وتمكنت من اكتشاف أمريكا، حيث استطاعت تحويل مركز التجارة العالميّ الأول من طرق التجارة القديمة التي كانت تمرّ بالعالَمين العربي والإسلامي إلى المحيطات البعيدة. لا يعني هذا أن قوافل التجارة التي كانت سبب نمو مدن ومناطق مثل سمرقند وحيرات، توقفت عن العمل، إلّا أنها فقدت أهميتها السابقة؛ لذلك نتحدث عن نتائج نسبية وليست مطلقة. 
إذا كان دور التجارة حاسمًا إلى الحد الذي يعتقده بارتولد، يمكننا أن نسأل عن سبب التراجع النسبي للتجارة العربية/ الإسلامية، وكذلك عن سبب تقدّم التجارة الأوربية النسبي الذي بدأ في القرن الحادي عشر أو الثاني عشر، لأنهما متلازمتان ومستقلتان عن بعضهما البعض في آن واحد.
يجيب المؤرخ الاقتصادي الراحل شارل عيساوي بأن القرن الحادي عشر الميلادي كان فيما يتعلّق بالغرب الأوربي، بداية فترة امتدت 3 قرون تمثّل مرحلة الإبداع في تاريخ العصور الوسطى. وخلال تلك الفترة كانت المؤسسات السياسية والاقتصادية والدينية والاجتماعية، التي تتشكل منذ القرن السادس الميلادي، قد ترسخت، حيث كانت الأساس الذي قامت عليه الحضارة الأوربية في العصور الوسطى. ولعل هذا ما جعل المؤرخين الأوربيين المتخصصين في دراسة تاريخ هذه العصور يطلقون على تلك المرحلة تسمية «العصور الوسطى المتأخرة أو الناضجة».

تأثيرات غير تجارية 
على الجانب العربيّ/ الإسلاميّ تراجعت التجارة وقدرتها التصديرية بين القرنين الثاني عشر والتاسع عشر بسبب تأثيرات الحروب الصليبية التي قام المماليك خلالها باتباع سياسة «الأرض المحروقة» ضد هجمات الصليبيين، انطلاقًا من جزيرتَي قبرص ورودس. كما كانت هجمات المغول من شرق آسيا قد ألحقت أضرارًا بالغة في إيران والعراق، وحتى سورية. كذلك، فإن المعارك بين العثمانيين والفرس إلى الشرق دمّرت أجزاء كبيرة من الأناضول وشمال غرب إيران والعراق. إضافة إلى ذلك، فإن الحكم المملوكيّ في مصر ضعف خلال منتصف القرن الرابع عشر، وقامت القبائل البدويّة بتخريب الزراعة. وقد ظل هذا الوضع قائمًا حتى بدايات القرن التاسع عشر حين استطاع محمد علي باشا، حاكم مصر القوي، أن يعيد سيطرة الدولة. وظل تخريب البدو للأراضي الزراعية قائمًا في مناطق أخرى بسورية والعراق والأناضول.
يستفيض عيساوي في دراسة أخرى له بالإنجليزية عن «تكيّف العالم الإسلاميّ مع الوقائع الاقتصادية المعاصرة»، إنه كانت هناك نتائج اقتصادية جلية للتركيبة الاجتماعية لدول المنطقة منذ القرون الوسطى حتى المرحلتين المملوكية والعثمانية. فحتى نحو القرن الثاني عشر كانت حكومات المنطقة العربية الرئيسة مدنيّة على الغالب ولم تحاول التدخل في الحياة الاقتصادية، بل تركت التجار وأصحاب الحرف اليدوية يديرون شؤونهم بأنفسهم. نتيجة لذلك ازدهر الاقتصاد. أما بعد ذلك وإثر عدد من الكوارث مثل هجمات المغول والصليبيين والطاعون، انتقلت السلطة إلى العسكريين الذين اعتمدوا على البيروقراطية التي سارت وفق سياسة اقتصادية أغفلت مصالح المنتجين من تجار وأصحاب حرف ومزارعين وركزت، بدلًا من ذلك، على زيادة الضرائب، ولو أدىّ ذلك إلى إلحاق الأذى بالمنتجين على المدى الطويل. 

عدم استقرار
لحقت مصادرة ثروات الأغنياء، بين فترة وأخرى، بهذه السياسة، مما أدى بالطبع إلى خوف المنتجين وتراجع مبادراتهم وقيامهم باكتناز أموالهم بدلًا من استثمارها. ويمكن ملاحظة عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي من خلال قيام الحاكم في بعض الأحيان باستخدام أسلوب مصادرة ثروات وزرائه ومساعديه وكبار العاملين معه. ومع أن مثال المساواة كان مشددًا عليه من الناحية الدينية، إلا أنه لم يتحقق إلا القليل لمساعدة الفقراء عمليًا، وظلت الفوارق في الثروة والسلطة واسعة جدًا بين الطبقات، الأمر الذي دافع عنه وبرره الكثير من الفقهاء.
من هنا، لم تستطع المنطقة العربية/ الإسلاميّة القيام بالخطوة التاريخية/ الاجتماعية المهمة من داخلها وهي إنتاج طبقة بورجوازية مماثلة للطبقة البورجوازية الأوربية المؤلفة من الطبقة الوسطى، التي قادت الاقتصاد الأوربي إلى الحداثة. أما وظيفة البورجوازية في العالَمين العربي والإسلامي، فقد كانت - كما شرحنا سابقًا - من نصيب أفراد وجماعات من خارج المجتمع المحلي كالأجانب الأوربيين القاطنين في المنطقة وأفراد الأقليات الدينية غير المسلمة حتى وقت قريب. ولم يبدأ هذا الوضع بالتغيّر، بوجه عام، إلا نحو منتصف القرن العشرين وبعده.
أدى تراجع الأوضاع الاقتصادية التي ذكرنا إلى تسديد ضربات موجعة إلى صناعات الحرف اليدوية، التي كان من الممكن أن تشكل بذرة الثورة الصناعية، إلّا أنَّ ذلك لم يكن السبب الوحيد، فعدم توافر المواد الأولية مثل الخشب والطاقة المائية والفحم جعل من المستحيل على هذه الصناعات أن تتطور مثلما تطورت الصناعات اليدوية الأوربية، كذلك فإن عدم توافر الأنهار الكبيرة لم يسمح بتطور النواعير إلّا في نطاق ضيق.

 تلخيص تأريخ عيساوي
يلخص عيساوي ما توصل إليه في هذا المجال في دراسة له بعنوان «كسوف تجارة الشرق الأوسط (1100 - 1850)»، مشددًا على العوامل التي أدت إلى تراجع تجارة المنطقة العربية - الإسلامية منذ بدايات القرن الثاني عشر، حسب رأيه بأنَّ ذلك حدث تدريجيًا بالطبع للأسباب التالية:
1 - تراجع الطاقة الإنتاجية للمنطقة في الزراعة والحرف التي أدت إلى تراجع القدرة التصديرية، وبالتالي القدرة الاستيرادية كذلك.
 2 - تراجع الطلب الأجنبي على بضائع المنطقة بسبب تطور قدرات بديلة في غير مكان.
3 - خسارة القوات البحرية العربية/ الإسلامية أمام الأساطيل الأوربية في البحر المتوسط، الأمر الذي وسع قدرة الأوربيين على السيطرة على التجارة المتوسطية منذ القرن التاسع.
4 - تراجع القوة البحرية العربية/ الإسلامية في المحيط الهندي، الأمر الذي أدى إلى تحويل تجارة التوابل من الشرق الأقصى إلى أوربا مباشرة منذ القرن السادس عشر وما تلاه.
5 - زيادة المنافسة في المحيط الهندي بين السفن الأوربية الأكبر والأفضل، ثم السفن البخارية التي كان يعضدها رأسمال الأوربي، وبين السفن العربية والإسلامية التي تخلّفت في هذه المنافسة.
6 - إضافة إلى كل العوامل المذكورة سابقًا، ضعف وعدم كفاءة حكومات المنطقة وعجزها عن سلوك سياسة اقتصادية فعالة بسبب هيكلها الاجتماعي.  

 التجارة الأوربية في 3 مراحل
أمّا المؤرخ الاقتصادي الهنغاري زاس باتش، فهو يقارب الموضوع من زاوية مختلفة وأكثر دقّة، ليس من زاوية التقلص النسبي للتجارة العربية والإسلامية، بل من زاوية توسّع تجارة غرب أوربا، المنطقة التي كانت الأكثر تطورًا، إلى شرق أوربا والبلاد الإسكندنافية أولًا، ثم إلى الشرق الأقصى وأمريكا بعد ذلك. ففي دراسة له بعنوان «تغيّر طرق الملاحة العالمية بين القرنين الخامس عشر والسابع عشر» يشير إلى 3 مراحل:
1 - في المرحلة الأولى من هذه الفترة الحديثة، لم تكن المستعمرات البعيدة (في أمريكا والهند والصين) قد اتصلت باقتصاد أوربا الغربية ضمن إطار الاقتصاد العالمي الحديث ومن خلال تجارة عالمية، بل اعتمدت على تقسيم العمل الداخلي، لكن من خلال توفير البضائع الرئيسية مثل التوابل والأحجار الكريمة التي تم الحصول عليها من خلال النهب الاستعماري أو تشغيل الأقنان - لمصلحة منطقة غرب أوربا تحديدًا - وكانت هذه العمليات تدعى التراكم البدائي للرأسمال.
 2 - في المرحلة الثانية بين القرن الخامس عشر ومنتصف السابع عشر، كانت بلدان أوربا الوسطى الشرقية والبلدان الإسكندنافية هي التي بدأت الارتباط بالاقتصاد الأوربي الغربي المتوسع بطريقة «حديثة» بواسطة روابط ذات نوعية جديدة في التجارة العالمية تعتمد على تطوير إنتاج البضائع، حيث يتم تبادل الإنتاج الكبير بين المنتجين والمستهلكين.
وهكذا، فإن الصناعات المتطورة في أوربا الغربية حفزت - عدا عن توسُّع أسواقها الوطنية الداخلية - نشوء أسواق أوربا الوسطى أو الشرقية والإسكندنافية، أي بواسطة التجارة الإقليمية التي زادت من إنتاجها، الأمر الذي أدى إلى تراجع الإنتاج الحرفي وتقادم نظام الإنتاج. أما الصناعات الرأسمالية غرب أوربا، فقد توسعت ونمت بسبب دخولها إلى أسواق أوربا الوسطى والأسواق الإسكندنافية، مما أدى إلى تمكينهم من استيعاب نسب متزايدة من رأسمال النقدي المتراكم من التجارة العالمية والنهب الاستعماري، وتحويله إلى رأسمال منتج وإعطائهم القدرة على الإنتاج، لا لأسواقهم الأوربية الوطنية والاقليمية فحسب، بل لأسواق المستعمرات البعيدة التي كانت متعطشة للمواد المصنوعة.
  3 - بمعنى آخر، توسّع الاقتصاد الأوربي في أوربا نفسها في البداية، أي أن الاقتصاد الذي كان يتركز في غرب القارة توسّع تجاريًا ليشمل شرق القارة وشمالها الشرقي أيضًا، قبل أن يتوسع في المرحلة الثالثة والأخيرة توسعه الهائل بعد اكتشاف أمريكا وضم القارة الجديدة إلى الاقتصاد الغربي.
 
 مناطق متناحرة
أما التفوق النسبي، ولو الأقل، لاقتصادات شرق أوربا، خاصة البلقان، على الاقتصادات العربية والإسلامية وسبقها غير الواسع في الحقبة الحديثة فله تفسير غير معقّد. فمع أن البلقان تتألف من مناطق متناحرة ودفعت ثمنًا باهظًا في الحربين العالميتين الأولى والثانية، فإن قطاعها الزراعي كان مستقرًا بسبب مستوى مياه الأنهار والأمطار شبه المستقر سنويًا لديها. أما العوامل الأخرى التي لعبت لمصلحتها، فكانت تتمثّل في أن لغاتها أقرب إلى لغات غرب أوربا، الأمر الذي جعلها قادرة على الأخذ بوسائل التعليم واستيعاب العلوم الغربية الحديثة بسهولة، كما أن الطبقة البورجوازية كانت ذات جذور محلية، على عكس البورجوازية في البلاد العربية والإسلامية ذات الجذور الأجنبية والأقلوية. كما أنّ سكان البلقان الذين ينتمون بأغلبيتهم إلى طائفة الروم الأرثوذكس الذين كانوا على علاقة خصام مع الكاثوليكية وكنيستها انفتحوا على البروتستانت وطوائفهم في ألمانيا وهولندا واتجاهاتهم المتحررة من التقاليد العائدة إلى القرون الوسطى.
 
العوامل الثقافية
نتوقف هنا ثانية عند المستشرق والمؤرخ الروسي فاسيلي بارتولد في كتابه «التاريخ الثقافي للمسلمين»، الذي ينبهنا إلى دور أحد العوامل الثقافية، الذي أسهم بموازاة العامل الاقتصادي/ التجاري في سبق الغرب مناطق العالم الأخرى في الحداثة. فقد اخترعت أوربا إبّان فترة نهضتها التجارية، تقنية مهمة هي الطباعة. وعلى الرغم من أن هذا الاختراع كان معروفًا قبل ذلك في الصين وبصورة أكثر تقدمًا في كوريا، فإن عالم الشرق الأقصى لم يستخرج من هذا الاختراع الفوائد التي استخرجته منه أوربا. ولم ينتبه العالم الإسلامي إلى أهمية هذا الاختراع. أما أوربا فبدأت منذ القرن الخامس عشر بطباعة لا الكتب الأدبية فحسب، بل الكتب العلمية أيضًا. كما أخذت تطبع كتبًا بالأحرف الشرقية لدواعٍ علمية في القرن السادس عشر. أما العثمانيون فلم يسمحوا بالطباعة إلّا في القرن الثامن عشر.
كذلك سبقت الصين أوربا والعالم الإسلامي في اختراع الأسلحة النارية، إلا أن أوربا استخدمتها بفاعلية أكبر. من هنا يمكن القول إنَّ التقدم في التكنولوجيا لا يؤدي في حد ذاته إلى تقدم الحياة الاجتماعية. فكما يقول بارتولد من الممكن الحصول على السلاح الناريّ دون تكوين جيش منظم والحصول على البوصلة من دون أن تكون لديك القدرة على الملاحة، وأن تأخذ بالمطبعة دون تكوين رأي عام.
  ويمكننا أن نستنتج أن الطباعة لم تكن لتحدث التأثير الذي أحدثته في أوربا، لو لم يكن ذلك متلازمًا مع عصر النهضة ثم عصر الأنوار الذي تلاه والتحسّن الكبير الذي حدث في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، فلا شك في أن الطباعة عجلت في محو الأمية ونشر التعليم والمعارف النظرية والعملية بين السكان الذين أصبحوا أكثر إنتاجية واستهلاكًا للبضائع المختلفة، مما أسهم في توسيع حجم السوق الداخلي الأوربي قبل توسعه شرقًا وغربًا.

استثناء خاص
 أما العامل الثقافي الآخر فيتعلق بالمسألة الثقافية - اللغوية الأهم، أي مسألة التعليم باللغة الأم حتى يتحول العلم إلى ثقافة. وهذه مسألة لا يزال الجدال قائمًا حولها منذ أكثر من قرن. وقد طرح المستشرق البريطاني سير هاملتون غيب عام 1934 السؤال: «هل يمكن أن يكون هناك تعليم حقيقي إذا تم بلغة غير اللغة الأم؟ وكان جوابه: «إن الاستثناء الهندي الذي استخدم الإنجليزية في التعليم هناك كان استثناءً خاصًا، وكان عاملًا في توحيد الهند. إلّا أن ذلك لن يكون صحيحًا بدرجة ذات وزن في البلدان الإسلامية. فالمسألة، بدرجة أساسية، مسألة نفسية ولا يبدو أن علماء النفس قد درسوا بدقّة العمليات المتصلة بطرق التعبير؛ لذلك يجب علينا ألّا نسرع في اعتبار أن الخلط بين الألسن والجهد المبذول في تعلّم لغة أجنبية يؤدي بالضرورة إلى الخلط أو إصابة التفكير بالجمود، إلا أن هناك نتيجة اجتماعية أخرى غير مشكوك فيها وهي أن: «اللغة لا يمكن أن تكون منفصلة عن أولئك الذين يتحدثونها. وإذا تخلّف تطور لغة ما فإنّ تطور المتحدثين بها سيكونون متخلفين ككل. في الوقت نفسه فإنّ هوةً ستنشأ بين الأقلية المتعلمة، التي ستكون أفكارها الثقافية مرتبطة بلغة أجنبية من جهة، وجمهور الناس الذين سيكون أفق تفكيرهم مرتبطًا بلغتهم الأم من جهة ثانية...».
يقول رأي آخر إنّه إذا فشل نظام تعليمي في إعطاء النتائج المتوقعة منه، فإن ذلك يكون بسبب أنه منفصل عن الحقائق الاجتماعية، أو عن الأساس الأخلاقي، أو عنهما معًا.
وبرأي العالم رشدي راشد فإنه لا بدّ من تدريس العلوم باللغة العربية، ويعضد ذلك أن العلوم في اليابان تعلم كلها باللغة اليابانية وفي الصين بالصينية، وأنه في العصر العباسي حدثت حركة ترجمة العلوم اليونانية والفلسفة إلى العربية، وكان كل شيء علمي في مصر باللغة العربية، لذلك يقول إنه لا ولن يوجد مجتمع علمي ولا نهضة بحث علمي إذا لم تترجم الرياضيات والفيزياء وكل العلوم إلى العربية وتدرس بها. وهذا الموضوع بالطبع مختلف عليه. كما أن كثرة الجامعات الأجنبية في البلدان العربية أو الإسلامية لن تصنع نهضة علمية أو مجتمعًا علميًا أو حتى أي تقدّم علمي لأنها لا تستجلب إلّا أساتذة الصف الثاني أو الثالث من أساتذة أوربا أو أمريكا.

عوامل مساعدة
مع كل ذلك، علينا الاعتراف بأنّ هناك مبالغة في القول بأنّ العالمين العربي أو الإسلامي كان نائمًا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، إلا أن العوامل المساعدة لنهوضه ثقافيًا وتجاريًا كتلك التي كانت موجودة لديه في القرنين السابع والثامن مثلًا، كانت غائبة. وبسبب الضغوط العسكرية والاقتصادية الخارجية والصراعات الإقليمية، كان لا بدّ للعالم الإسلامي أن يعطي الأولوية في اهتماماته للأمور العسكرية بدلًا من العوامل الأخرى. وهكذا اضطر إلى استيراد التقنيات العسكرية كما قشور الثقافة الحديثة من الغرب الذي حاز قصب السبق في العصر الحديث.
وعلينا ألّا ننسى أن القرنين الماضيين كانا يمتازان باتساع التجارة، وبالاستعمار في الوقت ذاته. وقد سلب الغرب العرب وغيرهم أدوات تقدّم اقتصادي وتجاري مهمة. إن فرنسا وبريطانيا استخدمتا ضرائب «حمائية» لإعانة الصناعة المحلية، لكنّها منعت الدول الأخرى من تطبيق مثل هذه التدابير كي تستطيع هي تصدير فائض إنتاجها إلى هذه الدول غير الأوربية الأضعف من أن تقاوم الأساطيل الحربية الأوربية.
إن العالَمين العربي والإسلامي لن يستطيعا العودة إلى تكرار مراحل التاريخ الأوربي والأمريكي ليصلا إلى ما وصل إليه الأخيران، بل إن هذه العودة، حتى لو كانت ممكنة، لا تفيد أحدًا لأنّ العالم انتقل من الثورة الصناعية الأولى إلى «الرابعة» المتمثلة في تطوير الإلكترونيات بالقرنين العشرين والواحد والعشرين. وإذا كان من أمل لنا باسترجاع مكانتنا العالمية فهو يكمن في البدء عند النقطة التي انتهوا إليها لا إلى التي انطلقوا منها ■