مليلية الأسيرة المتَّشحة بالبَياض

مليلية الأسيرة المتَّشحة بالبَياض

  لعلّ أول شيء لفت انتباه بيير لوتي أثناء زيارته للمغرب هو البياض الساطع لمدن الشمال... بياض ساحر حرّك جوانح الخيال لدى هذا الرحالة والروائي الفرنسي ذي الحسّ الفريد والبصيرة النافذة، مما جعله يؤلّف رحلته الشهيرة التي سمّاها «في المغرب»، كي يصف انبهاره واندهاشه الكبير بهذا الزخم المذهل من البهاء.  فالمدن المغربية الشمالية تتميز بطابع خاص لا يخفى على العين، ومن بين هذه المدن الفاتنة المتلفعّة بالبياض مدينة مليلية، اللؤلؤة الأسيرة التي سُلِبت من المغرب ذات زمن، والقلعة الصامدة التي ما زالت تجابه الأنواء والخطوب، وترفض كل محاولات طمس هوّيتها وسماتها المغربية.

 

تعدّ مدينة مليلية آخر المستعمرات في أفريقيا، إلى جانب سبتة، وتكفي نظرة خاطفة إلى خريطة المغرب لإدراك حقيقة هذه المدينة النابتة في عمق ترابه، والتي تطلّ على الجنوب الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، وهي جزء من الأراضي الريفية التي تقع شمال المغرب، وتتربع قبالة سواحل غرناطة وألميرية الواقعة جنوب إسبانيا. 
وأول ما يسترعي انتباه زائر هذه المدينة هو اسمها الأمازيغي المحض الذي يعني باللغة الأمازيغية «تُمْلِيلْتْ»، أي البيضاء.
وقد انبثق هذا الاسم من المحيط الجيولوجي للمنطقة التي تقع فيها المدينة، والتي يغطيها الحجر الجيري الأبيض الناصع، غير أن الاسم قد تطوّر مع توالي العصور حتى استقر على اسم مليلية، وهو الذي عُرفت به في المغرب والعالم العربي، بينما ينطقه الإسبان محرَّفًا قليلًا، فيسمونها مِيلِيّا.
ويعتبر اسم مليلية دليلًا دامغًا وشاهدًا صريحًا على أن المدينة مغربية وأصولها أمازيغية تنتمي إلى الريف. وكما هو شأن كثير من مدن وقرى تلك المنطقة، فإن مليلية مبنية على هضبة، ويسودها مناخ متوسطي دافئ معتدل الحرارة والرطوبة، ككل المدن المطلة على البحر المتوسط.

شيء من التاريخ
تعود الجذور التاريخية لمدينة مليلية إلى ما قبل الميلاد، وقد تعاقب على حكمها الكثير من الدول كالفينيقيين والقرطاجيين والرومان والبيزنطيين، وبعد الفتح الإسلامي لبلاد المغرب خضعت للدولة الأموية كبقية المناطق المغربية، وبعدها للدولة العباسية، ثم لحكم قرطبة في عهد الوجود الإسلامي بالأندلس، لتستقل بعد ذلك قبل أن تسيطر عليها الدولة المرابطية القوية آنذاك، ثم الدولة الموحدية، فالدولة المرينية.
وتدل معالم مليلية الأثرية على عراقتها وتجذّرها في عمق التاريخ وتَشَرُّبِها سمات الحضارات القديمة التي عرفتها المنطقة، وتعد قلعة مليلية العجوز من أبرز مآثرها الصامدة، ويناهز عمرها خمسمئة سنة، وهي قلعة كبيرة وعتيدة تطلّ على البحر مباشرة، وتبهر الزائر بجدرانها العالية القوية المبنية بالحجارة الضخمة المنجورة، وأبوابها الواسعة على شكل أقواس كبيرة ذات الممرات العميقة والطويلة المتسعة.
وعلى الرغم من انتشار الكنائس في مليلية، كالكنيسة العالية التي تتوسط القلعة العجوز، فإنّ المدينة لا تخلو من المساجد، وأهمها مسجد الروشطرو، الذي أمر الجنرال فرانكو ببنائه هدية للجنود المغاربة المسلمين الذين شاركوا في الحرب الأهلية الإسبانية وقاتلوا إلى جانبه حتى خرج منها منتصرًا.
وعلى الرغم من أن مدينة مليلية قد اكتست معالم حضارات متعددة من بينها الحضارة العربية الإسلامية، فإن إسبانيا لا تزال تحرص على تغيير معالمها حتى تكتسي طابعًا معماريًا وثقافيًا إسبانيًا، وبذلت من أجل ذلك كل الجهود، فأطلقت حملات إغراء السكان المغاربة حتى ينسلخوا من هويتهم المغربية الإسلامية، وذلك بمنحهم الجنسية الإسبانية، وتوفير العمل لهم ولأبنائهم ووعدهم بحياة رغدة.
لكن، في المقابل، لم يسلم هؤلاء من الترهيب بشتى الأساليب في حال رفضهم ذلك، كأن إسبانيا تعيد عجلة التاريخ إلى الوراء لتقف عند نقطة محاكم التفتيش البغيضة... نعم... إنها تفعل ذلك وإن بشكل محتشم.
لقد احتل الإسبان مدينة مليلية سنة 1497م على يد دوق صيدونيا خوان ألفونسو پيريز إلبوينو، أي بعد خمس سنوات على سقوط غرناطة، وهنا لا بدّ أن نتذكر الكارثة التي عصفت بالأندلس عقب السقوط المتوالي لملوك الطوائف الذين كانوا السبب الرئيسي في إنهاء الحكم العربي الإسلامي في شبه جزيرة إيبيريا. فقد كانت سنة 1492م حاسمة ومحددة لمصائر متعددة، ففيها سقطت غرناطة، آخر معاقل المسلمين في الأندلس، وفيها أيضًا كلّف الملك فرديناند أحد أشهر القراصنة ويُدعى كريستوفر كولومبس باقتحام المحيط الأطلسي واستكشاف ما وراءه، فكان الحدث الكبير المتمثل في اكتشاف أمريكا حسب ما هو متداول، رغم أن هناك ما يقال في هذا المجال، وبعد ذلك بخمس سنوات احتلت مدينة مليلية.

آلام الحاضر
إن الوضع الحالي لمدينة مليلية معقّد جدًا، فإلى جانب ساكنتها المختلطة المكونة من المسلمين والمسيحيين واليهود والهندوس، وتواتر مطالب المغرب باسترجاعها، قررت إسبانيا أن تمتعها سنة 1995 بالحكم الذاتي. ومن جانبه، فإن المغرب يعدّ المسلمين القاطنين في هذه المدينة كما في سبتة، مواطنين مغاربة لهم جميع حقوق المواطنة، واعتبرهم قاطنين أرضًا مغربية، حيث إن مليلية وشقيقتها سبتة مدينتان مغربيتان مُستعمرتان، وما زالت كل الهيئات السياسية المغربية تطالب باسترجاعهما، غير أن المشكل يكمن في أن الأمم المتحدة لم تصنّفهما ضمن المناطق المستعمرة، وهذا ما يعطي الشرعية للإسبان للاستمرار في احتلالهما.

بؤرة توتر
لقد عرفت مدينة مليلية في السنوات الأخيرة طفرة نوعية، وصارت منبع مشاكل وقلق للمغرب وللدول الأوربية، وخاصة إسبانيا وفرنسا وإيطاليا، بسبب اقتحام جحافل المهاجرين السريين للسياج الذي وضعته سلطات الاحتلال الإسباني سنة 1998 كفاصل حدودي بين مليلية وبقية التراب المغربي، وهو سياج مزدوج من الأسلاك الشائكة يبلغ طوله 6 كيلومترات وارتفاعه 4 أمتار. ورغم ذلك، فإنّ المهاجرين يخترقونه من حين لآخر، ولا تسلم عمليات الاختراق تلك من حوادث قاتلة، سواء برصاص الحرس المدني الإسباني، أو بالسقوط من أعلى السياج، أو لأسباب أخرى. 
ففي السنوات الأخيرة تنامت ظاهرة الهجرة غير الشرعية بسبب توافد المهاجرين السريين من البلدان الأفريقية وعبورها التراب المغربي، وصولًا إلى شماله، وهي ظاهرة ما تنفكّ تتواتر كل يوم. وتؤكد إحصاءات منظمة الهجرة الدولية أن أعداد المهاجرين غير الشرعيين العابرين نحو إسبانيا وحدها من 2017 إلى الآن قد تجاوز 47 ألف مهاجر، منهم أفارقة ومغاربة وسوريون كذلك، وأغلبهم تسللوا عبر مدينة مليلية.
هل سنرجع يومًا إلى حيّنا؟ حتمًا سنعود، فإرادة الشعوب في التحرر من ربقة الاحتلال لا تفتأ تشتعل جذوتها، والشعب المغربي لا يشذّ عن هذه القاعدة، فكما حرر كل أراضيه المغتصبة على مرّ التاريخ وبذل دماءه الزكية من أجل ذلك، فإنه ما زال ينظر بعين الأمل المشحون بالإصرار المتقد إلى اليوم الذي ستتحرر فيه مدينة مليلية من قيدها، ومعها شقيقتها سبتة. وإنّ غدًا لناظره قريب ■

جوامع مليلية

شوارع مليلية التي اكتسبت معالم حضارات متعددة