البوسنة .. «بلد الدم والعسل» ترميم ذاكرة الحرب بالسياحة

البوسنة .. «بلد الدم والعسل» ترميم ذاكرة الحرب بالسياحة

على مصطبة التاريخ أضع الاسم، وأفتش عن تاريخيّته، البلاد التي تشهد ولادات متواصلة، باحثة عن أعمدتها الراسخة كجبالها، وهي تعانق الغيم يهبط ليقبّل كل زهرة فيها، وقد استوت شابّة تقارب الثلاثين منذ أن وُلدت آخر مرّة من أفواه المدافع وروائح البارود، يختال علي عزّت بيجوفيتش، يرفع رايتها على سوار من دم الشهداء، فيما كان القرن العشرون يوشك أن يودّع سنواته الأخيرة.  هي البوسنة والهرسك، ومع جناحيها حلّقت أزمنة، فجّرت أنهارها وشلالاتها بفيض من دم أبناء البلاد، والغزاة الذين انتهكوا جبالها المحصّنة بالاخضرار والحُسن، فكيف ببياض فقاعات الماء أن يستبقي لون الدم القاني، وأنّى لمطرها المتدفق أن يحتفظ بأدخنة الحرب، ما قبلها وما بعدها؟! وكيف لسراييفو (عاصمة البلاد وأكبر مدن البوسنة) أن ترمّم ذاكرتها، وهي الحريصة ألّا تضع (الجبس) لمعالجة ثقوب الرصاص والقذائف الآتية من زمن الجحيم والقصف الذي اغتال البشر والأشجار، وانتهك حرمات الأنهار... وهل يجدر بموستار (أكبر مدن الهرسك) أن تنسى عذاباتها وآلاف المقابر ترفع شواهدها، كلٌّ شاهدٍ بشهيد؟!

 

نقشت البوسنة أثرها في أذهاننا كساحة حرب، وبصور آلاف الجثث المتراكمة في مقابر جماعية، ومذابح تتوالى، تطلّ من خلف نشرات الأخبار تتلو علينا سورة الموت وهي تتلوّى في الخاصرة الجنوبية للقارة العجوز، وترفع تكبيرات الآذان في قارة متخمة بأجراس الكنائس، لكنّها استطاعت أن تبدّل صور بياض الأكفان باخضرار العملات في أكفّ السيّاح، وهم يسيرون بأفواج متتالية بين جبالها الخضراء ومياهها المتدفقة بردًا وسلامًا، وأن تكتشف لغة جديدة لولادتها المستجدّة فتفتح ذراعيها للغة العربية، خاصة تلك الناطقة باللسان الخليجي المبين، ممّن وجدوا بُغيتهم الجمالية في هذه البقعة الأوربية المتدثّرة بعباءة إسلامية، هي لا تختلف عن أي مدينة في بلدان جيرانها، إنّما الفارق في آثارها التي بقيت شاهدة على عصر امتدّ مئات الأعوام، جاء به بنو عثمان، وقد أمضوا فيها ما يقارب خمسة قرون، قبل أن يموت «الرجل المريض» على وقع الطعنات من شرق جسده وغربه.

لوحة من الجمال
تقترب الطائرة من الهبوط، أراقب تلك اللوحة الباذخة الجمال، ما أجمل أن تلتقي مدينة حينما يلتقيها الخريف، فالألوان صارخة بالمعنى، معنى أن ترى ألوانًا تسحب روحك من كل غبارها لتهدي إليها باقة زهور بحجم جبال تختال حسنًا على جسد متّسع كمدينة.
مأخوذًا بفتنة وصف من سبقوني إليها، وقد أصبحت القِبلة السياحية لأهل الخليج، ييمّمون وجوههم شطرها حينما يبدأ مؤشر الحرارة في بلدانهم يقترب من درجة الغليان، وبفكرة أنها دولة مسلمة تختار الأُسَر الارتحال إليها، وربما قضاء شهر رمضان مع عيد الفطر، فالبلد جنّة أرضيّة، والشعب طيّب... والربُّ غفور.
تتكئ دولة البوسنة والهرسك، على زاوية صغيرة في القارة العجوز، لكنها خضّت التاريخ الأوربي بحروب إقليمية وعالمية، فيما اختارت لها الجغرافيا دولة صربيا لتحدّها من الشرق، أما الغرب فهناك دولة الجبل الأسود، وليس لها من ساحل على البحر الأدرياتيكي إلّا نحو 26 كم فقط، ومع ذلك فهي ثريّة جماليًا بما يغنيها عن سواحل كل البحار، بقعة مخضّبة بالجمال تكثر فيها الأنهار والجبال والتلال والكهوف والبحيرات والشلالات، أما عرقيًّا فتتكوّن من ثلاث عرقيّات أساسية؛ أولاها وأكبرها «البوشناق» ثم الصرب، فالكروات.

«أنا ابنك يا بوسنة»
الطائرة كمركبة فضائية تحوم على مهل، كأنما تراوغ الغيوم، لتجد لراكبيها فرصة النظر من علٍ نحو حقول الجمال أسفلهم، أستعيد ما سجلته على هاتفي من مقطوعات كتابية ترتبط برحلتي هذه، فأجد مقطعًا للشاعر البوسني جمال الدين لاتيش من قصيدته «أنا ابنك يا بوسنة»:
إلى عرش الله العظيم
ترتفع نداءات المساجد
هذه أناشيد وطني
تعانق الغابات والمراعي
محبوبة قاسية وصلبة
بوسنة فوق دماء الشهداء
أحفظك مثل نور العينين
لأنني ابنك يا بوسنة

كم تستطيع أن تحفظ العين يا من اسمك لا ينفصل عن الجمال، وقد اخترته جمالًا للدين؟! أسائل نفسي: كيف لصورة أن تنقل ما تقوله الروح وهي ليست أكثر من عين تصوّب عدستها إلى مساحة محددة بإطار لا تقدر على الإحاطة بالفيض الروحاني كلما التقينا بمنظر جميل؟ وحسبنا أن نقول نصمت أمامه، فالصمت في حرَم الجمال جمال... حسب الوصف «النزاري»!
أهبط في مطارها الصغير، شبيه بأي مطار إقليمي يمكنك عبوره في دقائق، بلد بدأت تتقن لغة السياحة، وترحّب بالسحنات القادمة من بلاد العرب، وأمام باب المطار شقيق ميرلا، صاحبة الشقة التي اخترتها لتكون قريبة من المزاج البوسني، بعيدًا عن حسابات الفنادق ولغتها الصناعية.
شقة لطيفة ضمن مبنى صغير يطل على حديقة بسيطة، بأقل من 40 دولارًا لليلة، طلبت منّا ميرلا أن نستبقي أحذيتنا خارج البيت، هذه تقاليدهم، أخبرتها أنها تقاليدنا أيضًا، أن تبقى «النعال» خلف «رز الباب»، احترامًا للمكان، وكما أنه مقدس كدار عبادة.
يتهادى الغيم في السماء الزرقاء، إذ تكتب صباحيات يوم جديد في ربيع البوسنة، حتى وإن كان الموسم خريفًا، والطقس بدأ يستقبل أولى نسائم الشتاء، كما تهادى إلينا صوت جماهير تهتف في مدرجات لا تبدو بعيدة، لأكتشف أننا على مقربة عن استادها الرياضي وعلى أرضيته يلعب فريق المدينة، وقد نال الفوز، فكانت ميرلا سعيدة بالنصر الكروي لناديها، كما هي سعيدة بساكن جديد يثني على جمال بلادها، والأكثر أنه لم يُضِع الكثير من الوقت في المسافة بين المطار ومقر الإقامة، بضع دقائق حتى اجتزنا حقول المكان، وحالما انسحبت مالكة الشقة إلى بيتها في الأعلى استوينا على عرش الأسرّة، حيث النوم مطلب مُلحّ بعد السفر ليلًا.

الحرب... نقش أزلي
لم يكن خيال جوزيف بروس تيتو يكفي ليدرك وهو يضع توقيعه على تأسيس منظمة عدم الانحياز، أن بلاده القوية يوغسلافيا ستنفرط حبّات سبحتها لتعود دولًا صغيرة كما كانت، وسوف تنحاز لفرديّتها؛ منحازة إلى طائفيتها، وبينها البوسنة التي خرجت من رحم البلد الأم بعملية قيصرية؛ فتصبح البلد المسلم الوحيد في قارة تعتقد أنها بقيت مخلصة لما جاء به المسيح؛ مهما استعمرت وقتلت ونهبت.
ولدت البوسنة، كبلد مستقل بعد حرب دامية، في جيب صغير تحفّه الجبال، وتتمدّد داخله، ضمن مساحة تقارب الـ 51 ألف كم مربع، فيما يتوزّع سكّانها الذين لم يبلغوا الملايين الأربعة على أغلبية مسلمة وأقليةّ تقاسمها الكاثوليكية والأرثوذكسية المسيحيتين، ويقطن عاصمتها سراييفو نحو نصف مليون شخص.
أتتبّع مجرى نهر ميلاسكا، يجري بضعف ووَهَن، تجتهد بعض المنابع أن تهديه بعض القوّة بين مسافة وأخرى، لكنّه ليس في موسم حيويته، يعيش زمنه الخريفي قبل أن تمدّه أمطار الشتاء والثلوج الذائبة بعنفوان يعرفه جيدًا، وهو يسير باحتفاء خاص، فالجسور بين ضفّتيه أشبه بلوحات متعددة الأشكال، والبنايات تنهض بألوان فائقة الحياة، رغم تلك الانكسارات التي يتبيّنها العابر بين مشرق الكائنات وضحاها، حيث تقف بنايات معذّبة بذاكرة الحرب، محتفظة ببقع اختراق الرصاصات والقذائف لجدرانها، كأنها لا تريد للنسيان أن يعبُر هنا، مَن يولد في زمن الحرب عليه أن يُبقي البندقية متأهبة، والبلاد التي تعيش حدثًا مأساويًا كل خمسين عامًا تقريبًا لا تأمن من فيض الأمان، فكم من مرّة أمنت له فخدعها طول الأمل.
لم أستطع مغادرة الفكرة، أن هذه البوسنة والهرسك، أنا أسير في سراييفو، يدوس على مفرق الذاكرة جندي صربي، تنتزعني من جمال المشهد صور مذبحة ضحاياها مسلمون، نساء وأطفالًا على الأغلب، قريبًا من مجرى النهر أشاهد لوحات ذهبية، تغريني بجماليتها، فأجد أنها أسماء شهداء سقطوا في تلك الحرب المريعة.
أسير بين روائح أدخنة آتية من ماضي المدينة، وروائح تبغ تعبّئ بها مقاهيها والصدور، الجدران العصيّة على النسيان، والمتمنّعة على «الشاش» والعلاجات والمعقّمات كي تندمل جراحاتها، فلا تذكّر مواطنيها - على الأقل - بعذابات تلك السنين.
أخاتل الرقم الذي تقوله شاشة هاتفي عن درجة الحرارة التي تقلّ عن أصابع اليد الواحدة، لأحتمي بحرارة اللقاء مع مدينة احتلت نشرات الأخبار وقتًا من العمر... كانت تصدّ النار الحامية بجسدها العاري. وبضعفها أمام سطوة الجيش الصربي وقسوة جلّاديه، يا لجرَيان السنين، كيف مضى على كل ذلك نحو 28 عامًا؟!
البوسنة... المستكينة في مهدها الخريفي تستمتع بما تبقّى لها من نهارات مشمسة قبل أن ترتدي عباءة الشتاء الثلجية، ولن ترى الشمس إلّا مطلع الربيع القادم.
أعبر ذاكرة الحجر في المتحف الوطني، والصخور صلدة تكتب على الحجر ما تيسّر من تاريخ قديم، في هذه الردهات المتحفيّة سيرة الأحجار حقًا.
 في قاعتين متسعتين مئات من أنواع الصخر وفي كل قطعة منها جمال يأخذك إلى كيف يتشكّل الإبداع الإلهي في هذه القطع الصغيرة كما روتها الطبيعة، ونقشتها على مهل خلال آلاف السنين، إن لم يكن ملايينها، أحاول التوقف عند كل حجر، لكنّ تاليه يقودني نحوه، وهناك أعداد لا يكفي الوقت للتمعن ولو بجزء منها، في قاعات أخرى تتوقف الطبيعة عند تدخّل الكائن البشري، فيتحوّل إلى ورق قاسٍ يحمل كتابات عهود مضت لم تجد الأوراق لتكتب عليها سيرتها، لكنّ قاعة صغيرة تُخرجني من تعقّب قطع الصخر للوقوف مع تاريخ جديد يوثّقه الكائن الآدمي على هذه الأرض، من خلال البُن (القهوة) والتبغ، يا لها من ذاكرات تحمل مزاجها العميق، بدءًا من الرائحة، وليس وصولًا إلى لحظات المزاج الشفيف المحفّز للخيال البشري بالتحليق خارج سطوتَي المكان والزمان.

متحف طفولة الحرب
من المدينة القديمة أقطع الجسر ثم صعودًا، أبحث في خرائط العم جوجل عن متحف «طفولة الحرب» أو الطفولة في زمن الحرب، مبنى صغير بقاعات قليلة، لكنها كافية لتقول الكثير، كيف نقشت همجية المقاتلين مدفوعة بطموحات السياسيين آثارها المدمرة على حياة الأطفال، وفي مختلف دول العالم، وكيف تدمي الصراعات المسلحة قلوب الأبرياء الصغار وهم عنوان المستقبل الضخم والفخم، كزهرات تتفتح في حقول ألغام، ترى كيف ستكبر وعلى أغصانها كل تلك الأدخنة والمرارة؟!
تتوزع ذاكرات عديدة، من دول شتّى عانت ويلات الصراعات البغيضة، تروي في كل زاوية من زواياها تفصيلًا صغيرًا في حياة طفل يكتب حوله قصة أو رسالة أو كلمات ما، لعبة من هنا، وقلم من هناك، وأداة كانت في يد طفل قبل أن تعبث به عواصف الحرب فتطيح كل شيء، بسلامه الداخلي قبل أن يشتدّ عوده، وتذهب كل ألعابه في مهب الحروب، تدعسها جزمة عسكري لا يفرّق في جموحه، وربما بؤسه أيضًا، بين رأس طفل ورأس دمية كانت قبل قليل في يد صغيرة تشدو لها ما يقوله ملاكها الحارس من أغنيات وأمنيات، ربما ليس بوسع الوقت أن يخبرها كيف ستضيع الأغاني، وكيف سيصبح مصير الأماني!

نفق الأمل
يقف بنا المرشد السياحي عند ما يشبه ثكنة عسكرية، يقول إن هنا أهم آثار الحرب، قصة بطولة حفرت هنا، على مقربة من المطار، نفق أرضي كان يمدّ المحاربين بالحياة، تعبره المؤن والذخيرة لأجل الصمود أكثر، حضرت فيلمًا وثائقيًا يروي ما حدث، كيف سطّرت تلك السواعد هذه الملحمة البطولية في وقت كاد الحصار يذيب الصخر جوعًا، وهبطت تلك السلالم لأجد ما قاله ذلك الفيديو واقعًا على نحو صادم، كانت العلامات الآتية من زمن الموت كأنها تستعيد انحيازاتها للحياة ومقاتلوها يعبرون نفق الأمل، كنقش أحفوري قديم يجتاز حقول الألغام عابرًا المسافات تحت الأرض، يرهب القاذفات ساكنات الجبال وهي تمطر سراييفو بشرًا وشجرًا جحيمًا لا يترك فرصة إلّا وتحرقها نيرانه، فتتساقط غيوم الحرب السوداء تاريخًا كالحًا على جبين البشرية المتفرّجة على وحشية الإنسان تجاه شقيقه الإنسان.
استشعرت عزت بيجوفيتش يرفع الراية البوسنية للمرة الأولى. الرئيس الجالس على كرسيّ محفوفًا بأدخنة الحرائق وبكاء الأرامل والأيتام، في ردهة من متحف النفق كأنه يترقّب أملًا ما يُنهي عذابات أبناء شعبه، كي تكتمل هذه الولادة القيصرية لأرض البوسنة قبل أن يفقد الجنين المزيد من حياته.
من حكايات الحرب أنه قبل وقت قصير التقى آلاف من مواطني البوسنة وأنحاء أوربا في قرية هامبارين في البوسنة من أجل دفن رفات 86 مسلمًا بعد 27 عامًا من قتلهم وإلقاء جثثهم في واد عميق في واحدة من أبشع وقائع حرب البوسنة، وكما أوردت وكالة رويترز الخبر أنه «قيل للضحايا وقتها، وكان أغلبهم أسرى في معسكرات اعتقال وقت الحرب قرب بلدة برييدور، إنه سيُطلق سراحهم في إطار تبادل للسجناء، لكنهم بدلًا من ذلك اقتيدوا إلى منحدرات كوريتساني وسط البوسنة، وأوقفتهم قوات صرب البوسنة صفًا على حافة المنحدر، وأطلقت عليهم الرصاص في أغسطس عام 1992م».
الحرب التي بدأت في أبريل عام 1992م، واستمرت حتى عام 1996م، لينهي اتفاق برايتون حرب السنوات الأربع على بقايا العهد اليوغسلافي وما شكّله حكم تيتو.

إلى موستار
بين ذاكرتين، وزمنين، أعبر البوسنة والهرسك، أخرج من أرض الأولى إلى فضاء الثانية، وهما أرض وسماء منذورتان لثنائيتَي الموت والحياة على نحو صادم.
كان الضباب يكسو المدينة كفستان زفاف، يشير المرشد السياحي بين فينة وأخرى، إلى تذكار هنا وآخر هناك، كأنه يروي عذاباته الشخصية التي عاشها، لا يكفّ عن استعادة ما حدث بُغية القول لي إن خلف كل هذا الجمال الطبيعي الذي يحيط بك دم شهيد ودموع ثكلى وجراحات تستوطن الروح لا يخفيها أي امتداد لحسن الطبيعة أو انهمار مياهها المتساقطة روعة ببياض يكاد يزهر.
في الطريق نحو موستار يمكن ملاحظة الجبال العارية من الأشجار. صخرية حادّة، رغم تلك السحب البيضاء كعمائم على رؤوسها، ذكّرتني بأنها محسوبة على منطقتنا أكثر من تلك البلاد الفائضة خضرتها فوق ما تستوعبه العين، رغم ما أوتيته من رؤية، والروح، مهما امتدّت بها نطاقات الرؤيا.
  توقّفنا في كونيتس، مدينة يسكنها مسلمون، نحو 20 ألف نسمة، وكان نهر نيريتفا يمرّ عبر 150 كيلومترًا ليصل إلى بحر الأدرياتيك في كرواتيا، وقفنا على الجسر العثماني من بقايا الدولة العثمانية الدالّة على زمن خضعت فيه البوسنة لهذه الامبراطورية، قبل أن تنتقل إلى حكم امبراطوري آخر تمثّل في النمساوية.
من الآثار العثمانية تلك التكية الصوفية التي أقامها الأتراك على فوّهة كهف ينبعث منه نهر بونا، فيختال بين بساتين من ثمار الفاكهة، كالرمان، والورد وسائر الزهور، على الضفة الأخرى التي توصل إلى التكيّة هناك تذاكر للمرور، بينما دلّني المرشد على الناحية المقابلة، حيث يمكن تصوير الموقع بشكل أفضل، وإبقاء مبلغ التذكرة لشراء تذكار.
نحن السادرين في فرحها اليومي، والسائرين بهدى أو بغيره، نعيد رسم ضحكات القلب على خريطة البوسنة ونحن نتجّه إلى الهرسك... نصفها الثاني المولود بعد الحرب، وهي التي اعتادت الحروب منذ أن اخترقت الرصاصة صدر ولي العهد النمساوي في أحد شوارع المدينة القديمة، فتناثر الموت على سائر أرجاء المعمورة في حرب عالمية لم تكتفِ بحفر القبور في القارة العجوز، بل عرف العالم كيف يكون الجوع.
تقع الهرسك جنوبًا، وأكبر مدنها موستار، على الطريق نقف عند بعض الاستراحات السياحية لنستشكف المزيد من جمال هذه البلاد الغارقة في روعة الطبيعة، لكنّها مثخنة برصاصات الأمس، أقف على مرتفع أطلّ على موستار، أتأمّل المقابر الممتدة بأناقة الحديث عن بطولات وأثمان لا بدّ منها لنيل وسام الحرية معلّقًا على معطف الكرامة، أسماء على شواهد القبور، تبدو كأشجار بيضاء مجلّلة بالمهابة على تلك الرُّقعة الخضراء من الأرض، البيوت بقبعاتها الجرانيتية الحُمر تتعانق مع قمم أشجار الصنوبر، لتقول إنها قطعة أوربيّة، لكنّ المآذن هي التي تمنحها الهوية، وصوت الله أكبر يعلو خمس مرات كل يوم.
 كان الخريف يختال على أوراق الأشجار فيكسبها الألوان البهيّة، وإن كانت الورقة التي يغادرها لونها الحقيقي الأخضر تدرك أنها هابطة إلى حيث التربة التي سمقت بها، فتفترش الأرض، موقنة أنها دورة الحياة، وأن الفصل الآتي سيمنح شجرتها نضارة واخضرارًا.
هل يمكن للطبيعة، بروعتها، أن تنسينا أنهار الموت التي مرّت من هنا، وعبرت تحت كل شجرة؟!
أقرأ في صوت المرشد السياحي ما يؤكد أن بلاده الجميلة عانت ما فيه الكفاية، وآن لها أن تستريح، لاعنًا السياسيين الذين لم يعوّضوا شعبها المناضل ما يستحقه من حسن إدارة.

 بلد الدم والعسل
على واجهة الشارع كُتب بخط ضخم على حائط أبيض، وبجملة إنجليزية: «لا تنسوا»، شرحها المرشد السياحي بأنها تشير إلى الحرب، لكنّ باعة العسل في كل مكان، كما هم باعة «الكرنب»... سلطة الشتاء والمحاشي، واليوسُفي، فاكهة الموسم، يتكاثران على موائد الطعام، الحقول تمتد بما نسمّيه «الملفوف» والباعة على الشوارع يعرضونه بكثرة، حيث لا يأتي الشتاء بعد حين من الوقت بأية «ورقيات» ولا فواكه.
باعة العسل يعرضون عشرات الأنواع، ولكلّ علّة ما يصفون من علاج يسكبه هذا الشهد، حيث يكاد النحل يقاسمك قطع السكر على طاولة المقهى معك، تحاول طرد تلك الذاكرة القديمة للمدينة، أن تتحرّر منها، تذكرت فيلم «في بلد الدم والعسل»، عدت لأستعيد المعلومات عنه أكثر، عمل سينمائي للممثلة العالمية أنجيلينا جولي، الأمريكية التي اختارت أن يكون فيلمها هذا تجربتها الأولى كمخرجة وكاتبة سيناريو نهاية عام 2010، صوّرت مشاهده بشكل أساسي في المجر مع بعض المشاهد في البوسنة، مستعينة بممثلين من يوغسلافيا السابقة، وتدور الفكرة حول قصة حب على خلفية حرب البوسنة.
صافحنا موستار عبر مكانها السياحي الأعز، السوق القديم الواقع بين ضفتَي وادٍ سحيق، ويربطهما جسر، محفوفًا بعدسات المصورين والسيّاح، يلتقطون زوايا التصوير على يمين الجسر ويساره، وعلى طرفيه، والمدينة بين لوحات ممتدة في التاريخ، وأخرى محسوبة على الجمال الطبيعي الآسر، فأين أطلال الحرب إذن؟!
ذهب أكثرها إلى المقابر، فيما أصلحت يد الإنسان ما أفسدته سنوات الرصاص والمدافع، لتحتفي بالحاضر، غارفة من شهد اليوم ما ينسيها روائح الدم قدر مستطاع الذاكرة على النسيان.
ولأنها دافئة قليلًا، أفضل مما عليه الوضع في مدن البوسنة الأخرى، فإن معروضات الـ«آيس كريم» صورتها الأميز التي تقدّمها للسائح وهو يرصف بحذائه على أحجار طرقات السوق، عابرًا بين أكشاك ومطاعم تعتني أيّما عناية بالمشهد العالي على شرفة الوادي، وهناك يبدو الجسر وبناؤه المشيّد كحصن بين قلعتين تمسكان به، مما يكسب المنظر روعة أكبر، إضافة إلى كثرة المعارض الفنية (الجاليريهات)، عارضةً وعلى نحو متشابه لوحات للجسر والنهر والأودية، وسائر مكتسبات الجمال في هذه المدينة الساحرة.

حضور الاستثمار الخليجي
وقفنا على تلّة باذخة الجمال، تطل على قرية تبدو كلوحة فنية وضعها رائد الانطباعية جان مونييه بمزاج رائق، قرية هاجي تشي، تحفة أشبه بمزهرية تبعد نحو 10 كيلومترات عن سراييفو، واختارها مواطنون خليجيون سكنًا لهم، فالأراضي بِكْر، والأسعار في متناول الجيب والبناء مستطاع بكلفة أقل من معتادة، فيكون البيت الصغير مفتوحًا على حديقة واسعة باتّساع جبال البوسنة وسهولها الخضراء.
يتحدث المرشد السياحي عن مجموعة من الاستثمارات الخليجية في البوسنة غير الإقامة، فهناك حديقة ألعاب كبيرة يقع في مدخلها مطعم واسع به مختلف أكلات الخليج ومشروباته المعروفة، لمستثمر إماراتي، كما زرنا مزرعة يمتلكها سعودي، وتقع على آلاف الأمتار المربعة، حيث تعتمد في مطاعمها على الاكتفاء الذاتي من لحوم وألبان وغيرها، وتبيع منتجاتها من الثروة الحيوانية للسيّاح، كالأجبان والحليب وبقية الاحتياجات التي يمكن اقتناؤها من المزرعة.
في المدينة القديمة، يوجد مطعم بحريني (زعفران)، حيث يمكنك تناول المكبوس مع صوت اليامال والطرب الخليجي وأغاني البحر، وفي كل مرّة زرت فيها المطعم أستمع إلى الأغنية الشهيرة «خليجنا واحد»، فأراني أستشعر تلك الروح الواحدة لشعوب آمنت بأنها كيان واحد، سألت المرشد السياحي عن المطاعم الخليجية الأخرى، فأجابني بوجود مطعمين كويتيين؛ المباركية وفريج صويلح، لكن يبدو أنهما يفتحان أبوابهما في الموسم الصيفي فقط.

لقاحات السياحة
تجاهد البوسنة والهرسك للخروج من ألم جراحاتها القديمة، لتمدّ اقتصادها بالمزيد من لقاحات التعافي، ووجدت في السائح العربي، خصوصًا الخليجي، مبتغاها، وإضافة إلى ما تزخر به العاصمة سراييفو من جماليات طبيعية (لا يوجد سوى مول واحد كبير يمكن الإشارة إليه لا يبعد كثيرًا عن المدينة القديمة)، هناك خارج العاصمة مزارات سياحية رائعة، فأنت تسير أينما يمّمت وجهك وقلبك، في حدائق غنّاء محفوفة بالشلالات في أمكنة كثيرة، وكأنّ هذه المساقط المائية بجمالياتها المدهشة تلاحقك في كل مكان تتوقف فيه.
تبدأ رحلة السياحة بالتجوال في المدينة القديمة، وتسمى بأشجار شيا، وتتعدد طرق نطقها بين الجيم والشين، دخلتها من ناحية السبيل، حيث متعة السياح في مشاغبة مئات من الحمام يطعمونها بطرق مختلفة، بوضع الحبوب على اليد أو على الوجه، فيلتقطها الحمام بمهارة مع مهارة التقاط الصورة للحركة السياحية الطريفة والمعبّرة عن تفصيل جميل في مدخل المكان الضاجّ بمقاهيه ومطاعمه ومحالّه التي تعرض المنتجات المحلية، وأبرزها النحاسيات وأواني تقديم القهوة، فلا بدّ من الكباب البوسني، وقهوتها الشهيرة.
البقعة تعدّ سياحية بامتياز، فالشوارع الداخلية للأسواق، تتداخل مع الموروثات الثقافية والدينية، لكون هذه المدينة أنشئت في القرن الخامس عشر على يد عيسى بك إسحاقوفيتش، ويقال إن أصل تسميتها يعود إلى اللغة التركية، فكلمة «باش» تعني الرئيس، أي إنها السوق الرئيسية، وبقي نصفها بعد الحريق الذي أكل نصفها الآخر في القرن التاسع عشر، ومن أبرز آثارها الباقية جامع الغازي خسرو بك، الذي بُني عام 1530م، حينما كانت البوسنة جزءًا من الدولة العثمانية، وبقي من أهم ما تركه آل عثمان في هذه البلاد، بجوار برج الساعة التاريخي، ويشار إلى أنه لا يزال متمسكًا بتقاليد قديمة منذ إنشائه، حيث يرفع الأذان من دون مكبّر صوت، وحسب وصية الغازي، فإن القرآن الكريم يُختم فيه كل يوم بعد صلاة الظهر.
 وتشير معلومات إلى أنه أول جامع في العالم يستخدم شبكة الكهرباء، وهناك أملاك عديدة مثل الدكاكين والحمامات والخانات التابعة للجامع بمنزلة وقف له.
والسير إلى مدينة بيهاتش متعة لا حدود لروحانياتها وهي تأتلق في كيانك كله، مسار محفوف بالمياه والخضرة والجبال التي تبدو كمزهريات ضخمة ضاجّة بالألوان التي يكسبها الخريف حسنًا عصيًّا على الوصف، صعدت إلى غرفتي لأكتشف أنني أطلّ على جسرها الأجمل الواصل بين ضفتَي نهر أونا، لكنّني في الصباح لم أرهُ، كان مغطّى بالضباب، وفي الليل يتحوّل إلى شعلة من جمال، قطعت الجسر باتجاه الحي التجاري للمدينة الصغيرة، كان هناك جامع أثري، مسجد الفتح،  كل مقهى يدعوك إلى جلسة باهرة تحت بردها اللذيذ، فيما المطاعم على النهر تدعوك إلى تناول سمكها الطازج، الخارج للتوّ من نهرها المنساب بصفاء وددت لو أنّي أشقّه سباحة لفرط الوجد الذي أصابني.
كان أكثر ما شدّني في المدينة أولئك المهاجرين الذين يحاولون العبور إلى كرواتيا القريبة، والتي لا تبعد حدودها إلا نحو 15 كيلومترًا، يغافلون «العسس» لعلهم يتمكّنون من التسلل إلى الفردوس الموعودة، كأنما أوربا ستمنحهم عسلها حالما يصلون إليها!
من بيهاتش إلى مدينة ترافنيك، مدينة قديمة يسكنها نحو 20 ألف مسلم، بنيت في عهد الدولة البوسنية المستقلة في النصف الأول من القرن الخامس عشر، ويقال إنها المدينة الوحيدة في العالم التي تمتلك برجَي ساعة، فيما تتوزع مساجدها الثمانية عشر على واحاتها وتلالها، وأبرزها جامع السليمانية، أو كما يقال «الجامع المزركش»، حيث تزيّنه رسوم أغصان العنب، ومنذ عام 1815 يحمل اسم مُجدده سليمان باشا سكوبلياك.
قادنا مرشدنا السياحي إلى الجبل الأبيض (بيلاشنـيـتسا)، بعمامته الثلجية، بارتفاعه البالغ 1300 متر، حيث يشيرون إليه بشهرته التي أصبح عليها منذ أن استضاف بعض منافسات الأولمبياد، حينما كانت البوسنة ضمن البلد الأم يوغسلافيا، وذلك قبل 35 عامًا، وبين كل مشوار وآخر نمرّ بحديقة أو شلّال، كالحديقة الوطنية، وشلالات بليفا والبحيرة الضخمة التي تحمل الاسم نفسه، وحديقة الفنون الطبيعية، وشلالات شترباتشكي بوك، ويايتسا، وبحيرة بليفسكو وطواحين يايتسا المائية■

تشتهر البوسنة، وخصوصًا عاصمتها سراييفو، بمقاهيها، سواء تلك المندسّة في أسواقها القديمة، أو الساكنة بين نهر وجبل، محاطة باللون الأخضر المتأنق

تستريح المقاعد تحت هذا الكمّ من الجمال بانتظار عابرين لا يأتون بكثافة في مواسم البرد

الخريف... يكتب جماله في جميع أنحاء البوسنة، كل ورقة لها حكاية، ولكل حكاية أمل لتعود مزهرة من جديد مع بدايات الربيع المقبل

من غرف المتحف، وتحمل دلالاتها على تأثُّر البلاد بفترة الحكم العثماني التي دامت ما يقارب 500 عام

تتميز غرف المتحف بالسقوف الأنيقة والمزخرفة، ودقّة الاشتغالات الفنية فيها

 فنان تشكيلي بوسني يُنجز إحدى لوحاته، يقول إن ثمنها 200 يورو فقط

بين مسالك المدينة القديمة، كعادة المدن، تلتقي بالموروث الحضاري للشعب، من خلال ما تقدّمه الشعوب لزائريها من دلالات على عمق حضارتها

 جامع خسرو بك، يحتل موقعًا مميزًا في قلب المدينة القديمة

 برج أفاز تويست، يُعدّ أعلى برج في منطقة البلقان

... وعلى الجانب الآخر من السبيل يجلس هذا الموسيقي ليعزف ما يكفي لجمع بعض العملات التي تعينه على الحياة

 في المدينة القديمة تعرض البوسنة منتجاتها النحاسية الجميلة، ويجلس هذا الصانع ليستقبل زائرًا قد لا يأتي كثيرًا في موسم الخريف

 سراييفو التي تعيش تحديث مبانيها تحتفظ بالكثير من البنايات التي تبدو عليها آثار الحرب، ويمكن رؤية الكثير منها، حيث آثار الرصاص والقذائف

 نفق الأمل الذي حفره الجنود البوسنيون خلال الحرب ليصلهم بالمطار خلال فترة الحصار، وقد تحوّل إلى متحف

التكية الصوفية... مزار سياحي له مكانته الروحية عند من يطلبون الوجد، ولو من روح الطبيعة