منير عتيبة ود. هيثم الحاج علي في حوار عن الحياة العامة والخاصة والصداقة

منير عتيبة ود. هيثم الحاج علي  في حوار عن الحياة العامة والخاصة والصداقة

أمد خيط الزمن عائدًا إلى الوراء، مرَّ ضعفا عمري من وقتها، لكنّني أرى اللحظة كأنها الآن. المتفوقون من طلاب مدرسة جمال عبدالناصر الثانوية العسكرية بالإسكندرية يفوزون برحلة مجانية إلى محافظة المنوفية لزيارة أهم معالمها. أذكر مصنع الغزل والنسيج الذي زاره جيفارا مع عبدالناصر في ستينيات القرن الماضي؛ أخذت بعض القطن ووضعته في كراسة مذكراتي لعشرات السنين، ثم اختفى؛ ربما تزامنًا مع إغلاق المصنع. انتهت رحلة اليوم الواحد في مدرسة «المساعي المشكورة الثانوية». لقاء بين أوائل ومتفوقي المدرستين، من وقتها آمنت يقينًا بأن «الأرواح جنود مجندة؛ ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف».

 

 فمنذ أول جملة أتبادلها مع الطالب هيثم الحاج علي أصبحنا أصدقاء، لا أذكر فيمَ تحدثنا، لكنّنا اتفقنا على التواصل. ورغم كسلي في كتابة الخطابات وقتها - وحتى الآن - والذهاب إلى مكتب البريد؛ فإنني راسلت هيثم وراسلني، كان يحدثني في خطاباته عن محافظته التي يعشقها، كأنه يريدني أن أشاركه محبتها لتزيد أواصر صداقتنا، يكتب لي أشعاره لأخبره برأيي فيها، كان وقتها هو الشاعر وأنا الناقد، نتحدث عن أحلامنا البسيطة والكبيرة، الخاصة والعامة، والأحداث العادية في حياتنا... ثم انقطعت الخطابات بيننا.
بعد نحو 10 سنوات، وفي قصر ثقافة التذوق بمنطقة سيدي جابر في الإسكندرية، مؤتمر إقليم غرب ووسط الدلتا الثقافي، أمرُّ بين الصفوف، يستوقفني وجه، نهلل معًا بعد أقل من ثانية: «هيثم/ منير»! كأننا كنّا مع بعضنا بالأمس، تتلاقى أحضاننا، نسهر حتى منتصف الليل بمقهى على كورنيش الإسكندرية، نضحك للعبة الزمن؛ فأنا أشارك في المؤتمر كقاصّ بمجموعتي الأولى «يا فراخ العالم اتحدّوا»، وهو يشارك كناقد ببحث عن رائد التجريب في القصة العربية محمد حافظ رجب. تزوج كل منّا في الشهر نفسه، يفصل بيننا يوم وعام سبقته بهما، أنجبتُ ابنتي بعد عام من زواجي، وأنجب ابنته بعد عام من زواجه، يعمل معيدًا بقسم اللغة العربية في كلية الآداب جامعة المنوفية، وأعمل بشركة قطاع خاص، ويحفر كلٌّ منّا في الصخر؛ حرفيًّا، ليحقق الأحلام التي حملت خطاباتنا القديمة بعضها. يؤكد كلٌّ منا على الآخر أن نظل على تواصل، لن نترك للظروف فرصة تحديد اللقاء بعد ذلك.
حقق د. هيثم الحاج علي إنجازات مهمة حتى الآن على صُعُد مختلفة، لكنّه يرى أنه لم يحقق الكثير بعد، فما يحلم به ويثق بأنه قادر على تنفيذه كثير للغاية، وسيأتي إن شاء الله. قدّم في مجال النقد الأدبي كتبًا مهمة مثل: التجريب في القصة القصيرة، والزمن النوعي وإشكاليات النوع السردي. وفي مجال الشعر: وجع يفجأ الوقت، وفضاء يلوذ بصاحبه، إضافة إلى ترجمة كتاب روجر بروملي «نصوص سردية منسية».
أما أكبر دار نشر عربية، وهي الهيئة المصرية العامة للكتاب التي تنفّذ معرض القاهرة الدولي للكتاب وعشرات معارض الكتب بمصر وخارجها؛ فقد تولى د. هيثم رئاستها عام 2015م ولا يزال يتطور بها وبمعرض القاهرة وغيره من المعارض بأفكار خلّاقة.
لا نتوقف؛ هيثم وأنا، عن التحاور، كلٌّ منا يسأل الآخر ويجيب، وكلٌّ منا يسأل نفسه أمام الآخر ويبحث عن إجابة، تنتهي الأسئلة، والإجابات غالبًا شحيحة وصعبة، لكننا لا نتوقف عن التحاور، كما لا نتوقف عن العمل لتحقيق أحلامنا الخاصة والعامة.
بين النقد والشعر والقصة... تصاريف الحياة!
منير: هيثم بمراجعة خطاباتنا ونحن طلاب في المرحلة الثانوية، ثم بداية المرحلة الجامعية، ألاحظ أنك كنت الشاعر وكنت أنا الناقد، ثم دارت الأيام وكانت أول دراسة نقدية تنشر مع كتاب للناقد هيثم الحاج علي مع متواليتي القصصية «مرج الكحل» عام 2005م، لا أريد أن أقلّب عليك المواجع، لكن عليّ أن أسألك أين ذهب الشاعر هيثم؟
هيثم: أنت تسألني: أين ذهب الشاعر؟ لماذا كان أول تعامُل بيننا عملي أن تحوّل الشاعر إلى ناقد؟ فأنا أودّ أن أسألك: أين ذهب منير الناقد؟ تحوّل هذا الناقد إلى كاتب قصة. بالتأكيد الأمر ببساطة أن الدراسة حوّلت الشاعر إلى ناقد، وفي ظنّي بأن الناقد كان يهتم أيضًا بكونه شاعرًا ليعزز فكرة الناقد لديه، هذا الأمر كان هو الباب الرئيسي لدخولي هذا العالم؛ أنك تكتب شعرًا، تشعر أنك كمبدع يحاول أن يبني نفسه ليجد في النهاية ضالته في عمل آخر، أرى دائمًا أن على الناقد ألّا يتحدث عن نفسه، أشعر دائمًا بشيء من الصعوبة أن أتحدث أنا عن نفسي أو تجربتي، أنا امتهنت الحديث عن الآخرين، وفي ظنّي أن هذا الناقد الذي عاش بداخلي منذ البداية كان يطلّ برأسه الشعري في البداية، لأنه أفصح عن وجوده الحقيقي بكونه ناقدًا. امتهنت العمل في القصة القصيرة، وربما يكون هذا هو السؤال الأهم في وجهة نظري: هذا الشاعر الذي كان من المفترض عندما يتحول إلى الناقد أن يكون ناقدًا للشعر قد تحول لنقد القصة القصيرة! في ظني أن هذا الأمر أيضًا له وجهة عملية، فلا أرى أن الشاعر يصلح ناقدًا للشعر، لأنه سيكون محمّلًا برؤاه الخاصة، بتجربته الخاصة التي سيكون من الصعب عليه أن يفصل بينها وبين عمله، لذلك فإن الشاعر سوف يفيد ناقد القصة بقدر ما يفيد كاتب القصة ناقد الشعر أيضًا.
منير: أظن أن الناقد الذي كنته أنا في خطاباتنا المشتركة أطل برأسه منذ حوالي 10 سنوات في القراءات النقدية ببعض الكتب التي أصدرتها، عندما أحب عملًا أدبيًّا أحب أن أشارك الآخرين محبتي هذه، وبالتالي أكتب عنه، وهذه الكتابات تجد صدى وتنشر في بعض الأماكن، فيبدو أن محبة تفكيك العمل وإطلاع الآخرين على رأيي فيه لا تزال موجودة بشكل أو بآخر، وإن كنت لا أدّعي النقد فلا تقارني بك. لكن دعني أخبرك بشيء؛ كنت أتحدث مع ناقد عراقي كبير، وجاء ذكر د. هيثم الحاج علي، فقال لي: هل تعرفه؟ أتمنى أن أقابله، لقد استفدت كثيرًا من كتابه «الزمن النوعي». أعلم أن العمل الإداري يأخذ منك الكثير جدًّا من الوقت والجهد والتفكير؛ لكن؛ هيثم، ذلك الناقد الكبير الملهم الذي أعرفه جيدًا أين هو أيضًا؟.
هيثم: سأكون ممتنًا بالطبع لهذا الاسم، ولهذا الكتاب بالذات كتاب «الزمن النوعي»، وهو كتاب مأخوذ من رسالتي للدكتوراه. في ظنّي أنه واحد من الكتب القليلة في الثقافة العربية التي تعاملت مع القصة القصيرة تعاملًا زمنيًّا من وجهات نظر مختلفة. لأنّ الكتاب يطرح نظرية الرواية كما شاعت بالعالم، وأعتقد أن عمدتها كان جيرار جينيت؛ يطرح هذه النظرية على القصة القصيرة، ويأتي بالفروق بين الاثنين، وهي فروق تقنية في التعامل والرؤى لا في الطول فقط، وأنا أظن أن هذا الكتاب كان واحدًا من المنجزات المهمة التي أنجزتها في حياتي للتفرقة بين نوعين يختلط الأمر بينهما في الغالب، وتضيع الفروق بينهما في فكرة الفروق الكميّة فقط، ولم توجد نظرية متكاملة حتى الآن تتحدث عن الفروق بين النوعين. تعلم بالطبع أن العمل في إدارة هيئة مثل الهيئة المصرية العامة للكتاب؛ وهي واحدة من كبريات دور النشر في الوطن العربي، وهي الناشر الرسمي للدولة، ربما تكون له علاقة بفكرة الناقد الذي لا يتحدث عن نفسه، وهو أيضًا الناقد الذي لا ينشر لنفسه، ولكن يكون مهتمًا بنشر أفكار الآخرين في رؤى متكاملة. العمل الإداري الذي نتحدث عنه هو المرهق للأعصاب والآكل للوقت بشكل كبير؛ لم يضع فيه الناقد هباء، لكنّ هذا الناقد كانت له بصمة بشكل ما في صياغة رؤية لدار نشر تعمل على خدمة المثقف والقارئ والمشهد الثقافي عمومًا في مصر، وأظن أن هذا بات واضحًا في مشروع النشر بهيئة الكتاب. 
لكن على مستوى آخر؛ مستوى شخصي، لم يغب الناقد إنّما تكاسل قليلًا عن مجموعة من المشروعات التي باتت تسير ببطء شديد ربما لضيق الوقت، لكن لم يوجد انفصال، أعمل بالفعل على مشروعين كبيرين لهما علاقة بتاريخ وتطوّر القصة القصيرة المجتمع المصري في مئة منذ عام 1917 حينما نشرت قصة «في القطار» التي أعتبرها تدشينًا لوجود هذا النوع بشكل فني واضح بالطبع كانت هناك محاولات قبل ذلك، لكن هذا هو خط البداية؛ مئة عام من القصة القصيرة في المجتمع المصري تعبّر فيها القصة القصيرة عن التغيرات والتطورات وتبدلات الطبقة الوسطى المصرية من نفسها. أيضًا أعمل على مشروع نقدي آخر؛ تقسيم جديد لمراحل تطوّر دورة الإبداع عند نجيب محفوظ، وكيف أنني لا أراه منقسمًا إلى مرحلة تاريخية، ثم مرحلة نفسية، ثم مرحلة فلسفية. لكن أراه منقسما إلى مراحل تتوازن معها تطورات الطبقة الوسطى والتطورات السياسية في المجتمع المصري التي مثّلها محفوظ بشكل قوي وواعٍ ومتعمد إلى حد كبير، وربما يكون لدينا تقسيم آخر لمراحل محفوظ وإنجازه فنّ القصة والرواية تبعًا لتطورات الطبقة الوسطى والتطورات السياسية في المجتمع المصري.
 لديّ بالفعل كتابان لا أستطيع نشرهما الآن؛ أحدهما له علاقة بفكرة تطور القصة، والآخر ديوان شعري. لا أستطيع النشر في هيئات النشر الحكومية تبعًا لوجودي في موقعي هذا، ولا أستطيع نشره في دور النشر الخاصة حتى لا يؤوّل هذا النشر بشكل أو بآخر، لذلك فالكتابان موجودان في أدراجي حينما أترك العمل الإداري سيكونان جاهزين للنشر إن شاء الله.

الناقد يعاون الإداري في هيئة الكتاب...والإسكندرية تكسر «المركزية»
منير: أعلم أن الشاعر والناقد والناشط الثقافي هيثم هو الذي ساعد «الإداري» هيثم على إدارة واحدة من أكبر وأعرق دور النشر العربية، وهي الهيئة المصرية العامة للكتاب، لأنه على دراية حقيقية بالخريطة الثقافية المصرية والمثقفين المصريين، لأنّه مارس العمل الثقافي في نوادي الأدب وقصور الثقافة والمؤتمرات والمنتديات في معظم ربوع مصر، ما الذي تغيّر في رؤية المثقف والممارس للنشاط الثقافي؟
هيثم: أظن هذا الذي أشرت إليه سابقًا أن الشاعر والناقد بالفعل هو الذي ساعد الإداري في إدارة الهيئة. كانت البداية بالطبع بعد أن التقينا، أنت وأنا، للمرة الأولى، أُنشئِت نوادي الأدب في الأقاليم، وكنت عضوًا مؤسسًا في نادي الأدب في قصر ثقافة شبين الكوم، فكان هذا بابًا سحريًّا بالنسبة إليّ، استطعت أن أطوف ربوع مصر عبر نشاط نوادي الأدب، وبالتالي كانت هناك معرفة أظنها دقيقة بالخريطة الإبداعية والثقافية في مصر، وتطوراتها عبر السنوات السابقة، قبل أن ألتحق بالعمل في المركز القومي للترجمة، لتضاف إليّ رؤية أخرى للمشهد الثقافي. ثم توليت العمل في الهيئة المصرية العامة للكتاب. وبالتالي كانت الرؤية واضحة بالنسبة إليّ؛ أن هناك مشروعًا يجب العمل عليه، وأن هذا المشروع يخرج من مصر كلها، وأن الهيئة يجب ألّا تكون مركزية، بالعكس هناك الكثير من المبدعين والمؤلفين والمثقفين الذين يجب العمل على نشر أعمالهم، لأنها ستكون مرآة للمشهد الثقافي المصري في العموم. 
أظن أن الرؤية لم تتغير بصورة ما، لكن اسمح لي أن أسألك: أنت بدأت العمل في الإسكندرية بإنشاء مجلة أمواج سكندرية على الإنترنت، وهي أول مجلة الكترونية ثقافية ربّما في الوطن العربي، قبلها كانت دار نشر «الصديقان»، ثم أسست مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية، الذي كان هو المختبر الأول ربما في المشهد الإبداعي العربي خارج الجامعات... هل تري نفسك محبوسًا الآن داخل الإسكندرية وغير منفتح على الثقافة العربية عمومًا حتى على المشهد المصري؟ أعلم أن مختبر السرديات يجذب إليه الكثيرين من الوطن العربي ومن مصر أيضًا، ويناقش كل الأعمال بصورة دائمة، لكن كناشط ثقافي؛ لماذا أراك داخل هذه الدائرة، دائرة الإسكندرية على وجه التحديد؟ 
منير: أولا أنت أشرت إلى مجلة «أمواج» هي بالفعل أول مجلة ثقافية عربية على الإنترنت صدرت سنة 1999م واستمرت حتى فترة قريبة، و«أمواج» بداية كسر فكرة الإقليمية أو المحلية. الانطلاق من مختبر السرديات من مكتبة الإسكندرية يجعل فكرة الانفتاح هذه موجودة بشكل كبير حتى إن د. مجدي توفيق لاحظ في كتابي النقدي الأول «في السرد التطبيقي» أنني أتناول أعمالًا معظمها غير مقروء بشكل كبير، والكثيرون لا يعرفونها، فكرة الانفتاح هذه أعتقد أنها مؤسسة بداخلي كتلميذ للمفكر الكبير خالد محمد خالد، يرحمه الله، كما أنّ من يكون في الإسكندرية ليس محصورًا، لأنني أرى الإسكندرية هي العالَم، الإسكندرية تجذب وتنجذب إلى الآخرين، فهي ممثلة لثقافة البحر المتوسط، ممثلة لثقافات العالم بشكل ما. ربما الإسكندرية لها ثقل في نشاط مختبر السرديات بحكم وجوده في المكتبة الموجودة على أرضها، وبحُكم أنني أؤمن بأنّ المدينة مليئة بالمواهب والمبدعين، وأنه واجب على مختبر يوجد فيها؛ ليس أن يُنَّور فقط على هؤلاء المبدعين، بل أن يقيم جسورًا من التواصل بينهم وبين المبدعين والنقاد في مصر وغيرها من بلاد العالم.

مشاكل النشر قبل «كورونا» وبعدها
منير: ما أهم المشكلات التي تجابه الناشر العربي والمصري بالذات قبل «كورونا»؟ وما المشكلات التي زادت بعد «كورونا»؟ وهل تسببت «كورونا» في حل بعض المشكلات؟ وهل كانت لها جوانب إيجابية؟
هيثم: أظن أن المشاكل تكمن أساسًا في الرؤية. هناك مشكلات لها علاقة بالتشريعات؛ الجمارك، وانتقال الكتب ومستلزمات إنتاج الكتاب، سوق النشر غير واضحة المعالم ربما في الوطن العربي كاملًا، لكنّ هناك تنافسًا واضحًا بين الكتاب الورقي ونظيره الإلكتروني أو الصوتي، فكرة التنافسية هذه هي فكرة تعبّر عن مصالح اقتصادية لبعض الناشرين أو لكل الناشرين، لكن هذه الفكرة على وجه التحديد حصرت كل جهد الناشر العربي فقط في محاولة الدفاع عن وجود الكتاب الورقي ضد الكتاب الرقمي.
  لكن من المفترض أن الناشر همّه الأساسي ينحصر في إيصال الرسالة المعرفية بأيّ شكل من أشكال الوسائط؛ سواء كانت ورقية أو رقمية أو صوتية أو خلافه بما يستجد، لهذا على جميع الناشرين العرب أن يبدأوا في التفكير بمشروع نشر كبير يضم الجميع بمظلة عربية كبيرة يكون همّها هو النشر؛ وليس النشر الورقي أو صورة من صور النشر. 
ربما يكون في منصة معرض القاهرة الدولي التي شرعت في إنشائها منذ الدورة السابقة الدورة الـ 52 تكون بداية لهذا الحل. على شبكة الإنترنت عندما تبدأ صغيرًا تظل صغيرًا، وعندما تبدأ كبيرًا فإن الطريق يكون مفتوحاً لك لكي تحقق نجاحات أكبر، وبالتالي أظن أن «كورونا» لم تكن سلبية بقدر ما كانت إيجابية حينما أغلقت سوق النشر الورقي وصنعت بشكل ما جمودًا في هذا السوق لمدة عام، كان كثير من الناشرين مجبرًا على التفكير في جهات أخرى، وكأننا دفعنا دفعًا لنتوجه إلى تلك المشروعات الرقمية الجديدة، لكن تظل فكرة أن كل هذه المشروعات ما زالت حتى الآن مشروعات صغرى، وأنه لكي تحقق الغرض منها يجب أن تكون هناك مظلة نشر كبرى في الوطن العربي، مظلة واحدة تحافظ على كل مسارات النشر بكل أطياف المشهد الثقافي العربي. 
أظن أننا أمام لحظة فاصلة الآن لكي نحقق مشروعًا كبيرًا في هذا الصدد، ويجب علينا استغلال ذلك الظرف التاريخي لكي نخلق هذا المشروع بشكل جديد للثقافة العربية، أطرح على الجميع منصة معرض القاهرة الدولي للكتاب التي تعتبر بداية، وإن كانت بداية كبيرة من حيث التفاعلات التي وصلت إلى أكثر من ربع مليار تفاعل خلال مدة المعرض؛ أسبوعين فقط، سأعتبرها خطوة لبداية هذا المشروع الرقمي الذي سيستفيد من «كورونا» ولا يبكي على لبنه المسكوب، لكن يحاول أن يطور من الأداء تبعًا للظروف الراهنة الحديثة.

أحلام الإداري والمثقف
منير: ما الذي يحلم به هيثم، الإداري والشاعر والناقد؟ 
هيثم: لديّ أحلام كثيرة بالنسبة للهيئة؛ فمثلًا أحلم أن تكون الهيئة المصرية العامة للكتاب ليست فقط هي الناشر الرسمي أو هي الناشر بل أحلُم بالاكتفاء الذاتي، أن تكون الهيئة بتقديمها للخدمة الثقافية الممكن وصولها إلى الجميع بتكلفة أقل بالنسبة للقارئ بجودة أعلى، أن تكون أيضًا مشروعًا ثقافيًّا واقتصاديًا على المستوى نفسه، أن تكتفي اقتصاديًّا فلا تكون عبئًا على موازنة الدولة، وعلى عكس ما يُشاع عن المشروعات الثقافية؛ يمكنها بالفعل أن تكون مشروعات رابحة على المستوى الاقتصادي. وأحلم لفكرة الثقافة عمومًا أن تكون الثقافة جزءًا مهمًّا من الدخل القومي في مصر والوطن العربي، وأيضًا تستطيع عن طريقه أن تقدّم خدمتها للقارئ أو المتلقي الذي يجب أن يتلقى هذه الخدمة حتى على المستوى المجاني. الفكرة ربما تكون معقّدة قليلًا، ليس فقط الهدف هو الربح، ولكن الهدف الربح من أجل تطوير هذا العمل، وتقديم الخدمة بشكل مجاني وأقل تكلفة بالنسبة للكثيرين. على مستوى الناقد أحلم بأن أتمّ مشروعاتي المفتوحة حتى الآن، بأن أتفرغ مدة من الوقت للبحث، فأنا لا أستطيع أن أعمل بالقطعة، بل لا بدّ أن أحتشد لإنجاز العمل البحثي والنقدي متفرغًا له تمامًا.
 والآن... ما الذي تحلم أنت به؟ 
منير: أحلم بكتابة ما يدور في عقلي كما يدور في عقلي، لأن أفكارًا كثيرة جدًّا بداخلي أظن أن عمرًا واحدًا لن يكفيها، ومهما كتبت من كتابة قد تكون مُرضية أو تلقى استحسانًا، أو حتى حصلت على جوائز، إلّا أنني أتمنى أن أكتبها بطريقة مغايرة، أكتب كل ما أفكر فيه بالطريقة التي يراها عقلي، والتي ربما اللغة عمومًا أو لغتي أنا لا تستطيع أن تنقلها بهذا النقاء، أحلم بالعنقاء يا صديقي!
هيثم: إذًا أنت غير راضٍ عمّا كتبت فيما سبق؟ 
منير: ومَن يرضى عمّا يكتبه؟!

الأجيال الجديدة قارئة جيدة أم سطحية؟
 منير: يتم اتهام الأجيال الجديدة بالسطحية وعدم القراءة، وأنهم يبعدون عن الكتاب. هل توافق على هذه الاتهامات من موقعك كناشر وبائع للكتب؟ 
هيثم: الأجيال الجديدة متهمة بأنها لا تقرأ، هذا بالفعل اتهام ربما صار كالخطأ الشائع بصورة ما. منذ أن عملت على معرض القاهرة الدولي للكتاب وأنا أرى أن أكثر من 60 بالمئة من جمهور المعرض هم من الشباب تحت سن 30 سنة. لدينا بالفعل جيل قارئ جدًّا، هذا الجيل جعل مصر تحتل في تقرير «إندبندنت» في فبراير 2021 المرتبة الخامسة على العالم في معدلات القراءة، بمعدل قراءة 7.5 ساعات في الأسبوع لكل شخص، بمعنى أننا لدينا 750 مليون ساعة قراءة في مصر كل أسبوع. الخطأ الشائع سببه أننا نقارن أنفسنا بمعدلات قراءة الأوربيين، الشباب لا يقرأون في المترو، وأنت تجد الشباب في المواصلات العامة في أوربا يحملون الكتب، ليس لدينا هذه العادة بالفعل، لكنّ لدينا جيلًا قارئًا في المنازل وعلى الإنترنت، مما جعل معدلات مبيعات الكتب تصل في بعض الأحيان داخل معرض الكتاب في أقل من 15 يومًا إلى 40 ألف نسخة لبعض الكتب. الفارق الوحيد أن الكتب الأكثر مبيعًا هي الكتب الموجّهة إلى الشباب، هذه الكتب التي كان يعادلها في وقتنا تلك الكتب التي نتطور معها منذ الصغر، بداية من القصص البوليسية، ثم بعض القصص الخيالية أو قصص الفانتازيا، وكتابات أنيس منصور في وقتنا أو حتى كتب العقلانية، مثل كتابات د. مصطفى محمود، هناك بدائل الآن لهذه الكتابات في كتابات شباب وموجهة إلى الشباب، أنا أعتبر أن هذا النوع من القراءة هو الجسر بين قراءة الطفولة والقراءة الناضجة بشكل ما، وعلينا أن نصنع داخل هذه الجسور ما يجذب شبابنا إلى القراءة التي ينبغي أن يقرأوها، وهو ما تقوم عليه الهيئة الآن. لكن هذا اتهام باطل تمامًا، لدينا جيل قارئ عادة القراءة لديهم متأصلة، لدينا أيضًا - وهذا جديد - أُسر تهتم بتنشئة الأطفال على عادة القراءة، ليس من قبيل تزجية وقت الفراغ، بل من قبيل أن القراءة تنمية مهمة للعنصر البشري.
 إن القراءة بالنسبة إلى الأسر هي فرصة عمل جيدة لهذا الطفل عندما يصبح شابًّا يبحث عن عمل لأنه سيكون محملًا بأفكار أكثر من منافسيه في سوق العمل، هذه الرؤية موجودة الآن داخل الأسر المصرية، لذلك أرى أن مشروعات النشر للأطفال هي الأكثر نجاحًا في هذا التوقيت. 

الأسرة المغبونة!
منير: أعلم أن بداخلك ما يشبه حنان الأم تجاه أسرتك، لكنّ هذه الأسرة هي أكبر مغبون يدفع ثمن نجاحات وعمل وجهد هيثم الحاج علي، لأنهم لا يجدون لديه وقتًا ليكون معهم، كيف تعمل على ترضيتهم... لا أقول التوازن، لأنني أعلم أنه صعب جدًّا؟!
هيثم: ربما كان عاملًا إيجابيًّا جدًّا في مساري أنني تزوجت بعد التخرُّج مباشرة، كنت أحتاج إلى الاستقرار، فكما تعلم أنني وحيد وليس هناك إخوة، وأن الوالدين قد توفيا في فترة مبكرة من حياتي، وبالتالي كانت هناك حاجة مباشرة إلى أن يكون هناك بيت وأسرة عملت على تكوينها منذ اللحظة المناسبة بعد التخرّج مباشرة، عندما أقول هذه الأسرة، فأنا أتحدث بشكل واضح عن شريك «أساسي» وليس «متضامنًا» فقط في كل ما تحقق على مدار تاريخ هذه الأسرة، لأنها تحمّلت كثيرًا، ليس هناك مجال لتعداد الذي تحمّلت من الغياب والانشغال ليس فقط في فترة الإدارة، بل في فترة التكوين أيضًا، فترة ما يمكن أن نسميه بالمعاناة.
 أنا أظن أنها قد تحملت ذلك عن رضا واضح، وأنها تتحمل حتى الآن غياب ذلك الرجل الذي لم يعد موجودًا في المنزل لفترات طويلة، بسبب سفر أو وجود دائم في المكتب معظم فترات اليوم، لن أقول اعتادت لكن ارتضت أن يكون هذا دورها الذي تقوم به، حتى مع الأولاد سندس وأحمد، لكن في ظنّي أنهما قد وجدا طريقًا ما لحياتيهما في السينما، سندس مونتيرة كما تعلم، وأحمد بعد أن تخلّى عن دراسة الهندسة يتخرج هذا العام في معهد السينما أيضًا قسم تصوير، ما أحاول تعويضه أن أكون موجودًا بالرأي والمساندة، فأنا أدعم أولادي حتى لو كان هذا الدعم على أوقات متقطعة، نحن حريصون على أن نلتقي، ولو لمرّات قليلة، لكنّ هذا اللقاء يدعم تلك الأسرة بشكل كبير.
 دعني إذًا أسألك السؤال نفسه: ما الذي تفعله مع أسرتك؟ أعلم أنك مشغول جدًّا، سواء في العمل الخاص بك، أو في مختبر السرديات أو حتى في كتاباتك. وأعلم أنك حتى أثناء وجودك داخل البيت؛ فأنت مشغول عنهم بالكتابة والقراءة، ما الذي فعلته ونحن من جيل واحد تزوجنا في الشهر نفسه، ولدينا تقريبًا الأجيال نفسها من الأبناء؟ 
منير: إجابتي لك على قسمين؛ الأول: راجع إجابتك فهي إجابتي أيضًا! القسم الثاني: ابنتاي نجوى وخلود من سن سندس وأحمد، وارتضيا وتقبّلا هذا الواقع الذي شرحته أنت. لكن ملَك، وهي الآن في المرحلة الثانوية، أكثر تمرّدًا، عندما تراني أقرأ كتابًا تتركني قليلًا ثم تقول لي: «دع الكتاب واجلس معنا»، نجوى وخلود لم تكونا بهذه الحدّة، ولا أعرف ما الذي سيحدث من سلمى الصغرى، لكن أظن عندما تنتبه سلمى سأكون قد أصبحت في مرحلة المعاش، وبالتالي قد يكون هناك وقت أكثر أقضيه معها. لكنّ أسرنا تتحملنا، لأنهم يعلمون أن ما نفعله لا بدّ أن نفعله، ليس اختيارًا، لكن هذه هي حياتنا، ولها مزاياها ولها عيوبها، وقد يكون من مزاياها أننا نبتعد قليلًا فنترك لهم حرية أكبر.

أهناك خلاصة للتجربة؟
منير: بعد هذه العقود من العمل الإداري والنقد والنشاط الثقافي والتفاعل مع الحياة العامة؛ ما الذي استخلصته من كل هذه التجارب؟
هيثم: حتى الآن؛ أظن أنك معي في هذا، نحن ما زلنا نحاول أن نفهم، لا توجد خلاصات كاملة أو مطلقة لكل ما يحدث، ربما تكون هناك بعض الأفكار، وربما تكون هناك بعض الطموحات، لكن أن أبلور كل ذلك في جملة؛ أظن أن هذا صعب جدًّا، ربما يكون على مستوى العمل الثقافي هناك حلم ينطلق من الواقع وهو: أن الثقافة ليست هامشًا، بل يمكنها أن تكون صانعًا حقيقيًّا؛ وليس كلام جرائد، للحضارة ولمستقبل ولمجتمع كامل واقتصاد كامل. 
هناك مجموعة من الشروط التي يجب أن تتحقق فيها، مثلًا أن نصنع مصلحة للأفراد في الثقافة، لدينا مشكلة في الواقع الثقافي العربي عمومًا هي مشكلة انفصال النخبة عن الأرض، عن الناس، هذا الانفصال الذي جعل المشروع النخبوي الثقافي العربي في طريق والمجتمع نفسه في طريق آخر، هناك غربة فظيعة بين الجانبين، ربما يكون على المؤسسات في الفترة القادمة التقريب بين وعي المواطن وما تقوم به النخبة، لذلك يجب أن تكون النخبة في خدمة المواطن، لكي يصبح الأمر كلّه داخل نسق واحد، نعمل معًا من أجل أن يكون هناك وعي جمعي إن صح التعبير. في ظنّي أن هذه خلاصة مهمة لتجربة العمل الثقافي في العموم.
الحوار بيني وبين هيثم لا ينتهي؛ وأدعو الله ألّا ينتهي، لكنّ مساحة الورق لن تكفي لأكثر من هذا ■