مقال د. مصطفى الجوزو

تعقيب على مقال د. مصطفى الجوزو
        

ابن هشام وأمن اللبس:
توثيق الشاذ من المرويات ليس إقرارًا لها كقواعد نحوية

          يثير د. مصطفى علي الجوزو باستمرار قضايا نحوية محورية - إن جاز التعبير. وكان منها في العدد 625 (ديسمبر 2010) من مجلة العربي الغراء مقالته المعنونة «أمن اللبس لا يسوغ الخطأ». وهي مقالة شائقة قرأتها بشغف، ولا أختلف مع الباحث الكريم في مجمل ما ورد في المقالة من آراء، فنحن مع توحيد قواعد النحو في إطار ما يقاس، وليس الشاذ الذي لا يقاس عليه، ومن هذا الشاذ بيت الشعر الذي بنى عليه د. الجوزو مقالته، والذي كما قال الباحث الكريم يُنسب لشعراء عدة، ونصه:

          قد سالمَ الحياتُ منه القدما
                                        الأفعوانَ والشجاعَ الشجعما

          والحق أن نصب (الحيات) وهي في موضع الفاعل المرفوع، كما نصب (الأفعوان) و(الشجاع) وحقهما الرفع على البدل من (الحيات) وكذلك (الشجعم) التي هي نعت للشجاع في موضع الرفع.

          ويفترض الباحث أن النحاة يرون أن أمن اللبس يسوغ الخطأ، وهذا ما يفهم من عنوان المقالة، وكان د. الجوزو يحتج عليهم، ويرفض ما اعتبره قاعدة مسلما بها من جانب النحاة، بينما يمكن لأي متصفح لكتب القدماء ممن يُحتج بهم أن يلحظ أنهم وثّقوا عددًا قليلاً من الشواهد على هذا الشذوذ النحوي، دون أن يقرّوه أو يجعلوه قاعدة نحوية معترفًا بها وقابلة للقياس عليها.

          وبعض ما ورد في مقالة الباحث الكريم بحاجة إلى قدر من التحرير لوجود تداخل ربما يخفى على القارئ غير المتخصص. ولما كان كتاب «مغني اللبيب» للعلامة ابن هشام، و«كتاب» سيبويه المرجعين اللذين أخذ عنهما الباحث لباب مقالته، فلا مناص من إيراد النصين اللذين اعتمدهما واستخلص منهما رأيه في قضية «أمن اللبس لا يسوغ الخطأ».

          جاء في كتاب «مغني اللبيب» في الباب الثامن من الكتاب، حول «أمور كلية يتخرج عليها ما لا ينحصر من الصور الجزئية» - القاعدة الحادية عشرة:

          «من ملح كلامهم تقارض اللفظين في الأحكام ولذلك أمثلة...

          والثامن: إعطاء الفاعل إعراب المفعول وعكسه عند أمن اللبس كقولهم: خرق الثوبُ المسمارَ، وكسر الزجاجُ الحجرَ وقال الشاعر:

          مثل القنافذِ هداجون قد بلغت
                                        نجرانُ أو بلغت سوءاتِهم هجرُ

          وسمع أيضًا نصبهما كقوله:

          قد سالم الحياتِ منه القدما
                                        الأفعوانَ والشجاعَ الشجعما

          في رواية من نصب الحيات، وقيل: القدما تثنية حذفت نونه للضرورة كقوله:

          هما خطتا إما إسار ومنة
                                        وإما دم والقتل بالحر أجدرُ

          وسمع أيضًا رفعهما كقوله:

          إنَّ من صاد عقعقا لمشوم
                                        كيف من صاد عقعقان وبوم

          هذا ما ورد في «المغني» - ج 2 ص 674، 699-700.

ولا أدري كيف حمّلَ الباحث الكريم هذا النص ما لا يحتمل، فقد جاء في المقالة:

          «تحدّث ابن هشام عما سماه «تقارض اللفظين في الأحكام».. ومن ذلك التقارض المزعوم عنده إعطاء الفاعل إعراب المفعول وعكسه، موحيًا أن المسلم به عند الناس أن المسمار هو الذي يخرق الثوب، وأن الحجر هو الذي يكسر الزجاج أيا كانت حركة الإعراب التي نجعلها على ذينك اللفظين».

          فكيف توصل د. الجوزو إلى أن ابن هشام يقبل كقاعدة ثابتة تبادل حركة الإعراب بين الفاعل والمفعول به، وهو الذي بدأ الباب الثامن من كتابه لحصر ما هو بحاجة إلى التخريج مما تفرق من شواذ مرويات الأعراب واعتبرها من «المُلح»، وهل يقاس على المُلح؟

          ثم يمضي الباحث إلى مناقشة الشطر الأول من البيت:

          «قد سالم الحيات منه القدما
                                        الأفعوان والشجاع الشجعما»

          ومن رأيه أن ابن هشام اختار رواية البغداديين والكوفيين للبيت. وهذا تجنّ على العلامة، إذ إنه لم يورد رواية البصريين - وتحديدًا رواية سيبويه، لأنها هي القياس وهي الصواب. في حين أنه يوثق في هذا الباب للشاذ الذي لا يقاس عليه من شوارد المرويات، كما قلنا آنفًا. وقول ابن هشام «في رواية من نصب الحيات» نوع من التهميش لهذه الرواية، لأن مَن يريد التركيز عليها لا يورد عبارة من هذا القبيل، ومعروف أن ابن هشام من الميالين إلى مذهب البصريين وزعيمها سيبويه، بخاصة.

          وعمدة النحويين في تخريج هذا البيت هو قول سيبويه، الوارد نصه كما يأتي في «الكتاب» ج1 ص286-287:

          «وحذفوا الفعل لكثرة استعمالهم إياه في الكلام، ولعلم المخاطب أنه محوّل على أمر.. وإن شاء أظهر (الفعل).. وإن شاء اكتفى فلم يذكر الفعل، لأنه قد عُرف أنه متمنّ سائل شيئًا وطالبه.

          ومثل ذلك قول الشاعر، (وهو عبد بني عبس):

          قد سالم الحياتُ منه القدما
                                        الأفعوانَ والشجاعَ الشجعما

          فإنما نصب الأفعوان والشجاع لأنه علم أن القدم ههنا مسالِمة كما أنها مسالمة، فحمل الكلام أنها مسالِمة.

          ومثل هذا البيت إنشاد بعضهم لأوس بن حجر: وإنشاد بعضهم للحارق بن نهيك:

          ليُبكَ يزيدُ ضارعٌ لخصومة
                                        ومختبط مما تطيح الطوائح

          لما قال: ليُبكَ يزيد كان فيه معنى ليَبكِ يزيد، كما كان في القدم أنها مسالِمة كأنه قال: ليَبكِهِ ضارع».

          فسيبويه لم يناقش في أن (الحيات) مرفوعة على الفاعلية، وإنما قام بتخريج نصب كلمتي (الأفعوان) و(الشجاع) حملا على المعنى لأن القدم مسالِمة للحيات كما أن الحيات مسالمة للقدم فكل منهما صالح للفاعلية والمفعولية.

          أما الترخص في الإعراب تحت ذريعة أمن اللبس فمن القليل الذي لا يثبت قاعدة ولا يُحتج به، وليس من المعقول أن يسلم به ابن هشام الذي كما يقول د. الجوزو لم ينصّ عليه في أي من كتبه المعتمدة.

          وقد جعل اللغويون العرب لهذا الترخص بالحذف أو الإضمار أو الفصل أو تشويش الرتبة بالتقديم والتأخير أو التوسع في الإعراب، عند ما يُدعى بأمن اللبس، قيودًا منها وجود دليل على المحذوف وإمكانية التفسير عند الإضمار، وسوى ذلك من التقييدات المشدّدة.

          فالنحاة مجمعون على رفع الفاعل ونصب المفعول به، وما ورد بخلاف ذلك يحفظ ولا يُقاس عليه، وليس موجبًا لاستعماله في الكلام، وقد جاء في ألفية ابن مالك:

          ورفع مفعول به لا يلتبس
                                        ونصب فاعل أجز ولا تقس

          والإجازة هنا هي الاعتراف بأن بعض الأعراب الذين يُحتج بشعرهم نطقوا بهذه العبارات الشاذة عن القاعدة المتعارف عليها، بل إن بعض قرّاء القرآن الكريم نصبوا (آدمَ) ورفعوا (كلماتٌ) في الآية: {فتلقى آدم من ربه كلمات}. ويقول الزجاجي: «وقد جاء في الشعر شيْء فيه قلب صيّر مفعوله فاعلا وفاعله مفعولاً على التأويل». وأورد البيت: مثل القنافذ.. سابق الذكر.

          وقال الفراء في البيت محور النقاش: «(الحيات) منصوب على أنه مفعول به، والفاعل القدمان مثنى حذفت نونه للضرورة. ونقل عن سيبويه قوله السابق بأن (الحيات) مرفوع بالفعل، والقدم منصوب على المفعولية. وأضاف: وكان حق الأفعوان أن يكون مرفوعًا على البدل من الحيات، ولكنه نصب حملاً على المعنى كأنه قال و(سالمت القدمُ الأفعوانَ).

          وقال السيوطي في «همع الهوامع» (1 / 186): «وسمع رفع المفعول به ونصب الفاعل، حكوا: خرق الثوبُ المسمارَ، وكسر الزجاجُ الحجرَ، وقال الشاعر:

          مثل القنافذ هداجون قد بلغت نجران
                                                  أو بلغت سوآتهم هجر

          فإن السوآت هي البالغة، وسمع أيضًا رفعهما، قال: (إن مَن صاد عقعقا لمشوم) كيف من صاد عقعقان وبوم وسمع نصبهما، قال: قد سالم الحيات منه القدما (الأفعوان والشجاع الشجعما)، والمبيح لذلك كله فهم المعنى وعدم الالتباس، ولا يقاس على شيء من ذلك».

          ونتفق مع الباحث الكريم في قوله: «إن ابن هشام في كتابه «قطر الندى» يقول: قد مضى أن الفاعل مرفوع أبدًا، واعلم الآن أن المفعول منصوب أبدًا. فجعل الرفع للفاعل والنصب للمفعول به شاملين ولم يستثن أي حالة خاصة». ويضيف في المقالة ذاتها: «واللافت أن ذلك اللغوي الكبير لم يذكر هذه الحالة الشاذة في غير «مغني اللبيب» فأهملها في سائر كتبه التي نعرفها».

          والقول بأن ابن هشام انفرد بتوثيق هذه (الحالة الشاذة) لا يستقيم مع ما ذكرناه من ورودها في إحدى القراءات، وهي قراءة ابن كثير للآية القرآنية الكريمة السابقة من سورة البقرة، ومن توثيق ابن مالك لها في ألفيته. ثم إن ابن هشام لم يجعل تلك الحالة قاعدة نحوية، ومجرد إيراده لها لا يعني مطلقًا أنه يوافق عليها، أو أنها قابلة للقياس والاستعمال.

          هذه مداخلة أحببت أن أضيفها لمقالة الباحث الكريم د. الجوزو، مع التقدير البالغ لجهوده في إثارة قضايا من المؤكد أنها تسهم في نشر الاهتمام بالنحو، واللغة العربية على وجه العموم.

د. مصطفى الجوزو