لميعة عمارة والسيّاب البُعد الأخير

لميعة عمارة والسيّاب البُعد الأخير

تُعرّفنا الشاعرة العراقية لميعة عباس عمارة عن نفسها، فتقول في ختام ديوانها «الزاوية الخالية» (ص 117 - 119): «أنا لميعة عباس عمارة - وعمارة اسم جدي - وُلدت في بغداد بجانب الكرخ في سنة 1929. وكنت أول مولود لأبٍ وحيد أبويه، وأم لم تتجاوز الخامسة عشرة. أكملتُ الصف الأول الابتدائي في بغداد بمدرسة الشواكة، ثم انتقلت الأسرة إلى العمارة. نظمتُ الشعر صغيرة بالعامية، وكان أكثره هجاءً. وأول شعري الفصيح في الصف السادس الابتدائي، ولم أنشر قصيدة إلا في الرابعة عشرة من عمري، وكانت لإيليا أبو ماضي، التي نشرت في صفحة (السمير) الأولى سنة 1944، مع تعليق طويل لطيف بقلم الشاعر».

 

تضيف الشاعرة لميعة: «عدتُ إلى بغداد لإتمام دراستي الثانوية، وحصلتُ على شهادة الصف الخامس بتفوّق، فقدّمتُ طلبًا للالتحاق بالبعثة العلمية، وفي ذلك الظرف توفي أبي في سبتمبر سنة 1946، فالتحقتُ بدار المعلمين العالية (كلية التربية) وتخرّجتُ فيها سنة 1950 وأنا الآن مدرّسة 
بدار المعلمات الابتدائية في بغداد.
تزوجتُ بعد سنة واحدة من تخرّجي، ورزقتُ بأربعة أطفال، فكان رزقًا فوق الطاقة، قطعني عن القراءة والكتابة فترة أراها طويلة، وكنت مضطرّة في هذه الفترة بالذات إلى إلقاء المحاضرات الإضافية في المساء».
ولميعة عمارة شاعرة عراقية محدثة، تُعَدُّ محطة مهمة من محطات الشعر في العراق. ولدت الشاعرة لعائلة صابئية مندانية عراقية في منطقة الكريمات، وهي تقع في قلب المنطقة القديمة من بغداد، المحصورة بين جسر الأحرار والسفارة البريطانية على ضفة نهر دجلة في جانب الكرخ. وهي ابنة خالة الشاعر العراقي عبدالرزاق عبدالواحد.
للرجل في شعرها مركز بارز، فهي تناجيه وتتودّد إليه، وله مكانة مهمة في حياتها. تقول في ذلك:
ما زلتُ مولعة، تدري تولعها
مشدودة لك من شَعري ومن هُدُبي
من دونك العيش لا عيشٌ، وكثرته 
دربٌ طويلٌ، فما الجدوى من النَصَبِ؟

وهي تُفصح عن هذا الغائب الحاضر/ الرجل، وهو هنا ربّما كان حبيبًا أو أبًا، لكنّه الرجل:
عُدْ لي صديقًا، أخًا، طفلًا أُدلّلـه
عُدْ لي الحبيب الذي كم جَدَّ في طلبي
عُدْ سيدي، تلك دون الشمس منزلة
أحلى المناداة عندي سيدي وأبي
 
في تقديم ديوانها «لو أنبأني العرّاف» تقول:

كلُّ شِعري 
قبلَ لُقياكَ سُدىً 
وهباءٌ كلُّ ما كنتُ كتبتُ 
اطوِ أشعاري 
ودعها جانبًا 
وادنُ منّي 
فأنا اليومَ بدأتُ
 
وفي الديوان ذاته تقول (ص 50):
أيُّها الطفلُ الذي أعشَقُهُ 
أطِلِ اللهوَ 
لتبقى ولدي 
عِشْ كما شئتَ 
فراشًا، بلبلًا، نحلةً 
أشرِكْ معي 
أو وَحِّدِ
أنا أهواكَ كما أنتَ...
استرِحْ 
لا تبادرْني بعُذْرٍ في غد (1978)

تقول الشاعرة في قصيدة «عراقية» في خليط من التمرّد والالتزام:
تدخنين؟ 
لا
أتشربين؟ 
لا
أترقصين؟ 
لا
ما أنتِ؟ 
جمعُ لا!
أنا التي تراني 
كلُّ خمولِ الشرقِ في أرداني 
فما الذي يشدُّ رجليكَ إلى مكاني؟ 
يا سيِّدي الخبير بالنسوانِ 
إنّ عطاءَ اليوم شيءٌ ثانِ 
حلّقْ!
فلو طأطأتَ...
لا تراني 
***
من يقرأ قصائد الشاعرة لميعة يتوقف عند ملمحين أساسيين؛ الأول سعيها للتعبير عن أنوثتها أمام الرجل بوصفه صنوها لا عدوًا لها تحاول استفزاز رجولته وإثارته، والثاني هذا الاعتزاز بانتمائها العراقي الواضح بعيدًا عن المزايدات الوطنية، إنه التعبير عن ذلك الارتباط الروحي بأرض تعرف مدى عمقها الحضاري وأصالتها، وكثيرًا
ما تغنّت ببغداد، فبغداد هي العراق، تقول:
لأن العراقة معنى العراق 
ويعني التبغدد عزًا وجاها
 
درست في دار المعلمين العالية (كلية الآداب)، وقد صادف أن اجتمع عدد من الشعراء في تلك السنوات بذلك المعهد، السيّاب والبيّاتي والعيسی وعبدالرزاق عبدالواحد وغيرهم، وكان التنافس الفني بينهم شديدًا، وتمخّض عنه ولادة الشعر الحر.
كتبت الشعر الفصيح فأجادت فيه، كما كتبت الشعر العامي وأجادته كذلك، أحبت الشاعرة لغتها العربية وتخصّصت بها ومارست تدريسها، فتعصّبت لها أكثر، من دون أن تتنكّر للهجتها الدارجة، فوجدت نفسها في الاثنين معًا.
  ترى لميعة في اللغة العربية الفصيحة وسيلتها للتواصل مع الآخرين الأوسع، لكنها تجد في لهجتها العراقية العامية ما يقرّبها من جمهورها المحلي الذي استعذب قصائدها فتحوّل بعضها إلى أغنيات يرددها الناس. ومن دواوينها الزاوية الخالية، وعراقية، 
ولو أنبأني العراف، والبُعد الأخير. 
عاشت أغلب أیام غربتها في الولايات المتحدة، بعد هجرتها من العراق في زمن صدام حسین.
حين كرّمتها الحكومة اللبنانية بوسام الأرز تقديرًا لمكانتها الأدبية، لم تتسلّم الوسام (لأن الحرب الأهلية كانت قائمة) وكتبت تقول:
على أي صدر أحط الوسام
ولبنان جرح بقلبي ينام؟
***
بدر شاكر السيّاب
وُلد الشاعر بدر شاكر السيّاب سنة 1926 في قرية جَيكُور، وهي قرية صغيرة تابعة لقضاء 
أبي الخصيب في محافظة البصرة بالعراق. ولا يزيد عدد سكانها آنذاك على 500 نسمة، واسمها معناه «الجدول الأعمى».
وهو يعدّ واحدًا من الشعراء المشهورين بالوطن العربي في القرن العشرين، كما يعتبر أحد مؤسّسي الشعر الحرّ في الأدب العربي.
تخرّج السيّاب في الجامعة عام 1948، وفي تلك الأثناء عُرف بميوله السياسية اليسارية، كما عُرف بنضاله الوطني في سبيل تحرير العراق من الاحتلال الإنجليزي، وفي سبيل القضية الفلسطينية. وبعد أن أُسندت إليه وظيفة تعليم اللغة الإنجليزية في الرمادي، فُصل منها بعد أن مارسها عدة أشهر، بسبب ميوله السياسية وأُودع السجن. ولمّا رُدّت إليه حريته اتّجه نحو العمل الحرّ بين البصرة وبغداد، كما عمل في بعض الوظائف الثانوية، وفي سنة 1952 اضطرّ إلى مغادرة بلاده والتوجه إلى إيران، ومنها إلى الكويت، وذلك عقب تظاهرات اشترك فيها.
وفي سنة 1954 رجع الشاعر إلى بغداد، ووزّع وقته بين العمل الصحافي والوظيفة في مديرية الاستيراد والتصدير.
كان السياّب شاعرًا فذًّا اصطبغ شعره بصبغة الأطوار التي تقلّبت فيها حياته المعاشيّة والاجتماعية والفكرية. 

ضبابية يائسة
عصره الألم في شبابه، وشعر بالغربة القاسية وهو في بيت أبيه، كما شعر بها وهو في بيئته؛ ولم يجد قلبه الشديد الحساسيّة مَن يخرجه من أتون آلامه، ولم يجد في طريقه فتاة أحلامه، تلك الفتاة التي يسكب روحه في روحها، فتنتشله من أحلامه وأوهامه، وتغرقه في عالم من الحنان والرقة؛ ورافق ذلك كلّه تتبّع فكري وعاطفي لحركة الرومانطيقية التي شاعت في أوربا، والتي ازدهرت في بعض الأقطار العربية، ولاسيما لبنان المقيم والمهاجر، فاندفع في تلك الحركة، وراح في قصائده الأولى يداعب شجونه في جو من الضبابية اليائسة، وفي انحطام لا يخلو من نبضات ثورية حالمة، وراح يناجي الموت، وينظر إلى مصيره نظرة اللوعة والأسى، ويهوي في لجة عالمه المنهار:
لا تزيديه لوعةً فهو يلقاك
 لينسى لديكِ بعضَ اكتئابهْ
قرِّبي مقلتيكِ من وجهه الذاوي
تَرَيْ في الشحوبِ سرَّ انتحابهْ 
وانظري في غضونه صرخة اليأسِ
وأشباحَ غابرٍ من شبابهْ
لهفةٌ تسرقُ الخطى بين جفنيه
وحلمٌ يموتُ في أهدابهْ

تلك كانت المرحلة الأولى من مراحل شعر السيّاب؛ أما المرحلة الثانية فهي مرحلة الخروج من الذاتية الفردية إلى الذاتية الاجتماعية، وقد انطلق الشاعر، في نزعته الاشتراكية ورومنطيقيته الحادة، يتحدث عن آلام المجتمع وأوصاب الشعب، ويهاجم الظلم في أصحابه، ويصوره في «حفار القبور» ماردًا جشعًا يرقص على جثث الموتى ويتغذّى جشعه بأرواحهم.
بدأ بدر كلاسيكيًا، ثم تأثر برومانسية أبي شبكة من لبنان، وبودلير من فرنسا، لكن إضافاته الشعرية وإنجازاته بدأت بشعره الواقعي، لاسيما قصائد حفار القبور؛ والمومس العمياء؛ والأسلحة والأطفال.
 يعد شعر بدر التموزي أبدع ما ترك من آثار، لاسيما ديوان «أنشودة المطر»، ففيه نماذج كثيرة للقصيدة العربية الحديثة، التي توفر فيها شكل فني حديث متميز، ومضمون اجتماعي هادف في آنٍ واحد، ومن أشهرها «أنشودة المطر» التي يقول في مطلعها:
عيناكِ غابتا نخيلْ ساعةَ السَحَرْ
أو شُرفتان راحَ ينأی عنهما القمرْ
عيناكِ حينَ تبسمان تُورقُ الكرومْ 
وترقصُ الأضواءُ كالأقمارِ في نَهَرْ 
يَرُجّه المجذافُ وهْنًا ساعةَ السَحَرْ 

السيّاب ولميعة 
تعرّف بدر على لميعة في العام الدراسي 1946 /1947 وتوثّقت صلة كل منهما بالآخر توثّقًا حميمًا في آخر سنة من سنوات الدراسة فيما يتعلّق به، وفي السنة الثانية من سنوات الدراسة فيما يتعلق بها، (عام 1947 /1948 الدراسي).
وتتلخّص القصة في أن كلاًّ منهما كان يبحث عن الآخر، كانت هي تبحث بنوع من اللهفة المثالية عن الآخر، وقد أرهقها البحث عمّن تريد لنفسها، فهي لم تكن في ذلك الوقت راضية عن الناس. وكان ممّا يزيد حنقها أنها رأت الآخرين من حولها لا يتعلقون إلا بالمظاهر والقشور:
إن ارتديتُ حريرًا هللوا عجبا
وزاحمَ البعضُ بعضًا زُلْفَةً منّي
وإن أتيتُ بثوبِ النسكِ أقصدهم
صدّوا سراعًا وولّوا كلّهم عني
 
وكان هو يبحث أيضًا عمّن يريد لنفسه، لكن بحثه كان بحث الجريح الذي «تكسرت النصال على النصال» في قلبه المُعَنّى، وأخذ يصور لروحه فتاة يلقاها من بعد بحثه الطويل، وأطلق على تلك الفتاة المتخيلة اسم «المنتظِرة»:
يطول انتظاري لعلي أراكِ
 لعلّي ألاقيكِ بين البشرْ
سألقاكِ... لا بدّ لي أن أراكِ
وان كان بالناظر المحتضرْ
فديتُ التي صورتها مناي
فأضحت أماني تلك الصورْ
أطلّي على مَن حباكِ الحياة
فأصبحتِ حسناءَ ملء النظرْ

رابطة قوية
وإلى جانب هذه الرابطة كانت هناك رابطة سياسية قوية تقرّب كلًا منهما إلى الآخر، فقد كانا عضوين في الحزب الشيوعي العراقي، مما يجعل لكلّ منهما أهدافًا واحدة مشتركة. وكانت هناك رابطة أخرى على جانب كبير من الأهمية، تتمثل في أن كلاًّ منهما كان يبحث عن الحنان الذي افتقده، فالشاعر رحلت عنه أمه وخلّفته يتيمًا، فكان في ذهنه أن يبحث عمّن تعوّضه عن حنانها، والشاعرة رحل عنها أبوها وخلّفها يتيمة، فكان في ذهنها أن تبحث عمّن يعوّضها حنانه، ومن يقرأ ديوانها «الزاوية الخالية» قراءة متأنّية يجد أن لميعة تمزج بين حديثها عن أبيها الراحل وحديثها عن شاعرها الحنون.
أما القضايا التي كانت تعوق تآلفهما، فتتمثل في أن الشاعرة كانت تنتمي إلى الطبقة العليا أو البرجوازية الكبيرة، بينما ينتمي الشاعر إلى الطبقة المتوسطة أو البرجوازية الصغيرة، لذا كان يتهمها بأنها «مترفة»، أو على حد تعبيرها هي: «كان يتّهمني بأني مترفة وهو جائع... وبأني مرتاحة تقدّم النصائح لقلِق معذب»، كما تتمثل القضايا التي كانت تعوق تآلفهما في أن كلًّا منهما يعتنق دينًا مختلفًا عن الآخر، فالشاعر كان مسلمًا، وهي كانت صابئية.
وهذه العلاقة تظهر في ديوان بدر «أساطير» وديوان لميعة «الزاوية الخالية». وهو يعبّر عن حبّه لها في إحدى قصائده، حيث يقول:
وتلك شاعرتي التي كانت لي الدنيا وما فيها 
شربتُ الشعرَ من أحداقها ونعست في أفياء 
تنشرها قصائدها علي: فكل ماضيها 
وكل شبابها كان انتظارًا لي على شط يهومُ فوقه القمر 
وتنعسُ في حِماه الطيرُ رش نعاسها المطر 
فنبهها فطارت تملأ الآفاقَ بالأصداءِ ناعسةً
 تؤج النور مرتعشًا قوادمها، وتخفق في خوافيها 
ظلال الليل. أين أصيلنا الصيفي في جيكور؟ 
وسار بنا يوسوس زورقٌ في مائه البلّور 
وأقرأ وهي تصغي والربى والنخلُ والأعنابُ تحلم في دواليها 
تفرقت الدروب بنا نسير لغير ما رجعة 
فتذكرني وتبكي. غير أني لست أبكيها 

جو غير متكافئ
وهي تقول في مقابلة أجراها معها جهاد فاضل بمجلة الحوادث (العدد 1217 - 29/2/1980)
«في هذا الجو غير المتكافئ التقيت ببدر. جاء بدر من حرمان القرية إلى الانفتاح على أجمل بنات بغداد وأكثرهن ثقافة. وبدر يحبّ المرأة، فكيف إذا كانت هذه المرأة جميلة ومثقفة وذات شخصية متميزة؟ لقد تغزل بنا جميعًا؛ هذه بعينيها الزرقاوين، وتلك بعينيها اللتين لا لون لهما، وهذه بشعرها السجين (سعاد كانت تلفّ شعرها). كنت أحد المستمعين إلى بدر. أستمع إلى غزله في هذه الوجوه الجميلة، وكنت أستعيد بعض قصائده.
في السنة الأولى بدار المعلمين لم يكن بيني وبين بدر أي حب. ولكن في السنة الثانية، ولكثرة اقترابي منه، بدأت أشعر بحنوّ عجيب على هذا الإنسان العبقري الذي وجدته يومها مريضًا نفسيًا، بل وأحسست بنوع من الأمومة تجاهه. كنت في السابعة عشرة من عمري وكان بدر في العشرين».
هذه هي الشاعرة العراقية لميعة عباس عمارة التي توفيت في 18 يونيو الماضي بالولايات المتحدة الأمريكية.
***
وفي عام 1961 بدأت صحة السيّاب بالتدهور، حيث بدأ يشعر بثقل في الحركة، وأخذ الألم يزداد أسفل ظهره، ثم ظهرت بعد ذلك حالة الضمور في جسده وقدميه، وظل يتنقل بين بغداد وبيروت وباريس ولندن للعلاج، من دون فائدة.
وأخيرًا ذهب لتلقّي العلاج في المستشفى الأميري بدولة الكويت، حيث قام هذا المستشفى برعايته وأنفق عليه خلال مدة علاجه، حتى توفي بالمستشفى هناك في 24 ديسمبر 1964 عن
38 عامًا، ونُقل جثمانه إلى البصرة وعاد إلى قرية جيكور في يوم من أيام الشتاء الباردة الممطرة، وقد شيّعه عدد قليل من أهله وأبناء محلته، ودفن بمقبرة الحسن البصري في الزبير.
ومما تجدر الإشارة إليه أن الشعراء السياب وبلند الحيدري ومحمد مهدي الجواهري وعبدالوهاب البياتي والشاعرة نازك الملائكة قد توفوا جميعهم خارج أرض العراق ■