انتقال النظريات النقدية عبر الترجمة حالة المغرب

انتقال النظريات النقدية عبر الترجمة حالة المغرب

هناك رأي رائج في أوساط المشتغلين بتاريخ الأدب المغربي الحديث يربط ظهور حركة النقد الجديد في المغرب الذي برزت بوادره في مطلع ثمانينيات القرن الماضي بتيار النقد البنيوي الفرنسي بشقّيه الشكلي الذي تبلورت ملامحه الكبرى مع مجلة تواصلات، وترسّخت أصوله مع اجتهادات مجلة بويتيك ومنشوراتها خلال العقد السبعيني وما تلاه على يد كتّاب أفذاذ، مثل رولان بارت وتزيفيتان تودوروف وجيرار جنيت وجوليا كريستيفا، وشقّ البنيوية التكوينية العائدة إلى لوسيان غولدمان وأفكار زعيمها الروحي جورج لوكاش، وجميع من سار في ركابها من علماء اجتماع الأدب وتلامذتهم، مثل جاك لينهارد وجاك دوفينيون وآخرين.

 

 كانت القناة التي عبر منها هذا التأثير إلى النقد المغربي هي المجلة الثقافية تحديدًا، فهي التي جعلته يعرف انزياحًا تدريجيًا عمّا سُمّي بالمنهج الواقعي ويستبدل مفهوم الالتزام الأيديولوجي بتصوّرات جمالية وأسلوبية تُعطي الاعتبار لما هو نصّي وتعبيري في المقام الأول. وهذا يعني أن النقد الحديث بالمغرب يدين بالكثير في صوغه لمنحى جديد في التنظير والممارسة إلى هذه المنابر الثقافية التي تهيّأ لها، بفضل الترجمة خاصة، أن تُفشي مظاهر الوعي المتزايد لدى النقّاد المغاربة بمحدودية طرائقهم في مقاربة النصوص وتُشيع لديهم الرغبة في تطوير أدوات التحليل ومناهج البحث.
ونحن نستطيع الادعاء بأن هذا النقد الجديد قد بدأت تباشيره مع جماعة «الثقافة الجديدة» التي بادرت أوائل السبعينيات (1973) لإخراج العديد من الترجمات والمقاربات الجديدة مُتيحةً بذلك بروز مجموعة من الأقلام الطليعية في مجالات الفكر النقدي والتحليل الأدبي من أمثال مصطفى المسناوي ومحمد البكري وإبراهيم الخطيب وغيرهم ممن ساهموا - نظريًا أو عمليًا - في انطلاقة حركة هذا النقد الذي سُمّي جديدًا في المغرب وبنيويًا في عموم الساحة العربية.
وسرعان ما تبعتها مجلة أقلام التي أطلقها، قبل ذلك بعشر سنوات، ثلّة من الأساتذة ذوي الميول الفكرية الاشتراكية كمحمد عابد الجابري وعبدالرحمن بعمرو وأحمد السطاتي، فتوّلت نشر ودعم العديد من المحاولات الرامية إلى التعريف بالجديد من المناهج حديثة الظهور وذات الصلة بالعلوم الإنسانية والفكر النقدي، فكان لذلك أثره الملموس في أوساط الطلاب والباحثين ممن سارعوا إلى الانكباب على هذا السجّل الطارئ ومارسوا كثيرًا من مفاهيمه ومصطلحاته في نصوصهم ودراساتهم.

مجلة آفاق
ثم جاء الدور على مجلة آفاق التي يصدرها اتحاد كتّاب المغرب لتعمل بدورها ابتداء من أواسط السبعينيات، على نشر أعداد خاصة تتناول ما استجدّ في الدوائر الأكاديمية الغربية من جهود فكرية وإضافات منهجية، مثل نظرية التلقي والبنيوية التكوينية والتحليل البنيوي للسرد وغيرها.
 وبحكم أن كتّاب هذه المجلة كانوا هم أنفسهم من أساتذة الجامعة المغربية، مثل محمد برادة وأحمد اليبوري وحسن المنيعي ورشيد بنحدو، فقد حصل ما توقّعوه من التفاف الطلاب وعموم القراء حول هذه الإصدارات، ورأوا في وقت وجيز انعكاس وتأثير تلك القراءات على كتابات الشباب وأطروحاتهم.
وبفضل هذه الدوريات كان للنقد المغربي حظّه في أن يحقق تلك الطفرة النوعية التي جعلته يتحّرر من سلطة النقد المشرقي الذي كان يعيش لحظة جمود واجترار ويتوجه إلى الضفة الأخرى، أي أوربا وفرنسا على وجه التحديد، ليقيم علاقة مثمرة مع ثقافة إنسانية متفتحة ومنتجة ويتخذ منها وسيطًا للانطلاق نحو آفاق جديدة ما كان له أن يحلم بها وهو قابع في أحضان ثقافة تقليدية محافظة، وفي أحسن الأحوال سجين رؤية لا ترى في الأدب أبعد من انعكاسه الاجتماعي وأبعاده الأيديولوجية.

استيعاب وتمثّل
يجب أن نذكّر بأن جيل الثمانينيات من الباحثين والنقاد المغاربة، الذي تربّي على هذه المائدة الدسمة من الكتابات والمناهج والنظريات في أعقاب نقلها من لغتها الأصلية إلى اللغة العربية، هو الذي أتيحت له الاستفادة من هذه الحركة عن طريق الاستيعاب والتمثّل، وأخيرًا التطبيق على النصوص. وإذا كنّا لأسباب بديهية نقف أحيانًا على تطبيقات حرفية وبراغماتية لتلك المناهج والنظريات، فلأننا كنّا بالتأكيد أمام كائنات حيّة تحتاج إلى مزيد من التكيف مع سياقات الثقافات والمتون، وليس لأنّ تلك المصادر كانت تعاني نقصًا ما.
وللإحاطة ببعض مظاهر هذا الدور التشييدي لفائدة النقد المغربي الذي نهضت به المجلات الثقافية في حقبتَي السبعينيات والثمانينيات سنسعى، بأقل ما يكون من التفصيل، إلى استعراض أهم اللحظات التي شهدت إسهام هذه المنابر في إطلاع القراء على نماذج من الفكر النقدي الغربي وتسهيل انتشاره في أوساطهم. 
ومن ذلك أنه لم يغامر أحدٌ في الوطن العربي قبل الناقد المغربي إبراهيم الخطيب بترجمة الشكلانيين الروس الذين نشطوا بين 1917 و1930 ونشرَ أعمالهم في المجلات المغربية خلال النصف الثاني من السبعينيات. وكانت أول ترجمة له لهذه الجماعة قد نُشرت في العدد الثالث من مجلة الثقافة الجديدة الصادر في مارس 1975 تحت عنوان «نظرية المنهج الشكلي»، وقد اشتملت على نصوص من كتاب «نظرية الأدب... نصوص الشكلانيين الروس»، الذي نقله من الروسية إلى الفرنسية تزيفيتان تودوروف أواسط الستينيات (1965)، ثم سيعود الخطيب مرة أخرى ليواصل تعريب ما تبقّى من فصول الكتاب (شلوفسكي وإيخنباوم) في العدد 20 الصادر في مارس 1981 من المجلة نفسها، قبل أن يتوّج هذه التجربة بإصدار الترجمة كاملة بين دفتَي كتاب أوائل الثمانينيات، وهي الترجمة التي كان لها إشعاع في أوساط النقاد، وما يزال، وتحظى بإقبال متزايد لدى قراء «العربية» من مختلف الأجيال والبلدان.

خطوة جسورة
   في تزامن مع ذلك التاريخ سيكون المترجم عبدالسلام بنعبد العالي هو أول مغربي سيتصدى للتعريف بالمنهج البنيوي في مجلة أقلام ضمن عددها السادس لسنة 1975... غير أنّه سيفعل ذلك من وجهة نظر فلسفية ولسانية في المقام الأول، أي بالتركيز على مفاهيم مثل البنية والكلية والسانكرونية، كما ترددت عند المنظّرين الكبار، مثل عالم اللغة فيرديناند دوسوسير وعالم الأنثربولوجيا ليفي ستراوس.
من جهته، سوف يتخذ المترجم محمد البكري أول خطوة مباشرة وجسورة في هذا الاتجاه نفسه عندما ترجم بمجلة الثقافة الجديدة، في نوفمبر من سنة 1978 فصولًا من كتاب رولان بارت الأشهر «الكتابة في الدرجة الصفر» الصادر سنة 1953. ويبدو أن الجهد الذي بذله البكري، وهو العارف باللسانيات الحديثة والمنفتح على المعارف الجديدة، سيُعطي لترجمته نكهة مُقنعة ويجعلها بالتالي تستقطب عشاق هذا الكاتب الرائد من الذين لم يكن بوسعهم أن يقرؤوه في لغته الأصلية، ومن أسف أن المترجم لم يتيسّر له إلى اليوم إخراج الترجمة الكاملة لهذا الكتاب.
وإذا غادرنا البنيوية الشكلية إلى زميلتها التكوينية، سيكون محمد البكري نفسه هو السبّاق إلى تعريب دراسة أولى للوسيان غولدمان بعنوان «الفلسفة وعلم الاجتماع» منذ العدد الأول لمجلة الثقافة الجديدة سنة 1974، غير أن هذا البحث كان يتحرك في حقول نظرية تبعد بمسافة عن الانشغالات الأدبية والنقدية بحصر المعنى، أي يحلّق في دائرة ليس من المتوقع أن تُلقي بظلالها على العاملين في مضمار تحليل النصوص ومقاربة الأجناس الأدبية.
لذلك نظن أن ما ربحه البكري بهذا النشر المبكر من سبق تاريخي لا غبار عليه قد خسره في الابتعاد عن مجال البحث الأدبي والالتصاق بالتأملات الفكرية واللسانية بالدرجة الأولى.

وعي جَمعي
سوف ننتظر حلول سنة 1977 ليُقبل عبدالسلام بنعبد العالي في العدد الرابع من مجلة أقلام على تحرير ونشر أول دراسة تتصل بالموضوع الذي يعنينا تحت عنوان «سوسيولوجيا الآداب عند لوسيان غولدمان». غير أنه مرة أخرى سيترك المعطيات الأدبية جانبًا ليتولى التعريف بسوسيولوجيا الآداب باعتبارها فرعًا من فروع علم الاجتماع ويُمسك بجذورها لدى مدرسة فرانكفورت وزعيمها جورج لوكاش مركّزًا على أطروحتها الأساسية التي تعتبر الإبداع تعبيرًا عن وعي جَمعي بقدر ما هو إنتاج فردي، وباحثًا في العلاقة بين محتوى العمل الأدبي ومضمون الوعي الجمعي، وصولًا إلى البنية الذهنية لعصر معيّن أو جماعة ما. وهذا الاهتمام آتٍ من أستاذ وباحث في الفلسفة بالبنيوية التكوينية في جناحها الأدبي تحديدًا يعتبر مبادرة غير مسبوقة وذات دلالة لا تخفى بالنسبة للواقع الثقافي المغربي والعربي آنذاك، وبالأخص لأنه فتح عبرها بابًا في المعرفة النقدية ظل مواربًا لفترة طويلة.
غير أن المترجم المغربي مصطفى المسناوي هو الذي سيحقق المفاجأة في نهاية السنة الموالية عندما سيغامر بنقل أهم عمل تنظيري لهذا المفكر البنيوي الكبير، وهو دراسته الباهرة الموسومة «علم اجتماع الأدب... نظامه الأساسي ومشاكله المنهجية» المنشورة في العدد 10/11 من مجلة الثقافة الجديدة في نوفمبر 1978. ويوضح المسناوي، في مقدمة قصيرة، السياقَ الذي ترد فيه ترجمتُه، وهو الرغبة في التعريف بالمنهج البنيوي التكويني (بدلًا من ادعاء استعماله وتعريضه للمسح حتى من قبل بعض النقاد التقدميين من المغرب). أما اختيار هذا النص تحديدًا فلكونه يعرض بشكل متكامل ومنظّم جلّ مبادئ هذا المنهج الذي سعى غولدمان إلى تشييده انطلاقًا من عمله التطبيقي في أطروحته «الإله المختفي»، حيث اتجه إلى الكشف عن البنيات الذهنية الدالة والمنظمة لفكر كل من باسكال وراسين.
ولمواجهة الصعوبات المفهومية والاصطلاحية التي طرحتها عليه هذه الترجمة ذيّلها ببعض الهوامش التوضيحية التي بدا أنه لا غنى عنها لفهم النص، وبمعجم صغير اقترح فيه مقابلات للمصطلحات المستعملة.

مغزى عميق
ختم المسناوي مقدمته القصيرة تلك بعبارة توضح المغزى العميق لهذا الاختيار الذي علينا أن نتذكر أنه حصل قبل أربعة عقود من الآن «إن اهتمامنا بغولدمان لا يمكن أن يكون مؤقتًا ولا سريعًا، وإنما هو علامة مرحلة نقدية ما زلنا لم نتخطها بعد».
ثم بعد ذلك جاء الدور على مجلة أقلام المغربية لكي تتدخل من جديد في الموضوع وتقوم بنشر دراسة بعنوان «الأسس العامة للبنيوية التكوينية» كتبها عبدالحق منصف في عددها الـ 56 لسنة 1982، إلا أن هذه المساهمة الطويلة التي توجد تتمتها في العدد الموالي قد شغلت صفحاتها ببحث العلاقة بين غولدمان الفيلسوف وغولدمان الإبسيتيمولوجي، وحاولت جاهدة الكشف عن تأثير هاتين القبّعتين على موقف الناقد الفيلسوف من العلوم الإنسانية، مستفيدة من استدعاء متدخلين كبار من عيار لوكاش وهايدجر وفوكو. وبنشرها هذه الدراسة المستقصية ظلت مجلة أقلام وفية لخطّها التحريري الذي يعطي الاعتبار الأول لمعالجة القضايا الفكرية والإشكالات الفلسفية وبعيدة بقدر منظور عن الإحاطة بالمساهمة النقدية الأدبية لهذا العالم الذي حلّ ضيفًا مُعززًا على مضمار العلوم الإنسانية آتيًا لها من العلوم السياسية والاقتصادية، وحاول إلقاء ضوء جديد على الإبداع الإنساني منظورًا إليه من زاوية الفكر المادي الجدلي.

ملف خاص
غير أن التعويض عن هذه الثغرة المسجلة ستقوم به مجلة آفاق الصادرة عن اتحاد كتّاب المغرب عندما ستكرس ملفًا خاصا بالبنيوية التكوينية ستكون فيه، كما سنرى، أكثر استقصاء وأوفر تغطية للجوانب النقدية والأدبية لهذا المنهج الجديد، والذي لم يعد جديدًا تمامًا في منشئه، أوربا وفرنسا تحديدًا، حيث سلخ أكثر من ثلاثة عقود.
ومن جملة الأشياء، سيدفع الحرص على الشمول بهذا العدد الخاص (العدد 10 لسنة 1982) إلى العودة للجذور، حيث سيكتب إدريس الناقوري دراسة وافية عن الأب الروحي لهذا المنهج الناقد المجري جورج لوكاش مستمدًّا مبادئه النظرية ومستدلًا على قوته الإجرائية من خلال كتاب بلزاك والواقعية الفرنسية. وسيترجم بشير القمري بحثًا تعريفيًّا لجاك دوبوا تحت عنوان «نحو نقد أدبي سوسيولوجي» يستجمع فيه صاحبه القضايا المركزية التي تقود هذا الاتجاه في بحثه عن الاجتماعي في الإبداعي، وسيتولى محمد سبيلا تعريب دراسة بول باسكادي الموسومة «البنيوية التكوينية ولوسيان غولدمان»، حيث يتعلق الأمر بالنبش في الأسس الفلسفية والإبستيمولوجية التي قام عليها هذا المنهج قبل أن يتسع نطاقه ليشمل النصوص الفكرية والإبداعية. 
وسيقوم محمد برادة الذي يظهر أنه مهندس هذا العدد وصاحب فكرته بترجمة مقالة شهيرة للوسيان غولدمان تحمل عنوان «المادية الجدلية وتاريخ الأدب»، وهي عبارة عن تأملات وأفكار تأخذ هيئة بيان يستعرض فيه مؤلفه عددًا من التصورات والتحديدات التي يرى أنها تؤسس لكل تفكير اجتماعي في الإبداع الأدبي والفني، بينما تمضي المواد الأخرى المشكّلة للملف في اتجاه التعريف بالمفاهيم الأساسية التي تنهض عليها البنيوية التكوينية مثل مفهوم «الرؤية للعالم» الذي ترجم عبدالسلام بنعبدالعالي بصدده مقالة لغولدمان عنوانها «مفهوم النظرة للعالم وقيمته الأدبية»، وعرّب بشأنه حسن المنيعي دراسة لجاك دوفينيون بعنوان «غولدمان والرؤية للعالم»، وقدّم برادة ترجمة لبحث غولدمان حول مفهومَي «الوعي الواقعي والوعي الممكن» وهما المصطلحان اللذان استعارهما المؤلف عن أستاذه لوكاش واستخدمهما في تحليل العديد من النصوص، خاصة في كتابه «نحو سوسيولوجية للرواية». 

عمل تعريفي
حول السياق نفسه يترجم رشيد بنحدو مقالة جانفيف موييو التي تأخذ على عاتقها تقديم تعريف سوسيولوجي للرواية. ومثله يترجم أحمد المديني عملًا تعريفيًّا بعنوان «نحو إستيتيقا سوسيولوجية».
 بينما يستعرض إبراهيم الخطيب عملًا صدر حديثًا لأحد تلامذة وأتباع غولدمان هو جاك لينهارد تحت عنوان مباشر نوعًا ما هو «قراءة سياسية لرواية الغيرة». كل ذلك وأكثر تضمنه هذا العدد الاستثنائي من مجلة آفاق الذي أعطى الدليل فعلًا، كما قال المسناوي، على أن الاهتمام بهذا التيار النقدي الجديد «ليس مؤقتًا ولا سريعًا».
وهكذا تكتمل الدائرة أو تكاد، ويصير في حكم المؤكد أن اسم غولدمان قد أخذ في التردد على ألسنة النقاد في هذا الطرف أو ذاك من الساحة الثقافية أو مدرجات الجامعة المغربية الفتية آنذاك. ويصير للبنيوية التكوينية التي وضع أساسها ورسم خطوطها العريضة نظريًّا وتطبيقيًّا هذا المفكر العظيم الذي غادرنا في بداية السبعينيات وهو في أوج العطاء. وكان أول مَن ذكره بالاسم الصريح هو السوسيولوجي المغربي عبدالكبير الخطيبي في كتابه «الرواية المغربية» الذي كان قد ترجمه له في وقت مبكر إلى العربية محمد برادة (1969).  

متنفّس وحيد
إذا ما انتقلنا بسرعة إلى المفكر الروسي ميخائيل باختين ألفينا أن أول ترجمة مغربية له ستتمّ بتوقيع محمد البكري الذي نقل على صفحات مجلة الثقافة الجديدة في عددها 19 لسنة 1981 دراسته الشهيرة المعنونة «نحو فلسفة ماركسية للغة»، ومرة أخرى سيُحرز هذا المترجم الرائد قصب السبق في استضافة منظور جديد للتأمل اللساني بعيدًا عن البنيويات السوسورية ذات المنشأ الأوربي، أي المركزي، وقريبًا من مدارس فقه اللغة الجدلي الذي أريد له أن يكون بديلًا نوعيًّا للمنهج الواقعي الاشتراكي الذي ورثه النقاد العرب، ومنهم المغاربة طبعًا، عن تكوينهم الكلاسيكي غالبًا أي الذي لا يغادر قضايا التأريخ الأدبي بمعناه الكرونولوجي السطحي والتحقيبي في المقام الأول، وقلّما ينفتح على إشكالات فنية من قبيل النوع الأدبي واختلافاته الأجناسية والأسلوبية، وعلاقة ذلك بالمتلقي ووضعية المؤلف، وغير ذلك مما سيصير من صميم اهتمام الناظر بالنص الإبداعي في الفترات اللاحقة.
وأخيرًا، فقد أتيح للنقد المغربي الجديد عبر المجلات الثقافية أن يتغذى على تلك الترجمات التي لطالما كانت متنفّسه الوحيد، مثلما جعلته يستفيد منها لتطوير ممارسته وتقوية نجاعته والزيادة من قدرته على النفاذ إلى النصوص المراد تحليلها وتحقيق فهم أفضل لطبيعتها. كما أننا نشعر بأن المغرب الثقافي قد فاز بالرهان النقدي بفضل جهود هذه المجلات الرائدة التي ساعدت - لسنوات - على تطوير ممارسته بشكل محسوس في سياق سعيه إلى ملامسة المناهج النقدية الجديدة والمتجددة، وفي الوقت نفسه سهّلت انزياحه عن مرجعياته التقليدية التي ظلت تشدّه إلى ماضي ممارسة عفا عليها الزمن ■