في يوم اللغة العربية

في يوم اللغة العربية

نعم، في يوم اللغة العربية علينا أن نعود لاستجلاء كوامن كلماتها وآدابها وفكرها، ولنتخلص من عجزنا عن سبر أغوارها العميقة، وما تختزنه من أفكارٍ ومعارف وفنون، ولنكون جديرين بالإلمام والإحاطة بدقّتها البنيوية والدلالية، لأنها روح الأمة وبنيان حضارتها، ويجب أن نهتمَّ بما أنجزته من فكر وأدب وقداسة اختارها الله لتكون وعاء الرسالة الإسلامية السمحة.  لقد ظلت اللغة العربية، عبر تاريخها المديد، عصيّةً على الامِّحاء والتلاشي، رغم كل المراحل الصعبة التي مرّت بها، فقد ظلت حيّة بفضل أصالتها وغناها وعمق محتوياتها الدلالية. إنها أمُّ اللغات ولها علينا ما للأم على أبنائها الأوفياء.

 

اللغة كائن حضاري كالإنسان، إذا تقدّمَ إنسانها تقدمت هي، لأنها وعاء الحضارة وحافظة إنجازاتها. 
وقد خلعت «العربية» عبقريّتها يوم خلعنا معنى أن نكون أمّة استطاعت بقوتها وخصبها أن تكون لغة خالدة، واسترداد أصالة لغتنا يعني استرداد أصالة حضارتنا.
في العصر العباسي تثاقفت اللغة العربية مع اللغات الأخرى، وأعطتها وأخذت منها كما تتفاعل الحضارات عطاءً وأخذًا، واستطاعت اللغة العربية يومها أن تكون لغة ذات حضور فاعل في العلوم والفلسفة وفي جميع المناحي الفكرية. لقد امتدت في العالم امتداد إنسانها؛ إنها مترجم روح الأمة وحضورها وتأثيرها، يومها قال المستشرقون: «لو حُذِفَ العرب من التاريخ لتأخرتْ نهضة أوربا 
ألف سنة»؛ يومها كان حضور اللغة صورة عن حضور الأمة. ثم لمّا صارت الأمة خاضعة لقوى لا تحمل روحها تحوَّلت اللغةُ العربية إلى أمَةٍ وجارية، وكانت أولى علامات انحطاط الأمة انحطاط لغتها. لقد خلعها إنسانها فخلعتْه وتخلّتْ عن إبداعها الذي كان مالئ الدنيا وشاغل الناس.

مقاومة حضارية
لكن ضعف الأمة لم يستطع، رغم طوله وعرضه، أن يمشي في جنازة اللغة العربية، ولم يستطع هذا الضعف الذي استبد بالأمة قرونًا قاحلة من الإبداع، نعم لم يستطع هذا الضعف أن يضع هذه اللغة على آلته الحدباء. لقد ظلت «العربية» حية تقاوم ضعف حامليها، رغم أنها حملت كثيرًا من ضعف أمتها، وسبب هذه المقاومة الحضارية هو أنّ اللغة العربية تحمل خصائص نادرًا ما توافرت في لغات أخرى، لقد تلاشت لغات كثيرة بمرور الأحقاب عليها، وبعضها أحيل إلى المتاحف، وإذا حاولنا أن نعدد أهم أسباب بقاء العربية لغة حية فسنذكر ما يلي:
-  القرآن الكريم الذي استطاع أن يوحد العرب بتوحيد لغتهم، لقد قضى على اللهجات التي كانت سائدة بين القبائل كجأجأة قضاعة، وتأتأة تميم، وغيرها، وكانت وحدة اللغة صانعَ ومنجزَ وحدةِ الأمة. لقد كان القرآن الكريم كتاب العرب وحافظ شخصيتهم الحضارية.
وقد أُعجِب العربي وغير العربي ببلاغة القرآن وإعجازه، وعُنوا به كثيرًا، وكان المرجع الأول لوضع قواعدهم وقبل الشعر الجاهلي قياسًا لا زمنًا.
لغة القرآن لم تستعمل اللفظ الغريب إلّا نادرًا، بل أدخلت إلى «العربية» كلمات من لغات أخرى بعد إخضاعها للزلاقة العربية بعملية تثاقفية رائدة، ومن هذه الكلمات «السندس والإستبرق والدينار والفردوس وجهنم»، وغيرها. وكانت لغة القرآن عالية التأثير ببلاغتها، كان الفرزدق يسجد للبلاغة القرآنية في أماكن لا دعوة إلى السجدة فيها. وكان يقول: هذه سجدة البلاغة.

الشعر تاريخ العرب
الشعر، وتحديدًا الشعر الجاهلي الذي كان وحده تاريخ العرب ووسيلة إعلامهم، وقد كان العرب مولعين بالشعر إلى درجة مذهلة، وكان لكل شاعر راوية لشعره.
وقد أسهمَ حفظُ الشعر بوجدان العرب وعقولهم كثيرًا في صيانة اللغة العربية، وكان سوق عكاظ مهرجانًا ثقافيًّا وموئلًا للتظاهر والتسابق في الشعر، وهذا أسهم في تكوين الحس النقدي في اللغة العربية وثقافتها. والشعر كان على صلة بالغناء عند العرب، وغنائية الشعر صانته من الاندثار، فالغناء هو رسالة الروح وبوحها منذ وجد الإنسان.
ولم يستطع الإسلام، رغم رسالته الدينية، إلغاء الشعر على الرغم من موقفه السلبي من الشعر. ثم عاد الشعر ليشقَّ طريقه مجددًا ويجد متسعًا له في الفكر الإسلامي، واستعان الرسول صلى الله عليه وسلم بحسّان بن ثابت ليرد على هجاء قريش، ومعروف كيف ألقى الرسول الكريم بُردته على كعب بن زهير إعجابًا بشعره في قصيدته الشهيرة «بانت سعاد»، وفيها يقول:

كلّ ابن أنثى وإنْ طالت سلامته
    يوماً على آلةٍ حدباءَ محمولُ
نُبِّئْتُ أنّ رسول الله أوعدني
    والعفو عند رسول الله مأمولُ
إنَ الرسولَ لنورٌ يُستضاءُ به
    مهنَّدٌ من سيوف الله مسلولُ

وإقبال العرب على الشعر كان يعني إقبالهم على حفظ لغتهم، وقد أسهم الشعر كثيرًا في صيانة النطق الصحيح في أمّة أميّة، وكان لعدم الكتابة دور كبير في نقل الشعر مشافهةً، وكانت هذه المشافهة تعني أنّ على الذي يروي الشعر مسؤولية في ضبط النطق بلغة تخلو من الخطأ والزلل. ومن العجيب أن تكون هذه الأمية سببًا من أسباب صيانة الشعر وحفظه. كان الزلل في النطق يعرّض الناطق للسخرية عند العرب.

مناظرات عالية المستوى
- وضع العرب القواعد للغتهم صونًا لسلامتها بعد اختلاطهم بغير العرب، وعُنيَ العرب كثيرًا بالقواعد واستعمالاته وسلامة النطق، وظهرت مدارس قواعدية كالمدرستين البصرية والكوفية، وكانت مناظرات عالية الحضور والمستوى في إغناء دور القواعد، وكان الخلاف بين علماء القواعد يخدم النص العربي ويعمّق فهمه، وظهر هذا جليًا في تعميق فهم النص القرآني بواسطة القواعد نحوها وصرفها، وهذا حفظ «العربية» من الضياع. كل هذا كان يحصل والحضارة العربية في أوج ازدهارها، وبدأ غير العرب يتباهون بإتقان قواعد اللغة العربية والكتابة بها، ولعل سيبويه وابن المقفع من أعلام هذا الاتجاه، وانتقلت اللغة العربية لتصبح لغة العلم والفكر في عالَم تلك المراحل الزمنية.
- ارتباط اللغة العربية بالمقدس، حيث كانت لغة الصلاة وكانت تلاوة القرآن بكثرة مرتبطة بالعبادات عند المسلمين. فعند الفرس مثلًا، وعند المسلمين في الأمم الأخرى، هناك خطبة بالعربية، إلى جانب الفارسية وغيرها في صلاة الجمعة.
- سعة جغرافية اللغة العربية وانتشارها في كل أرض دخلها الفتح الإسلامي.
  - حركة الإحياء التي بدأت في عصر النهضة، وهي في الأدب تجاوز عصر الانحطاط والعودة بالأدب إلى مرحلة العصر العباسي، وكانت حركة الإحياء من أبرز الأدلة على أن اللغة لا تموت، حتى ولو مرّت بمرحلة المرض.
اليوم بدأ خلل كبير يدخل مدارسنا وجامعاتنا من المرحلة الابتدائية إلى الجامعية. وهذا الخلل مرتبط بالتخطيط التربوي الفاشل الذي نتج عن إهمال السلطات التربوية. ونتج من عدم التأسيس الذي نراه منتشرًا بين الطلاب إهمالًا متعمدًا. إن طالب الدراسات العليا تراه كثيرًا في هذه الأيام متعثّرًا في صياغة نَصّ عربي سليم.
الخطوة الأولى التي يجب أن نبدأ بها لصيانة اللغة العربية هي مرحلة التأسيس في المرحلة الابتدائية. إن «العربية» بسبب غناها وغزارة مفرداتها تحتاج إلى أكثر من فئة عمرية لإتقانها. وهذا ما عنينا به الابتداء من المرحلة الابتدائية.
وأرى أن نُدخل في برامجنا إجبار الطالب منذ المرحلة الابتدائية على حفظ بعض النماذج الجيدة والمناسبة لعمره شعرًا ونثرًا بلسان عربي مُبين ■