عُرسي و«عرس الزين» حكايات خالدة لخالد الصديق

عُرسي و«عرس الزين» حكايات خالدة لخالد الصديق

«عرس الزين» كان في خاطري لسنوات، أمشي به نحو آفاق أوسع، وأسعى به بين الناس والأحداث، وأعود به إلى صدر دهاليزي، يوم أكتب أوراقي الراتبة أو الاستثنائية، هو عنوان كتاب، الراحل المخرج الكويتي العربي العالمي الصديق خالد الصديق، بعد أن أكمل واحدة من أفضل التجارب السينمائية العربية، التي أضحت بعدها عالمية، بحضورها الدائم في منصات السينما، ومهرجانات ومُلتقيات، وبين مُدرّجات الجامعات، التي تُدرِّس فنون الأداء وفن العصر «السينما».

 

للراحل عندي حكاية وحكايات قديمة مُتجدِّدة بامتداد حضوري الإبداعي، قطريًا وإقليميًا ودوليًا، منها انطلقت تصاويري ومشاهدي التمثيلية، ومُشاركتي بأداء دور وشخصية «الزين» في الرواية الأشهر والأجمل عند الكثيرين «عرس الزين» لسيدي الطيب صالح، عليه الرحمة، يوم أحالها وفكره المُستنير وقدرته الخلاقة على فتح الأبواب المُغلقة للسينما العربية، لتذهب مع شريطه السينمائي الأشهر «عرس الزين».

تأثير مغاير
بعدها ومنها انطلقت مشاويري في أنحاء المعمورة، أعتقد صادقًا أنه ترك تأثيرًا مُغايرًا عما كنت عليه، مشخصاتي قبل الفيلم «عرس الزين» الأشهر. وكنا كلما نلتقي خلال سنواتنا الماضيات هنا في الكويت، التي أحب وأعشق، وتلك حكاية أخرى، أو في عواصم الدنيا، أشهد معه واحدًا من عروض الفيلم، وقد أصبح الأشهر بين أفلام العرب، بحصوله على أكثر من سبع جوائز عالمية.
كانت تجمعنا افتتاحية المهرجانات الدولية، يقدمني للناس، النقاد والفنانين والجمهور، وبين حديثه المتقن تنساب عفويًا ضحكة قصيرة، أقول في سري «الآن تذكر مشهد وحكاية من أيام التصوير في أنحاء السودان الفسيح»، وتعودني الأسئلة، كيف كسب محبة الجميع؟ وقتها بين الفنانين، والإنسان السوداني البسيط، والذي تابع تلك السنوات، حكايات تصوير أول فيلم سوداني بتلك القدرات التقنية والفنية الحديثة وقتها، وعن ومن قصة لواحد من أحب أبناء السودان روائي وإنسان، سيدي الطيب صالح.

تجربة فريدة ومميزة
خالد الصديق عليه الرحمة، مُخرجٌ ومُنتجٌ ومُصوِّرٌ، جاء بعد نجاح الفيلم الأول له، «بس يا بحر» بطولة الفنان المبدع الصديق محمد المنصور لتجربة جديدة، ليخرج واحدة من أهم روايات العرب يومها، وأذكر تمامًا يوم كنت أذهب وحدي إلى إحدى الجامعات، أو إلى المراكز العلمية والثقافية في العالم، أتحدّث عنها التجربة، وأقول عن منهجي في التشخيص، كأنني أدركت أن أدائي كان مُغايرًا، يكون هو دومًا إلى جانبي حضورًا أو في خيالاتي، فقد ساعدني كثيرًا، وأنا الممثل الشاب في تلك السنوات، طالب العلم في معهد الموسيقى والمسرح والفنون الشعبية، ذاك كان اسمه ورسمه في الربع الأول من سبعينيات القرن الماضي. 
كنا مُتّفقين يوم نلتقي وإن (طالت الغيبة) أن نُعيد الحوارات، وأرد له ذاك وتلك الوقفات في قاعات الجامعات التي تُدرِّس علوم السينما، تدعوني خاصة في الغرب الأقصى، فيها جامعة جورج تاون في واشنطن، والتي عملت معهم في قسم الفنون الأدائية، أناقش مع طلابها كيف استطعنا أن ننقل فكرة التعايش السلمي بعد النزاعات لمسارات الفنون؟ لكنه الحوار يمتد إلى فيلم «عرس الزين»، لأنها كانت كلية أخرى تتّصل علومها بالفنون، تعرض الفيلم كنموذج للتعاون الدبلوماسي بين الأمم، في منطقة كانت ولا تزال تتجاذبها رياح النزاعات «الشرق الأوسط»، والتي كنت أحكي عنها طرفًا من محاضرتي حول استخدامات الفنون الأدائية في تعزيز السلام.
والجملة التي كانت بيننا مُشتركة، تعجبني، خاصةً إذا ما قالها خالد الصديق، عليه الرحمة، بطريقة نطقه الخاصة لها، وهو يصرّ على أنها الأقرب إلى اللهجة السودانية الدارجة، يقول صادقًا: (غيبتك طالت من البلد)، ذاك كان حوارًا يدور بين شخصيات الطيب صالح في رواية موسم الهجرة إلى الشمال بين (مريود) الراوي، و(محجوب) الشخصية الأهم في مشهد الروايات كلها عند سيدي الطيب صالح، وقد راهن عليها المخرج خالد الصديق كثيرًا في تحول واتّصال المشاهد في فيلمه الكبير «عرس الزين».
 وأفادتني بعدها كثيرًا لمّا أحلت رواية «عرس الزين» إلى مسرحية عرضتها على مسرح السلام الأشهر في القاهرة، في واحدة من دورات مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، وكانت شخوص الفيلم في خاطري، وأظن صادقًا أنّ حوارًا طويلًا دار بيننا في باريس، يومها كانت تحتفي به واحدة من أهم مؤسسات السينما الفرنسية، حيثما يكون تحتفي به الأوساط الثقافية خاصةً باريس، فقد حَصَلَ فيها على جائزة مهرجان الفيلم العربي الأول في أبريل، ومنها وبعدها إلى مهرجان كان السينمائي الدولي في مايو عام 1977م، وبعدها بسنوات وفي لندن التي نتشارك محبتنا لها، حدّثته عن حلمي بعرض مسرحي لـ «عرس الزين»، من إنتاج مسرح البقعة، وقبل أن نفترق، ضحك ضحكته التي ازدانت بها لندن، بجوار الحديقة الأشهر، قبالة الركن الشرقي الشهير هايد بارك، وقال «طبعًا لن تؤدي دور الزين»، ثم صمت، ومشينا خطوات في اتجاه شارع ادجوررود، نسعى وموعدنا المشترك مع سيدي الطيب صالح وأكمل «أقترح عليك أن تؤدي دور الشيخ الحنين». وأكملنا جلستنا تلك في المطعم الأشهر، وسيدي ومحل ودي الرّسّام ملون العصر إبراهيم الصلحي يزين المكان، واكتملت الضحكة، ووافق سيدي الطيب صالح على تحويل الرواية إلى عرض مسرحي، لكنه أضاف (سبحان الرحمن يوم حدّثني خالد الصديق عن رغبته في تحويلها إلى فيلم سينمائي لم نكن بعيدين من هذا المكان، وانظر وأنت تطلبها للمسرح الآن، بعد كل تلك السنوات. مبروك «عرس الزين» المسرحية، ومبروك لك شخصية الشيخ الحنين، فتكون جمعت في التمثيل بين الزين والحنين، مبروك».

في عشق السفر
كان خالد الصديق حاضرًا، وتابع معي من حيث نكون في عواصم الدنيا، نتشابه في عشق السفر والحضور فيها مدائن الفنون، وتحاورنا كثيرًا عنها وتفاصيل العرض المسرحي. 
ويوم العرض كانت هناك في مقدمة المسرح بالقاهرة مجموعة من باقات الورد الجميلة من الأحباب وأحباب الطيب صالح ومبدعي مصر الحبيبة. جمعت بعدها الكروت، عليها الإهداءات والتهاني مع التبريكات، وأسعدتني كلمات
«تمنياتي بالتوفيق والنجاح للزين الذي أصبح بعد عقود الشيخ الحنين... أخوك خالد الصديق».
مع الفرح أدركت أن الود والمحبة بيننا لا تحدهما المسافات، ولم أسأل كيف بعث بالورد وهو بعيدٌ عنها، القاهرة والكويت؟ يومها كان في الشرق الأقصى غير بعيد عن بومباي.
عليه الرحمة، كنا كلما التقينا ننتهز الفرصة لنجدد فيها الحكايات، وأسمع منه تفاصيل ما قبل «عرس الزين» الفيلم، كيف فكر؟ وهو الفيلم الروائي الثاني له يومها، وبعد نجاح الفيلم الكويتي الخليجي العربي العالمي «بس يا بحر».
يوم جاء في زيارته الأولى للخرطوم يبحث فرص الإنتاج الممكنة كانت أحوال السينما فيها متعثرة، فلا تجارب إنتاج متكررة تسمح بعدها بالاستقرار، وتجارب إنتاج الأفلام الوثائقية القصيرة تتعثّر هنا وهناك، والروائية لا فرص لها، دُور العرض تعرض في اليوم فيلمين، وكلها مستوردة بين العربية والهندية والأجنبية، والجمهور يتدافع للمشاهدة بحب وأشواق، وأحلام لمشاهدة شرائط سينمائية وطنية، تلك أحوالها، سينما السودان وقتها ويومها. وخالد الصديق المخرج المنتج المصور ما بين الكويت ولندن. 
ويحوز مُوافقة سيدي الطيب صالح، ويستعد للسفر إلى السودان مع فريق فني كبير. وكانت، ومن العناصر الأساسية المساعدة، أن العلاقات الكويتية- السودانية على مختلف الأصعدة كانت تمشي بالخير بين البلدين سياسيًا واقتصاديًا، والأعمال المشتركة تحف بالأجواء يومها، فوجود وإسهام طيب للراحل رجل الصناعة والاقتصاد الدكتور خليل عثمان وشركاته السودانية والمشتركة الكويتية، فقدم كل الدعم والمُساندة، وكأن على رأسها وفي إداراتها المختلفة، رجال صناعة واقتصاد وفكر، وفي الخاطر الراحل رجل العلم والمعارف والسياسة والاقتصاد مولانا دفع الله الحاج يوسف، عليه الرحمة، وآخرون أسهموا بلا حدود في خلق أفضل الفرص، ليخرج الفيلم بهذا القدر من تحقيق الأهداف المشتركة، والمبادرة الخلاقة لحبيبنا خالد الصديق.

إصرار على النجاح
وفي وزارة الثقافة والإعلام الفنان الكبير، أطال الرحمن في عُمره، الرّسّام العالمي الشيخ إبراهيم الصلحي وكيلاً للوزارة، فمشت الفكرة والتجربة تحفها اهتمامات مشتركة بين البلدين، رغم أن هناك الكثير من غير ذلك، لكنه بإصراره المعلوم، خالد الصديق، أكمل الفكرة المشروع. وأتاح للجميع فرص المشاركة، تقنيًا أشرك عددًا من صناع الأفلام السينمائية بخبراتهم في تفاصيل متعددة، كتابة السيناريو والحوار، وإدارة الإنتاج، والعمل التقني، فشكّلوا فريقًا فنيًا وتقنيًا متعاونًا ومتفاهمًا، وجاءت النتائج لصالح أول فيلم عربي (كويتي - سوداني) يجد قبولًا إقليميًا ودوليًا، ويعرض في المهرجانات العالمية. 
ومشيت يومها على السجادة الحمراء أدخل قصر المهرجان في مدينة كان الفرنسية أشاهد النجوم الكبار مثل صوفيا لورين وغيرها، أسمع بهم، وكنت أنتظر الساعات أمام دُور العرض في مدينتي أم درمان لحضور أفلامهم، وأمشي معهم الآن في أهم مهرجانات السينما العالمية، كل ذلك ما كان ممكنًا من غير مبادرته المبدعة لإنتاج وإخراج فيلم «عرس الزين»، جمع أهل السودان حوله، ونظّم تجارب الأداء لاختيار الممثلين لأداء الشخصيات في فيلمه الطويل، واختار تقنية هي الأحدث وقتها في السينما العربية، بالإضافة إلى ألوان غاية الدقة (تكنكلر)، جرب ولأول مرة تقنية «تكني اسكوب»، تتّسع الشاشة لتستوعب حلمه في فيلم يعبر بصدق عن واقع شعب، والمشاهد التي سافر لها مرتين إلى شمال السودان، مرة بالبر عبر الصحراء، وإلى جوار نهر النيل الخالد وبين المدن، حتى توافق مع فكرته الأساسية، ثم سافر للتصوير وعُدنا بالطائرة (التاكسى الجوي)، الطائرة صغيرة جدًا، لنمضي فيها السماء خوفًا ومحبةً، ونُصوِّر أجمل المشاهد بين (الزين والشيخ الحنين) في الصحراء، وتلك حكاية أخرى، ويعود ويبني قرية بكل تفاصيلها إلى جوار النيل الأبيض جنوب الخرطوم، نسكنها لأيام ونكمل التصوير، ونعود نتجوّل بين مناطق تصوير عديدة، وألمح فيها شخصيتي، تبدو أكثر وضوحًا، ويكتمل الفيلم. وأنتظر والآخرون عرضه، ويطول الوقت عندي حبًا واشتياقًا لتجربتي الأهم.
ويوم جاء للخرطوم يحمل الفيلم العالمي، والتعبير ليس من عندي، بل من عند كبار نقّاد السينما العالمية، احتفى به السودان الدولة والناس، وصارت دور العرض تعرض الفيلم ثلاث حفلات في اليوم، على غير العادة. وفي كل أنحاء السودان، ومشيت بعدها مُمثلًا بين الناس في أنحاء الوطن، ثم عبرت بالفيلم إلى مدن وفضاءات أوسع من باريس إلى موسكو وما بينهما، ثم جئتها، الكويت، وعرفتها أول مرة المدينة الأحب والنَّاس الأحباب، أزورها مرارًا وتكرارًا، وبنيت جسورًا من المعارف والعلوم، قدّموني كثيرًا، وشاركت في الفعاليات، علمية وثقافية وفنية، وقدّمت من عندها أوراقي، وفي كل مرة لا تكتمل لي زيارة إلا ونلتقي، أحكي ويسمع، ويحكي وأسعد بها حكايات. 
وفي زيارتي الأخيرة مُشاركًا في واحدٍ من أهم المهرجانات العربية للمسرح، أخذوني للتلفزيون على الهواء مُباشرةً، سهرة طيبة، وكان هو على الهاتف، وسمعت الضحكة الرّنّانة، والتقينا، ووعدنا بلقاء آخر وآخر، كلما نلتقي نُجدِّد المواعيد، ثم أخلف هو أول موعد له معي، ذهب إلى الرحمة الواسعة، بعد أن ترك بين الناس علمًا نافعًا، وفكرًا مستنيرًا.
خالد الصديق عرّف الناس، كل الناس، وفي مُدن كُبرى بالعالم، أنّ المُبدعين يُمكن أن يكملوا المعارف والعلوم، ويبنوا الجسور مودّة وفنًا راقيًا. وعبر بالقدر المستطاع عن أشواق الناس للحياة بحسنها مع البهاء، من أجل رفاه الإنسان ■

المخرج خالد الصديق يرفع جائزة أفضل فيلم روائي «عرس الزين» في المهرجان السينمائي العالمي بالولايات المتحدة الأمريكية