الياقوتة زهير شفيق رومية

الياقوتة

قصة مترجمة
تأليف: كورادو ألفارو
صدرت الصحف اليومية بواحد من عناوين الأخبار، تلك التي تجعل مدينة بأكملها في حالة من الإشاعات المثيرة طيلة يوم كامل، ثم تلف أخيرا أصقاع العالم كافة. فقد اختفت ياقوتة كبيرة كبندقة تحمل اسما معروفا وقيل بأنها باهظة الثمن. كان يحمل هذه الجوهرة أمير هندي كنوع من الزينة في زيارة له إلى أمريكا الشمالية وقد أدرك ضياعها فجأة بعد رحلة قام بها في سيارة أجرة أقلته إلى فندق في الضاحية تحت اسم مستعار كي يتجنب انتباه الشرطة وحرسه الخاص.

عُبِّئت فرقة الطوارئ واستيقظت المدينة كلها على علم بالحادث، وحتى منتصف النهار تعلق مئات البشر بأمل العثور على الحجر الشهير. كانت إحدى موجات التفاؤل والإثارة تلك التي خيمت على المدينة تشبه نوعا من الشعور الذي تلحظه عندما تنعش ثروة فرد واحد آمال الآخرين. لم يكن الأمير على استعداد لتقديم المعلومات عن حالته للشرطة، لكنه نفى بأي شكل أن تكون السيدة المرافقة له مسئولة عن ضياعها، لذلك لم يحاولوا البحث عنها. وجاء سائق السيارة ليبين أنه أقل الهندي ذا العمامة النفيسة وأنزله مع السيدة أمام فندق في الضاحية. كانت السيدة أوربية الملامح والشيء الوحيد الذي يميزها جوهرة رائعة بحجم حبة البازلاء علقتها في فتحة أنفها اليسرى وفقا لعادة طبقة من الهنود الأثرياء. هذه المعلومات صرفت انتباه الشعب لوهلة عن الياقوتة الضائعة وأثارت فضولهم أكثر. وبعد أن قام السائق بفحص دقيق للعربة من الداخل، أخذ يفكر متذكرا المسافرين الذين استأجروا عربته في الساعات الأولى من الصباح الذي نحن بصدده: كانوا رجل أعمال وأجنبيا أوصله إلى المرفأ ليرحل إلى أوربا إضافة إلى امرأة. وكان الأجنبي الإيطالي الملامح قد خرج من أحد البيوت التي يسكنها المهاجرون على شكل جالية. وكان يرتدي سروالا واسع النهايتين كما هو شائع بين المهاجرين وحذاء سميكا خشنا من النوع الذي نجده هذه الأيام بين أبناء تلك الطبقة الاجتماعية وقبعة قاسية فوق وجه حليق ناعم مليء بالتجعدات. كانت أمتعته تلمع داخل صندوق فولاذي وحقيبة ثقيلة ربطت بحبل متين. لقد غادر في ذلك اليوم نفسه، ولكن يلغى أي شك نسلطه عليه عندما ندرك أنه كان يتصرف وكأنه يركب سيارة أجرة للمرة الأولى في حياته إذ لم يغلق بابها بشكل صحيح، وظل طوال الوقت يتشبث بالنافذة الأمامية.. ربما ليتجنب القذف فجأة إلى الوراء على الطريق، كما كان يحدق في الشوارع وكأنه يغادر المدينة للأبد. ظل السائق منتبها على الرجل الذي استقل سيارة الأجرة وراء الأمير مباشرة عند مغادرته الفندق في الضاحية وطلب من السائق أن يأخذه إلى حي العمال الإيطاليين. لقد بُحث عن هذا الرجل عبثا كما أنه لم يستجب للمكافأة الكبيرة التي عرضتها الصحف مما يؤكد أنه لم يكن هو الذي لمح الجوهرة الشهيرة. ومع كل ذلك، فقد أمل الجميع أن يظهر الحجر الشهير للعيان في يوم من الأيام لسهولة تمييزه وشهرته.

خلال هذا الوقت، كان الرجل المهاجر في طريقه إلى مدينة ريفية جنوب إيطاليا بعد غياب دام خمسة أعوام عنها وكانت مدينتها تجهل كل هذه الضجة وقد أخذ معه أكثر المجموعات غرابة من النثريات بالنسبة لمهاجر. كانت ثمة حقيبة صنعت من جلد اصطناعي بدا طبيعيا وهي تحوي معطفه الأزرق مكويا ومغسولا ودزينة من أقلام الحبر كان ينوي أن يبيعها إلى أبناء بلدته ناسيا أن أغلبيتهم ليسوا أكثر من رعاة ولا يوجد أكثر من نصف دزينة منهم يستطيعون أن يمسكوا القلم إلى الورقة. بالإضافة إلى ذلك، كانت معه بعض مستلزمات الطاولة متوجة بشعار، وزوج من مقصات الشعر كان يستعملهما مع زملائه العمال وشيء معدني وظيفته محيرة إذ إن له شكلا كالمسدس لكنه لا يطلق النار، واثنا عشر مربعا من قماش أمريكي وبعض الحلي التي ستسر زوجته وابنه وأصدقاءه. كان الجزء الثقيل من الحقيبة يضم الصندوق الفولاذي المتين ذا القفل الذي يعمل بتركيب الأحرف الستة للاسم "أنيّنا". وكان معه أيضا ألف دولار نقدا سيرجع منها ثلاثمائة إلى أولئك الذين استعارها منهم من أجل الرحلة. وكان يحمل في صدرته قطعة من الكريستال الأحمر متعددة الوجوه بحجم الجوزة وجدها مصادفة وراء مقعد السيارة التي أقلته إلى المرفأ دون أن يكون لديه أيه فكرة عنها. لقد احتفظ بها كتعويذة حظ للمستقبل وربما يعلقها في سلسلة الساعة كقلادة حيث بدت غريبة لا تحمل ثقبا مجوفا، لذا لا يمكن أن تكون من تلك الأحجار الكبيرة التي تضعها سيدات المدينة في عقودهن.

إن الأشياء المختلفة التي يلتقطها المرء قبل أن يغادر بلدا أجنبيا تكون مؤهلة لتكتسب قيمة تذكارية غير عادية حيث تمنحه دلالة منذرة للمسافة والحنين إلى الوطن. إن ما أحس به مهاجرنا هو هذا الشعور تماما بالنسبة لقطعة الكريستال الدافئة الملمس كشيء شفاف والصافية كالسكر النبات.

لقد أسس تجارة صغيرة بكل هذه المكتسبات حيث ثبت الخزنة الحديدية على الجدار ورتب الطاولة لأجل المعاملات ووضع أقلام الحبر في علبة وعرض مربعات القماش الأمريكي مرسوما عليها تمثال الحرية وصورا لصانعي استقلال أمريكا. لقد جنى مجموعته بصبر منذ خمس سنوات طوال بانتظار رجوعه النهائي وقد اختار ما يعتبر بدعة بالنسبة لشعبه رغم أن ما أحضره هو من البضائع المستعملة التي يعلم الله من أين مصدرها.

وهكذا، فإن الذي بدأ حياته كعامل يومي أصبح الآن تاجر سلع عديدة. إن الخزنة الحديدية هي التي وضعته في ذلك التيار من التفكير، فقد شعر بالغنى لأن كل النقود التي بحوزته هي عملة صعبة وستتحول إلى مبلغ كبير عندما يستبدلها. إن الحسابات العقلية التي تتعلق بهذا الأمر استحوذت على تفكيره. طوال الوقت. كان يشعر بفرح طفولي عند كل مرة تلمس أصابعه البلورة الحمراء في جيبه وأصبح ينظر إليها كنوع من الطلاسم والتعاويذ بل كنوع من تلك الأشياء العديمة النفع والتي نتعلق بها طوال حياتنا ولا تكون لنا القدرة العقلية على التخلص منها بحيث تصير جزءا من أنفسنا وحتى من متاع العائلة الذي يورث عبر الأجيال. إن الأشياء النفيسة التي نخبؤها ونحرسها تختفي بينما الأشياء من النوع الذي أشرنا إليه لا تضيع أبدا وترجع إليها عقولنا بين فترة وأخرى، فبعد بضعة أيام مثلا، ذكرت البلورة مهاجرنا باليوم الذي ركب فيه متن السفينة عائدا إلى وطنه وبالسيارة التي أقلته وبالشوارع التي بدت كأنها تتراكم كجزء من مشهد عند نهاية مسرحية ما.

أسس دكانه في الجزء الأعلى للمدينة الريفية التي يسكنها الفلاحون والرعاة. وبعد أسبوعين من وصوله، رتب أرضية ترابية لكوخ فلاحي يحوي منضدة طويلة ورفوفا وضع عليها رزما من عجينة الطحين وأقمشة قطنية زرقاء لربات البيوت، وفي إحدى زوايا الدكان أسند برميلا خشبيا على زوج من المساند وآنية خزفية ملأى بالزيت. وكانت الخزنة الحديدية تفعمه بشعور عظيم من الفخار عندما كان يفتحها أمام الزبائن لاحتوائها على دفتر الحسابات والملاحظات التي تضم البضائع التي بيعت بالدين والتي ستدفع بعد الموسم أو البازار. وأخذ عمله يبدو تدريجيا كأي عمل آخر واكتسب طعما خاصا حيث قامت زوجته التي لا تعرف الكتابة بوضع إشارات على الجدار تدل على البضائع التي تباع بالدين، كما أن ابنه الشاب الذي يداوم في المدرسة بدأ يعرف كتابة أسماء الزبائن في السجل وكان أحيانا يأخذ دورا في الدكان ويديره بخبرة تامة بعد ظهيرة الأيام الحارة حينما تتوقف كل الأعمال التجارية فيما عدا أعمال المرطبات المثلجة للرجال الذين يستعيدون حيويتهم من قيلولة ما بعد الظهر.

وشيئا فشيئا، أصبح حذاء زوجته الأمريكي الضيق يحوي كثيرا من التجعدات وكانت قد اكتسبت روحا موسوسة كزوجة صاحب دكان وانتهى التمويل بالمواد الجديدة التي أحضرها زوجها ولم تبق سوى القبعة القاسية في الدولاب وكأنها جديدة. أما مربعات القماش الأمريكي فقد وزعت كهدايا على الزبائن المهمين بينما لم تجد أقلام الحبر من يطلبها. إن صاحب الدكان الذي كان طفلا في أعماقه غالبا ما تخيل أن رءوس الأقلام من الذهب الخالص وكان يتعلق بها كما يتعلق غلام صغير بالورقة الفضية التي تلف قطعة الشوكولاتة. كذلك، تمسك بصحيفة قديمة طبعت بالإنجليزية ورفض أن يتخلى عنها حتى عندما احتاجها للف بالورق وكان يتفحصها أحيانا بدقة فتذكره رسوم الإعلانات بالناس الذين كانوا يدخنون لفائف ذات رءوس ذهبية وبأولاد الشوارع وبالفنوغرافات، بل بكل الحياة التي رآها في المناطق الرئيسية أثناء المناسبات النادرة لزياراته هناك. أما بالنسبة لقطعة الكريستال، فقد تذكرها يوما وأهداها لابنه الذي كان يحتفل بعيد ميلاده مع أصدقائه. في ذلك الحين، لعب الأولاد لعبة تقوم على هدم وفتح قلاع صنعت من البندق وذلك برميها ببندقة أكثر ثقلا فقد جرت العادة على اختيار بندقة ضخمة وثقبها ثم إخراج نواتها بعناية ومن بعد حشوها بكرات رصاصية صغيرة فتكون القذيفة البلورية ثقيلة بما يكفي لإصابة الهدف بينما كان صبية آخرون يستعملون كرة زجاجية من ذلك النوع المقتطع من زجاجات شراب الليمون الكروية. أما ابن صاحب الدكان فقد ادعى بأن كرته أكثر جمالا لأنها حمراء من أمريكا ويعزها كما يفعل الأولاد الذين لا يضيعون أشياء من هذا النوع أبدا. وعندما تأمل والده هذا الفضول الذي أصبح ألعوبة ولده فإنه كان يفكر غالبا بالأوهام التي علل النفس بها يوما من الأيام التي سافر بها حول العالم الذي بدا مليئا بأشياء ثمينة كانت ضائعة ولا يجدها سوى المحظوظين. لذلك كان دوما يشعر بأصابعه تحت فرشات النوم في الزوارق أو خلف البطانيات الجلدية في المركبات والحافلات وحيثما حدث له أن يكون. لكنه لم يكن يلاقي شيئا أبدا. أجل: لقد تذكر مناسبة واحدة فقط حيث وجد خمسة دولارات في الشارع وكانت السماء تمطر في ذلك اليوم.

 

زهير شفيق رومية

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات