حكاية الطربوش في مصر

حكاية الطربوش في مصر

أثناء تجوالي في حي الجمالية الشعبي بالقاهرة، لفت انتباهي مجموعة من السياح الخارجين من محل لبيع الطرابيش في شارع الغورية وهم يرتدون طرابيش حمر. أعجبتني تشكيلة الطرابيش فذهبت الي المحل لأسأل عن أسعارها، وإذ بي أمام آلة نحاسية ضخمة وقد تحلق حولها عدد من العمال. نسيت التشكيلة واستبد بي الفضول لمعرفة طبيعة هذه الآلة العجيبة، فأومأ أحد العمال برأسه إلى رجل منكبّ على رسم ما يبدو أنه مسودة «سكتش»  لطربوش ينوي تفصيله، استقبلني الرجل بترحاب بالغ وعرفني بنفسه «عماد أحمد الطرابيشي»، للوهلة الأولى اعتقدت أنه ابن صاحب المحل أحمد محمد الطرابيشي الذي تزيّن اسمه يافطة خضراء تعتلي واجهة المحل، ليتضح لي لاحقًا أن هذا الرجل ما هو إلا أحد أحفاد الحاج أحمد الذي ساهم في إنشاء صناعة الطرابيش في مصر منذ نحو قرنين من الزمان إبان عهد الوالي إبراهيم باشا الابن الأكبر لمحمد علي باشا مؤسس دولة مصر الحديثة.

 

الطربوش هو غطاء للرأس عادة ما يكون أحمر اللون، نصف مخروطي الشكل، تتدلى منه خيوط سوداء. ويصنع من الجوخ أو الصوف ويلبس بقالب مخروطي الشكل مصنوع من القش أو الخوص. وبعد أن يتم أخذ القياسات، التي يراعى فيها حجم الرأس وتقاسيم الوجه، يتم وضع الخامة على آلة الكي ثم يتم تشكيل تصميم الطربوش بقوالب نحاسية جاهزة ويضاف إليه الصمغ ويكبس تحت درجة حرارة عالية، ومن ثم تبطينه بقطعة من القماش الأحمر، وبعد ذلك يوضع الزر الذي تتدلى منه الخيوط السوداء.

كلمة فارسية
ويتفق أغلب المؤرخين على أن كلمة طربوش هي كلمة فارسية محرفة مشتقة من كلمة «سر بوش» وتعنى «غطاء الرأس». أما عن المكان الذي جاء منه هذا الغطاء، فيشير البعض إلى منطقة البلقان الواقعة جنوب شرق أوربا، في حين يرى آخرون أنه جاء من مدينة فاس المغربية، إذ تشير بعض المصادر التركية إلى أن القائد التركي خسرو باشا أعجب بشكله عندما شاهده في المغرب وأمر بحارته بارتدائه، ويدللون على رأيهم بالقول إن الكلمة التركية المرادفة للطربوش هي كلمة فاس، والتي تعود للمدينة المغربية التي اشتهرت بصناعته.

هوية عثمانية
على أية حال، العالم الإسلامي عرف الطربوش رسميًا من خلال الدولة العثمانية عندما سنّ السلطان محمود الثاني في عام 1829 قانونًا منع بموجبه موظفي الدولة العثمانية من ارتداء العمامة التي كانت آنذاك ترمز إلى مكانة الفرد الاجتماعية وديانته، إذ كان لكل عمامة شكل محدد ولون معين يميز كل فئة عن بقية الفئات الأخرى التي تتكون منها الامبراطورية العثمانية المترامية الأطراف والمتعددة الأعراق والديانات. كان السلطان محمود الثاني الذي اشتهر بجهوده الإصلاحية يرمي إلى عصرنة الدولة وتحديثها وخلق هوية عثمانية موحدة لجميع رعاياها. ومن مفارقات القدر أن يأتي بعد نحو مائة عام السيد مصطفى كمال أتاتورك ليلغي الخلافة العثمانية ويمنع ارتداء الطربوش بنفس المبررات!

الوجاء وقصة عائلة الطرابيشي
كان الوالي العثماني محمد علي باشا يتولى حكم مصر عندما أصدر السلطان محمود الثاني قانون استبدال العمامة بالطربوش، وفي عهد ابنه الأكبر إبراهيم، أي منذ نحو 200 عام حضر رجل تركي إلى مصر ومعه هذه الآلة النحاسية وأقام مشغلاً لصناعة الطرابيش. 
يقول السيد الطرابيشي «إن جده الأكبر تتلمذ على يد هذا الأسطى التركي وأتقن الصنعة وأجادها، وعندما كبر الأسطى وأصبح كهلاً ولم يعد قادرًا على العمل اشترى جد جده المحل منه بما فيه، وبدأت منذ ذلك الوقت  قصة عائلة الطرابيشي».
اشتهر المحل وذاع صيته وأصبح مثالاً للجودة في الصناعة، إلى درجة أنه أصبح فيما بعد معتمدًا لدى الديوان الملكي في عصر الملك فاروق، ويعزو السيد الطرابيشي ذلك إلى عدة أسباب من بينها المهارة والإخلاص والانضباط وإلى الوجاء! والوجاء هو الاسم الحركي للآلة النحاسية الضخمة الرابضة في قلب المحل. أما سبب هذه التسمية فيعترف بأنه لا يعرف لها جوابًا...!
يقول السيد الطرابيشي إن صناعة الطرابيش يجب أن تكون يدوية، وأن القوالب النحاسية المستخدمة هي الأنسب في الصناعة. ويذكر أنه حاول استخدام مواد أخرى كالألمونيوم وآلات أخرى حديثة كآلات الكي والمكابس لكن باءت جميع تلك التجارب بالفشل.
ويكشف السيد الطرابيشي عن وجود ارتباط عاطفي يربطه وأفراد عائلته «بالوجاء»، إذ يقول: «أنا بعشق الآلة دي، ومش ممكن أستغني عنها أبدًا»، ويضيف مازحًا: «دي بتكمل الديكور»!

أزمة ديبلوماسية
ارتبط الطربوش في عدد من البلدان العربية بالنضال ضد الاستعمار الغربي، إذ تم احتلالها بعضها في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. واشتدت الصراعات بين التيارات الفكرية والسياسية التي رأي بعضها أن الطربوش رمز للتخلف والرجعية، في حين أن البعض الآخر رأى في القبعة الغربية أو «البرنيطة» محاولة للانسلاخ عن الهوية الوطنية والإسلامية. وفي هذه الأجواء ظهرت بمصر حركة تدعى جمعية مصر الفتاة برئاسة الناشط السياسي آنذاك أحمد حسين الذي قاد حملة وطنية بدعم من حكومة صدقي باشا لجمع التبرعات لإنشاء مصنع مصري لصناعة الطرابيش وتحقق ذلك عام 1933.
ولعل ما ساهم في إنجاح حملة التبرعات الأزمة الدبلوماسية التي وقعت بين مصر وتركيا قبل ذلك بعام واحد وعرفت باسم حادثة الطربوش، حيث دعا أتاتورك أعضاء السلك الدبلوماسي إلى حفل بمناسبة اليوم الوطني لتركيا وحضره السفير المصري آنذاك عبدالملك حمزة بك مرتديًا الطربوش. كان أتاتورك يخوض حربًا لاهوادة فيها ضد كل ما يمت إلى التراث العثماني بصلة وبخاصة الطربوش، إذ أصدر قانونًا عام 1925 يجرم فيه لبس الطربوش فوق الأراضي التركية. لكن من جهة أخرى كان السفير المصري معينًا من قبل حكومة صدقي باشا التي رأت في الطربوش رمزًا للهوية المصرية ورعت الحملة الوطنية من أجل إنشاء مصنع وطني لصناعة الطرابيش. وكان مقدرًا أن يتصادم الطرفان في تلك الحفل، إذ طلب أتاتورك من السفير المصري خلع الطربوش وهو ما اعتبر حينها إهانه لكرامة المصريين، وردت مصر بالتهديد بسحب السفير وقطع العلاقات الدبلوماسية، الأمر الذي جعل أتاتورك يتراجع ويطلب من السفير المصري شخصيًا أن يرتدي الطربوش في جميع المناسبات التركية الرسمية المقبلة.
واستمر لبس الطربوش في مصر حتى قيام ثورة يوليو عام 1952 بقيادة جمال عبدالناصر، الذي شن بدوره حربًا على الطربوش باعتباره رمزًا للإقطاع والرجعية.

 الشعراوي... ومريدوه
في الوقت الحالي اقتصر لبس الطربوش على مشايخ الأزهر وطلابه، وكاد أن ينقرض نهائيًا في بعض الفترات لولا أن بعض المشايخ أعادوا إحياءه بالالتزام بلبسه وأصبح هوية خاصة بهم.
يذكر السيد الطرابيشي أن هناك إقبالاً متزايدًا على الطرابيش من مريدي بعض المشايخ المعروفين، ويشير بشكل خاص إلى مريدي الراحل الشيخ محمد متولي الشعراوي، ثم يضيف باسمًا بصوت خافت «دول عاملين لي قلق». ويمضي موضحًا أن تفصيل الطربوش يجب أن يتناسب مع حجم الرأس وتقاسيم الوجه، في حين أن مريدي الشيخ الشعراوي يصرّون على طلب نفس مقاسات طربوش الشيخ الراحل لشدة حبهم وتعلقهم به.
وهناك بعض الطلبات الخاصة والطريفة ممن يؤمنون بتلبّس الجن بالإنسان، إذ يأتي بعضهم ويطلب منه طرابيش ملونة لاستخدامها في طقوس طرد الجن. في حين أن بعض سكان الدول الأفريقية الناطقة باللغة الفرنسية غالبًا ما يطلبون طرابيش زرقاء لتأثرهم بالثقافة الفرانكفونية وحب الفرنسيين للون الأزرق.
ويتزايد طلب الطرابيش من قبل منتجي الأعمال الدرامية من داخل مصر وخارجها، حيث يقول السيد الطرابيشي إنه تعاون مع منتجي مسلسل «باب الحارة» السوري، ومؤخرًا مع منتجي مسلسل «موسى» للفنان محمد رمضان. ويتخذ الطربوش كلباس فولكلوري من قبل بعض الفرق الموسيقية الشعبية. وخلال شهر رمضان يرتديه بعض العاملين في المطاعم والخيم الرمضانية لإضفاء جو تراثي احتفاء بالشهر الفضيل.
كما أن هناك إقبالاً كبيرًا على شرائه من قبل السياح الأجانب. وقد يرتديه الشباب والأطفال من الجيل الحالي كنوع من التسلية. أما بالنسبة لأسعار الطربوش فتتراوح بين دولار أمريكي واحد و30 دولارًا حسب التصميم.

الطربوش... إلى أين؟ 
الطربوش الذي انتشر إبان العصر العثماني على مساحات شاسعه تبلغ ملايين الكيلومترات المربعة تقلصت مساحة تواجده الرسمي بشكل رهيب وبخاصة في مصر، إذ لا تتعدى جدران الأزهر الشريف وكل ما يتصل به، فهل سيحافظ الطربوش على هذه المساحة، أم إنه سيخسرها ويصبح مجرد رمز تذكاري لمرحلة بتاريخ هذه المنطقة من العالم؟! ■