النار... فاكهة الشتاء

النار... فاكهة الشتاء

يقولون «النار فاكهة الشتاء»، ولا يعرف حقيقة هذا القول إلا من تدفأ بنار الحطب، وقريب منها مدفأة الكاز أو السولار، وما عداها لا شيء؛ مجرد حرارة لا طعم لها، ولا حياة. نار الحطب ليست حرارة فقط، أو للدفء فحسب؛ بل حكاية، وجزء من شتاء الناس، يفضلها البعض رغم توافر مدافئ الغاز والكهرباء والتدفئة المركزية.
ما زلت أتذكر بحنين شتاءات الطفولة، حين كنا نتحلق حول نار الحطب متراصين لا يتقدم أحد على أحد، فحق الدفء متساوٍ للجميع، وإذا تقدم أحد تعرض للزجر والجذب ليعود مكانه، وإذا انضم أحد من الجيران أو الأقارب اتسعت الدائرة، فلا يوجد حول نار الحطب طبقات أو محظوظ وقليل الحظ!
الجميل في نار الحطب تلك الألفة التي تبدعها، وقد كنت أشعر بذلك، وما زال هذا الشعور يعاودني رغم أني هجرتها مرغمًا؛ فللمدينة شروطها، وللأقفاص السكنية محاذيرها. لم نكن نتدفأ فقط على نار الحطب، بل نتحدث، ويروي لنا كبار السن الحكايات مثل حكاية الشاطر حسن وتغريبة بني هلال وأبو زيد الهلالي ونص نصيص، حيث جمال السرد، والخيال المجنح، ومكارم الأخلاق.
وعلى نار الحطب، كان الطبخ، وغلي الشاي، وتجفيف الملابس، وتسخين الماء، وفي النار الهامدة، كنا نشوي البيض والبطاطا، وندفن ذرة البوشار التي سرعان ما تتطاير حاملة معها أحيانًا جمرًا صغيرًا، يلسع يدًا، أو يثقب قميصًا، أو يطلق صرخة محذرة، أو قفزة مبتعدة!
نار الحطب تأنف أن تشتعل بشيء ليس من جنسها كالكاز مثلًا، فهذا يقلل من هيبتها، لذا فإشعال النار دون اللجوء إلى عوامل مساعدة فن ومهارة، وإشعالها في حفرة يختلف عنه في كانون أو صفيحة معدنية، وهنا تظهر أهمية الخبرة وسعة الحيلة وفنون الإشعال. وإشعال النار بداية لحكاية طويلة، حيث تبدأ حياة من نوع مختلف؛ حياة مليئة بالحركة والصوت والرائحة؛ يتمطى الدخان، فتمطر العيون لهفة، وتتضوع الرائحة عندما يبدأ العناق بين اللهب والحطب، فتنطلق أصوات الهيام، وشرارات الغرام، ويتلوى الحطب ولهًا، وسرعان ما يتكسر ويلقي بنفسه في نار العشق، ليذوب في المحبوب، ويتحول إلى معشوق لمحب جديد ينتظر دوره ليقع في الأحضان!
موسيقى نار الحطب، أعذب صوت يُسمع في الشتاء، وحركة الحطب وتلويه في أحضان المحبوب أجمل من رقص شرقي في ليلة أنس وطرب، وتراقص اللهب سحر، وانتشار الدخان رايات فرح، والأريج عطر سماوي، والجمر المتوهج جواهر نفيسة، وتحلق المستدفئين حول النار لوحة صوفية مترعة بالوجد والتوحد والاندماج.
ولأن «النار فاكهة الشتاء»، فإن نار الحطب ما زالت إلى اليوم فاكهة كثير من الناس، بل إن موقد النار أصبح من علامات الرفاهية والزينة وجزءًا من الديكور في بيوت الأغنياء، حيث تشتعل النار ويرتفع لهبها في زاوية من صالة الجلوس، لكنها تفتقد الحميمية والجلسة الأسرية الدافئة والحكايات الجميلة! ■