هل تختار البشرية الأرض أم تخسرها؟

هل تختار البشرية الأرض أم تخسرها؟

  في إطار «مشروع اختيار الأرض»، وفي سياق الحديث عن حال كوكبنا ووطننا الوحيد ومستقبله، يطرح الناشط البيئي الكاتب والمتحدث الدولي صاحب الرؤية الاجتماعية، الأمريكي دوين إلغين، 3 سيناريوهات لنصف القرن القادم عبر رؤية نظم كلية، تمثّل طقوسًا محتملة لتخطّي الانهيار إلى مجتمع كوكبي يسعى إلى الشفاء والتجدد: سيناريو السقوط والانهيار الذي يأتي على أثر استمرار ممارسات الإنسان المدمّرة للبيئة؛ وسيناريو السيطرة الذي ترسمه سلطات تجبر الناس على الالتزام قسرًا لحماية الأرض؛ وسيناريو ثالث ينبثق من وعي الناس بضرورة تغيُّر أساليب حيواتهم من أجل الحفاظ على الموارد والمساهمة في إحداث نقلة عظيمة وحضارة كوكبية ناضجة غير مسبوقة، وسيتوقف ما سيحدث في النهاية على قراراتنا.

 

  لكي نتخذ قرارات سليمة، يدعونا إلغين - في كتابه «اختيار الأرض» - المتاح على موقع المشروع https://choosingearth.org/book/ - إلى توسيع رؤيتنا، وتعميقها، ومدها، حيث يمثّل اتساع الرؤية النظر إلى أبعد من العامل الأحادي - كارتفاع درجة حرارة الأرض - وفحص اتجاهات متعددة كالعدالة المناخية، والإفراط في الاستهلاك، والتنوع الحيوي، وسوى ذلك.
 بينما تمضي الرؤية العميقة أسفل الاتجاهات الخارجية - كالتغير المناخي - لتبحث في الواقع النفسي، وواقع القيم والثقافة والوعي والنماذج، إضافة إلى جوانب غير مرئية، ونمو باطني غير ظاهر. أما النظرة البعيدة المدى في المستقبل فتتجاوز النظرة الخمسية أو العشرية القادمة إلى سنوات مديدة، وذلك لإيقاظ الاهتمام العميق بسلامة أجيال المستقبل.

مسيرة حافلة 
  تربّى دوين إلغين في مزرعة، وعاش خبرات صوفية وهو طفل، ومنذ مطلع السبعينيات كرّس حياته للعمل من أجل سلامة العالم وتقصّي حال الأرض. وبعد عديد من المواجهات مع جهات رسمية قدّم لها تقاريره وتوصياته من أجل تحقيق الاستدامة، وراح يؤلف كتبًا لنشر الوعي بقضية التغير المناخي، ويدعو الناس إلى تبني أساليب حياة مستدامة، كما فعل في «الكون الحي»، و«الوعد القادم»، و«إيقاظ الأرض»، و«البساطة التطوعية» - الذي كان من بين الكتب الأكثر مبيعًا حول العيش ببساطة وتوازن، بعيدًا عن الفقر- حيث ناصر الحياة المتميزة بالتعاطف والوعي الإيكولوجي، والاستهلاك المسؤول، والتطور الباطني. وأكد إمكانية تغيير الناس لأنفسهم في عملية تحرُّك العالم نحو الازدهار المستدام. وإمكانية العودة إلى الأرض باختيارات واعية لطرق مستدامة للعيش عليها، منبهًا إيانا: «إما أن نختارها أو نخسرها». 
نال إلغين - الحاصل على ماجستير إدارة الأعمال من كلية وارتون؛ وماجستير تاريخ الاقتصاد من جامعة بنسلفانيا، ودكتوراه فخرية من معهد كاليفورنيا للدراسات المتكاملة في سان فرانسيسكو- جائزة Goi Peace الدولية باليابان عام 2006، لإسهاماته في «الرؤية الكوكبية، والوعي، وأسلوب الحياة» المشجّع للثقافة المستدامة والروحية. وشارك في تأسيس منظمات غير هادفة للربح تعمل في مجال محاسبية وسائل الإعلام، والتمكين المجتمعي، إضافة إلى «حركة صوت المجتمع». ومن مشروعاته: «حكايات النقلة العظيمة»، الذي يقدّم حكايات ثقافية جديدة للخيال الجمعي، مما يساعد على تشكيل مستقبل مستدام وعميق المعنى- https://greattransitionstories.org/- ، ونجح في تشكيل تحالفات بين منظمات الأعمال ووسائل الأعمال والجامعات للعمل في هذا الإطار.
ودعمًا لرسالته، يدير إلغين - مع زوجته كولين، الشغوفة بالتأمل والتعليم التحويلي وإعداد الأفلام الوثاقية؛ وفريق من الخبراء - موقع مشروع اختيار الأرض الإلكتروني، بهدف تسريع فهم شدة التحديات التي تواجه البشرية، وسرعتها، وعمقها، ورؤية الفرص المبدعة المتاحة للتحول والنقلة المتوقعة، حيث الوعي والنضج الجمعي. وذلك من خلال توفير مصادر وأدوات تثقيفية لعمل المجموعات كورشات العمل، والفعاليات، والأفلام، والكتب.

البشرية مراهقة  
 استلهم إلغين بعض ما جاء في كتابه «اختيار الأرض» من رحلاته المتعددة حول العالم متحدثًا دوليًّا على مدى عقدين، حيث راح يسأل كثيرين عن المرحلة العمرية التي تعيشها البشرية. وجمع عديدًا من الإجابات المتأملة في سلوك البشرية لغالبية تمثّل 75 بالمئة ممن قابلهم من طلاب وخبراء وروّاد أعمال، وموظفين ومتقاعدين مفادها أن البشرية تعيش المراهقة، بدليل ثورتها ضد الطبيعية، ومحاولتها الاستقلال، دون تقدير صائب للتبعات، والسعي وراء المُتع بأي ثمن. 
وأكدوا أن من علامات تخطي المراهقة إلى البلوغ تحمّل مسؤولية الآخرين ووضعهم قبل الذات، كما يفعل الآباء الناضجون والأمهات؛ إضافة إلى الالتزام على المدى البعيد؛ والاستهلاك بمسؤولية. 
ومثلما عاش ويعيش كل شخص هذه الفترة الانتقالية الحرجة، يمكن للمجتمع الكوكبي أن يعبرها أيضًا، وربما تساعد الأزمة المناخية الراهنة على تسريع عملية النضج والتحضر والترابط بعمق وتحمُّل للمسؤولية. لاسيما بعد تغيُّر الوضع كثيرًا. ففي السبعينيات الماضية كانت فرصة التغير التدريجي لا تزال متاحة، لكنّنا اليوم في وضع لا يحتمل التسويف. فخلال عقود قليلة لن تكون مناطق كثيرة صالحة للسكنى، وستعمّ الفيضانات والحرائق، وسيتزايد عدد لاجئي المناخ بصورة لم تحدث من قبل.
في سيناريو الانهيار لن تستطيع الحركات المناصرة المحدودة في استعادة السلام الإيكولوجي. وسيقود الإنكار والتسويف إلى انهيار إيكولوجي واجتماعي، واقتصادي، ونفسي، وروحي، وستعم فوضى كوكبية وتشحُّ الموارد. 

جيل ناضج
بينما يتضمن سيناريو السيطرة والذكاء الاصطناعي أخطار المناخ التي تتضح في مقايضة البشرية الحريات الشخصية وحقوق الإنسان من أجل السلامة الموعودة من جانب سلطات المجتمعات. وتوظف الديكتاتورية الرقمية تكنولوجيا الحواسيب المؤثرة التي تتكامل مع جوانب متعددة؛ مالية ومجتمعية وصحية وتعليمية، وأخرى متعلقة بسوق العمل. للسيطرة على غالبية سكان الأرض، كما تفعل الصين عندما تمنح نقاطًا للحكم على سلوك مواطنيها من خلال مراقبتهم عبر هواتفهم النقالة، وعبر الإنترنت، ثم تعاقبهم أو تكافئهم في صورة حرمان أو إتاحة لفرص لتعليم ورعاية صحية نوعية، أو تسريع للإنترنت، وفرص عمل، وتسديد فواتير، وارتياد فنادق.
أما سيناريو النقلة والتحول العظيم غير المسبوق، فهو طريق للتجدد، كخيار أمام البشرية للعيش بوعي وسلام في الحدود الإيكولوجية للأرض. ويمضي هذا الطريق في عمق التراجيديا والألم في تفاديه للتحطم، ثم يثمر جيلًا ناضجًا، ويجلب معه قدرًا من العزم والإبداع لتشكيل طريق الإمكانات. ولن يكون هذا عصرًا ذهبيًا فوري الظهور، لأنّه سيخرج من قوى مدمرة، ويحتاج إلى وقت للتعافي.

التحول العظيم
سيتضمن التحول العظيم - في تصوُّر إليغن - طريقًا تقطعه البشرية عبر عقود من الزمن كالتالي:
في العشرينيات الحالية ستتبين البشرية الأزمة، وصعوبة تخفيض الانبعاثات من دون تغيير دراماتيكي في أساليب الحياة. بينما تنكر الصفوة المسيطرة على المال والأعمال والإعلام الخطورة، وتتنصل من المسؤولية وتغرق في المادية، ثم يحدث تحرُّك تدريجي - غير كافٍ - على أثر تزايد ضغوط الأقليات من الناشطين والشباب وسواهم. ومع حلول نصف العقد تنتشر اليقظة، ويبدأ البعض بتقليل الاستهلاك، واستخدام السيارات الكهربائية، وتبسيط الحياة؛ لكنّ انهيار العالم يتواصل على نحو ما، وتنكسر سلاسل الإمدادات الاقتصادية، ويصبح اقتصاد العالم
لا مركزيًّا، وتسود فوضى سياسية واجتماعية، وتفتقد السياسات للتنسيق والعمق والسرعة المطلوبة للاستجابة، وتؤدي مقاومة بعض الأفراد والمؤسسات للتغيرات الضرورية إلى تفاقم الانهيار.
في الثلاثينيات القادمة ستنهار ثقافات، وسيساعد اضطراب المناخ على حدوث أزمة مالية تقوض اقتصاد العالم ومجتمعه. وستكون الاستجابة الكوكبية المحدودة متأخرة وغير مناسبة لمواجهة الظروف المتغيرة. وتغرق المؤسسات بسبب سرعة تفكّك العالم واتّساع الانهيارات المتتالية، وتتصاعد الفوضى والارتباك ويسود ذعر اجتماعي وفوضى، ويمرُّ العالم بنقاط تحوُّل حرجة.

طريق جديد
ستشهد الأربعينيات التالية أسى عظيمًا مع استمرار تزايد تبعات فوضى المناخ، والانهيار المالي وانقراض بعض الكائنات الحية، والهجرة الجماعية، وانتشار المجاعة، وينحدر العالم كله إلى انهيار، وتعيش البشرية حدادًا على ما فقدت، وتتضح الحاجة إلى تحوُّل عميق. وتتبين الإنسانية في النهاية وجود خيارَي التعاون والجهد المشترك أو مواجهة الانقراض الوظيفي للجنس البشري، ونتبين حقيقة مرة مفادها «ربما انتظرنا طويلًا، وقد تذهب جهودنا سدى».
أما الخمسينيات فستشهد الاستيقاظ العظيم المدفوع بحدود الكارثة القصوى، وتساعد المعاناة والأسى على حرق ما يتبقّى من حواجز، ويكون الاستيقاظ العظيم للعقل الجمعي، وروح جنسنا البشري. ويظهر طريق جديد أكثر وضوحًا. ويعترف الجميع بالحاجة إلى مزيد من الوعي وإلى حضارة تتقدم بالبشرية إلى مرحلة البلوغ المبكّر التي تعمل من أجل مصالحة واسعة، وعميقة. ويبدأ تواصل صادق من القلب، وتنمو مجتمعات تمارس الرعاية، وتختار البساطة المستدامة كأسلوب حياة.
وتكون الستينيات زمن حماية المستقبل واختيار الأرض، حيث تترك البشرية عالم الماضي، وتتجه نحو طرق جديدة في المستقبل. وتحدث مصالحة واسعة تستغرق قرونًا حتى تتعافى نظم الأرض الطبيعية، وتختار البشرية الأرض وتراعي سلامة الحياة كلها. وبعد عيش واقع الانهيار، يتّحد كثيرون ممن اكتسبوا الوعي مع بعضهم ومع الحياة بأسرها. 
ورغم بقاء الانهيار والسيطرة كمخرجات محتملة، ينتقل مركز الجاذبية الاجتماعية إلى رحلة شفاء الأرض؛ ويعمل سكانها على بداية استمرار حضارة كوكبية لمدى بعيد في المستقبل.
وفي السبعينيات سيصبح المستقبل مفتوحًا، بعد اختيار علاقة جديدة مع الأرض أساسًا للمستقبل. ورغم استمرار السيناريوهات الثلاثة المشار إليها، لا يكون المستقبل مغلقًا على دمار المحيط الحيوي، ولا سجنًا في هياكل سلطوية، بل ينفتح على فرص ونضج وحضارة كوكبية مستمرة، وتبدأ رحلة شفاء الحياة على الأرض.

ماذا يمكن أن نفعل؟
  استنادًا إلى أسس اختيارات مستقبل النقلة العظيمة، المتمثلة في الحياة، والوعي، والنضج، والمصالحة، والتواصل، والمجتمع، والبساطة - التي ستساهم في شفاء الكوكب ولمّ شمله، على طريق حضارة كوكبية مستمرة في عمق المستقبل - يقترح المؤلف أن نشارك جميعًا في إيقاظ الحياة عبر أساليب حياتنا، بأن نقدّر الحياة وكل ما هو حيّ، ونستمتع بالطبيعة وبعلاقاتنا الإنسانية والاجتماعية، ونروّح عن أنفسنا بممارسة اللعب والفنون، وننمّي مهاراتنا ومواهبنا الطبيعية الحقيقية لنشرق ونتواصل مع العالم على أكمل وجه، ونعمق، إلى جانب ذلك، معرفتنا بالنظام الإيكولوجي، كأن نتعرّف على الأشجار، والأزهار، والطيور، والحيوانات من حولنا؛ ونتعرف على ما تطرحه أراضينا ونُقبل عليه. 
وبذلك نحمي الطبيعة بكوننا مناصرين متعاطفين، وندافع عن كل ما فيها من نباتات وحيوانات، ومياه، وأرض، وهواء، وننظم فعاليات ثقافية وفنية لننشر الوعي، ونتصالح ونتسامح مع أنفسنا ومع الآخرين، ونختار البساطة فنشتري أقل، ونأكل أقل، ونسافر أقل، ونتشارك الموارد مع الآخرين أكثر، ونتواصل بصورة إيجابية لنشجع بعضنا من أجل مستقبل أفضل ■