الوحدة اللغوية بين العرب إنقاذ ما يمكن إنقاذه

الوحدة اللغوية بين العرب إنقاذ ما يمكن إنقاذه

‮«‬مختار‭ ‬الصحاح‮»‬،‭ ‬الذي‭ ‬وضعه‭ ‬الإمام‭ ‬أبوبكر‭ ‬الرازي‭ ‬هو‭ ‬مختصر‭ ‬من‭ ‬قاموس‭ ‬أوسع‭ ‬وأشمل،‭ ‬هو‭ ‬‮«‬تاج‭ ‬اللغة‮»‬‭ ‬للإمام‭ ‬الجوهري،‭ ‬لكنّ‭ ‬الرازي‭ ‬جعله‭ ‬معاصرًا،‭ ‬قادرًا‭ ‬على‭ ‬جمع‭ ‬شوارد‭ ‬كثيرة‭ ‬من‭ ‬الأدب‭ ‬وشواهد‭ ‬التاريخ،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬ينسى‭ ‬الأصل‭ ‬المقدس‭ ‬الذي‭ ‬ينتمي‭ ‬إلى‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬والسنّة،‭ ‬وكشف‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬صفحة‭ ‬عن‭ ‬جواهر‭ ‬اللغة‭ ‬وشموليتها،‭ ‬ووضع‭ ‬تمايزًا‭ ‬بين‭ ‬الألفاظ‭ ‬العربية‭ ‬الصحيحة‭ ‬وتلك‭ ‬التي‭ ‬وفدت‭ ‬إليها‭ ‬من‭ ‬الثقافات‭ ‬الأخرى،‭ ‬ويقدّم‭ ‬بذلك‭ ‬دليلًا‭ ‬على‭ ‬حيوية‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬وقدرتها‭ ‬على‭ ‬استيعاب‭ ‬الثقافات‭ ‬الأخرى،‭ ‬لكنني‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مرة‭ ‬أفتح‭ ‬هذا‭ ‬القاموس‭ ‬أكتشف‭ - ‬مع‭ ‬شديد‭ ‬الأسف‭ - ‬كيف‭ ‬تجنّينا‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬اللغة‭ ‬العظيمة‭ ‬التي‭ ‬نزل‭ ‬بها‭ ‬كتابنا‭ ‬المقدّس،‭ ‬وتبيّن‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬أكبر‭ ‬عدو‭ ‬للغة‭ ‬العربية‭ ‬هم‭ ‬العرب‭ ‬أنفسهم،‭ ‬فقد‭ ‬أخرجوا‭ ‬الشطر‭ ‬الأكبر‭ ‬منها‭ ‬من‭ ‬حياتهم‭ ‬اليومية،‭ ‬واستبدلوا‭ ‬بها‭ ‬ألفاظًا‭ ‬عامية‭ ‬أو‭ ‬أجنبية،‭ ‬بلغة‭ ‬هجينة‭ ‬لا‭ ‬جذور‭ ‬لها‭.‬

 

قوة‭ ‬اللغة

اللغة‭ ‬العربية‭ ‬ذات‭ ‬تاريخ‭ ‬طويل،‭ ‬كانت‭ ‬فيه‭ ‬شاهدًا‭ ‬على‭ ‬موت‭ ‬المئات‭ ‬من‭ ‬اللغات‭ ‬وبقيت‭ ‬هي،‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬كانت‭ ‬لغة‭ ‬التواصل‭ ‬في‭ ‬الصحراء‭ ‬الصامتة،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬اكتسبت‭ ‬قدسيتها‭ ‬مع‭ ‬نزول‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم،‭ ‬وأصبحت‭ ‬لغة‭ ‬الدين‭ ‬والعبادات،‭ ‬ثم‭ ‬أصبحت‭ ‬لغة‭ ‬الحضارة‭ ‬والثقافة‭ ‬عندما‭ ‬تسيَّدت‭ ‬الدولة‭ ‬العربية‭ ‬قلب‭ ‬العالم،‭ ‬أي‭ ‬أنّها‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬لغة‭ ‬التواصل‭ ‬بين‭ ‬الناس‭ ‬فقط‭ ‬شأن‭ ‬بقية‭ ‬اللغات،‭ ‬ولكن‭ ‬بينهم‭ ‬وبين‭ ‬السماء‭ ‬أيضًا،‭ ‬وقد‭ ‬أعطاها‭ ‬هذا‭ ‬ميزة‭ ‬إضافية،‭ ‬فمعظم‭ ‬اجتهادات‭ ‬الفقه‭ ‬والشريعة‭ ‬مكتوبة‭ ‬بهذه‭ ‬اللغة‭.‬

وارتفع‭ ‬قدر‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬كثيرًا‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬المأمون،‭ ‬عندما‭ ‬بدأت‭ ‬حركة‭ ‬الترجمة‭ ‬عن‭ ‬‮«‬اليونانية‮»‬،‭ ‬واعتبر‭ ‬العرب‭ ‬الفلسفة‭ ‬مفتاحًا‭ ‬لكل‭ ‬العلوم،‭ ‬وأطلقوا‭ ‬عليها‭ ‬‮«‬علم‭ ‬الكلام‮»‬،‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬التاريخ‭ ‬الطويل‭ ‬جعلها‭ ‬مؤهلة‭ ‬لملامسة‭ ‬معالم‭ ‬الحضارة‭ ‬الإنسانية،‭ ‬وقادرة‭ ‬على‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬مناحي‭ ‬الثقافة‭ ‬والفنون‭ ‬والعلوم،‭ ‬فما‭ ‬الذي‭ ‬جعلها‭ ‬تفقد‭ ‬هذا‭ ‬الدور؟‭ ‬

تستمد‭ ‬اللغة‭ ‬قوتها‭ ‬من‭ ‬قوة‭ ‬المجتمع‭ ‬الذي‭ ‬تنبُع‭ ‬منه،‭ ‬وقد‭ ‬بلغت‭ ‬‮«‬العربية‮»‬‭ ‬أقصى‭ ‬قوتها‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬العرب‭ ‬في‭ ‬ذروة‭ ‬حضارتهم،‭ ‬كانت‭ ‬تحتضن‭ ‬علماء‭ ‬ومفكرين‭ ‬وأدباء‭ ‬يغنون‭ ‬هذه‭ ‬اللغة‭ ‬ويمدّونها‭ ‬بالمصطلحات‭ ‬والمفردات‭ ‬الجديدة،‭ ‬وانتهى‭ ‬هذا‭ ‬مع‭ ‬انهيار‭ ‬الدولة‭ ‬العربية‭ ‬وتفتُّتها،‭ ‬فلم‭ ‬تعد‭ ‬هناك‭ ‬صحائف‭ ‬جديدة‭ ‬تضاف‭ ‬إلى‭ ‬معارفها‭ ‬العامة،‭ ‬وتباعدت‭ ‬أطراف‭ ‬الدول‭ ‬واستكانت‭ ‬كل‭ ‬جماعة‭ ‬إلى‭ ‬لغتها‭ ‬الشفهية‭ ‬الدارجة،‭ ‬وزاد‭ ‬هذا‭ ‬من‭ ‬تفتُّت‭ ‬عروة‭ ‬اللغة‭ ‬التي‭ ‬صنعها‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭.‬

 

الفصحى‭ ‬والعامية‭ ‬

هناك‭ ‬فارق‭ ‬كبير‭ ‬بين‭ ‬اللغة‭ ‬العامية‭ ‬والفصحى‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬بلد‭ ‬من‭ ‬البلاد،‭ ‬فعلى‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬هناك‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الشعوب‭ ‬التي‭ ‬تتحدث‭ ‬اللغة‭ ‬الإنجليزية‭ ‬خارج‭ ‬إنجلترا،‭ ‬مثل‭ ‬أمريكا‭ ‬وكندا‭ ‬وأستراليا‭ ‬وغيرها،‭ ‬ولكل‭ ‬بلد‭ ‬منها‭ ‬‮«‬لَكنَته‮»‬‭ ‬الخاصة،‭ ‬لكن‭ ‬الفروق‭ ‬بينها‭ ‬وبين‭ ‬الإنجليزية‭ ‬الأم‭ ‬لا‭ ‬تقاس‭ ‬بالفروق‭ ‬الكبيرة‭ ‬الموجودة‭ ‬بين‭ ‬فصحى‭ ‬‮«‬العربية‮»‬‭ ‬وعامّيتها،‭ ‬كأنها‭ ‬لغة‭ ‬موازية‭.‬

ومنذ‭ ‬القرون‭ ‬الوسطى‭ ‬لم‭ ‬يضعُف‭ ‬العرب‭ ‬سياسيًّا‭ ‬فقط،‭ ‬لكن‭ ‬تفرقوا‭ ‬شذرًا‭ ‬اقتصاديًّا‭ ‬واجتماعيًّا،‭ ‬وجاء‭ ‬الاستعمار‭ ‬الأوربي‭ ‬ليزيد‭ ‬من‭ ‬عوامل‭ ‬الفرقة‭ ‬ويضع‭ ‬بصمته‭ ‬اللغوية‭ ‬على‭ ‬البلاد‭ ‬التي‭ ‬احتلّها،‭ ‬فالدول‭ ‬التي‭ ‬استولى‭ ‬عليها‭ ‬الاستعمار‭ ‬البريطاني‭ ‬طبعها‭ ‬بطابعه،‭ ‬ودول‭ ‬الاستعمار‭ ‬الفرنسي‭ ‬عانت‭ ‬تسلُّطه‭ ‬وهوسه‭ ‬بلغته‭ ‬حتى‭ ‬فقدت‭ ‬لسانها‭ ‬الأصلي،‭ ‬وقد‭ ‬عمق‭ ‬هذا‭ ‬من‭ ‬جذور‭ ‬التباعد،‭ ‬وحوّلها‭ ‬من‭ ‬فرقة‭ ‬مؤقتة‭ ‬إلى‭ ‬انفصال‭ ‬تام‭.‬

‮«‬المغلوب‭ ‬مولع‭ ‬بتقليد‭ ‬الغالب‮»‬،‭ ‬هذه‭ ‬إحدى‭ ‬المقولات‭ ‬الشهيرة‭ ‬عند‭ ‬ابن‭ ‬خلدون،‭ ‬ولعل‭ ‬هذا‭ ‬يفسّر‭ ‬شدة‭ ‬ولع‭ ‬البعض‭ ‬بتقليد‭ ‬الحضارة‭ ‬الغربية،‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬مظاهرها‭ ‬يخالف‭ ‬عاداتنا‭ ‬وتقليدنا،‭ ‬ويظهر‭ ‬هذا‭ ‬جليًّا‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬اللغة،‭ ‬فالمصطلحات‭ ‬الأجنبية‭ ‬تقتحم‭ ‬الألسنة‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬داعٍ،‭ ‬وهناك‭ ‬سعي‭ ‬محموم‭ ‬من‭ ‬الآباء‭ ‬لإدخال‭ ‬أطفالهم‭ ‬مدارس‭ ‬اللغات‭ ‬الأجنبية،‭ ‬ولا‭ ‬يتوقّف‭ ‬الأمر‭ ‬عند‭ ‬حدود‭ ‬المدرسة،‭ ‬ولكن‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬الأهالي‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬البيوت‭ ‬من‭ ‬يصرّون‭ ‬على‭ ‬التحدث‭ ‬مع‭ ‬هؤلاء‭ ‬الأطفال‭ ‬باللغة‭ ‬الأجنبية‭ ‬نفسها،‭ ‬وهذا‭ ‬الأمر‭ ‬لا‭ ‬ينتج‭ ‬إلّا‭ ‬جيلًا‭ ‬معوجّ‭ ‬اللسان،‭ ‬لا‭ ‬ينطق‭ ‬بلغته‭ ‬الأم،‭ ‬ولا‭ ‬يجيد‭ ‬مخارج‭ ‬الحروف‭ ‬بأصواتها‭ ‬الصحيحة،‭ ‬واستصعاب‭ ‬عضلة‭ ‬النطق‭ ‬في‭ ‬لفظ‭ ‬لغة‭ ‬الضاد‭ ‬وصعوبة‭ ‬بعض‭ ‬الحروف‭ ‬المختلفة‭ ‬تمامًا‭ ‬عن‭ ‬أصوات‭ ‬اللغات‭ ‬الأخرى،‭ ‬والتي‭ ‬لن‭ ‬تُكتسب‭ ‬كمهارة‭ ‬إلا‭ ‬مع‭ ‬الممارسة‭ ‬المستمرة‭ ‬للغة،‭ ‬نطقًا‭ ‬وكتابةً‭ ‬واستيعاب‭ ‬مرونة‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬تحوير‭ ‬مفرداتها‭ ‬بحذف‭ ‬أو‭ ‬إضافة‭ ‬حرف‭ ‬بآخر‭ ‬وأول‭ ‬الكلمة،‭ ‬ليتغيّر‭ ‬المعنى‭ ‬بالكامل،‭ ‬هذه‭ ‬الخبرة‭ ‬التراكمية‭ ‬التي‭ ‬يفتقدها‭ ‬هذا‭ ‬الجيل،‭ ‬والتي‭ ‬يتحتّم‭ ‬على‭ ‬ولي‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬يعي‭ ‬حجم‭ ‬المسؤولية‭ (‬مسؤولية‭ ‬التربية‭ ‬الصحيحة‭) ‬أن‭ ‬يقدم‭ ‬هذه‭ ‬المهارة‭ ‬لأهميتها‭ ‬في‭ ‬تمكين‭ ‬الطفل‭ ‬العربي‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يقرأ‭ ‬‮«‬العربية‮»‬‭ ‬ويعشقها‭ ‬بنفس‭ ‬الوقت‭.‬

 

تدهور‭ ‬اللغة

هناك‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬سياق‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نرصد‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬أسباب‭ ‬التدهور‭ ‬الحالي‭ ‬للغة‭ ‬العربية‭:‬

 

أولاً‭: ‬السياق‭ ‬التاريخي‭ ‬

لغة‭ ‬العربي‭ ‬الأول‭ ‬كانت‭ ‬صريحة‭ ‬ومباشرة،‭ ‬قريبة‭ ‬من‭ ‬جذورها،‭ ‬ونادرًا‭ ‬ما‭ ‬تعاني‭ ‬مؤثرات‭ ‬خارجية‭ ‬بسبب‭ ‬عزلة‭ ‬الصحراء،‭ ‬ونزل‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬ليؤكد‭ ‬بلاغتها‭ ‬وإعجازها،‭ ‬وظلت‭ ‬على‭ ‬تفرّدها‭ ‬حتى‭ ‬مع‭ ‬خروج‭ ‬العرب‭ ‬للعالم‭ ‬وقيام‭ ‬الدولة‭ ‬الإسلامية‭.‬

لكن‭ ‬مع‭ ‬الدولة‭ ‬العباسية،‭ ‬ارتفع‭ ‬شأن‭ ‬اللغة‭ ‬الفارسية‭ ‬وتكاثرت‭ ‬مفرداتها‭ ‬على‭ ‬الألسنة،‭ ‬بيد‭ ‬أن‭ ‬حيوية‭ ‬العربية‭ ‬وقدرتها‭ ‬على‭ ‬التواصل‭ ‬استطاعت‭ ‬أن‭ ‬تستوعبها،‭ ‬ورغم‭ ‬العثرات‭ ‬التاريخية‭ ‬التي‭ ‬استتبعت‭ ‬غزو‭ ‬المغول‭ ‬والحروب‭ ‬الصليبية،‭ ‬فإنّ‭ ‬الكارثة‭ ‬التي‭ ‬جاءت‭ ‬مع‭ ‬الهيمنة‭ ‬العثمانية،‭ ‬والتي‭ ‬استمرت‭ ‬طويلًا‭ ‬وتسبّبت‭ ‬في‭ ‬عزلة‭ ‬العرب‭ ‬عن‭ ‬العالم‭ ‬الخارجي‭ ‬لقرون‭ ‬حاسمة،‭ ‬تلك‭ ‬القرون‭ ‬التي‭ ‬نفضت‭ ‬فيها‭ ‬أوربّا‭ ‬غبار‭ ‬القرون‭ ‬الوسطى،‭ ‬ودخلت‭ ‬غمار‭ ‬الثورة‭ ‬الصناعية،‭ ‬لم‭ ‬تتوقف‭ ‬بعدها‭ ‬عجلة‭ ‬تطورها،‭ ‬فقد‭ ‬تواصلت‭ ‬الاختراعات‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تشهد‭ ‬البشرية‭ ‬مثيلًا‭ ‬لها،‭ ‬وعندما‭ ‬أطلّ‭ ‬العرب‭ ‬على‭ ‬مشارف‭ ‬العصر‭ ‬الحديث‭ ‬أدركوا‭ ‬أنهم‭ ‬غرباء،‭ ‬يواجهون‭ ‬آلاتٍ‭ ‬لم‭ ‬يعرفوها،‭ ‬ومصطلحات‭ ‬لم‭ ‬تستوعبها‭ ‬لغتهم،‭ ‬ولا‭ ‬يجدون‭ ‬لها‭ ‬بديلًا‭ ‬منطقيًّا،‭ ‬وعليهم‭ ‬أن‭ ‬ينحتوا‭ ‬من‭ ‬لغتهم‭ ‬القديمة‭ ‬مفردات‭ ‬جديدة،‭ ‬فجأة‭ ‬أصبحت‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬قاصرة‭ ‬وغير‭ ‬كفؤة‭ ‬وغير‭ ‬عصرية‭ ‬أيضًا‭.‬

 

ثانيًا‭: ‬السياق‭ ‬الثقافي

انتهت‭ ‬مدرسة‭ ‬المسجد،‭ ‬وحلّت‭ ‬بدلًا‭ ‬منها‭ ‬المدرسة‭ ‬العصرية،‭ ‬أصبحت‭ ‬هي‭ ‬المنهل‭ ‬الأول‭ ‬لصقل‭ ‬لغة‭ ‬الطفل،‭ ‬ولأنّ‭ ‬المقررات‭ ‬الدراسية‭ ‬غير‭ ‬كافية،‭ ‬فهناك‭ ‬المكتبة‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬ثروات‭ ‬الكتب،‭ ‬لكنّ‭ ‬حياتنا‭ ‬الثقافية‭ ‬الفقيرة‭ ‬فكريًّا‭ ‬لا‭ ‬تقدّم‭ ‬للطفل‭ ‬كتبًا‭ ‬مناسبة‭ ‬لعمره،‭ ‬ولا‭ ‬المجلة‭ ‬التي‭ ‬تثير‭ ‬تفكيره‭ ‬وانتباهه،‭ ‬ولعلّني‭ ‬أذكر‭ ‬هنا‭ ‬تجربتنا‭ ‬في‭ ‬‮«‬العربي‮»‬‭ ‬حين‭ ‬أصدرنا‭ ‬مجلة‭ ‬العربي‭ ‬الصغير،‭ ‬وكيف‭ ‬توافد‭ ‬على‭ ‬المجلة‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬مدرسات‭ ‬ومدرّسي‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬يريدون‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬أعدادها‭ ‬ليقدمونها‭ ‬لطلابهم،‭ ‬لقد‭ ‬وجدوا‭ ‬فجأة‭ ‬ما‭ ‬يسدّ‭ ‬هذه‭ ‬الفجوة‭ ‬الثقافية،‭ ‬حتى‭ ‬ولو‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬صورة‭ ‬مجلة،‭ ‬وتوضّح‭ ‬هذه‭ ‬التجربة‭ ‬مدى‭ ‬شوق‭ ‬الطفل‭ ‬العربي‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يسدّ‭ ‬نهمه‭ ‬للمعرفة‭.‬

والأمر‭ ‬نفسه‭ ‬ينطبق‭ ‬على‭ ‬مَن‭ ‬هُم‭ ‬أكبر‭ ‬سنًّا،‭ ‬فالأميّة‭ ‬تصيب‭ ‬بعضًا‭ ‬منهم‭ ‬بالعجز،‭ ‬وتقف‭ ‬حائلًا‭ ‬بينهم‭ ‬وبين‭ ‬تعلُّم‭ ‬‮«‬العربية‮»‬‭ ‬بطريقة‭ ‬صحيحة،‭ ‬ويعاني‭ ‬البعض‭ ‬الآخر‭ ‬ممن‭ ‬لم‭ ‬تُغرَس‭ ‬فيهم‭ ‬عادة‭ ‬القراءة‭ ‬منذ‭ ‬الصغر‭ ‬بُعدهم‭ ‬عن‭ ‬الكتاب،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬التخلف‭ ‬الثقافي‭ ‬بشكل‭ ‬عام‭ ‬لا‭ ‬يساعد‭ ‬على‭ ‬تطور‭ ‬اللغة‭ ‬ومدّها‭ ‬بالمفردات‭ ‬الجديدة،‭ ‬ويجعلنا‭ ‬نعيش‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬دائمة‭ ‬من‭ ‬الفقر‭ ‬اللغوي‭.‬

 

ثالثًا‭: ‬السياق‭ ‬اللغوي

ساهم‭ ‬ارتفاع‭ ‬نسبة‭ ‬الأمية‭ ‬بين‭ ‬العامة‭ ‬في‭ ‬سيطرة‭ ‬لغة‭ ‬الغناء‭ ‬والمسلسلات‭ ‬التلفزيونية‭ ‬وازدياد‭ ‬اللهجة‭ ‬العامية،‭ ‬وتسللت‭ ‬‮«‬العامية‮»‬‭ ‬حتى‭ ‬إلى‭ ‬بعض‭ ‬الكتب‭ ‬المؤلّفة،‭ ‬فتعليم‭ ‬‮«‬العربية‮»‬‭ ‬أصبح‭ ‬ضعيفًا‭ ‬بسبب‭ ‬ثنائية‭ ‬اللغة‭ ‬بين‭ ‬المدرسة‭ ‬والبيت‭ ‬والشارع،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬سوء‭ ‬تصميم‭ ‬المناهج‭ ‬التعليمية،‭ ‬وعدم‭ ‬بروز‭ ‬عنصر‭ ‬التشويق‭ ‬بها،‭ ‬وعدم‭ ‬ارتباطها‭ ‬بالحياة‭ ‬العصرية‭ ‬التي‭ ‬يعيشها‭ ‬الطالب،‭ ‬وقلّة‭ ‬اهتمامه‭ ‬بإدراك‭ ‬المهارات‭ ‬الأساسية‭ ‬اللازمة‭ ‬لتعليم‭ ‬اللغة‭ ‬العربية،‭ ‬كالنحو‭ ‬والصرف،‭ ‬وعدم‭ ‬وجود‭ ‬قاموس‭ ‬لغوي‭ ‬حديث‭ ‬يتناسب‭ ‬مع‭ ‬مراحل‭ ‬التدريس‭ ‬المختلفة،‭ ‬وعدم‭ ‬تشجيع‭ ‬القراءة‭ ‬الحرة،‭ ‬مع‭ ‬قلّة‭ ‬توافر‭ ‬مصادرها‭ ‬وعدم‭ ‬تطوير‭ ‬أساليب‭ ‬التعليم‭ ‬الحديثة‭ ‬بما‭ ‬يناسب‭ ‬خصوصية‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭.‬

 

رابعًا‭: ‬السياق‭ ‬الرقمي

قد‭ ‬يأتي‭ ‬يوم‭ ‬لن‭ ‬تعرف‭ ‬فيه‭ ‬الأجيال‭ ‬القادمة‭ ‬الإمساك‭ ‬بالقلم،‭ ‬لأنهم‭ ‬نشأوا‭ ‬على‭ ‬‮«‬لمس‮»‬‭ ‬شاشات‭ ‬الأجهزة‭ ‬اللوحية‭ ‬والهواتف‭ ‬الذكية،‭ ‬فهي‭ ‬ترسل‭ ‬إشارات‭ ‬خاطئة‭ ‬إلى‭ ‬المخ،‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬يبذل‭ ‬المستخدم‭ ‬جهدًا‭ ‬في‭ ‬تعلُّم‭ ‬مهارات‭ ‬الكتابة،‭ ‬وتجعله‭ ‬يرتاح‭ ‬أكثر‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬تلك‭ ‬الآلات‭ ‬والأجهزة‭.‬

 

ولادة‭ ‬مجامع‭ ‬اللغة

لكن‭ ‬مع‭ ‬بداية‭ ‬عصر‭ ‬النهضة‭ ‬العربية،‭ ‬ورغم‭ ‬وجود‭ ‬الاحتلال‭ ‬الأوربي‭ ‬متحكمًا‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬دولنا‭ ‬العربية،‭ ‬فإن‭ ‬هاجس‭ ‬النهوض‭ ‬باللغة‭ ‬العربية‭ ‬حتى‭ ‬توازي‭ ‬اللغات‭ ‬الأخرى‭ ‬في‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬مشاكل‭ ‬العالم‭ ‬المعاصر‭ ‬ظلّ‭ ‬يشغل‭ ‬المفكرين‭ ‬العرب‭ ‬طويلًا،‭ ‬وبدأ‭ ‬البحث‭ ‬في‭ ‬إنشاء‭ ‬مجمع‭ ‬علمي‭ ‬عربي‭ ‬هدفه‭ ‬صون‭ ‬اللغة‭ ‬وتطويرها‭ ‬والبحث‭ ‬عن‭ ‬المصطلحات‭ ‬العصرية‭ ‬اللازمة،‭ ‬وتشجيع‭ ‬حركة‭ ‬الترجمة‭ ‬عن‭ ‬اللغات‭ ‬الأخرى،‭ ‬وتحقيق‭ ‬المخطوطات‭ ‬ونشرها،‭ ‬وكذلك‭ ‬وضع‭ ‬معجم‭ ‬تاريخي‭ ‬للغة‭ ‬العربية،‭ ‬وكانت‭ ‬هناك‭ ‬رغبة‭ ‬قوية‭ ‬عند‭ ‬هؤلاء‭ ‬المفكرين‭ ‬في‭ ‬ابتعاث‭ ‬العصر‭ ‬العلمي‭ ‬للخليفة‭ ‬المأمون‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يهب‭ ‬في‭ ‬مقابل‭ ‬كل‭ ‬مخطوط‭ ‬ما‭ ‬يوازي‭ ‬وزنه‭ ‬ذهبًا‭.‬

هذه‭ ‬الأهداف‭ ‬الطموحة‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬دفعت‭ ‬دمشق‭ ‬لإنشاء‭ ‬أول‭ ‬مجمع‭ ‬للغة‭ ‬العربية‭ ‬عام‭ ‬1919‭ ‬قبل‭ ‬الاحتلال‭ ‬الفرنسي‭ ‬الذي‭ ‬دهم‭ ‬البلاد‭ ‬بعدها‭ ‬بعام‭ ‬واحد،‭ ‬وقاد‭ ‬المجمع‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬المثقفين‭ ‬القوميين‭ ‬هو‭ ‬محمد‭ ‬علي‭ ‬كرد‭.‬

لكنّ‭ ‬المجمع‭ ‬أصبح‭ ‬معطلًا‭ ‬بشكل‭ ‬فعلي‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬اثني‭ ‬عشر‭ ‬عامًا‭ ‬هي‭ ‬مدة‭ ‬الاحتلال،‭ ‬بيد‭ ‬أن‭ ‬البذرة‭ ‬كانت‭ ‬قد‭ ‬ألقيت‭ ‬في‭ ‬الأرض‭ ‬العربية،‭ ‬وأدرك‭ ‬الجميع‭ ‬مدى‭ ‬احتياج‭ ‬اللغة‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬المؤسسات،‭ ‬لذا‭ ‬أنشأت‭ ‬مصر‭ ‬مجمعها‭ ‬اللغوي‭ ‬عام‭ ‬1932،‭ ‬وتلاها‭ ‬العراق‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬بعدة‭ ‬سنوات،‭ ‬وتبعه‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬بلد‭ ‬عربي،‭ ‬لكن‭ ‬كدأب‭ ‬العرب‭ ‬الذين‭ ‬استمروا‭ ‬بالفرقة،‭ ‬كان‭ ‬كل‭ ‬مجمع‭ ‬يعمل‭ ‬بمعزل‭ ‬عن‭ ‬الآخر‭.‬

مع‭ ‬بداية‭ ‬سبعينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬تنادت‭ ‬الأصوات‭ ‬للالتقاء‭ ‬والاجتماع‭ ‬معًا،‭ ‬وتم‭ ‬عقد‭ ‬أول‭ ‬اجتماع‭ ‬للمجامع‭ ‬اللغوية‭ ‬الثلاثة‭ ‬برئاسة‭ ‬عميد‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬د‭. ‬طه‭ ‬حسين،‭ ‬وبدأت‭ ‬ثمار‭ ‬التعاون‭ ‬بين‭ ‬المجامع‭ ‬الثلاثة‭ ‬الرائدة‭ ‬في‭ ‬وضع‭ ‬قاموس‭ ‬جامع‭ ‬للغة‭ ‬العربية‭ ‬طال‭ ‬انتظاره،‭ ‬لكن‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬كان‭ ‬يعيش‭ ‬أيامه‭ ‬الأخيرة‭ ‬وقد‭ ‬أقعده‭ ‬المرض،‭ ‬ولم‭ ‬يلبث‭ ‬أن‭ ‬توفي‭ ‬عام‭ ‬1973‭ ‬أثناء‭ ‬حرب‭ ‬أكتوبر،‭ ‬وفارقت‭ ‬روحه‭ ‬الحياة‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬فارق‭ ‬اليأس‭ ‬روح‭ ‬مصر،‭ ‬كما‭ ‬قال‭ ‬توفيق‭ ‬الحكيم‭.‬

تكاثرت‭ ‬المجامع‭ ‬اللغوية‭ ‬حتى‭ ‬أصبح‭ ‬لدى‭ ‬العرب‭ ‬14‭ ‬مجمعًا،‭ ‬تعقد‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬الاجتماعات‭ ‬وتضع‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الخطط،‭ ‬لكنها‭ ‬تبدو‭ ‬اجتماعات‭ ‬نخبوية‭ ‬لعلماء‭ ‬اللغة،‭ ‬لا‭ ‬تضع‭ ‬سياسة‭ ‬صالحة‭ ‬للتطبيق‭ ‬في‭ ‬الدراسة‭ ‬داخل‭ ‬المدارس‭ ‬والمعاهد‭ ‬وفي‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام‭.‬

إن‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬هي‭ ‬الملاذ‭ ‬الأخير‭ ‬الذي‭ ‬يجمعنا‭ ‬معًا،‭ ‬لكنّ‭ ‬اللهجات‭ ‬المحلية‭ ‬تفرّقنا،‭ ‬تقيم‭ ‬العشرات‭ ‬من‭ ‬الحواجز‭ ‬بيننا،‭ ‬كما‭ ‬تساهم‭ ‬وسائل‭ ‬الاتصال‭ ‬في‭ ‬غربتنا‭. 

اللغة‭ ‬هي‭ ‬حصننا‭ ‬الأخير،‭ ‬ولو‭ ‬ضاعت‭ ‬فسوف‭ ‬يضيع‭ ‬جزء‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬هويتنا،‭ ‬في‭ ‬عالَم‭ ‬ينحو‭ ‬نحو‭ ‬العولمة،‭ ‬حيث‭ ‬تتساقط‭ ‬الهويات‭ ‬الضعيفة‭ ‬وتندثر‭ ‬الثقافات‭ ‬الهشّة،‭ ‬فإن‭ ‬خطر‭ ‬فقدان‭ ‬اللغة‭ ‬سيدمّر‭ ‬جزءًا‭ ‬غاليًا‭ ‬من‭ ‬هويتنا‭ ‬القومية،‭ ‬وعلينا‭ ‬أن‭ ‬ننتبه‭ ‬قبل‭ ‬فوات‭ ‬الأوان‭ ‬■