الفلسفة بين الواقع والتجريد

الفلسفة بين الواقع والتجريد

موضوع المقال لا يتعلق بطبيعة الأفكار الفلسفية سواء أكانت تدعي الواقعية بشكلها التقليدي أو تبحر في التجريد، فكل هذه الأفكار لها طابعها الميتافيزيقي. لكن الموضوع المطروح هنا هو قدرة الفيلسوف أو المشتغل في الفلسفة على توظيفها بواقع الحياة اليومية، واستخدام ما يمكن من أدواتها في نقد و تحليل قضايا الإنسان التي يواجهها يوميًا، بمعنى هناك طريقان في الفلسفة، الأول: هو الطريق التخصصي التقليدي الذي يعتمد على التجريد والأفكار الميتافيزيقية الصرفة وتمثله الغالبية الساحقة من الفلاسفة والمشتغلين بالفلسفة، والثاني: يقوم به نفر محدود منهم، حيث يسعى هؤلاء إلى ربط الفلسفة بالواقع واستخدام ما يمكن استخدامه منها لابتكار أساليب وأفكار فلسفية جديدة لتحقيق هذا الهدف، وهي محاولة منهم لتغيير الصورة التقليدية السائدة عن الفلسفة والفلاسفة والخاصة بالانعزال عن الواقع، ومحاولة تبيان أهميتها والدور الذي يمكن أن تلعبه في واقع حياة الإنسان العادي.

 

هنالك نظرة سائدة عن الفلسفة، وهي اعتبارها نوعًا من السفسطة اللفظية التي لا يوجد ما يقابلها في الواقع، وأن الفلاسفة يعيشون في أبراج عاجية ويرون الواقع من أعلى ولا يعيشون فيه مثلما يعيشه الآخرون، ويفكرون في الكثير من الأحيان، بطرق مختلفة تمامًا عمّا هو سائد في مجتمعاتهم، وبالتالي يفقدون صلتهم بالواقع والناس، ولا شك أن ادعاء مثل هذا يحمل جانبًا من الصحة خصوصًا في الفلسفات التقليدية والقديمة، لكن لا ينطبق على كل الفلسفة أو الفلاسفة. فإذا نظرنا أولاً إلى طبيعة الكثير من الموضوعات الفلسفية التقليدية فسنجد أن طابعها يفتقر إلى الواقعية. فالفلسفة ضرب من التفكير العقلي المجرد المرتكز على الجوانب العقلية الذي يتعامل مع الأفكار الكلية، أو الكليات الذهنية، المفارقة لعالم الجزئيات الواقعي، علاوة على تناولها الموضوعات الميتافيزيقية مثل القيم ومعنى الحياة
والتصورات الذهنية والمفاهيم مثل الحرية والإرادة ... إلخ، وهذه الموضوعات غير ملموسة ولا يمكن إدراكها عن طريق الحواس. وبذلك كان للطبيعة الخاصة لتلك الموضوعات الأثر الأكبر على طابع التفكير الفلسفي الذي تناولها واتسم بالتجريد العقلي. وقد نتج عن ذلك مجموعة من الأمور التي دفعت بشكل كبير، إن جاز التعبير، في عزلة الفلسفة والفلاسفة إلى حد كبير عن الواقع، فقد أصبحت الفلسفة حقلًا معرفيًا للنخبة المتمرسة بالتفكير العقلي والمنطقي، والمتميزة عن الآخرين بقدرتها على استيعاب الموضوعات المجردة التي لا يستطيع الكثيرون هضمها. فالفلاسفة أو المشتغلون في الفلسفة لابد أن يكون لديهم استعداد عقلي معين قادر على التعامل مع موضوعاتها المختلفة، وهذا يقود إلى مسألة مهمة وهي أن الفلسفة ليست علمًا حالها حال العلوم الأخرى ذات موضوعات معينة يستطيع الآخرون دراستها واستيعابها من خلال التجربة، أي الأدلة والبراهين المادية أو القوانين والحقائق الواقعية، فهي عبارة عن مناهج ومنطق وطرق تفكير معينة ذهنية الطابع تستخدم في تحليل الوجود والمعرفة وموضوعاتهما الميتافيزيقية المعروفة، كما الحال في الفلسفات التقليدية، ولا تقتصر على موضوعات أو مجموعة من الموضوعات بعينها. وقد دفع ذلك الفلاسفة إلى الغوص في التصورات والمفاهيم والمصطلحات المجردة عبر استخدام مفردات لغوية ذات طابع خاص، غالبيتها تختلف عن المفردات اللغوية الدارجة ويحيط في بعضها الغموض والصعوبة في الفهم، والاختلاف في تحديدها وتعريفها بشكل دقيق نتيجة لتعريفات الفلاسفة المختلفين لها.
لقد استمرت الفلسفة في معظم تاريخها على هذا المنوال على الرغم من ظهور فلاسفة أو اتجاهات فلسفية، بين الفينة والأخرى، يحاول القائمون عليها الاقتراب من الواقع وقضاياه، وإشراك الإنسان صاحب الاهتمامات العامة بالشأن الفلسفي. لكن التطورات التي حدثت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر شجعت عددًا من الفلاسفة بالتدريج على محاولة ربطها بواقع الإنسان وقضاياه المعيشة، وظهرت بعض الاتجاهات التي أخذت هذا المنحى، وبدأنا نشاهد اهتمامًا أكثر من الفلاسفة والمفكرين في ربط الفلسفة بالواقع.

لماذا الاتجاه نحو الواقع؟
إذا نظرنا إلى مسيرة الحضارة الإنسانية العامة التي تمتد لآلاف السنين فسنجد أنها مرت بأنماط مختلفة من التفكير تميز معظم تاريخها بكونها غير واقعية. وبنظرة أكثر تحديدًا إلى تاريخ الفلسفة الذي امتد لأكثر من ألفين وخمسمائة عام سنجد أن التفكير الميتافيزيقي التقليدي المفارق للواقع هيمن على الغالبية الساحقة من اتجاهاتها لكن العصر الحديث شهد بدايات التحول التدريجي لبعض اتجاهاتها للتفكير التجريبي والمادي مع التطور العلمي الذي تمكن بشكل كبير خلال القرنين الأخيرين من التأثير على الحضارة الإنسانية خصوصًا جوانب الثقافة والتفكير فيها.
وقد جاء ذلك بمجموعة من الأسباب تدفع باتجاه ربط الأفكار الفلسفية بالواقع، سواء أكان من التطورات الأخيرة التي جرت في المجتمعات الإنسانية، أو من التطورات التي جرت على الفلسفة نفسها. ولعل أهم عامل ساهم في إحداث التحولات في الفكر والثقافة الإنسانية هو العلم، فقد حول تفكير الإنسان من طابعه الخيالي والأسطوري والغائي إلى تفكير واقعي فأصبح يبحث عن حلول مشاكله في الواقع مستندًا إلى قدراته العلمية التي أثبتت نجاعتها بشكل كبير. كما أزاح التطور العلمي عددًا لا بأس به من الأفكار والموضوعات الفلسفية التقليدية التي لم يعد يعتد بها بعد اكتشاف الكثير من الحقائق والقوانين العلمية، بل خلق موضوعات جديدة أصبح العديد منها شغل غالبية الفلاسفة الشاغل.
كما لعبت التطورات التي حدثت في الفلسفة نفسها دورًا مهمًا في الاقتراب من الإنسان وواقعه، إذ شهدت نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين التخلي عن المذاهب الفلسفية ذات الطابع الشمولي والتخلي أيضًا عن جوانب عديدة من التجريد، وظهور ما يعرف بـ«الواقعية الجديدة» وأصبح اهتمام الكثير من الفلاسفة منصبًا على الإنسان سواء بالتركيز على الفعل أو الموجود الإنساني أو الحدس أو اللغة وغيرها، وتراجع الاهتمام بشكل كبير بالتحليلات الأنطولوجية وتم إعطاء الأولوية للواقع وجزئياته على حساب الكليات. ومهد ذلك الطريق لظهور عدد من الفلاسفة والمفكرين الذين تجاوزوا أروقة الهيئات الأكاديمية وعملوا على ربط الفلسفة بالمجتمع، وحاولوا إبراز الدور الذي تلعبه الفلسفة في واقع الحياة اليومية. يشير الفيلسوف النمساوي الأصل لودفيج فتجشتين (1889-1951)، إلى أن مهمة الفلاسفة هي إنزال اللغة الفلسفية من استخداماتها الميتافيزيقية إلى الواقع. فهؤلاء يرون أن المشكلات الفلسفية مصدرها الأساسي واقع الإنسان بكل ما فيه من تفاصيل وأزمات وطموحات وغيرها، والابتعاد عن الواقع يعني تجاوز ما يجري فيه والعيش خارجه ومن يعش خارج الواقع ستفتقر أفكاره إلى الواقعية.
وهناك مسألة أخرى مهمة تدفع في توجيه الفلسفة نحو الواقع العملي الإنساني تأتي نتيجة للتحولات التي جرت خلال العقدين الأخيرين على المستوى العالمي، بعد انتهاء الصراع الأيديولوجي بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي وسقوط آخر معاقل الأيديولوجيات والمذاهب الفلسفية الشمولية، وأدى ذلك إلى تراجع الفكر والمفكرين وتغلب الجوانب العملية على النظرية ولم يعد للأفكار النظرية صدى كبير لدى الكثيرين، وهذا يتطلب من القائمين على الفلسفة إيجاد الوسائل الأفضل لإيصال أفكارهم إلى الآخرين، وتلمس مشاكل الإنسان اليومية والعمل على تحليل طرق التفكير السائدة ومعالجة القضايا التي أثارتها التحولات الأخيرة وآثارها على مسيرة الثقافة والحضارة الإنسانية، وجعل من الواقع العملي حقلًا أساسيًا للنشاط الفلسفي.

متطلبات ربط الفلسفة بالواقع
من السهل الادعاء بضرورة ربط الفلسفة بواقع حياة الإنسان اليومي، لكن المسألة ليست بتلك السهولة أو البساطة كما قد يتصورها البعض. فهناك تراث فلسفي عريق اعتمد بشكل كبير على موضوعات ومفاهيم وتصورات فلسفية تقليدية عبر تاريخ الفلسفة، ولا يزال الفلاسفة والمشتغلون بالفلسفة يدرسونه ويؤرخونه ويطورون أفكاره النظرية، ويعيش الكثير منهم بين الأروقة الأكاديمية سواء في التدريس أو البحوث، ولا توجد نية، ربما عند الغالبية منهم، في تغيير ذلك. وقد يبدو الأمر بديهيًا لكن ذلك لا يقف عائقًا عند من يرغب في النزول إلى الشارع كما نزل أستاذهم الأكبر سقراط.
والمسألة بالتأكيد تحتاج إلى مجموعة من الأمور التي تهيئ الفيلسوف أو المشتغل بالفلسفة للقيام بذلك، فتحويل اهتمام الفيلسوف من الجوانب النظرية إلى العملية والواقعية يحتاج إلى قرار ذاتي ورغبة حقيقية في إحداث تحول يكاد أن يكون جذريًا في الاهتمامات الفلسفية وتحديد وجهتها، والخوض في مغامرة تحتاج إلى الجرأة لعدم وجود إرث فلسفي كافٍ في هذا المجال، بل اجتهادات فردية من بعض الفلاسفة. وتتطلب المسألة أيضا قدرات معينة لا توجد عند كل مشتغل في حقل الفلسفة لأن التعامل مع الواقع العملي بحراكه المستمر وتقلباته، يختلف عن الجوانب النظرية الموجودة في الكتب، فهنا يحتاج إلى سرعة بديهية ومهارة تحليلية نقدية تتناسب مع طبيعة الموضوعات المطروحة وحركتها الدائمة.
ولابد لمن يخوض غمار هذه التجربة أن يكون متابعًا بشكل مستمر للشأن العام، وبشكل أوضح أن يكون على دراية بالنظريات السياسية والاقتصادية الكبرى ومتابعة التطورات السياسية والاقتصادية وعلى إلمام بالعديد من موضوعاتهما الأساسية. وتنبع مسألة الاهتمام بالموضوعات السياسية والاقتصادية من كونها المحرك الأساسي لأي مجتمع، ومسؤولة، في الكثير من الأحيان، عن التحولات النوعية التي تجري فيه، وفهمها يعني معرفة الأسس التي تقوم عليها حركة الواقع والدوافع التي تتحكم في قواه الفاعلة وأفراد المجتمع. أما القضية الأهم فهي الجمع بين الفلسفة والثقافة، ومحاولة دفع التفكير الفلسفي باتجاه الثقافة. فكل مجتمع أو فئة اجتماعية لها ثقافتها والمطلوب فهمها والإلمام بها، وبذلك من يريد ربط الفلسفة بالواقع يجب أن يكون مثقفًا ومتفلسفًا في الوقت نفسه، إذ لابد من معرفة الموضوعات المختلفة التي تشكل أوجه الثقافة والفكر السائدة في المجتمع الذي يعيشه والوجهة العامة للثقافة والفكر الإنساني، بمعنى لابد أن يكون مثقفًا موسوعيًا ومتابعًا لكل ما هو جديد ومؤثر على مستقبل الفكر والبشرية، خصوصًا التطورات العلمية والتكنولوجية وآثارهما العميقة أحيانًا على المجتمع الإنساني وثقافته وفكره. وهناك أمثلة لرموز فكرية عربية سعت لربط الفلسفة بالواقع وكانت على قدر كبير من الثقافة الموسوعية والخبرة الفلسفية، ومن أبرزهم الدكتور زكي نجيب محمود والدكتور فؤاد زكريا.
وتقف اللغة المستخدمة كعامل مهم في التواصل مع الإنسان العادي. ففي مقابل اللغة الفلسفية ومصطلحاتها الأكاديمية لابد أن يكون هناك اختلاف جذري بطبيعتها في حال ربط الفلسفة بالمجتمع، فاللغة الواضحة والمبسطة والمباشرة والخالية من الإبهام والغموض، هي الوسيلة التي يمكن التعبير من خلالها عن القضايا الفلسفية وإيصالها إلى العامة ومناقشة أفكارهم ونقدها أيضًا من خلالها. وهذا يحتاج إلى مهارة مميزة وقدرة على طرح القضايا الفكرية والفلسفية بلغة مبسطة وبطريقة يستطيع الإنسان العادي فهمها وتقبلها.

ماذا يعني الانخراط في الواقع؟
في عالم اليوم الذي أصبح أكثر واقعية مما مضى بسبب التطورات العلمية والمادية والتكنولوجية، أصبح الفلاسفة والمفكرون أمام خيارين، إما الاستمرار على النهج الفلسفي النظري التقليدي، أو الدخول في عالم الواقع الذي يمكن أن يجعل من الفلسفة أكثر شعبية وانتشارًا بين العامة. والانخراط في الواقع والنجاح في مخاطبة العامة والالتصاق بقضاياهم فلسفيًا، سيغير من دون شك الصورة السائدة عن الفلسفة ويفتح لها آفاقًا جديدة لم تطرق من قبل. وهناك جملة من الموضوعات التي يمكن أن تركز عليها الفلسفة في هذا الشأن أبرزها، إن جاز التعبير، عقلنة القضايا والمشكلات والأحداث اليومية. فهناك الكثير من القضايا التي تحرك العامة وينظر إليها بشكل عاطفي أو انفعالي أو سياسي أو أيديولوجي أو حسب القيم الثقافية السائدة في مجتمع ما، التي تحملها أو تصبغها بجوانب ذاتية صرفة.
وهذا يغيب التفكير العقلاني وينتج عدم النظر إلى الأمور بطريقة عقلانية متجردة وموضوعية، وبالتالي لا يتم اتخاذ مواقف صحيحة أو أقرب إلى الصحة تجاهها. وعقلنة الأمور تعني نشر التفكير العقلاني بين العامة ومقارعة أنماط التفكير الأخرى خصوصًا في المجتمعات التي لا يلعب العلم فيها دورًا أساسيًا كمجتمعاتنا وتنتشر فيها الخرافة وبقايا التفكير الأسطوري وسيادة التفكير الغائي وغياب التفكير العلمي، ولا شك أن نشر التفكير العقلاني المتجرد بين العامة سيسهم في التغلب على العديد من المشكلات
وتجنب بعضها والتعامل مع الواقع ومستجداته بشكل فعال.
وهناك مسألة مهمة تتعلق بطبيعة التفكير العقلاني المتجرد الملتصق بواقع الحياة اليومية والذي يجب أن يشكل فارقًا حاسمًا مع التفكير الفلسفي التقليدي، فإذا كان التفكير الفلسفي التقليدي ينزع إلى التجريد والصياغات الفكرية والفلسفية ذات الطابع الميتافيزيقي، أي إن جاز التعبير يصعد من الواقع إلى الأعلى أي للمفاهيم والمصطلحات الكلية المجردة، فإن التفكير العقلاني ذي الطابع الواقعي والمتجرد، ينطلق من العقل نزولاً إلى الواقع أي النظر للأمور والمشكلات بمستواها الواقعي وليس من الأعلى أو من خارجها، وهذا يعني العودة إلى الجزئيات أو الموضوعات الجزئية وتحليلها بطريقة تتناسب مع واقعيتها. وينسحب على طريقة التفكير طبيعة التحليلات التي تقدم للمشكلات والقضايا وكيفية النظر لها. فالطريقة العقلانية ذات البعد الواقعي هي الأقرب أو الأدق في معرفة الأسباب الفعلية التي تقف وراء المشكلات والوقوف على نتائجها والتعامل معها بطريقة سليمة. في المقابل، فإن طرق التفكير الأخرى غير الواقعية لا تقدم تفسيرات صحيحة ولا تحل المشكلات لأنها تفتقر إلى التحليلات الدقيقة ولا تنفذ إلى داخل المشكلة نفسها. فهناك خلل واضح في الربط بين أسباب الظاهرة أو المشكلة ونتائجها، فالتفكير العقلاني الواقعي يتعامل مع المشكلات بطريقة تبحث عن أسبابها الحقيقية وربطها من الداخل لكي تقود إلى النتائج الدقيقة، بينما تتعامل أنماط التفكير الأخرى مع النتائج ولا تعير اهتمامًا يذكر للأسباب الفعلية، وأحيانًا تضع أسبابًا خارج الظاهرة أو المشكلة ما يؤدي إلى عدم فاعلية تحليلاتها أو محاولة تناولها للمشكلات وحلّها.
هناك ميزة في واقع الحياة اليومية، والذي يفرض نفسه على من يريد ربط الفلسفة بالواقع، وهي كونه واقعًا يتسم بالحركة المستمرة وعدم الثبات، فما يحدث في لحظة ما لا يتكرر مرة أخرى بنفس التفاصيل، وما يدور اليوم من أحداث لن يعاد في الغد وهكذا. فواقع الحياة، مثلما قال هيروقليطس، كالنهر الذي إذا وضع الإنسان قدمه فيه مرتين لن تكون الثانية كالأولى، وهذا يعني أن الأفكار التي يتعامل فيها الفيلسوف أو المتفلسف لن تكون أفكارًا نظرية جامدة أو ثابتة، بل عليه أن يتفهم طبيعة الأحداث وكيفية النظر إليها من زاوية عقلانية بطريقة فيها من المرونة والتكيف مع طبيعة الحدث الشيء الكثير وفهم أسبابه وأبعاده. وهذا يقود إلى جملة من الأمور التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار. وأول ما تجدر الإشارة إليه هو عدم النظر للأحداث وتفسيرها أو تحليلها بأفكار مسبقة أو حلول جاهزة، واستخدام نفس المفردات أو المصطلحات وتكرارها على الأحداث المختلفة، فهذا أقرب إلى الاجترار منه إلى التحليل السليم لها. فهناك طرفان يستخدمان تلك الطريقة من التحليل وينطلقان إما من أفكار أيديولوجية معينة أو نسق فلسفي نظري يستخدم لتفسير الأمور، وكلاهما يرى الواقع وما فيه من زاوية واحدة لا مجال فيها للتعدد أو الاختلاف. وهذه الطريقة من التحليل تضع من يقوم بها تدريجيًا خارج الواقع لأن الأساس الذي ينطلق منه يعبر عن أفكار عقلية مجردة متسقة منطقيًا بمنطق مجرد لا يعكس نظام الأشياء وارتباط عناصرها الموجود في الواقع ولا طبيعة الأحداث التي تجري فيه. فالنظرة التجريدية للأمور والقضايا تنطلق من أساس واحد فقط وهو العقل المجرد الذي ترى فيه مصدرًا وحيدًا للمعرفة السليمة، بينما تتكون المعرفة في النظرة الواقعية من عنصرين هما: العقل والواقع، وبالتالي تكون الثانية أكثر دقة وإمكانية للتحقق والتطوير لكونها تستند أساسًا إلى الواقع، بينما تكون الأولى مجردة وأقرب إلى الثبات والجمود وتفتقر إلى التحقق في الواقع.
والواقع يعد المحك الحقيقي لصحة الأفكار وإمكانية تطبيقها. فلو نظرنا إلى الأفكار المجردة أو منظومات الأفكار المترابطة منطقيًا، كما الحال في الأيديولوجيا أو المذاهب الفلسفية ذات الطابع الشمولي، التي ترى الواقع كوحدة عضوية مترابطة، وكذلك الأمر بالنسبة لأحداثه وبأي وجهة تسير الأمور فيها، والتي تقوم على النظرة الآلية أو الميكانيكية في تفسير الواقع ومن ثم إلى الحتمية التي تهمش الإنسان ودوره في الحياة. وقد تصدعت الأيديولوجيا والمذاهب الشمولية على صخرة الواقع الذي أثبت أن عملية ربطها بين الأحداث والأشياء ما هي إلا عمليات ذهنية صرفة بالدرجة الأولى وليست فعلية، أي إنها تنزع عن الواقع استقلاليته وتجرده من طبيعة انتظام الأشياء والوقائع الفعلية فيه والعلاقات التي تربط عناصره والإمكانيات المتعددة لربط تلك العناصر بعضها البعض، وتشكل وقائع وأحداثاً مختلفة ومتنوعة. فهي أفكار ميتافيزيقية تتجاوز الواقع بما فيه من وقائع وتجعل من حقيقته مسألة باطنية أو ذاتية، وهي، إذا جاز التعبير، حقيقة لا تنتمي إلى العالم الظاهري والمباشر. بعبارة أخرى، العالم الذي نراه أمامنا شيء وحقيقته تختلف عما هو ظاهر عليه عند الفلاسفة التقليديين.
بيد أن الأمور ليست كذلك عندما ترتبط الفلسفة بواقع الحياة اليومية، فالواقع لا يمكن تفسيره وفق فكرة أو مبدأ واحد إذ أصبح واقعًا متشظيًا ومتنوعًا وله محركاته الواقعية التي تتحكم في حركته بطريقة ليست آلية أو عقلية شاملة. فالحقيقة في هذا الإطار تكون ظاهرية أي مرئية وليست خافية، وما نراه أمامنا في العالم الواقعي لا يختلف عن الحقيقة، ويعود ذلك لكون الأحداث متعينة، أي تحدث أو تقع أمامنا وندركها بالعين المجردة، وتأتي عملية تحليلها ونقدها أو حتى الربط بين بعضها بما يتماشى مع كونها ظاهرية. وعملية الربط هنا، إن وجدت، تقوم على أسباب وعلاقات منطقية واقعية ليست مجردة أو ميتافيزيقية، بحيث يمكن تحديد صحتها من خطئها، وعما إذا كان بالإمكان قبولها بطريقة عقلانية ومتسقة وواقعية. وهذه الطريقة تؤدي إلى التعامل مع كل حدث بخصوصيته وأسبابه الفعلية التي تقف وراءه، أي بطريقة مستقلة أو تنطوي على هامش كبير من الاستقلالية. وبما أن الإنسان هو أحد أبرز مكونات الأحداث والمسئول عنها في المجتمع الذي يعيشه، فمسألة استقلالية الأحداث تعني استقلالية الإنسان، وحرية إرادته في القيام بما يراه مناسبًا من أفعال أو عدمه. وبالتالي، فإرادة الإنسان الحرة لا تنتج عنها تصرفات بطريقة آلية أو حتمية تتكرر مع كل فرد في الأحداث المختلفة وإلا سيعيدنا ذلك إلى الأيديولوجيا وتفسيرات المذاهب الشمولية للواقع والإنسان التي صادرت حريته وجعلته أسير تطورات مادية أو ذهنية مجردة. ويترتب على ذلك أمران، الأول: لا يوجد تسلسل تلقائي في الربط بين الأحداث وتعميمها، فأي عملية ربط لابد أن تكون حذرة وتخضع لتمحيص دقيق، والثاني: أن يكون عقل من يحاول أن يربط بين الفلسفة والواقع اليومي عقلًا حرًا بشكل تام بحيث لا يقدم على أي عملية تحليل أو نقد إلا ويضع في البدء أي أمور مسبقة جانبًا، ويرى من ثم إذا كان هناك مجال للربط بالأحداث الأخرى بعد اتضاح الأمور.
إن ما سبق ذكره حول توجه الفلسفة نحو واقع الحياة اليومية يجب ألا يفهم منه التخلي عن التراث الفلسفي النظري العريق الذي تراكم لأكثر من ألفي عام. هذا التراث الضخم يعكس من دون شك تطور الواقع الحضاري والثقافي للحضارة الإنسانية التي مرت بمراحل عدة تميز كل منها بثقافة معينة عكست نفسها على الفلسفة. فالعصر الوسيط الذي أخذت فيه الفلسفة طابعًا دينيًا اختلفت فيه الفلسفة عن قبله عندما ظهرت عند اليونان، وعن بعده حين دخلت أوربا العصر الحديث. إن الاطلاع على هذا التراث ودراسته يعدان ضرورة لكل من يريد أن يربط الفلسفة بالواقع، فلا يمكن التعامل فلسفيًا معه إلا بعد دراسة الفلسفة نظريًا وتكوين قناعات معينة حول عديد من أفكارها ومن ثم تبني أيا منها أو أخذ طريق آخر ينقلها إلى واقع الحياة اليومية. كما أن الاستمرار في إنتاج الأفكار النظرية وتطويرها والمحافظة على ذلك تعود لمن يريد الاستمرار على النهج النظري التجريدي وتقاليده القديمة. ولا شك أن محاولة ربط الفلسفة في الواقع وزجها بالشأن اليومي للإنسان تعد مغامرة يسير صاحبها في طريق وعر ومحفوف بالمخاطر، وعليه أن يجيد السير في هذا الطريق والحذر من الانزلاق على جوانبه لأن ذلك سيعيده مرة أخرى من حيث أتى! ■