أدب ما بعد كورونا وجمالية العزلة اكتبوا تصِحّوا

أدب ما بعد كورونا وجمالية العزلة  اكتبوا تصِحّوا

مع تفشي الاعتلال الوبائي في أرجاء العالم بفيروس كورونا أواخر سنة 2019، استعاد العالم الأحداث التاريخية المتعلقة بالأوبئة والجائحات من أجل الاستفادة من دروسها وعِبَرها. قد يُستعمل هذا الوباء لتوصيف المرض الذي يتحول إلى الجائحة، فيتأذى منه عدد كبير من البشر، وقد ينتشر في منطقة جغرافية واسعة، فيتحول إلى مرض شديد العدوى وإلى وباء عالمي يطلق عليه اسم الجائحة، لقد أيقظ انتشار وباء كورونا ذكريات العالم حول تاريخ الأوبئة التي اجتاحت الحضارات والمجتمعات القديمة.

 

 منذ قديم الزمن تحدث المؤرخون عن الأوبئة والجائحات التي انتشرت عالميًا، أشهرها وباء الطاعون الذي أصاب حاضرة أثينا سنة 430 ق.م، وهي أول جائحة في التاريخ الإنساني تم توثيقها وعُرفت بطاعون أثينا، كما سماها المؤرخ توكديد Thuceydid بجائحة الطاعون الأسود الذي اجتاح قارة آسيا الوسطى سنة 1346 مع وصول الجيوش المنغولية، ثم انتقل إلى إفريقيا الشمالية، وبعد ذلك امتد انتشاره إلى إيطاليا وفرنسا عبر ميناء مرسيليا، ووصل عدد ضحاياه من 25 إلى 40 مليونًا من الموتى في أوربا وحدها، أي ما يعادل الثلث من سكان العالم حسب إحصائيات تلك الفترة، هناك جائحة وباء الزكام الإسباني التي ليست لها علاقة بإسبانيا، وكان تاريخ حدوثها متزامنًا مع أحداث الحرب العالمية الأولى، لقد كان هذا الوباء من طبيعة مُعَولمة قدِم من بلاد آسيا ثم انتقل إلى الولايات المتحدة الأمريكية بواسطة الجنود الذين كانوا يساعدون فرنسا في جبهة القتال الأوربية، لكن عدوى هذه الجائحة لم تنتشر إلا سنة 1919، وكانت حصيلة ضحاياها ما يعادل 30 مليون فرد في أوربا، ولم تترك عدواها منطقة من العالم إلا اجتاحتها، أما جائحة الكوليرا فقد ظهرت سنة 1926، وانطلقت من دلتا نهر الكانج في الهند، وانتقلت إلى روسيا سنة 1930 مرورًا بألمانيا لتصل إلى فرنسا عن طريق ميناء كالي ثم إلى باريس، ولا يُذكر سبب تفشي هذه الجائحة التي عَرفت انتشارًا سريعًا وبلغ عدد موتاها نحو 100 ألف في فترة وجيزة لا تتجاوز ستة أشهر، وقد وصل عددهم في باريس وحدها إلى عشرين ألفًا، ثم انتقلت عدوى الكوليرا إلى الكيبيك في كندا عن طريق المهاجرين، وفي أواسط القرن العشرين ظهر الزكام الآسيوي سنة 1956 – 1957، والذي أدى إلى الفتك بمليونين على المستوى العالمي، ثم تلاها وباء السيدا سنة 1981، الذي بلغ عدد ضحاياه أكثر من مليونين من ساكنة العالم.

 ظاهرة الخوف والرعب
يرتبط موضوع الخوف والهلع الذي يثيره فيروس كوفيد-19باختصاص العلوم النفسية - الاجتماعية، لقد نشأ من تحليل ظاهرة الخوف والرعب ظهور صنف من النظريات تختلف أيما اختلاف في نظرتها لتحليل السلوك البشري، وهذه النظرية تندرج ضمن إطار علم النفس - الاجتماعي تحت مسمى سيكولوجية الجماهير Psychologie Des Foules التي تزعمها العالم غوستاف لوبون، معتمدًا على ربط تمثّل الهلع والخوف بالسلوك الهستيري الجماعي، حيث يفقد الفرد كل استقلاليته وحسه النقدي، ويذوب في كتلة عاطفية وانفعالية تتجاوزه وتجْرفه.
انتشر الهلع الهيستيري بين المواطنين فسارع الكثيرون من مواطني المملكة المتحدة إلى الأسواق لشراء كميات كبيرة من السلع الغذائية، ما أدى إلى فوضى عارمة كادت تؤدي إلى أحداث الشغب والعنف، ففي حالة الهلع يحس الشخص بأن الخطر أصبح داهمًا وأنه سيصاب بالعدوى وآثارها المميتين لا محالة، فالهلع هو حالة من الذعر الذي يشُل تصرف الشخص ويشعره بفقدان السيطرة الكلية على الموقف، إنها نوبة من القلق المرَضي الحاد تجتاح الشخص، إذ تتضخم الأخطار التي تصبح داهمة بشكل يتجاوز كثيرًا مستوى تقدير الخطورة.
من أطرف الظواهر الوبائية التي عُرِفت بسيكولوجية الجماعات والمجتمعات، ما يُعرف «بمناعة القطيع»، إذ لا تنطبق دينامية الفعل الجمعي إلا على مثل هذا النوع من الجماعات، من هنا يصعب التنبؤ بسلوك الحشد واتجاهاته والمآلات التي ينتهي إليها، لقد تم استخدام هذا المصطلح عام 1923، واعتمده كدواء للوباء رئيس الحكومة البريطانية الحالي بوريس جونسون، لكن نتائجه كانت كارثية عندما أصيب هو بالعدوى، لأن نظرية «مناعة القطيع» لا تعتمد على مقاومة الأصحاء للمرض، بل العكس، نجدها تقوم على قاعدة دفاعية عِمادها أن مَن يقوم بمقاومة المرض هم حاملوه، أي إنه يقوم مقام اللقاح المناسب، وهذا يعني أنه منتَج لمبدأ انتشار العدوى وليس مقاومتها أو حصر تفشّيها، فكلما اتسع المرض وازداد عدد المصابين تعززت إمكانية مقاومة المرض باكتساب المناعة اللازمة والمطلوبة في حالة الهلع الذي ينتاب «مناعة القطيع»، كأنها نوبة من القلق المَرَضِي الحاد التي تجتاح الشخص عند تضخم الأخطار التي تصبح داهمة، بشكل يتجاوز كثيرًا تقدير الخطورة الفعلية، وتعتبر سياسة «مناعة القطيع» التي تبناها رئيس بريطانيا في نظر البعض، مجرد صياغة عصرية لنظرية مالتوس العصرية وللنزعة الهمجية في التعامل مع حياة البشر. 
 بدأت ظاهرة الحَشْد تزدهر مع انتشار مواقع التواصل الاجتماعي خصوصًا مع استعمال الفيسبوك، وقد ساعدت طبيعة تكنولوجيا الاتصال في تشجيع ظاهرة الحشد /الحشود، فالتكنولوجيا توفر للفرد التخفي خلف الشاشة ولا تَظْهر هويته الحقيقية، تمامًا كما في الحشد الحقيقي الذي لا قيمة فيه للفرد أو لهُويته، فالفرد يتنكر باسم مستعار، وقد يفصح عن ذاته، لكن نادرًا ما تتحقق الثقة بأي هُوية بما في ذلك هوية النجوم والمشاهير، لقد كان للحجْر الصحي دور كبير في التصدي للأمراض المُعْدية في ظل عدم وجود علاج أو لقاح ناجع للقضاء على جائحة كورونا، وفي الوقت نفسه اتجه الكثير من الدول والحكومات، بتوجيه من منظمة الصحة العالمية، إلى فرض مجموعة من الاحترازات التقييدية، لعدم الإصابة بالعدوى الوبائية، وذلك باعتبارها الملاذ الواقي من الإصابة بوباء كورونا، وضد انتشار العدوى الجائحة من خلال الالتزام بالتباعد الجسدي.
في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر انتشر وباء الطاعون في المغرب وحصد آلاف الأرواح، وكانت الدولة المغربية آنذاك، عاجزة أمامه، لقد عُرف الحَجْر الصحي بمُسمى «الكارَنتينة» في اللغة الفرنسية، التي تعني مدة أربعين يومًا هي مدة العزل الصحي المقررة للمريض، ولقد سبق للمؤرخ المغربي أحمد بن خالد الناصري، صاحب كتاب «الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى»، أن قدم تعريفًا دقيقًا للوباء شبيهًا بوصف وباء كورونا (وهو إسهال مُفرط يعتري الشخص ويصحبه وَجَع حاد في البطن والساقين ويعقبه تشنج وبرودة واسْوِداد لون، فإذا تمادى بالشخص حتى جاوز أربعًا وعشرين ساعة، فالغالب السلامة، وإلا فهو ملاق حتفه)، كما أن السفير المغربي أبي عثمان المكناسي في رحلته إلى إسبانيا بعنوان «الإكسير في فِكاك الأسير» كان شاهدًا على تجربة الحَجْر الصحي عند زيارته إسبانيا، التي وصفها بطريقة غاية في الدقة (ولقد ذكروا لنا من قَبْل، أنه لا بُد من أن نجعل الكرنتينة Quarentaine، ومعناها أن يقيم الذي يَرِدُ عليهم، في موضِع معروف عندهم، مُعَد لذلك، أربعين يومًا، لا يخرج منه ولا يدخل إليه،... ولهم في ذلك تشديد كثير، حتى أن يُؤتى إلى صاحب الكَرنتينة بالطعام يطرَحه له عن بُعد، ويحمله الآخر ولا يتماسان، وإن وَرَد عليهم بكِتاب، ذكروا أنهم يُغَمسّونَه في الخَل بَعد أن يقْبِضوه منه بقَصَبة، كما سبق للكاتب طه حسين أن تحدث في رواية «الأيام» عن انتشار وباء الكوليرا في قريته مطلع القرن العشرين، ويصف بِلَوْعة عائلته، عندما مات أخوه الأوسط طالب الطب بسبب وباء الكوليرا، الذي يقول عنه طه حسين إنه «هَتَك بأهلها هتْكًا ذريعًا ودمر مُدنا وقرى، ومحا أُسَرًا كاملة» كما أن الشاعرة العراقية نازك الملائكة العراقية اقترن اسمها بقصيدة «الكوليرا» التي بوأتها ريادة الحداثة الشعرية لأنها صارت من مؤسسي الشعر الحر عام 1949، وقد تراجعت عن هذا الموقف في الطبعة الخامسة من كتابها «قضايا الشعر الحر» وأقرت بأن قصيدتها ليست الأولى في الشعر الحر، وأنها تعترف ببدر شاكر السياب رائدًا للشعر الحر من خلال قصيدته «هل كان حبًا». وعلى المستوى الأكاديمي درست نازك الملائكة في جامعة بغداد والبصرة وانتقلت في عقد الخمسينيات إلى دولة الكويت ثم استقر بها المقام في مدينة القاهرة، وقضت سنواتها الأخيرة في منزلها نتيجة رحيل والدتها في عزلة كئيبة إلى أن توفيت وحيدة بمصر سنة 2007.
لقد ترَكَت جائحة كورونا التي اجتاحت أوربا والعالم العربي بصماتها على الثقافة والشعر والرسم وباقي الفنون، وفي جل الأعمال الأدبية التي ظهرت في سياق «الكرنتينا» أو الحَجْر الصحي، حيث تحولت هذه العزلة إلى وسيلة خاصة للحفْز على الإبداع والتأمل الفكري، وقد تلتقي تجربة الحَجْر الصحي القسري مع فِعل التأمل والخَلْوَة التي تعطي أهمية لما هو روحي، إن الخَلوة بالمعنى الصوفي نوع من العُزلة التي تمكن الصوفي من تطهير قلبه من أدْران العالم، والخَلوة ليست جديدة لدى المتصوفة، حيث مارسها من قبلهم الأنبياء والرسل، فالنبي محمد كان يختلي بنفسه في غار حِراء، ومن شروط دخول الخلوة الانقطاع عن العالم والتطهر من الدنيا وتنظيف القلب، ولقد عاش تجربة العزلة كثير من الفلاسفة بطريقة طوْعية أو فُرِضت عليهم، وهناك من جعلها موضوعًا للتفكير، ومن أشهرهم الفيلسوف شوبنهور، الذي قال في العزلة قوله المأثور «لا نكون أحرارًا إلا في عزلتنا» لأن الخروج من العزلة قد يؤدي إلى تقديم تنازلات باهظة، وفي غياب الوباء غالبًا ما تكون العزلة اختيارية، هذا ما حصل للمؤرخ المغاربي عبدالرحمن ابن خلدون الذي كَتب أشهر كتبه «المقدمة» وهو معتزِل بقلعة ابن سلامة في منطقة تاغزوت الواقعة غرب الجزائر، عندما قرر التمرد على مكائد السياسة وتعقيداتها بالانصراف عنها كلية إلى عُزلته وخَلوته المُلهِمة بعد تجارب مليئة بالصراعات والأحزان، على فَقْد الأعزاء من أبويه وكثير من شيوخه إثر وباء الطاعون الذي انتشر في جميع أنحاء العالم سنة (749هـ 1348-م) يقول العالم ابن خلدون عن شروط خلوته (وأنزلوني بأهلي في قلعة ابن سلامة فأقمت بها أربعة أعوام متخليًا عن الشواغل كلها، وشرعت في تأليف هذا الكِتاب وأنا مقيم بها، وأكملت المقدمة على ذلك النحو الغريب الذي اهتديت إليه، في تلك الخَلْوَة فسَالَت فيها شآبيبُ الكلام والمعاني على الفكر، حتى امتخضت زبدتها وتألفت نتائجها)، ومما يدعو إلى العجب أن ابن خلدون نفسه يخبرنا بأن تأليفه للمقدمة لم يأخذ منه سوى خمسة أشهر، آخرها كان في منتصف عام تسعة وسبعين وسبعمائة، فتأليفه للمقدمة في هذه المدة القصيرة مسألة تكاد لا تصدق، وهناك علاقة متشابكة بين العزلة ونشاط اللاشعور والعقل الباطني في تحريك فكر الإنسان نحو الابتكار والتجديد، ويظهر دور اللاشعور في كامل المفاجأة، الذي لطالما يقترن بالكشف الإبداعي، هو ما يؤكده صاحب «المقدمة» عندما صرح بالدهشة التي انتابته وهو يكتشف أنه بصدد إرساء ركائز علم جديد، وبإرجاع «هذا العلم الغريب إلى مصدر الإلهام الإلهي». 

الكتّاب والعزلة
أما عن الكُتاب الأوربيين الذين أدمنوا معاشرة العزلة، فهناك الكاتب مارسيل بروست، الذي أحب العزلة بعد وفاة والدته وإصابته بمرض الربو، فاعتزل طوال ثماني سنوات مقاهي باريس وشوارعها وصالوناتها مُفضلاً ملازمة شقته في «هاملين» بالدائرة الثامنة بباريس، هناك بعض النقاد وأصدقاء بروست، من عزوا عزلة الروائي إلى مرض الرَبْو الذي كان يعانيه، فيقولون بأنه تأثر بوالده أدريان بروست الذي كان يشغل مهمة «المراقب العام للخدمات الصحية» في باريس وكان من رواد تدابير الحَجر الصحي لوقاية الفرنسيين من الأمراض المُعدية التي انتشرت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في الشرق الأقصى ودول البلقان، لقد خلا بروست بنفسه في غرفة مبطنة بالفِلين العازل حتى لا يسمع أي ضجيج قادم من العالم الخارجي، «في هذا الفندق الفارغ تمامًا لم أكن أخشى من الوحدة، ولم يسبق لي أن شعرت بالسأم، بل إن خيالي ملأ كل الفراغات وكان وحده كافيًا ليشغلني».
 كما تعرضت الفنانة المكسيكية فريدة كاحلوFarida Kahloعام 1925 لحادث باص كان ينقلها إلى منزلها واضطرت معه إلى البقاء مستَلقية على ظهرها سنة كاملة، وبدأت ترسم وجهها ناظرة إلى مرآة معلقة في سقف البيت إلى أن تعافت، كما أن الكاتب التشيكي فرانز كافكا عاش طوال حياته القصيرة معزولاً عن العالَم، لقد وضعته العزلة أمام الإبداع كما في روايته «المسخ»، وقال عنه حافظ أسراره وصديقه الكاتب الألماني غواشيم أونسيليد (بالرغم من العزلة والمرارة اللتين طبعتا حياة كافكا، فإننا واجدون شيئًا مهمًا آخر عنده، وهو جانب الحب والقدرة على الاستحواذ على الناس وتحقيق النجاح منذ ظهور كتابه الأول «تأملات»)، أما الكاتبة فرجينيا وولف بكتابها (في غرفة خاصة للذات Chambre a SoiUne الذي يعتبر بمنزلة مانيفستو «الكتابة النسائية» وكانت تنظر إلى معاني العزلة والوحدة كطريق أساسي للإبداع، وإذا كانت فرجينيا وولف قد اعتبرت أن «الاستقلالية الاقتصادية» أحد مُقَوِمات الكتابة الابداعية عند المرأة، لأن امتلاك «غرفة خاصة للذات»، شرط - حسب فرجينيا - للإبداع، عندما يغلق الإنسان باب غرفته الخاصة ويبقى وحيدًا مع أفكاره وكلماته، بعيدًا عن ضجيج العالم).
 لقد اشتهر الفيلسوف مارتن هيدغر الذي اختار العزلة عن طواعية بكوخ في «الغابة السوداء»، ففي شهر  سبتمبر 1933 تلقى مارتن هيدغر الذي كان قد عُين آنذاك عميدًا لجامعة فرايبورغ وللمرة الثانية، اقتراحا بتعيينه أستاذًا لتدريس مادة الفلسفة في جامعة برلين، ولهذا كتب نصًا بعنوان «الغابة السوداء تُلهِمني» يتضمن أسباب تفسير رفضه للمنصب المذكور، وأَعَد وصفًا دقيقًا وشاعريًا للبيت الريفي الذي اعتاد الاشتغال والتفكير فيه، بوادي «تودنا» القريب من أعلى قمة في الغابة، وفي النص صدى لبعض من حياة هيدغر، في هذا النص الكثيف بعنوان (لماذا يجب البقاء في الأرياف؟) يميز هايدغر بين العزلة وبين التوحد، بقوله «غالبًا ما يندهش أهل المدينة من انعزالي، وانما هي الوَحدة، ففي المدن الكبرى يستطيع المرء بكل سهولة أن يكون فيها وحيدًا، ذلك أن للوحدة القدرة الأصلية على عدم عزلنا، بل إنها على العكس من ذلك، نرمي وجودنا بأكمله في الحوار الواسع مع جوهر الأشياء كلها». 
ومن الكُتاب المعاصرين الذين فاجأتهم الجائحة وهو يستعد منخرطًا في كتابة رواية عن وباء الطاعون فاضطر أن يؤجلها، وخلال العزلة الاختيارية في الحجر الصحي، يقول الروائي التركي أورهان باموق الحائز على جائزة نوبل في خطاب الفوز بجائزة نوبل للآداب سنة 2006 بعنوان (الحجر الصحي، هكذا قدمت العزلة روائع الأدب والفن للعالم): (إن التعفف عن نداء العالم القوي، واللجوء بدل ذلك إلى الحياة والأصدقاء والنساء والتلفزيون والسنيما واللجوء بدلًا من ذلك، إلى حياة العزلة، الشرط الأول لأي كاتب يريد أن يبدع، فمن دون عزل الذات والانكباب على العمل بدأب واستمرار لا يمكن إنجاز شيء حقيقي، ليست هناك علاقة مراوية بين الأدب والواقع المباشر، على شكل رد فعل إزاء جائحة كورونا والكتابة عنها بطريقة متطابقة لحضور الحادثة، فجلّ الإبداعات الوبائية الكبرى التي كتبها كبار الكتّاب العالميين، أمثال غارسيا ماركيز والبير كامو وسراماغو، نجدهم تطرقوا لأيام الحصار والعزلة كتجربة ذاتية معيشة وفردية للحجر الصحي، تترك للبعد الفردي لهذه التجربة والمعاناة الشخصية إبان الحجر الصحي أن يطبع الإبداع بلمسات خاصة ويرتبط برؤية متميزة وخاصة لآفة الوباء، لكننا نفاجأ بالموقف الرمادي الذي اتخذه الكاتب الفرانكوفوني الطاهر بنجلون الذي أصيب بداء فيروس كوفيد- 19، مثل الكثيرين الذين أصيبوا بالعدوى، لكنه في تعاطيه مع هذا الوباء قدم كثيرًا من المبررات «الخجولة» و«المرتبكة» التي بعد اعترافه بإصابته بفيروس كوفيد- 19 تنكّر في رسالة لاحقة من إصابته بالداء، بدعوى أن حديثه بضمير المتكلم في رسالته الأولى هو مَا جعل القرّاء يعتقدون أن الأمر يتعلق بمرض حقيقي للكاتب الطاهر بنجلون. لقد نفى الكاتب المغربي الطاهر بنجلون أن يكون قد أصيب بفيروس كورونا، وذلك بعدما نشرت مجموعة من وسائل الإعلام والمواقع العربية والمغربية خبر إصابته، وأوضح بنجلون أن رسالته التي خص بها الإذاعة الفرنسية كانت متخيلة تحكي قصة شخص أصيب بالفيروس وشُفي منه بعد أن «عزل نفسه» لأسبوعين مستعينًا بالأدب والفن والخيال. وكشف بنجلون في رسالة توضيحية أن الأمر يتعلق برسالة له بعنوان «رسالة إلى الصديق البعيد» قام ببثها على أمواج إذاعة فرانس أنتر، بصوت الصحافي أوغستين ترابونار ضمن فقرة «رسائل الداخل»، ومما جاء فيها: «إن كنت غِبْت عن الأنظار أسبوعين، فذلك راجع إلى أنني كنت قد أصبت بفيروس كورونا، وأنا سعيد اليوم بأن أبلغك أنني تعافيت، وأنني من الأشخاص الذين أصيبوا بفيروس كورونا، وكنا محظوظين بالتغلب والقضاء عليه». لكن أغرب ما جاء في رسالة الطاهر بنجلون (أني اكتشفت أن الحجر الصحي ليس مناسبًا للكتابة)، بل إنه أنكر إصابته بمرض كورونا، بعد أن اعترف بإصابته بعدواها. 

أدب الديستوبيا
يعتبر أدب الديستوبيا أحد المذاهب الأدبية الجديدة، مثل أدب الرحلة وأدب المقاومة والأوبئة. وكلمة ديستوبيا Dystopie تعني باللغة اليونانية المكان الفاسد أو المكان الخبيث، وهو مكان أو بلد تخيّلي تجري أحداثه في النظام الشمولي أو في وضع بيئي سيئ، على عكس فضاء اليوتوبيا، التي تحيل إلى المدينة الفاضلة. ويمكن ترجمة أدب الديستوبيا بأدب النهايات الأبوليكتية الأفولية المندرجة تحت أدب الخيال العلمي، إنه أدب المدينة الفاسدة وعالم الواقع المرير ليس للخير فيه مكان ويحكمه الشر المطلق، في مجتمع فاسد غير مرغوب فيه، ومن أبرز خصائصه، الخراب والقمع والقتل والمرض والفقر، وبصفة عامة هو عالم يتجرد فيه الإنسان من إنسانيته، حيث يتحول فيه العالم إلى نوع من «المسخ»، حسب تعبير كافكا.
انتشر أدب الديستوبيا في العالم، وأصبحت رواياته من كلاسيكيات الأدب العالمي، يمزج بين أدب الديستوبيا وأدب الخيال العلمي واستشراف المستقبل. ومن أشهر روايات الديستوبيا رواية «آلة الزمن» للكاتب هربرت جورج ويلز التي صدرت أواخر القرن التاسع عشر وتحديدًا سنة 1895، وهي من الروايات التي قدمت صورة قاتمة عن مستقبل العالم، بعدها صدرت رواية «عالم جديد شجاع» سنة (1932) للكاتب الدوس هسكلي، وتعتبر من روائع الأدب العالمي التي تتطرق لإشكال فلسفي يتحدد في الاختيار بين الحرية والسعادة، معتمدة على توظيف وخلق مجتمع لهندسة الجينات والاستنساخ للسيطرة على الأفراد، حيث يتم إنجاب الأطفال بهذه الطريقة وتتم برمجتهم لينتموا إلى إحدى الفئات التنفيذية وطبقة الموظفين والمختصين بالأعمال في المجتمع، وسُميت هذه الفئات حسب الحروف الأبجدية اليونانية، ألفا، بيطا، غاما، دلتا، أما في رواية «فهرنهايت 451»، أو الحرارة التي يحترق عندها ورق الكِتاب، فهي من الأدب الديستوبي لمؤلفها راي برادوري، تتطرق للمستقبل وتحظُر فيه قراءة الكتب تمامًا، كما يمنع اقتناؤها، وعندما يعثر على الكتب يتم إحراقها، وهذه الدولة تسيطر على مواطنيها، وتذكرنا هذه الرواية التي استبقت السلطة القمعية الماكرثية التي تعَرض لها المثقفون والمبدعون بحجة أنهم مجرد خوَنة وشيوعيون يتعاملون مع الأجنبي، لهذا ستتم محاكمتهم، فاضطر البعض من الفنانين والممثلين العاملين في هوليود إلى الهجرة إلى الدول الأوروبية هربًا من ملاحقة الشرطة الأمريكية لهم.

كورونا والقيم الرجعية
من المفارقات التي صاحبت وباء كورونا أنه جاء بِقِيَم «رجعية» تعود إلى ما قبل الحداثة، ولهذا يشتم فيها أصداء من التوحش البدائي على المستوى القيمي، هناك نوع من الانفلات الثقافي على شكل ردة بأثر رجعي، تحمل آثار الرغبة في الانتقام القَبَلي، كما تستهدف أجمل ما صنعته البشرية طوال تاريخها، ثم جاءت كورونا لتوجهنا قسرًا إلى استبطانها، لقد قامت بالإجهاز على الحريات الفردية مثل الحق في السفر والقيام بالشعائر الدينية الجماعية وتمت استعاضة الصلوات في المساجد والكنائس بعمل فردي مباشر يقتصر على العلاقة بين المؤمن وخالقه، كما حاربت كورونا جميع الأنشطة المشهدية والأدائية التي تحتفي بالإبداع بشكل جماعي وبالذوق الرفيع في المعارض الفنية والمسارح والسينمات وقاعات الأوبرا، وهذا الحجر لا يمس دينًا واحدًا أو حضارة محددة بل إنه يطول الإنسانية كلها، لكن بالرغم من دفء الحجر الصحي من خلال توثيق علاقتنا أكثر بالعائلة التي كانت تجمعنا معها قبل مجيء كورونا علاقات عابرة، لم ندرك قيمتها إلا بعد أن عُدنا للحجر الصحي في بيوتنا، لقد قتلت فينا كورونا كل رغبة نبيلة للانفتاح على الآخر الذي تحَول، كما يقول الفلاسفة الوجوديون، إلى ذلك الجحيم الذي يمثله الآخر، هناك نوع من الانقلاب الثقافي الذي قاده فيروس كورونا باسم العقلنة التي جمدت أداء بعض الشعائر الدينية كالصلاة على الميت أو احتفالات الزواج أو صلاة الجمعة التي تم تأجيلها إلى ما بعد ذهاب الجائحة، كما أن فيروس كوفيد-19 كان قاسيا عندما شُلت قيم التضامن البشري بدعوى ضرورة التباعد الاجتماعي الذي صار يشجع على الجشع الأناني الذي تفشى بين الدول مع مجيء كورونا، كما أن العلاقات الإنسانية تغيرت مع مجيء الفيروس الذي حَرّم التّماس الجسدي والحب الحميمي في الفضاءات العامة، فقتل أسمى الموضوعات التي كتب عنها الشعراء، ووصفها الرسامون والروائيون والمبدعون عامة، لكن الملاحظ أن بعض الممارسات الاجتماعية المرتبطة بالسلوكيات الاجتماعية المتوارثة عن السلف، كالعادات والتقاليد المتجذرة، مثل تجربة التحية بالأيدي أو بالقُبلات وبالعناق على الطريقة المغاربية التي تنفلت كثيرًا عن طريق السهو، ذلك لأنه من الصعب أن تفرض على الناس معايير أخلاقية جديدة لأن الطبع يغلب التطبع. في هذا السياق يتحدث الباحث الأنثروبولوجي المغربي د.حسن رشيق، عن طُرْفة عاشها لا تخلو من دلالة (أنه لمدة ساعة وأنا أشرح لشخص خَطَر فيروس كورونا وكيف ينتقل من شخص لآخر والاحتياطات الواجب اتخاذها، كعدم المصافحة، وغسل اليدين واحترام التباعد الاجتماعي، في النهاية يفاجئني، يصافحني، يقبل جبهتي ووجهي داعيًا لي، (الله يرحم من قَرّاك/عَلّمك). 
 يمكن مقاربة موضوع وباء كورونا حسب رأي الفيلسوف ألان دونو حسب مدخلين مختلفين، من جهة منظور خطاب ينصب على الأوبئة طبيًا وصحيًا واجتماعيًا وعقلانيًا، ومن جهة ثانية، باعتباره مُلهما للفكر والخيال، فجأة أصبحنا نفكر حسب أصعدة وبناء على رهانات لم تكن معتادة يوميًا، هكذا تَخلق الخيال نتيجة الوباء المرعب والقاتل ضمنيًا للعديد من البشر من جهة أخرى. إن أدب الوباء كان دائمًا موجودًا منذ أن وُجِدت الأوبئة، لكن من المبكر جدًا أن نتحدث اليوم عن مآلات الفنون والاتجاهات الأدبية ما بعد كورونا، لأن تصوّر الأدب مثل غيره من الفنون الأخرى سيشهد تحولاً كبيرًا بعد هذه الأزمة العالمية، ذلك لأن أزمة كورونا ستغير الكثير سياسيًا واقتصاديًا في العديد من بلدان العالم وسوف يتغير الأدب والفن على مستوى الحضور في الفضاء العام نتيجة لتوقيف الأنشطة ذات الحضور الجماهيري بسبب التباعد الجسدي كالسينما والمسرح والمهرجانات الفنية التي سوف تتراجع مفسحة المجال للعروض الفردية من دون جمهور في الفضاء الافتراضي، مع توسع في الانتشار للأنواع الأدبية ذات الحضور والانتشار الفردي المحدود. ومن أهم خصائص الحجْر الصحي التي تمنح للكتابة كمحفز على الإبداع والخلق الفني، أنه من المبكر جدًا التحدث عن مآلات الفنون والاتجاهات الأدبية ما بعد كورونا. لقد تركت الجوائح بصماتها على الثقافة والشعر والرواية، لكن أدب كورونا لن يكتب بالضرورة في مرحلة ما بعد كورونا، لقد كُتِب قبلها، سبق أن كتبه أشهر الكُتاب وأمهر المبدعين الحائزين على جائزة نوبل، لأن الأحداث الكبرى مثل الجائحة تحتاج إلى وقت طويل لكي يستوعبها الأدباء والمبدعون وإلى مزيد من العزلة ■