وقفة مع الشاعر صقر الشبيب عبدالرزاق البصير

وقفة مع الشاعر صقر الشبيب

كان شاهدا على أحداث تاريخية مهمة مرت بالكويت وبالوطن العربي، ومن المؤكد أنه تأثر بهذه الأحداث فانطبعت في تفكيره وشغلت وجدانه/ وظهرت واضحة في أشعاره. فقد بصره في طفولته، لكن بصيرته ظلت تقوى كلما تقدم به العمر وتقدمت الخبرة، حتى أنه رأى رسالة الشعر جلية ماثلة في الحب والخير والجمال. وهذه وقفة وفاء لشاعر يستحق الوفاء.

ليس في المستطاع تحديد اليوم الذي ولد فيه الشاعر المطبوع صقر سالم الشبيب لأن الناس لم يكونوا يعنون بتاريخ مواليدهم في ذلك الوقت، كل ما أستطيع أن أقوله إنه قد ولد سنة 1311 هـ وأن وفاته كانت يوم الثلاثاء 1963/8/6 م ومعنى هذا أن شاعرنا شاهد أحداثا تاريخية مهمة مرت بالكويت وببقية أجزاء الوطن العربي الكبير، ومن المؤكد أنه تأثر بهذه الأحداث تأثرا كبيرا انطبع في تفكيره وفي آثاره، لأن تلك الأحداث كانت بالغة الأهمية، فقد ألمت بالكويت وبالوطن العربي أمور كثيرة أحس بها جميع الناس، ولو لم يكن فيها إلا الحربان العالميتان الأولى والثانية لكان فيهما الكفاية.

والظاهر أن شاعرنا قد فقد بصره بعد أن تجاوز السابعة من عمره، ومعنى هذا أنه كان يذكر ما يؤديه البصر للإنسان من أمور تسهل عليه الحياة وتغنيه عـن الالتجاء إلى الغير، ولا بد أنه كان يتذكر جمال الأشياء، فأي صدمة أحدثها فقد بصره في نفسه؟!.

ذاك ما سنعرفه من بعض قصائده. ومهما يكن من أمر. فإنها كانت بالغة العنف على نفسه، لأن فقد البصر يملأ حياة صاحبه بالنكد والكدر والضيق.

والظاهر أنه حفظ القرآن في بعض الكتاتيب هنا في الكويت ثم ذهب إلى الأحساء ليدرس علوم العربية والدين هناك، ومكث مدة لا نعرف مقدارها، وكل ما نعرفه عنه أنه لم يكن متلائما مع الوضع هناك لأن فكره كان بعيدا عما يلقى إليه من الدروس، بل إن الوضع هناك لم يكن منسجما مع مزاجه، لذلك بادر بالرجوع إلى الكويت، وكان ذلك في أثناء الحرب العالمية الأولى وكان في نحو الرابعة والعشرين من عمره وقد لقي كثيرا من المشاق والمصاعب في طريقه من الأحساء إلى الكويت، إذ كان التنقل في أيام الحرب من بلد إلى بلد محفوفا بكثير من المخاطر، وجملة ما حصل له أنه ركب الباخرة التي أقلته من البحرين إلى الكويت مع بعض رفاقه بدون أي جواز سفر ثم اختفى بعد أن طلبه مفتش الباخرة واستطاع أن يصل إلى الكويت وظل هناك مختفيا طيلة فترة السؤال عنه.

الناس في حياة الشاعر

ولقد كان شاعرنا مرهف الإحساس منذ نعومة أظفاره مما جعله يتألم في حياته أكثر من غيره، فمن الواضح أن كثيرا من الناس قد اشتركوا معه في مشاهدة المآسي والأحداث لكن وقعها يكون أشد على النفس كلما كان إحساس صاحبها رقيقا مرهفا.

وحين اكتمل وعيه اتضح له بأن رقة إحساسه هي سبب شقائه في هذه الحياة، وإلى هذا أشار بقوله:

فما رقة الإحساس إلا بلية

إن عدها نعماء كل امرئ غيري

فلو لم يرق الحس مني لم يعد

على صغري يبيض ما اسود من شعري

ولقد شكا من رقة الإحساس كثير من الشعراء منهم أبو الطيب المتنبي في قوله: ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم خاصة إذا كانت رقة الإحساس ممزوجة بالثقافة لأن صاحبها يكون نظره إلى أمور الحياة أعظم من غيره، وأنت حين تقرأ ديوان صقر تجد أنه كان متصلا بالناس أشد الاتصال وأنه كان يشاركهم في أحزانهم وأفراحهم، فلا يكاد ينتقل من هذه الحياة أحد من الشخصيات الكويتية إلا وينبري شاعرنا بقصيدة يذكر فيها مآثره ويعزي ذويه، فمن ذلك تعزيته للمرحوم الشيخ يوسف بن عيسى وهو من أجل المصلحين في الكويت وصاحب الأيادي البيضاء في المجالات الدينية والاجتماعية والسياسية يعزيه بوفاة أخيه المرحوم أحمد بن عيسى فيقول:

أبا عيسى أراك أجل من أن

يسوق إليك أمثالي العزاء

وكيف أسوق تعزيتي إلى من

لأدواء العقول غدا شفاء

يرينا أوجه الحكم اللواتي

سناها قد هدى القوم السناء

ومن ذلك ثناؤه على المرحوم الأستاذ عبد الملك المبيض أحد رجال الكويت البارزين في التعليم والحاملين لواء التنوير في الكويت. ويبدو أن يوم الخميس كان يوم لقاء المثقفين المستنيرين يتحدثون فيه عن شجونهم وشؤون الأدب، فجاءت هذه القصيدة تشير إلى هذا اللقاء ومطلعها:

يوم الخميس لبست ثوب خدوع

حتى حسبتك غرة الأسبوع

ما زلت يكسوك التواصل بيننا

ثوب المسرة رائق التوشيع

إذ تلبس الأيام غيرك حلة

من نسجها يد شملنا المصدوع

صلة الشاعر بالأمير الراحل الشيخ عبدالله السالم

إننا نجد شاعرنا يتألم أشد الألم حين تضطره ظروفه إلى الانقطاع عن زيارة أصدقائه، ولقد صور ذلك أبلغ تصوير في قصيدة رائية نظمها فبين فيها أسباب تأخره عن زيارة صاحب السمو المرحوم الشيخ عبد الله السالم الصباح.

ولقد رأيت أن أطيل بعض الشيء في رواية هذه القصيدة لان فيها صورة لما عاناه الشاعر في حياته من شدائد ومصاعب، وفيها إشارة إلى صلة الشاعر بالأمير الراحل طيب الله ثراه، دالي أنه كان يعطف على الأدباء والشعراء ويحنو عليهم، كما رسم في هذه القصيدة أيضا بعض ما يحدث للضرير من مضايقات في ذلك الوقت.

يقول الشاعر:

لئن لم أزر في كل يوم محل من

علي له فضل يجل عن الشكر

إلى أن يقول:

كأن لجدران الكويت جميعها

علي تراث غير منسية الذكر

فهن متى أبصرني دون قائد

رددن نظيم الصبر مني إلى نثر

أظل كأني كنت بالأمس واترا

وهن بصفعي اليوم يأخذن بالوتر

فيسلمني هذا لذاك بصفعة

وذاك إلى هذا بصفع له مر

وليس لعكازي وإن طال من غنى

تجاه صنيع الجدر أو أنملي العشر

فأبقى شريد اللب حتى يتاح لي

كريم عن الإسعاف ليس بمزور

وبعد أن يصف حالته وما يعتريه من غضب وجزع لما يلاقيه من عثراته يقول:

ومارقت الجدران يوما لحالتي

وهل رقة للطين ترجى أو الصخر؟

وإن أنجُ منها لم أعد قط ناجيا

إلى منزلي من وقعة بي للحمر

فكم أوجعت ظهري صلاب ظهورها

وكم عفرت ظهري بطرحي على العفر

فمهما أقع مستلقيا لا تجد فماً

على منظري من جهلهم غير مفتر

كأنهم شاءوا بإرسال ضحكهم

زيادة ما قد ألحقوني من الشر

وبعد أن يتحدث عما يعانيه من مصاعب يخلص إلى قوله:

لهاتيكم الأسباب قلت زيارتي

وإن كنت من شوقي إليكم على جمر

فلم أسل عن أفق عهدتك بدره

وأمجاد أصحابي به هالته البدر

فيارب ذي وصل كثير بلا هوى

وآخر نلقاه على عكسه يجرى

أمولاي عبد الله أحلف بالذي

أؤمل منه أن يزيدك في العمر

وأن لا يريك الدهر سوءا بأن لي

إليك اشتياق المجدبين إلى القطر

تسعة وثمانون بيتا في المأساة العربية

ونلاحظ صفة أخرى في شاعرنا- رحمه الله- وهي أن عقيدته العربية واضحة أشد الوضوح، لذلك نراه يتفنن حينما ينظم عن فلسطين. ونحن حين نقرأ هذه القصائد نجد أن الشاعر قد انفعل أشد الانفعال، الأمر الذي يوضح لنا أن هذه المأساة العربية قد أثرت في ضمير شاعرنا أشد التأثير فمن ذلك قوله:

أيرفع رأسه العربي يوما

إذا امتلكت فلسطين اليهود؟!

وهل عذر له إن لم تجده

بأغلى ما لديه لها يجود

ويبلغ طول هذه القصيدة تسعة وثمانين بيتا لكن طول هذا النفس لم يضعف من إجادة الشاعر في هذه القصيدة. فكلها قوية في التعبير واضحة أشد الوضوح، وقد بلغ من شدة تأثر الشاعر بهذه المأساة أنه استبعد أن نكون نحن من عرب العصور الماضية، أولئك الذين عرفوا بالنجدة والبأس والحمية، يقول:

أيعرب من بنيه عرب يومي

لعمر أبيك ذا شيء بعيد

وظني أنه لو شق عنه

ليشهد ما آتيناه الصعيد

لقال إليكم عني إليكم

فليس لكم إلى نسبي صعود

ويقول أيضا:

بني يعرب من فاته أمس مسكه

حساما به عن قومه يحسن الذبا

فما فاته أن تمنح اليوم كفه

فلسطين ما يمحو به ذلك الذنبا

ويعتقد الشاعر في هذه القصيدة أن مأساة فلسطين لو كانت في غيرها من البلاد العربية لبذل الفلسطينيون أنفسهم في سبيل إخوانهم العرب وهذا الرأي يصور ما يجول في نفس شاعرنا من حب فلسطين وتقدير الشعب العربي في فلسطين يقول:

فهم من علمتم بالوفاء لقومهم

وإخوانهم مهما شكوا حادثا صعبا

فلا تعدموا أهل الوفاء وفاءكم

وراعوا يتاماهم وارعوهم الخصبا

فماعسى أن يعتري الشاعر المرحوم صقر لو شاهد ما نشاهده اليوم من اتفاق قالوا عنه بأنه سيكون أساسا لدولة فلسطين وهو اتفاق انقسم فيه الناس بصورة عامة والفلسطينيون بصورة خاصة انقساما خطيرا لا يدري عواقبه إلا الله.

قدرة الشاعر على رسم انفعالاته

وللشاعر في تصوير ما يجول في ضميره من انفعالات عدة قصائد طوال، وقد أجاد فيها كل الإجادة، ويتصف شاعرنا بالشجاعة الأدبية. ولا بد أن تكون هذه الصفة قد جرت عليه كثيرا من المتاعب، لأن صاحب هذه الخصلة كثيرا ما يتعرض للمصاعب والمشاق في حياته ذلك لأن كثيرا من أفراد المجتمع لا يحبون أن تذكر الحقيقة كما هي وإنما يرون أن تذكر الحقيقة مغلفة، أو إن شئت الدقة فقل: أن تستر الحقيقة فكثيرا ما تكون الحقيقة سببا في تعرية بعض الناس وإظهارهم على حقيقتهم. لهذا نرى شاعرنا يصرخ في مواطنيه ينبههم إلى ما يتستر به بعض رجال الدين الذين اتخذوا الدين جسرا يصلون به إلى ما يبتغونه من جمع الأموال وصنع الجاه ونيل بعض المآرب، يقول:

القائمين من الديانة باسمها

شبكا لصيد فلانة وفلان

يا من لهم حيل على الشيب انطلت

خافوا عقاب تيقظ الشبان

إن لم تخافوا أن تحول عنكم

هذى المآتم رحمة الرحمن

والله أعدل عادل فتوقعوا

منه جزاء الظلم والعدوان

وقد تفنن شاعرنا في هذا الأمر تفننا عجيبا، مما يدل على أنه قد تعمق في هذه التجربة وعانى منها أشد العناء حيث أطلق عليه المتزمتون اتهامات عديدة على رأسها: أنه خارج على تعاليم الدين الحنيف، لهذا نجد الشاعر صقر يبادل المتزمتين هجوما بهجوم فيقول:

أقاموا من عمائمهم شباكا

لصيد المال من طرق الحرام

تسموا بالديانة وهي منهم

على بعد النجوم من الرغام

وأي ديانة كانت طريقا

لسير الخادعين إلى الحطام

وقد خافوا شموس العلم تبدو

فتظهرهم كما هم للأنام

فراحوا يزعمون بلا حياء

بأن العلم مجلبة الآثام

ونحن حين نتأمل هذه الأبيات نجد فيها ما يؤكد أن الشاعر قد لقي من خصومه معاملة قاسية مما دفعه إلى أن يبادلهم في هذه الأبيات مثلما لقي منهم.

مع حملة لواء الإصلاح

لم يكن الشاعر هو الوحيد الذي قاسى من أولئك المتزمتين وإنما لقي مثل هذه المعاملة كل من كان يدعو إلى تفهم الدين الحنيف تفهما صحيحا أمثال المصلح الكبير الشيخ يوسف القناعي والأستاذ أحمد البشر وعبدالملك المبيض وعبد العزيز الرشيد وغيرهم من حملة لواء الإصلاح.

ولقد حمل المؤرخ الكويتي المعروف الشيخ عبد العزيز الرشيد على أولئك الذين يحاولون إعادة مجتمعهم إلى الوراء حملة شديدة في الجزء الثاني من كتابه "تاريخ الكويت" ذلك أن أولئك المصلحين كانت حياتهم تتعرض إلى المخاطر بسبب أن الجهل كان متغلبا في ذلك الوقت إلى الحد الذي لا يتورع أحد الجهال فيه أن ينفذ ما يؤمر به، كما نشاهده في هذه الأيام في مصر العزيزة.

ولا يشك أحد في أن كلا من المصلحين الكبيرين الشيخ عبد العزيز الرشيد والشيخ يوسف بن عيسى القناعي كانا عالمين مجتهدين باذلين كل ما يملكان في الإصلاح والدعوة إلى التعليم بصورة صحيحة، كانا يفعلان ذلك في كل فرصة يجدانها سانحة لذلك، وكان هذا النشاط المشروع منافيا لتعاليم الإسلام في نظر أولئك الذين لا يعرفون إلا الترهيب والتشديد، ولا يحتمل المجال هنا أن أورد ما صدر عن ذينك المصلحين وغيرهما من دعاة التنوير، فكل ما قصدته هنا هو أن نتذكر الشاعر المرحوم صقر بن سالم الشبيب، هذا الشاعر الذي حاول أن يؤدي رسالة الشعر المتمثلة في الحب والخير والجمال، وقد لقي بسبب تنوره وإخلاصه لرسالة الثقافة الصحيحة عنتا شديدا من فئة لم تستطع أن تتقبل رسالة الإصلاح الإسلامي.

جهود مخلصة

ولا بد لي هنا من أن أشير إلى ما قام به كل من الأستاذين أحمد البشر الرومي وعبد الله زكريا الأنصاري، فقد تصدى الأستاذ البشر لجمع شعر الشاعر صقر في ديوان كتب له مقدمـة ضمنها ترجمة الشاعر ونشره بين الناس.

أما الأستاذ عبد الله زكريا الأنصاري فإنه درس شعر الشاعر دراسة عميقة توصل منها إلى أن الشاعر صقر كان يرى أن العلم هو الدواء الشافي لكل ما يعانيه المجتمع الكويتي من أمراض، وأن شاعرنا كان ناصع العقيدة مخلصا لقضايا أمته العربية والإسلامية، ومن المؤكد أن جمع ديوان الشاعر ودراسة شعره لم ينجز إلا بعد أن بذل كل من الأستاذين أحمد البشر وعبدالله زكريا جهودا مضنية لأن شعر الشاعر كان في أوراق ممزقة متفرقة.

أما دراسة شعر الشاعر فإنها لا تتم إلا إذا قام بها أديب متفرغ شغفت نفسه بالبحث والدراسة، كما أن نفس الأستاذين المذكورين قد امتلأتا بالإعجاب بالشاعر وتقديره وإلا لما قاما بما قاما به من عمل أدبي مشكور.

ويبدو لي أن شاعرنا صقر- رحمه الله- كان ضائقا بحياته فأنت لا تجد في ديوانه إلا تفننا في مر الشكوى، ذلك أن الفترة التي عاشها كانت فترة ضيق في الكويت إذ إن رخاء الحياة والاستمتاع بلذائذها كان في مبدأ أمره، لهذا نجد الشاعر متجهما غير راض عن حياته، فنراه يقول:

لقد طال مني المكث في مظلم الأسى

إذا انجاب عني غيهب جاء غيهب

وما زالت الأيام ترمي صروفها

فؤادي بما منه أخاف وأرهب

إلى كم وقلبي للشوائب مسرح

إلى كم وقلبي للنوائب ملعب

إلى كم سروري وجهه متجهم

إلى كم محيا راحتي متقطب

إلى كم جهام من رجائي سحابه

وحتى متى برق الأماني خلب

لماذا يعاديني الزمان ويعتدي

علي بما منه التصبر يسلب

ويكاد يكون شعره كله على هذا النسق المتجهم.

 

عبدالرزاق البصير

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




الشاعر صقر الشبيب





الشيخ يوسف بن عيسى القناعي