المجلات الثقافية بالعالم العربي شهادة قارئ وبعضٌ من تمنياته

مع بداية اكتشافنا لقارّة الثقافة وظواهرها ومنتوجاتها في السنوات الأولى من ثمانينيات القرن الماضي، كنّا أنا ومجموعة من الأصدقاء، نُعَلّم الأسابيع والأشهر بصدور مجلة من المجلات العربية أو المغربية التي كانت تصدر حينذاك، مجلات كنا نتخطّفها في الجامعة والجمعيات، ونتداولها فيما بيننا بابتهاج ورهبة، كأنها مادة قابلة للاشتعال! ومن بين هذه المجلات، أذكر العناوين التالية: مجلة «الثقافة الجديدة» التي كان يديرها الشاعر محمد بنيس، والتي علّمتنا أن للكتابة بياناتها وسجالاتها، ومجلة «الجسور» التي أخذنا منها شجاعة النقد وجرأة الموقف وحماسته، ومجلة «البديل» التي كان يصدرها وزير الثقافة المغربي الأسبق الروائي بنسالم حميش، والتي كنّا نتقاسم خلاصات موادها الغنية وتنقيبها عن أسرار التراث المكنونة، ومجلة المقدمة التي أشرف عليها بسخاء الشاعر المتوّج أكثر من مرة عبداللطيف اللعبي.
بالطبع ليست المصادفة هي التي جعلت هذه المنابر تُمنع من الصدور بقرار إداري بليد.
أذكر كذلك مجلة الكرمل التي كنّا ننتظر قدومها إلى الأكشاك كأننا ننتظر معشوقة خرافيّة الجمال، خصوصًا أن رئيس تحريرها لم يكن سوى الشاعر الاستثنائي محمود درويش، ومجلة مواقف وقامة أدونيس العملاقة، ومجلة الطريق ودراسات فيصل دراج ومهدي عامل الرصينة، ومجلة الناقد وأسماءها الجديدة والمشاغبة، ومجلة آفاق التي يصدرها اتحاد كتّاب المغرب، والتي فُتنّا بشكل قوي بعددها الخاص المتمحور حول الثقافة الشعبية، إذ اكتشفنا، ربما للمرة الأولى بفرح ودهشة، أن اجتهادات السيميائي الفرنسي رولان بارت قد تفيدنا للاقتراب من موسيقى كناوة، أو من الوشم المغربي الفاتن.
حضور تاريخي لـ «العربي»
هنالك أيضًا مجلة عبرت الأجيال والحقب بهدوء وثقة بالنفس، وكانت دومًا، ومازالت، حاضرة في وجداننا الثقافي المشترك وفي حياتنا اليومية، بجديتها وموسوعيتها وقدرتها على استدراج شرائح مختلفة من القراء، وأقصد مجلة العربي التي تصدر منذ عام 1958 بانتظام ونضارة تُحسَد عليهما. ومصادفة القراءات فقط جعلتني ألمس، أخيرًا، مظهرًا من مظاهر ترسّخ هذه المجلة في الوعي الجماعي المغربي، وذلك من خلال حضورها في عملين إبداعيَّين قويين كفاعل أو كعامل مؤثر في تطور الوقائع.
وقد عثرت في قصة الصاروخ، المنشورة بمجموعة قصصية أساسية وقّعها الراحل المبدع مصطفى المسناوي، على هذا المشهد: «وفي رأس الزقاق التقى مصادفة صديقه المعلم الذي يقرأ مجلة العربي باستمرار» (مصطفى المسناوي، طارق الذي لم يفتح الأندلس، منشورات المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1979، الطبعة الأولى، ص 17).
منارات وعلامات طريق
أما الإحالة الثانية على هذا الحضور، فتتوزع على مشهدين متضمنين برواية عميقة وممتعة للروائي والمسرحي يوسف فاضل، وهي رواية حياة الفراشات (منشورات المتوسط، إيطاليا، 2020، الطبعة الأولى).
ففي الصفحة 189 من هذه الرواية نقرأ: «عاد هلال بأعداد من مجلة العربي، كان عاشور قد أخذها من بيتنا، وقد عثر عليها في أحد الرفوف. ثم راحا يتصفحانها، ويعلّقان على مواضيعها، (...)» لتصبح هذه المجلة رديفًا للألفة والشعور بالسكينة.
أما في صفحة 93 من الرواية فنقرأ ما يلي: «ثم فجأة تبدّل الموضوع الذي يشغلهما، عندما عثرا على أعداد كثيرة من مجلة العربي، كنت أودعتها في دولاب صغير رميته في الشرفة منذ سنوات، وكأنّما نسيا الغرض الذي جاء بهما. وربما لم يأتِ بهما غرض محدد، فقد بدوا مهتمين بي ومتعاطفين مع سالم إلى حد كبير... اكتشاف أعداد مجلة العربي غيّر رأيهما ومواقفهما، لأنهما من قرّاء (العربي) المواظبين». وبالفعل فمجلة العربي غيّرت، أو على الأقل، أثّرت في حيوات العديد من القرّاء العرب من المحيط إلى الخليج، ولا يمكن قراءتها إلا «باستمرار» وبــ «مواظبة».
لا تسعى هذه الورقة إلى تقديم جرد مفصّل بالمجلات الثقافية التي صدرت في فترة محددة، بقدر ما تحاول أن ترصد، بذاتية تعلن عن نفسها بوضوح، عناوين مجلات شكّلت بالنسبة إليّ وبالنسبة إلى جيلي منارات وعلامات طريق. كانت هذه المجلات حاملة لمشروع ثقافي، مدافعة عن تصوّر فكري، منتصرة لمنظومة قيمية ومرتبطة بمشاريع تغيير وإصلاح مجتمعين، وتجعل الشأن الثقافي ضمن أولوياتها، وهو ما منحها قوّتها وضرورتها.
اختلال وارتباك
بعد انهيار جدار برلين وتسيّد ظاهرة العولمة حدث اختلال ما وارتبكت المرجعيات، لذا انتفى السجال من مشهدنا الثقافي العربي، أو كاد، وغاب التدافع والحماس، وظهرت منابر متخصصة وأخرى ملونة ذات نبرة خافتة تقترب من الظواهر الثقافية من دون أن يخلّف هذا الاقتراب أثرًا أو نقاشًا.
فبعد الأسئلة الكبرى المصيرية والاختيارات الاستراتيجية جاء وقت الاهتمام بالتفاصيل، وظهرت مجلات قد يمكن نعتها بمجلات القرب.
قد يصعب تحديد الأدوار المفترضة للمجلات الثقافية في مجتمعات كمجتمعاتنا تعرف مخاضات عدّة وتجاذبات مختلفة، مجتمعات يصعب أحيانًا توصيفها، ومن ثمّ يصعب توصيف احتياجاتها وانتظاراتها. وإن كان من المؤكد أن على المجلات التي تصدر في سياقنا الراهن أن تعمل على ربح رهان مزدوج، فمن جهة عليها رصد الواقع بغناه وتعقّده، وفي الآن الانتباه والحدس مبكرًا بالتحولات الفكرية والانتقالات التي تعرفها المجتمعات العربية للمساهمة في صياغة أجوبة محتملة على هذه التحولات.
ومن المفترض فيها كذلك، أن تستجيب لجانب نفعي وتربوي يتمثّل في إشاعة قيم المواطنة وترويج أفكار حديثة ومتنورة، وقد تكون أحيانًا صادمة، لتسهم بذلك في خلق رأي عام وازن، وإيجاد فضاء عمومي تختبر فيه قوة الأفكار وجاذبيتها والقدرة على القبول بالآخر مهما كانت درجة اختلافه عنّا.
تجريب ومغامرة
يمكن أن نطالب هذه المجلات أيضًا بأن تخصص حيّزًا للتجريب والمغامرة يتم فيه التعبير عن المشاريع والأحلام الأكثر غرابة وجرأة، فالمجتمع الحديث هو بالتحديد مجتمع يحتفي برغبات الأفراد وإبداعاتهم، ولو ظهرت في البداية غريبة نوعًا ما، ويساندهم في رحلة بحثهم عن بعض الاعتراف. ثم إن على هذه المجلات أن تتأمل وتنبهنا إلى المشترك الثقافي والوجداني الذي يوحّد بيننا. والبحث عن المشترك وخلقه بين المنتمين إلى فضاء جغرافي محدد أمر مشروع، بل قد يصبح مستعجلًا في بعض السياقات بعيدًا، عن أي شوفينية أو انغلاق، مثلما هي الحال مع هذه اللحظة التاريخية التي نعيشها والمتميزة بالتحديد بإصرارها على محو كل الفروقات والتمايزات بين جميع المجتمعات.
وعلى المنابر الثقافية المرتبطة بلحظتنا التاريخية والثقافية هذه أن تنسجَ مع متلقيها تواطؤات منتجة وذكية، وتتساءل عن طبيعة التوافقات التي ينبغي أن تربطها بالقارئ في هذا العهد الرقمي الذي أتى متأبطًا إنجازات تقنية تدعو إلى الذهول، وأن تصرخ في وجه الخواء والغباء وضد بعض الإجماعات غير المقنعة، وذلك للتخلص من سطوة الماضي وإكراهات الحاضر، وتتوجه نحو رحابة المستقبل وضيائه ■