الصمغ حرفةٌ مغربية في حضرة الفقهاء وحفَظة القرآن الكريم

الصمغ  حرفةٌ مغربية في حضرة الفقهاء وحفَظة القرآن الكريم

تعتبر صناعة الصمغ إرثًا مغربيًا يعود إلى قرون. وارتبط قديماً وازدهر بالإقبال على تحفيظ القرآن الكريم وتدريس علومه في الكتاتيب والمساجد والزوايا، باستعمال وسائل تقليدية خاصة الألواح الخشبية. لكنّ أهمية هذه الصناعة تراجعت مع تقلُّص الاهتمام بالتعليم التقليدي.
ويشغل الحفاظ على هذه الحرفة اهتمام 12 حرفيًا متبقيًا يعضون عليها بالنواجذ، ولو أنها لم تعد مصدر كسب مالي، ويحلمون باسترجاع مكانتها مستقبلًا بعد التشجيع الرسمي على العودة إلى الطريقة التقليدية في تدريس علوم الدين، خاصة في القرى المتشبثة بهذا الإرث المهم.

اشتهرت قرى مغربية، قديمًا، بتخريج مئات العلماء وحفَظَة القرآن الكريم، وكانت محجّ الطلاب من مختلف المناطق، وحتى من الجامعات بمَن فيهم طلاب جامع القرويين في مدينة فاس. حينها لم يكن هناك حبر ولا دفاتر أو لوحات إلكترونية، بل كان هناك صمغ وألواح تقليدية للتدريس.
تسطّح لوحة خشب الأرز أو الزيتون أو البلّوط، وتقصّ على شكل مربع أو مستطيل، وتلين وتصقل وتلمع وتعدّ بشكل يسهل الكتابة عليها بصمغ حبرًا تقليديًا يُمحى كلما انتهى الحافظ من الحفظ والقراءة، لتعاد كتابته بعد غسل وجهيها بالماء والطين، أو محو اللوحة.
كانت كل معدات التدريس تُصنع محليًا بما فيها القلــم، وهو قطعـــة خشبية صغيرة تُصنع من القصب، توضــع في محبــرة بها صمـــغ المادة المصنوعة من صوف الخراف وقرون الماشية. وكان الفقيه هو مَن يكتب اللوحة من جهتيها، وكلما حفظ الطالب ما بجهة منهما مسحها.
الصمغ كان يصنع أيضًا محليًا، فازدهرت حرفة عاش من مدخولها سكان قرى بعينها، حيث انتشرت الكتاتيب والزوايا والجوامع المختصة بتدريس علوم الدين، ومنـهــا قبيلة بني زروال التي ما زال بها حرفيّ وحيد محافظ على هذه الصنعة، ونفرد له ولها هذا الاستطلاع.
الوصول إلى قبيلة بني زروال أو غفساي، كما تسمى إداريًا، ممكن من عدة اتجاهات، إن من جهة تاونات أو فاس أو الحسيمة ووزان والشاون. اخترناها وجهة انطلاقًا من فاس عاصمة المغرب العلمية والثقافية، وقطعنا حوالي 100 كيلومتر للوصول إليها عبر طريق الوحدة.
مسار طويل تؤثثه مناظر طبيعية تسرّ العين، زادتنا حماسًا وارتياحًا، رغم تعب السفر. والأروع تلك الإطلالة البانورامية على حقينة سد الوحدة، ثاني أكبر سد في إفريقيا. فاصل اخترناه لرحلتنا قبل أن نصل إلى دوار تاورضة، حيث محمد قزقوز، آخر صانعي الصمغ.

بنو زروال
قبيلة بني زروال بإقليم تاونات من أشهر القبائل المغربية التي تخرّج في كتاتيبها القرآنية مئات العلماء وحفظة القرآن الكريم، وكانت محجّ الراغبين في تعلُّم علوم الدين وحفظ القرآن على أيدي كبار الفقهاء بأقدم المساجد، ومن أشهرها تلك التي كانت بمناطق تازغدرة وعين باردة وتاورطة. 
الطلبة «المحاضرية» وفدوا إليها طـوال عقود مــن قبائــل الحياينــة وشراكـــة وفاس وتازة، وفي فترة كان كل مسجد بهذه القبيلة به كتّاب قبل دخول زراعة القنب الهندي، أو «العشبة» كما يسمّونها محليًا، التي دمرت عادات وتقاليد محلية قديمة وقلصت رقم الكتاتيب.
وبالتفريط تدريجيًا في الكتّاب أو «المسيد»، تراجعت قيمة وأهمية صناعة الصمغ أو السمق، محليًّا، كمداد تقليدي كان وما زال يستعمل في كتابة الألواح الخشبية المستعان بها لكتابة الآيات القرآنية المراد تحفيظها للطالب، قبل دخول الوسائل العصرية للتدريس.
وحده دوار تاورضة بجماعة الورتزاغ بغفساي الذي نزوره لتفقُّد حال الحرفة وآخر المتبقين من ممتهنيها، كان به 15 حرفيًا في صناعة الصمغ، لم يتبقّ منهم إلا واحد هو محمد قزقوز، الذي ازداد وشب وشاب بالدوار وعلى حب محنة ورثها عن جده الفقيه ولم يفرّط فيها.
محمد واحد من 12 حرفيًا ظلوا أوفياء لها بكل تراب المغرب؛ أربعة منهم بجهة طنجة تطوان الحسيمة، وعدد مماثل بجهة مراكش الحوز، واثنان بالجهة الشرقية، وحرفيّ واحد باقٍ بأكادير. جميعهم يعضون بالنواجذ على حرفة أجدادهم كي لا تمـوت كمــا مات ممتهنوها.
كان جدي فقيهًا، ساعدته وعمري 13 سنة في صنع حاجياته من الصمغ. ومع والدي أتقنت الحرفة التي راكمت فيها الآن تجربة 32 سنة. لن أتخلّى عنها ما حييت، رغم أن مدخولها هزيل»، يقول محمد، الإنسان المكافح المحافظ على هذا الموروث بكل ما أوتيَ من قوة.
 
نكران الذات
يتسلح قزقوز، آخر صانعي الصمغ بقرية تاورضة، بحيوية الشباب وطموحهم، حين تراه منهمكًا في عمله يخال لك شابًا، رغم أن عمره يوشك على السبعين، لا يكلّ ولا يملّ، متحملًا تعبًا لا يُطاق في إحراق القرون وسحلها وغربلة مسحوقها وإذابته وتجميعه.
يحدثك بسلاسة واسترسال ودقّة متناهية عن حرفة اختارها للكسب والعيش قبل 3 عقود خلت بدلًا من مهن أخرى ولم يندم على اختيار يراه صائبًا، عملًا بالمقولة المغربية «حرفة بوك ليغلبوك». يتمعّن في القرون تحرقها النار، ويفصل في شرح مختلف مراحل الإعداد.
خجل محمد المكافح في عمله وحياته واضح وجليّ وارتباكه محتمل إذا سلّطت عليه أضواء الكاميرا. لا سابق عهد له بالأضواء، يحب أن يعمل في صمت ونكران للذات بعيدًا عنها، وتلك سمة إنسان بدوي لا أطماع له غير العيش في ستر وأكل طعامه من الحلال وبعرق جبينه.
وجهه وحماسه لا يخفيان ما بالفؤاد من حسرة وألم على حرفة ابتكرها الفقهاء لتحفيظ القرآن الكريم لطلبة المساجد والزوايا والكتاتيب، وشكّلت مهد الحضارة العربية الإسلامية. حقيقة يكشفها تنهُّد من الأعماق حسرة على التفريط في إرث تقليدي قتلته الأقلام الحبرية.
أتمنى أن يبادر الفقهاء بإحياء هذا الموروث، وأن يشجعوا على العودة إلى طريقة اللوح في التدريس والتحفيظ حتى نحافظ عليه من الزوال»، يقول محمد، آملًا تدخّلًا رسميًا لتدويله وفتح إمكانية ترويجه بدول عربية إسلامية تشجيعًا للحرفيين وحفاظًا على الصمغ.
العيش على أمل تحقيق هذا الحلم يزيد من تضحيته بالاستمرار في «حرفة بوه»، رغم مدخولها المادي الهزيل مقارنة بالإكراهات المتعددة والأعمال الشاقة التي ترافق كل مراحل الإنتاج، وما تتطلبه من وقت وجهد عضلي وصبر وتحمُّل لا يُقدّر بثمن مهما غلا.
 
اعتماد الحرفة تراثًا ماديًّا 
الكل مُطالب بحماية هذا الموروث من الانقراض بوفاة آخر مبدعيه. والأمل موجود خاصة بعد التشجيع الرسمي على العودة إلى تدريس القرآن الكريم بالكتاتيب. هذا يتطلب تدخُّل وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، للاهتمام بالمنتجين وتحفيزهم على خلق تعاونيات للتسويق.
صناعة الصمغ من التراث الثقافي والمادي وجزء مهم من الهوية الدينية المغربية. والحفاظ عليها مسؤولية مشتركة ومطلب كما الدعوة للعودة إلى ثقافة «المسيد» والجامع وحفظ القرآن الكريم بالألواح المكتوبة بهذا المداد الطبيعي الذي تستنزف صناعته جهد ووقت وعضلات الصانع.
يأسف الأستاذ بالتعليم، عبداللطيف القاطفي، لمآل صناعة الصمغ وتلوُّن واقعه بنفس لونه الداكن، بعدما استعمل عبر العصور في الكتابة على اللوح في الكتاتيب القرآنية والمساجد والمدارس العتيقة والمعاهد الدينية، لكنّه «مع الأسف تعرّض للإهمال والتناسي.
وتمنّى ألّا تختفي يومًا «الدواية» أو المحبرة التقليدية وهذا الحبر الذي له أهمية لدى الفقهاء بالمغرب، بعدما أصبحت الكتابة بالأقلام الحبرية حتى بأقسام التعليم الأوّلي، وغزت الهواتف واللوحات الإلكترونية كل الميادين، من دون أن يمنع ذلك من الحفاظ على الأدوات العتيقة.
وتزايدت في الأيام الأخيرة دعوات لاعتماد الحرفة تراثًا ماديًا يجب المحافظة عليه وإدراجه في البرنامج الوطني للمحافظة على الحرف والاعتراف بها مهنًا مدرّة للدخل والنهوض بها كما الحرف والمهن المدرجة في قائمة الحرف المصنفة عالميًا من قبيل الدرازة وصناعة الفخار.
ويبقى تنظيم ما تبقّى من حرفيّي الصمغ وهيكلتهم ضروريًا كما مساعدتهم على توفير المادة الخام بثمن معقول وتسويق ما ينتجون والرفع من جودته بشكل يطابق المعايير المطلوبة وطنيًا ودوليًا حلمًا يتمنى الحرفيّ قزقوز تحقيقه، لينعم ويستمتع بإشعاعه وشهرته.

إعداد قبلي
يمرُّ إنتاج الصمغ بمراحل صعبة وشاقة تهون في سبيل الحفاظ على حرفة تقليدية متوارثة منذ قرون، ولو قلّ إشعاعها ومدخولها المادي. وتحتاج هذه العملية المعقدة أيامًا يظل فيها الحرفيّ في حالة يقظة وتأهب واستعداد عضلي وعقلي لعناء يذوب أمام قوة الإصرار والتفاني.
قبل مباشرة عمله يقتني قزقوز قرون الأكباش والعجول من سوق الجلد بمدينة فاس البعيدة بـ 90 كيلومترًا عن هذه القرية. ويحتاج لذلك إلى مصاريف إضافية للشحن والنقل في شاحنة، ما يرفع إنفاقه على المادة الخام ومصروف الإنتاج ويقلص هامش الربح القليل.
وقديمًا، كان منتجو الصمغ يسافرون لعاصمة المملكة العلمية في قوافل من عدة بِغال وحمير لاقتناء حاجياتهم من القرون بأثمنة ومصاريف أقلّ مما هي عليه حاليًا، ولو أضناهم وأتعبهم المشي راجلين أو على ظهور دوابّهم، لينتجوا بتكاليف أقل مادة مطلوبة آنئذ في السوق.
تضاعف ثمن الكيلو الواحد من قرون الماشية مرتين في الأعوام الماضية، ليصل حاليًا إلى 30 درهمًا، أي حوالي 3 دولارات، تضاف إليها مصاريف السفر والنقل قبل الإنتاج الذي عادة ما يتم في الأيام الحارة ربيعًا وصيفًا، لسهولة تيبيس المادة وتليينها في درجة حرارة مرتفعة.
اقتناء المادة الخام يوازيه إعداد مكان ممارسة هذا النشاط الحرفي، والذي يجب أن يكون معزولًا مناسبًا غير محاط بأعشاب أو أشجار يابسة، خوفًا من اندلاع أي حريق محتمل، خاصة أثناء إحراق القرون في الفرن التقليدي، أو «الفورنة» كما يسمّيها أهل الريف المغربي.
ويحرص قزقوز على تجهيز الفضاء بالأدوات والمعدات الأساسية للعمل من براميل ماء وغربال وأداة صلبة يستعملها في تحويل القرون المحروقة لمسحوق قابل للغربلة، قبل أن يمر في مراحل رئيسية في الإنتاج بطريقة تقليدية محضة تدوم أيامًا متواصلة كلها شقاء.
 
مراحل شاقة
يجمع قزقوز، الذي ورث هذه الحرفة عن جدّه قبل 32 سنة، كمية من حطب الغابة يرتّبها على شكل هرم مقلوب داخل الفرن ويضع وسطها كمية القرون المراد إحراقها لإنتاج الصمغ بكمية وحجم مطلوبين مسبقًا من طرف العملاء ممن ينسّق معهم قبل العمل.
بعد هذه المرحلة الأولى في الإنتاج يضرم هذا الرجل العصامي الخجول النار فيما في «الفورنة» ويواكب احتراقه تدريجيًا طوال ساعة ونصف الساعة يحرّك فيها القرون باستمرار إلى أن تتفحم كليًا، فيخرجها ويضعها على أرضية صلبة خالية من الحشائش والأعشاب.
حينها يمرّ للمرحلة الثالثة بسحل القرون المحروقة باستعمال أداة حادة، إلى أن يستخرج منها مسحوقًا ليّنًا تتم غربلته بواسطة غربال خاص، متحملًا طوال هذه المدة حرارة النار الملتهبة ورائحة القرون المحترقة وتعب التحريك والسحل، رغم كبر سنّه ونحافة جسمه.
يضع محمد (69 سنة) الكمية المسحوقة في برميل به ماء ساخن مُعدّ خصيصًا ومسبقًا لذلك، ويستعمل أداة حديدية من رأسها ممسوكة بعصا، تسمّى محليًا «البالة»، في تحريك المسحوق وسط الماء لثوانٍ. هذه العملية تدوم لأكثر من 7 ساعات متتالية كلها تعب.
تصوروا رجلًا مسنًا في نفس عمره يصبر ويكابد ويقضي كل هذه الساعات في التحريك ومراقبة درجة انصهار المسحوق حتى يتحول إلى سائل أسود داكن. مجهود يستحق عليه الثناء»، يقول قريبه عزيز السعيدي المكون في الصباغة والديكور والممثل التجاري لشركة.
بعدها يوضع السائل في إناء حديدي من 5 لترات لتبريده قبل وضعه في قنينات بلاستيكية من أحجام مختلفة، ليكون جاهزًا للتسويق «بطريقة تقليدية وعشوائية من دون تعليب المنتج، ولو بكيفية بسيطة، ومن دون اسم تجاري معيّن قد يزيد الإقبال عليه في السوق»، يؤكد عزيز.

تسويق تقليدي
مردود قزقوز من عمله المتعب والشاق هزيل، ومردّ ذلك إلى اختلال التوازن بين العرض والطلب على الصمغ في السوق. ورغم أن ما ينتجه ذو جودة عالية، فإنّ ثمن الكيلو الواحد منه بخس لا يتعدّى 30 درهمًا، مقابل 5 دراهم فقط للقرص المشمس بجودة متوسطة. 
مهما قلّ كسبنا من هذه الحرفة فهو بركة من الله. صحيح إنها لم تعُد كافية للوفاء بمصاريف عائلتي، لكنها تستر لأنّ الصناعة إذا ما أغنت فإنها تستر»، يقول قزقوز القانع بنصيبه من حرفة أقبل عليها صغيرًا وعمره 13 سنة وأحبها ويصرّ على الحفاظ عليها.
نسبة كبيرة من منتجه يسوقه بصفة مباشرة وبمجهود شخصي. ويضطر للسفر إلى مدينة فاس لبيعه بناء على اتصالات هاتفية من طالبيه، خاصة زبائنه من بائعي الأعشاب لإعادة بيعه فــي محالّهــم بأثمنــة مضاعفة، أو طلبة وحفظــة القرآن الكريم والفقهاء بهذه المدينة العلمية.
وتطرح مشاكل جمّة في التسويق أكبر حجمًا وقساوة من مشاكل توفير المادة الخام وما قد يرافق عملية الإنتاج من طوارئ ونكسات.
وما زال الترويج يعتمد على وسائل تقليدية لم تُساير العصر، اعتمادًا على العلاقات الشخصية والمعرفة المسبقة بالزبون أيًا كان.
ليس في قاموس يوميات محمد، ومن تبقّى من حرفيي صناعة الصمغ، فكرة استغلال الوسائل الرقمية في الترويج ولا وسائل التواصل. ولم يسع أبدًا لذلك، أو لبيع منتجه عبر الإنترنت، عاقدًا الأمل على انتعاشة مرتقبة موازية لإعادة الاهتمام بالكتاتيب القرآنية.
رفع المدخول ممكن باللجوء إلى الوسائل الجديدة في التسويق الوطني والدولي، بـ «تعليب المنتج واختيار اسم تجاري»، يقول قريبه عزيز السعيدي. 
وتمنّى لو تيسرت أموره لمساعدته في ذلك، قائلًا: «أتمنى أن يلاقي عمّي محمد الخير والبركة فيما تبقى من عمره ■

الفرن أو الفورنة

وضع السعف لتسهيل عملية الاحتراق

انتظار ومراقبة مستمرة

الإحراق في درجة حرارة مرتفعة

إخراج القرون بعد إحراقها

تليين القرون بعد إحراقها

تيبيس المسحوق

وضع المسحوق في الماء الساخن

تحريك السائل

القطع المستخرجة

محمد قزقوز