الشاعر السوداني عالم عباس: قصيدة النثر... اسم ملتبس وترجمة دخيلة على اللغة

الشاعر السوداني عالم عباس: قصيدة النثر... اسم ملتبس  وترجمة دخيلة على اللغة

 عالم عباس محمد النور، اسم بارز في فضاء الشعر السوداني منذ سبعينيات القرن الفائت، وعنوان للشاعر الطليعي ذي الرؤية والذي يستقرئ واقع الحال للتعبير عن هموم مجتمعه، داعيًا إلى التسامح والألفة والعدالة الاجتماعية، وباحثًا عن الخلاص النفسي بتجرُّد وصوفية، تبدّت بجلاء في مجموعاته الشعرية وأعمال امتدت على مدى نصف قرن، رسَّخت وجوده بين الذين حملوا مشاعل التنوير عبر أعمالهم الإبداعية، وساقته مرّتين إلى كرسي رئاسة اتحاد الكتّاب السودانيين، ثم عُهد إليه أخيرًا، عقب انتصار ثورة ديسمبر المجيدة، الاضطلاع بمهام الأمين العام للمجلس القومي لرعاية الثقافة والفنون في السودان.

 


سطع نجم الشاعر عباس في الأوساط الأدبية والفنية في السودان من خلال فوزه بجائزة الشعر الأولى للشعراء الشباب عام 1973م، وازداد بريقًا بتقلّده نوط الجدارة من الطبقة الثالثة، ونيله جائزة رئيس الجمهورية في مهرجان الثقافة بالخرطوم عام 1979م، ثم أخذ يتقدّم في إغناء حركة الشعر، فنال العديد من التكريمات والجوائز، منها الميدالية الذهبية للمنظمة العالمية للملكية الفكرية (الوايبو) 2008م.
  كما شارك في العديد من اللجان الثقافية والأدبية، وهو من مؤسسي رابطة جنوب دارفور للثقافة والإبداع، واتحاد الأدباء السودانيين عام 1976م، واتحاد الكتّاب السودانيين عام 1986م وعضو لجنة النصوص الشعرية، وزارة الثقافة والإعلام الخرطوم (1981 إلى 1983م)، ولجنة المصنفات الفنية 1983م، ورئيس اتحاد الكتّاب السودانيين في ميلاده الثاني 2006م لدورتين، وعضو مجلس أُمناء جائزتَي الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي، ومحجوب محمد صالح للصحافة السودانية. كما ساهم في كثير من الندوات والسيمنارات والمهرجانات والفعاليات والأنشطة الثقافية داخل السودان وخارجه، منها ملتقى الشعر العربي الثالث بالشارقة 2003م، ومعرض بيروت للكتاب العربي، نوفمبر 2008م، ومهرجان الثقافة الإفريقية الثاني بالجزائر 2009م، وملتقى القاهرة الدولي للشعر العربي، مارس 2013م، ويناير 2020م، وبيت الشعر - البحرين، بجانب إسهاماته في كتابة المقالات الثقافية والاجتماعية في الصحف والمجلات الورقية والإلكترونية.
 صدرت للشاعر ثمانية دواوين شعرية، بدءًا بـ «إيقاعات الزمن الجامح» عام 1974م، وانتهاءً بـ «أوراق سرّية من وقائع ما بعد حرب البسوس» - عام 2013م، وله أعمال تحت الطبع.
 «العربي» زارته في دار المجلس القومي لرعاية الثقافة والفنون الذي تولّى أمانته في أكتوبر الماضي، وحاورته حول تجربته الشعرية، وهموم الثقافة والأدب، ودور المجلس خلال فترة الحكم الانتقالي في السودان.

دارفور... مدينة عِلْم
 يلاحظ القارئ لمجموعاتك الشعرية انهمار مفردات التراث العربي وتداخُل لغة القرآن الكريم بين ثنايا قصائدكم - ما مَردّ هذا؟
-  ربما مردّ ذلك إلى التنشئة، فأنا ابن خلوة، وتعرف في بعض الأمصار بالكتاتيب، فقد كان لجدي لأمي الإمام عبدالماجد إبراهيم - إمام السلطان علي دينار، وهو من شيوخ الطريقة التيجانية أيضًا - له خلوة كبيرة، وكان بيتنا داخلًا ضمن سورها العريض، وكنّا صغارًا، ننام ونصحو على وقع أصوات مرتّلي الآيات الكريمة، وحلقات الذكر والمُدارسة التي يتحلّق حولها الكبار وما ينشدون من أماديح وأشعار، مما يجعلها مصادر لغة للطفل الذي يتربى في مثل تلك الأجواء، الأمر الذي شحذ ذاكرتنا بلغة القرآن وأكسبنا ميزة حفظه في سنّ باكرة. وكانت التسلية المتاحة لمن في حالتنا، قراءة المجلات والكتب الموجودة في البيت، كالمُعلّقات وكتاب الأغاني وكتب التراث العربي. بجانب هذا كانت مدينة الفاشر، حاضرة دارفور الكبرى، مدينة علم، وإجادة العربية كانت معيارًا للرقيّ والمعرفة، فكلما كانت لغة المرء أكثر فصاحة، كان يُعدّ أقرب إلى التحضّر والتمدن، وهو ما يقود إلى التطلع اللغوي، وبالتالي لم يكن مستغربًا أن تكون هذه العوامل سببًا في أن تنزلق اللغة القرآنية والمفردات التراثية وتنساب في كتاباتنا، لتصبح الطريقة التي نعبّر بها.

مصادر التثقيف
إذن ما حدود الحاضنة الأساسية لشاعريتكم، وما البيئة التي انطلقتم منها حتى تصبح شاعرًا مرموقًا؟
-  إضافة إلى ما ذكرنا أعلاه، ثمّة حواضن عدة، فعلى مستوى البيئة الدارفورية، ثمّة خليط من الأنساب والقبائل المحلية والوافدة تمازجوا وتصاهروا وانصهروا في بوتقة واحدة وكوّنوا سلطنة دارفور الكبرى، أو فلنقل بيئة الفاشر الثقافية. هذا التنوع والتمازج اللطيف أثرى ثقافة تلك المنطقة. وعندما تفتحت عيناي في خمسينيات القرن الماضي كانت مدينة الفاشر على تواصُل مع دور النشر في بلدانها، وتصل مكتباتها في وقت محدد ومعلوم الصحف والمجلات المعروفة على نطاق الوطن العربي، بجانب صحف السودان الغنية بالصفحات الثقافية والأدبية، فكانت تصلنا الكتب والمجلات المصرية والبيروتية، ومجلة العربي الكويتية، وكلّها مصادر معرفة وتثقيف رفيعٍ، وكان القائمون على أمر المكتبات على درجة عالية من الثقافة، ومن خلال مكتباتهم عرفنا شعراء المهجر، وجماعة الديوان، ونزار قباني، وأدونيس، ومحمود درويش، وكثير من أدباء وشعراء السودان والعالَم العربي المجددين والكلاسيكيين المحافظين على نسق الشعر العمودي، وجزالته، وبحوره وأوزانه الخليلية.
 غير هذا، فقد كان والدي يكتب الشعر، لكنّه ميال إلي العامية، ويكتبه بلغة رفيعة، ولأنه في زمانه كان ضمن مَن ثاروا على الاحتلال الإنجليزي وحرق العَلَم البريطاني، وسُجِن جراء ذلك، فكان جلّ شعره في الحماسة ومناهضة المستعمر. بجانب هذا كانت المدرسة التجانية الصغرى، التي أسسها خالي التجاني عبدالماجد، أحد أهم رواد التعليم في دارفور على مسافة 50 مترًا أو يزيد قليلًا من الخلوة، حيث يبدأ التلاميذ صباحهم فيها ليدرسوا جزءًا من مقرراتهم، ثم ينتقلون إلي المدرسة في طابور طويل وهم يرددون كثيرًا من الأناشيد المدرسية بألحان عذبة شجيّة، وبالتكرار المستمر حفظناها عن ظهر قلب من داخل بيتنا، كما وقعت على مسامعي، دون أن أدرك حتى معانيها. هذا الأمر أعطاني ميزة سرعة الالتقاط، وأعطى الذاكرة قدرة التعوّد على الحفظ، ومع تقدُّم العمر بدأت أبحث عن شعراء الأناشيد والقصائد التي ظلت عالقة في الذهن، فتوسعت دائرة القراءة وشملت كثيرًا من الكتب الدينية، والتراثية العربية.
 عندما التحقت بالمدرسة وجدت المعلمين على درجة من الخبرة والإخلاص للعلم، وعمدوا إلى تربيتنا وتعليمنا وتثقيفنا في آنٍ واحد، واهتموا بالنوابغ وأصحاب المواهب. كانوا يحفظوننا كثيرًا من القصائد الجياد، ويكتبونها لنا خارج نطاق الدرس المقرر، مما جعلنا نهتم بهذا النوع من القراءات، وندين لهم بالفضل في تربية ذائقتنا الأدبية. ربما هذا ما جعلني نزّاعًا نحو الشعر على نحو خاص.

البداية الحقيقية
 متى كتبت الشعر؟
-  كتبت الشعر في سنتي الأولى بالمرحلة الوسطى، وأول قصيدة كتبتها مشطرة بعنوان «حديقة»، وقرأتها في أمسية الجمعية الأدبية التي كانت منبرًا مهمًا في مدارسنا، تعتني باكتشاف واستعراض مقدرات الطلاب وتنميتها في مجالات الإبداع عمومًا، يشرف عليها غالبًا معلمو اللغة العربية. كانت قصيدة ساذجة تحتوي على تسعة أبيات، ولم يصدّق التلاميذ أنها من تأليفي، ولم آبه لذلك، بعد أن وجدت التشجيع من المشرف، بل صارت شكوكهم دافعًا لي للمضيّ في هذا الاتجاه، والمشاركة في المسابقات المدرسية.
 أما البداية الحقيقية لكتابة الشعر الجاد، فقد انطلقت في المرحلة الثانوية عام 1964م، وكانت تلك الفترة موّارة بالأحداث والتحولات الكبيرة في العالَمين العربي والإفريقي، مثل القضية الفلسطينية، وثورة الجزائر، وظهور جمال عبدالناصر زعيمًا للأمة العربية، بجانب قضايا التحرر في معظم الدول الإفريقية، وكانت ثورة أكتوبر 1964م بالسودان في ذروة اشتعالها، مما جعل الفترة مليئة بالتحديات والعنفوان والحماس، وكل البواعث المحرضة للتعبير بالشعر الذي كان أكثر رواجًا وقتذاك.

تفاعل مع القضايا الحيوية
● أهذا يعني أنك بدأت كتابة الشعر السياسي أو الثوري دون غيره؟... ولماذا هذا التفاعل والاهتمام؟
- كان الشعر السياسي أو الثوري في تلك الفترة هو الغالب، وهو التعبير الأمثل لحالة الغليان السائدة آنئذ، ولكثير من المشاكل والقضايا المطروحة، ولأننا كنّا في بداية الشباب وعنفوانه، ونحن في مجتمع عريض
لا بدّ أن نتأثر ونتفاعل وننفعل بما يدور من مستجدات.
 لعل الله منحنا الموهبة والقدرة على كتابة الشعر لتكون وسيلتنا للتعبير عن أزماتنا، وأزمات مجتمعاتنا، وأوطاننا وشعوبها على حدّ سواء، وإن كنت أرفده في بعض الأحيان بمقالات ومواقف وأعمال من هذا القبيل. 
 أما اهتمامنا بالسياسة فنابع في الأصل من الاهتمام بالإنسان وقضاياه أولًا، وبخاصة عندما يواجه تحديات جسام مثل عطب إدارة الدولة، وجور السلطة، وظلم واستبداد الحاكم، وهذه قضايا حيوية مرتبطة بآدمية الإنسان، فكان لا بدّ من التفاعل معها.

لا أدّعي التصوف
● كيف استطعتم توظيف القصيدة في سياق سياسي صوفي، كما نلمح في شعركم، لتصل إلى ملامسة الواقع ومشاعر الناس؟
- إذا كان الحديث عن مظاهر التصوف في شعري، فدعني أقول إن فهمي للتصوف جدّ قليل، حتى ما نراه من مظاهر عندنا في السودان فحظّي منه لا يتجاوز القشور، صحيح إن أسرتي تعتنق الطريقة التيجانية، وهي طريقة صوفية عريقة واسعة الانتشار في شمال وغرب إفريقيا والسودان، لكنّ حظي منها هو حظ المحب، والذكر الذي أردده بحب، ويكاد يكون وردي اليومي. 
 محصولي في التصوف أمشاج من قراءات ومعارف عارضة، أحببت أهله وشغفت بشعرهم وشعرائهم، الحلاج والسهروردي وابن عربي وابن الفارض، وطوفت مع الغزالي وإخوان الصفا، وشدتني تأملات النّفري وغيرهم، واحترمت شطحاتهم وأكبرتها وتمسّحتُ ببعض رماد نارهم، ولعل ذلك انعكس بلا شك في شعري وطبعه بملمح فيه من أثرهم الكثير، ولكن لا أدّعي التصوف، ولا طاقة لي به، لكن، والحق يقال، إنني حومت وهومت في واديهم، كما ينبغي لأي شاعر أن يفعل، «ألم تر أنهم في كل واد يهيمون»!

خواطر كثيرة
● ماذا عن الشعر العاطفي؟
-  ربما بدأت النقلة العاطفية تتوهج في أواخر المرحلة الثانوية، وبشكل أدقّ في الجامعة، حيث اندفق الفيض العاطفي مع خواطر كثيرة صادفت تغيّرات وتقلبات جسدية وفكرية وعاطفية وثقافية وحتى مكانية، وكذلك حياة جديدة في عالَم جديد، مشبع بمسؤوليات جمّة، من خلالها استطعنا أن نعبّر عمّا يجيش بخواطرنا وفق ما يطرأ من مواقف وأحداث.

● لماذا استهواك شعر التفعيلة بالذات... هل لأنك كنت أقرب إلى فترة تجلياته؟
- وُلدت قصيدة التفعيلة قبل مولدي بقليل. وكان الشعر الكلاسيكي العمودي مسيطرًا على المشهد حينذاك، فكتبت في بداية مشواري القصيدة العمودية، لكنّني كنت نزّاعًا نحو التجديد، وبحُكم قراءاتي في المرحلة الثانوية لشعراء كبار في العالم العربي، كالفيتوري وصلاح أحمد إبراهيم والبياتي والسياب ونزار قباني، فقد استهواني هذا الضرب من الشعر وكتبته على سبيل التجريب، وعرضته على صديق واسع التجربة عميق الثقافة، شاعر وناقد حاذق، فشجعني على مداومة كتابته، لكونه نمطًا جديدًا من الشعر، له وجود طاغٍ وذو مستقبل مزدهر، ثم درّبني على كيفية الاهتمام بأوزانه وموسيقاه، بغضّ النظر عن القافية، وعلى ألّا تكون القصيدة تقريرية، ما يجعلني أقول إن الأستاذ مأمون إبراهيم هو الذي مهّد لي الطريق نحو كتابة قصيدة التفعيلة.

حوار صعب
● إلى أيّ حدّ استطعت أن تكتب خطابًا شعريًا يتوافق مع رؤاك وأفكارك؟
-  لا أستطيع أن أتحدث عن هذا... لأنني شخصيًا لم أضع شعري على طاولة التأمل والتشريح. إنني أكتب الشعر كما يتراءى لي. فالقصيدة عندي لا تولد كاملة، وغالبًا ما أكتشف ملامحها أثناء الكتابة، وأعمل عليها بعدئذ. عندما تطغى الأحاسيس أسعى لإيجاد كلمات تعبّر عنها، وقد لا يفتح الله عليّ بحرف واحد، مما يجعلني في ضغط نفسي عنيف يستوجب التخلص منه عن طريق الكتابة، وحين أبدأ الكتابة وأكون في مواجهة الورق يبدأ الحوار الصعب بين المبنى والمعنى، والفكرة والوعاء، بين اللفظ ومحتواه، وعند هذا الصراع في الغالب ما يُسطَر على الورق ليس الذي يدور في الذهن أو الخاطر، ولعلّ الذي ينعكس على الورق ليس سوى ظلال وأطياف لا تعبّر بدقّة عمّا يمور في النفس. هذا هو مأزق الكتابة!
● في ظل تعدّد الأجناس الشعرية، هل تؤمن بالقصيدة المنبثقة عن فكرة، أم قصيدة التداعي الحر والانثيال التلقائي؟
-  القصيدة لا تأتي إلّا عن فكرة. لكن السؤال؛ هل هي فكرة مسبقة في الذهن ثم تُبَثّ على الورق؟ أم إن القصيدة نفسها حوار فكري مع الذات؟
أجدني عندما أكتب قصيدة أحاور نفسي من خلالها كما أشرت آنفًا، لذا غالبًا ما ألجأ إلى الجرح والتعديل، والحذف والإضافة. لكن مَن الذي يحدد هذا شعر، أم لا؟... ومتى وكيف تأتي القصيدة؟ الشعر يأتي بأشكال مختلفة، وقد يفرض نفسه في كثير من المرّات، وهو عمل فكري وقصدي دؤوب، وصناعة تحتاج إلى مهارة ودِربة، شأن كل صناعة، يتهيأ له المرء بما ينبغي، وهذا أمر عسير ومرهق ذهنيًا ونفسيًا وعاطفيًا، لذا تجدني أقول إن ما يكتب على الورق ليس هو كل ما يدور في الذهن إلّا فيما ندر. قد تحدث إسقاطات، وفي بعض الأحيان لا يجد المرء كلمات ليعبّر بها، وربما يكون معبأً بطاقة كبيرة يصعب تحويلها إلى كلمات، «بنات القصيد كعاب عذاب، وبعض عَذَاب»، لذا كثيرًا ما أردد أن الذي أودّ قوله لم أقُلُه بعد!

6 مجموعات شعرية
● ما بين ديوانَي «إيقاعات الزمن الجامح» و«وقائع ما بعد حرب البسوس»، أربعون عامًا، فهل ثمّة تغير طرأ على الأفكار وفي نمط كتابة الشعر؟
- ما بين الديوانين 6 مجموعات شعرية هي، «منك المعاني ومنّا النشيد» (1984م)، «أشجار الأسئلة الكبرى» (1985م)، «ماريا وأمبوي» (1986م)، «أوراق شوق للخرطوم» (2001م)، «من شمس المعشوق إلى قمر العاشق» (2007 م)، «في انتظار الكتابة» (2009 م). وما لم ينشر موجود، وهذا واقع تقتضيه الضرورة، وهو عناء الكتابة، وكما تتغير ملامح الإنسان كذلك تتغير وتتجدد الأفكار بتغيّر الأزمنة والأمكنة والمزاج والأحداث، وأحيانًا تضمر وتخبو، فتصبح الكتابة تمرينًا (رياضيًا) ذهنيًّا، وبالمران والتجريب يحسن المرء اختيار أدواته الشعرية وصقلها من ناحية الصناعة وتطوّر الأفكار، ومن ثمّ ينبثق السؤال المهم: لماذا نكتب الشعر، وما الغرض من كتابتنا له؟... ثم الكتابة نفسها تفتح الشهية لكتابات أكثر، وهكذا تتطور الأدوات. أحيانًا يصاب المرء 
بـ «هاء السّكْت»، كما يقول الأديب بشرى الفاضل، وفي أحيان أخرى تنكشف الرؤيا لتتجلى الكلمات وتنبئ بما هو قادم: (هدوء/ ولكنّه عاصفة/ هدوء/ وفي صمته الكاظم من غيظه قنبلة ناسفة/ هدوء/ يهندس في السر ذرّات وثبّته/ ومجرات ثورته/ واكتساح جحافله الجارفة).
 ● الملاحِظ لتجربتك الإبداعية يجد أنها تنحصر في الشعر دون غيره من الأجناس الأدبية الأخرى؟
- ربما مارست إبداعًا آخر، على نحو ما، غير أنني صرفت جلّ اهتمامي لكتابة الشعر، وكتبت حول ما يتعلق به، نقدًا وتوثيقًا ودراسات أدبية. وكتبت أيضًا في المجالات السياسية والاجتماعية لبعض المجلات والصحف، والمؤتمرات وحلقات النقاش والمحاضرات ونحوها، كما جربت في بواكير الصّبا كتابة شعر العامية، وتخليت عنه، وكتبت قصيدة النثر.

لا شعر بلا قيود
 ● ماذا عن رؤيتك لقصيدة النثر، وإلى أيّ حد يمكن أن تكون خصمًا على أنواع الشعر الأخرى؟
 - ثمة شعراء أفرطوا في تتبُّع موسيقى الألفاظ، حتى جاروا على المعنى، وقد يحدث العكس، وآخرون تعاملوا مع الألفاظ والإيقاع وأوزان الخليل كقيود. لا شعر بلا قيود أو ضوابط. للذين أفرطوا في القيود، فإن الإفراط في أي شيء مذموم، والذين تحرروا إلى حد الفوضى، فهذا أيضًا مذموم. ولأنّ الشعر عمل عقلاني منظم، فهو يحتاج إلى ضوابط تقيه الفوضى وتضبط مساره، وهذا أمر يتطلب مهارة ودُربة وسيطرة على الأدوات، وهذي لا تتأتى إلّا بالتجربة والمران والتثقيف، هذه مقدمة ضرورية لكي أتحدث عن قصيدة النثر.
إذا قرأنا الاسم (قصيدة نثر) فهو نفسه اسم ملتبس، ويعني لا هو شعر منظم، ولا نثر في قالب السّرد، ربما هو بين بين! ولعل الاسم ترجمة دخيلة على اللغة العربية، ويمكن الرجوع إلى المعاجم للمزيد من المعرفة حوله.
 تحتاج قصيدة النثر إلى كثير من الوقت لتبتدع لنفسها قوانين يمكن الرجوع إليها لنقدها وتبيان غثّها من سمينها على أسس معايير نقدية يتَعارَف عليها كما في شعر التفعيلة، على سبيل المثال.
 وتفتقر قصيدة النثر الآن إلى هذه المرجعية. ثمّة قمم عظيمة من روّاد هذا الفن قدّموا نماذج ممتازة، وفي السودان ثلّة من هؤلاء المتميزين، مثل الشعراء محجوب كبلو، وعادل سعد، ومأمون التلب، وأنس مصطفى ونصّار الحاج وغيرهم، لكنّ بعضًا من غير هؤلاء شعرت صعوبة في تذوّق أشعارهم وصار فهمه عليّ عسيرًا، وربما العيب في ضَعف قدرتي، وقلّة صبري على فك مغاليقه. غير هذا فإن أكثره غثّ، كما بدا لي، وأظنه صار مركبًا سهلًا يستغله بعضهم لمداراة فقرهم اللغوي وعجزهم البياني، ويكاد القارئ يشعر بأنه مُحاط بطلاسم شعرية!
لكنّ قصيدة النثر عمومًا ليست خصمًا للشعر، بل جزء من تجاربه، وستشق طريقها بالتجربة والتراكم المعرفي والتجويد والنقد.
عمومًا التجربة الشعرية؛ سواء بقصيدة النثر أو غيرها، وظهور أساليب أو أنساق جديدة في الشعر أو الفنون عامة مسألة طبيعية، بل ضرورة حياتية تطرأ مع تقدُّم الحياة. جَرّبْتُ أنماطًا عديدة لكتابة الشعر، وتتبدى عندي بطرائق متفاوتة حين تضيق المواعين عن الأفكار. وهذا يقودني إلى حديثي السابق عن أنني ما زلت أبحث عن الطريقة المثلى للتعبير عنّي بشكل أفضل، وهذا أيضًا لا يتأتى إلا بالتجريب، ولعلّ الشاعر السوداني الكبير محمد المهدي المجذوب مثال رائع لما أقول، اقرأوا ديوانه «شحاذ في الخرطوم».

 أزمة خاصة
● في مرات سابقة، ذكرت «أنا أكتب الشعر بحثًا عن خلاصي النفسي... أنا لا أخاطب أحدًا»، هل لنا أن نعرف ما الخلاص الذي تنشده من خلال القصيدة؟ 
- ذكرت هذا كثيرًا وما زلت، لا بدّ أن تعرف - يا أخي عصمت - أنني لا أسعى إلى تغيير الدنيا، لكن لديّ أزمة خاصة كشخص نبت من صلب هذا المجتمع عليه واجب يؤديه، وتجدني مهمومًا ومنشغلًا بكيفية أدائه على وجه يريح ضميري، ويُرضي وجودي.
كثيرًا ما تطرأ أسئلة في الخاطر تبحث عن إجابة، هل الغرض من وجودنا أن نرتهن لأمور الحياة اليومية فحسب؟... وحين تراودني مثل هذه الأسئلة أشعر بألم حاد، لا سيما إذا وضعت في الاعتبار أن لدينا أهلًا أحسنوا تربيتنا ما وسعهم، وصرنا الآن مسؤولين عنهم، وعن أبنائنا من بعد. هذا يلقي على عاتقنا مسؤولية إنسانية وأخلاقية ومجتمعية، وبمقدار أدائي هذه المسؤولية ونجاحي فيها تكون درجة خلاصي الشخصي الذي أعنيه، وحين مواجهة الأسئلة الصعبة بيني ونفسي عمّاذا فعلت بما ملكت؟!.. و(من ينبوع الدمع اليابس/ من مطر الحزن الجاف/ يتساقط صخر السجّيل على قلبي/ أبكي/ لا يسعفني الدمع/ شجا العبرات نِصال في حلقي/ والشجن الرّعّاف/ ينزف من كل الأطراف).

تسامح وتعايش
● إلى أيّ مدى ساهم شعراء السودان في استنباط خطاب شعري يلامس قضاياهم ويخاطب الواقع؟
 - نعيش في مجتمع - كما ذكرت سابقًا - لديه القدرة على التسامح والتعايش وقبول الآخر المختلف، هكذا حال الناس في دارفور، وحال المجتمعات السودانية كلّها تقريبًا في الثراء والتنوع. وبرغم مزايا التنوع الكثيرة، فإنه هشّ وسريع الاشتعال، في مجتمع متخلّف أساءت النخبة التي تدير أمر البلاد استخدامه، فأنتجت ما نحن فيه، ومهمة أهل الوعي والشعراء منهم، ضبط هذا الأمر والعودة به إلى منابعه النقية الأولى. مأساة دارفور الدامية أنموذج ماثل لما ذكرت، وبحكم انتمائي إليها، فإنّ فرادة التكوين وتنوّعه جعلا من إنسانها مهما صغُر شأنه أو كبُر، لا يتحمّل الضيم والاضطهاد، وحتى الاحترام الموجود بينهم ونحو الآخرين، ليس مفتعلًا، بل منسرب في طبائعهم وسلوكهم. في ديوان «وقائع ما بعد حرب البسوس» إسقاطات كثيرة لهذه القضايا، فما جرى في دارفور أشبه بحرب البسوس التي قرأنا عنها، كما تمظهرت تلك القضايا في دواويني الأخرى.
 ولست بدعًا في هذا، فهو ديدن شعرائنا العظام الذين نقتفي أثرهم ونمثّل امتدادًا لهم، ولك أن تسمّي من شئت منهم، محمد عبدالحي، والنور عثمان أبكر، ومحمد المكي إبراهيم، وصلاح أحمد إبراهيم، ومحجوب شريف، وكمال الجزولي، وفضيلي جماع... وتطول القائمة.

التيار الوحيد
● بشكل أو آخر، يشير إلى زمرة من شعراء تيار الغابة والصحراء، ويرى كثيرون أن هذا التيار طرح سؤالًا مهمًّا خاصًا بأزمة الهوية، ولم يجاوب عنه، وسرعان ما انحسر... ماذا تقول؟
- في رأيي أن الغابة والصحراء، هو التيار الوحيد الذي وضع موضوع الهوية السودانية في إطاره الصحيح، ولم ينحسر بعد هذا التيار، إذ ما زال المهتمون يعملون بأطروحته، شاءوا أم أبوا. لعل الشاعر صلاح إبراهيم من أكثر الذين كتبوا فيما يتعلّق بقضية الهوية نثرًا وشعرًا، ودواوينه «غابة الأبنوس» و«غضبة الهباباي»، و«نحن والردى»، تجد فيها التنوع ماثلًا فيما يتعلق بمن أنا؟... وهو القائل «أنا الهجين عنترة». 
 الذين يتحدثون عن الغابة والصحراء عليهم أن يقرأوا لهؤلاء، وللشعراء من أمثال د. يوسف عايدابي، وعلي عبدالقيوم، وللأديب جمال محمد أحمد في «سالي فو حمر»، و«عرب وأفارقة»، حتى يدركوا أنه إبداع تأسس على بصيرة. الآن لم يعد السؤال نفسه مجديًا، فلساننا عربي، وجذورنا موطّدة في قلب إفريقيا، ويكفينا تمامًا أننا سودانيون هكذا كما نحن. بذا يكون تيار الغابة والصحراء قد أدى دوره كما ينبغي، ونبّه إلى هذه البديهية التي صار التساؤل حولها الآن بدعة انصرافية.
 لكننا نحتاج إلى النظر في مكوناتنا والتعرّف عليها، والتفاعل معها وأن نحتفي بها، وهذه هي رسالتنا.
السودان بلد تنوّع إثني/ عرقي وثقافي وديني، غنيّ بعشرات اللغات، فلا بدّ من سبر أغوارها والتعرف عليها والاهتمام بها، لأنها مستودعات إنسانية عظيمة ذات محمولات ثقافية قيمة، محتشدة بالتسامح والحكمة.

حركة ثقافية أدبية
● من خلال موقعك الحالي، هل يمكن أن يطمح مثقفو السودان إلى بناء حركة ثقافية وأدبية معافاة تتلاقى وتتلاقح فيها تلك الثقافات والتنوّع الفريد؟
- هذا ما نطمح إليه حقيقة، ويفترض أن يكون همّ كل سوداني مثقف، أمّا إذا كان الأمر يتعلّق بالموقع، فإنّ دورنا هو بناء جسور للتواصل مع المثقفين والمبدعين بشتّى صنوفهم، فالمجلس معنيّ بالأوعية الثقافية والفنية لمنظمات المجتمع المدني أكثر من كونه معنيًا بالقرارات الديوانية للحكومة، هو واسطة العقد بين الدولة والأوعية الأهلية المعنية بالثقافة والفنون، يقع عليه تقديم الدعم الفني والمادي والاعتراف الرسمي لهذه الهيئات بما يمكنها من أداء وظيفتها في خدمة الثقافة والفنون، ودعم الوحدة الوطنية والسلام، والحوار الثقافي لمكونات مجتمعنا المتنوع المتعدد الثقافات، وإبراز كنوزها المكنونة.

شعوبية ثقافية
● هل الظروف الحالية مواتية لإنجاز هذه الأعمال بعد ثورة 19 ديسمبر؟
- نعم، هي أكثر الظروف مواتاةً لمثل هذه الأعمال، لأنّ الناس مشبّعة بقدر كبير من الحماس الثوري البنّاء، وخرجوا من تجربة مريرة، زادت يقظتهم ونبهتهم إلى ضرورة التعويل على الثقافة لمواجهة مشكلاتهم، فليس هناك أنسب من هذا التوقيت.

● هل من سبيل للتواصل الثقافي مع العالم العربي؟
 - حاليًا أرى شبح الشعوبية الثقافية يطل جليًا وبصورة متصاعدة، إذ نلاحظ كثيرًا من الدول تسعى لتجعل لنفسها مركزية ثقافية تنحاز إلى مبدعيها الوطنيين بصفة خاصة، جوائزها وإعلامها، فهي مراكز وطنية، وليس هذا ما يعيب لولا أنها تلبس ثوب الإقليمية والعالمية، وما هي كذلك. وهكذا نشأت مركزيات عدة تقتصر على محيطها، بما يعني أن «كلّ حزبٍ بما لديهم فرحون»! وتكمن خطورة هذا الصنيع في كونه لا يُنظَر للآخرين إلّا تكملة ديكورية. أكثر هذه المراكز نشأت حسب المقدرات المادية لبلدانها لتدور في محيطها، وهذا ما لم يكن قبل بهذا الوجه السافر، وأصبحت المشاركة في مهرجاناتها وفعالياتها تتم وفق التسليم لهذا المنظور.
 لا بدّ أن يتغيّر كل هذا ليتحقق التنافس الحقيقي، ولتنفتح الثقافة العربية ولتتواصل وتتداخل وتتلاقح، حتى تتجلّى قوتها وتبرز قدرتها، وهذا ما نطمح إليه وسنسعى إلى تحقيقه، رغم إمكاناتنا المتعسّرة ■