المغربي أحمد المجاطي شاعرًا وناقدًا وإنسانًا

المغربي أحمد المجاطي  شاعرًا وناقدًا وإنسانًا

  حين نستعرض أسماء روّاد القصيدة المغربية المعاصرة الذين يُعرفون بجيل الستينيات، يبرز الشاعر أحمد المعداوي (لقّب نفسه بالمجاطي تمييزًا عن أخيه الشاعر مصطفى المعداوي) اسمًا كبيرًا ذا ثقل وازن، رغم أنه لم يُصدر إلّا ديوانًا شعريًّا وحيدًا، هو الفروسية، الذي فاز عام 1985 بجائزة ابن زيدون للشعر التي يمنحها المعهد الإسباني العربي للثقافة في مدريد لأحسن ديوان بـ «العربية» و«الإسبانية»، وتضمن ثماني عشرة قصيدة في غاية الاكتمال والنضج الفني، ديوان وحيد جعل الشاعر يتبوأ موقعًا اعتباريًّا كأبرز مجوّدي القصيدة وأمهر صنّاعها مغربيًا وعربيًا.

 

عُرف الشاعر أحمد المجاطي شاعرًا مُجيدًا بديوان واحد، وعرف ناقدًا بإصدارين نقديين هما «ظاهرة الشعر الحديث»، و«أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث»، والكتابان يعبّران عن وجهتَي نظر متناقضتين تمامًا حول التجربة الشعرية العربية الحديثة. فالكتاب الأول تمجيد لهذا الشعر ودفاع عنه، أما الثاني فنقيض الأول؛ إذ جرّد التجربة الشعرية الحديثة برمّتها من مزية التجديد والإبداع في نقد هو أشبه بهدم الهيكل على مَن فيه.
اختار المجاطي، وهو يقدّم ديوانه «الفروسية»، نصوصًا معدودة من بين قصائده، وأقصى من الديوان قصائد أخرى. وسيسلّم بعد ذلك كل قصائده مرقونة لمجلة المشكاة المغربية قبيل وفاته، كي تنشرها في عدد خاص، صدر بعد وفاته، هو العدد 24 لعام 1416هـ الموافق عام 1996م، عنوانه «أحمد المجاطي... شاعرًا وإنسانًا»، تضمّن ثلاثة أقسام رئيسية، هي: قسم الدراسات والشهادات، ثم قسم المراثي، وتضمّن ما رُثي به الشاعر بعد وفاته، ثم قسّم الديوان وهو أشعار المجاطي وهي أربع وثلاثون قصيدة.
من خلال عدد القصائد المنشورة في مجلة المشكاة، يتضح أن المجاطي لم ينشر في ديوانه الفروسية ستّ عشرة قصيدة. فما المسوغ الذي احتكم إليه الشاعر في هذا الفرز، فجعل من نفسه ناقدًا حكمًا يُقصي بعض إبداعاته الشعرية على قلّتها؟ 

ديوان قصيدة التفعيلة
القصائد المنشورة في ديوان الفروسية من حيث الشكل الفني، تنتمي جميعها لقصيدة التفعيلة التي عُرفت في الشعر العربي منذ نهاية أربعينيات القرن الماضي، ولا توجد في الديوان أية قصيدة عمودية، بينما نشرت له «المشكاة» 9 قصائد عمودية نظمها على طريقة الشطرين وعلى بحور متنوعة، هي مجزوء الكامل (أغنية للسرب العائد)، ومجزوء الرمل (من وحي واقعة وادي المخازن) و(الصمت اللعين)، والمجتث (مولد لحن)، ومجزوء الوافر (أكزوديس في الدار البيضاء)، ومجزوء الرّجز (مدينتي) و(مذكرات متشردة)، والسريع (نثرت أحلامي)، ونصًا آخر هو (وراء الجزر)، أعتبره ذا نسق عمودي تضمّن في كل بيت خمس تفعيلات للرمل، وقد اعتبرته عموديًا لثبات تفعيلاته ووحدة قافيته.
هذا الجرد للقصائد وشكلها العروضي وبحورها يجعلني أخلُص إلى نتيجتين:
الأولى: أن المجاطي أقصى قصائده العمودية من ديوان الفروسية، باعتبارها لا تمثّل حداثة التجربة.
الثانية: أن البحور المذكورة كلها مجزوءة، إذا استثنينا السريع، وأغلب القصائد متنوعة القافية على غرار القصائد العمودية التي كتبها شعراء المهجر وأبولّو. وهذا يُخفي أمرًا آخر هو أن المجاطي الذي نشر قصائد ذات بحور مجزوءة يستحيل ألّا تكون له قصائد أخرى على البحور التامة أو البحور الفخمة التي لا يمكن أن يتربّى سمع الشاعر دون أن تتشبع أذنه بإيقاعاتها، وهي الطويل والبسيط والكامل التام والوافر التام والخفيف. إذن لا شك في أن للمجاطي نصوصًا عمودية أخرى غير معروفة لم ينشرها ضمن القصائد التي نظنها كل أعماله في مجلة المشكاة.

لغة تراثية معجمية
القصائد العمودية لم تُدرج في ديوان الفروسية، فقط لأنها عمودية، بل كذلك لأنّ بناءها الفني لم يكن في مستوى قصائد الديوان، فحين نقرأ مثلًا هذا المقطع من قصيدته «من وحي واقعة وادي المخازن»:

لِمن الخيولُ مُطَهَّمات لا تحسّ ولا تبالي 
تستسهل الغورَ العميق وتستقلُّ ذُرا الجبال
لمن المَدافعُ والبنادق والصوارمُ والعَوالي 
ولمن ترى هذي الجنود تكاد تقذف بالتعالي 
مشدودة النظرات نحو حدائق العرب العوالي 

نجد لغة تراثية تقوم على الجزالة والبداوة، لغة معجمية وصفيّة خالية من الإيحاء والأبعاد الرمزية. لغة قليلة التشذيب من خلال وصف الخيل بصفة شائعة نثرًا هي المطهّمة، وكذلك من خلال جرد تقريري لمختلف أسلحة المعركة في بيت واحد، بل إن كلمة العوالي وظفّت لأجل القافية فقط. والقصيدة في عمومها تسرد واقعة المعركة ولا تعطيها إشعاعها الشعري الرمزي، رغم أن الشاعر حاول في نهاية القصيدة أن يربط بين نصر المعركة في الماضي، وبين ما يمكن أن تلهم به أجيال الحاضر في قوله:

آه يا مراكش الحمراء يا كنزَ البطولهْ
       أبدًا تاريخك اليافع لا يدري كهولهْ
هو في شرخ الشباب النضر في بدء الرجولهْ
       إنها قصة في حلبة المجد طويلهْ

هذا الربط جاء بلغة تقريرية باردة، بل أحيانًا ضعيفة السبك مثل قوله «تاريخك اليافع لا يدري كهوله»، إضافة إلى كسر وزني في البيت الأخير هو إسقاط السبب الخفيف في «فاعلاتن» الأولى.
استحضار التاريخ بهذه المباشرة التي تصل حدّ التوثيق تجاوزه المجاطي فنيًا في قصائد «الفروسية» وقدّم قصائد رائعة قوية مشعّة مثقلة بالرموز والإيحاءات الشاعرية، مع الحفاظ على متانة اللغة وحُسن سبكها بِدُرْبَةٍ يقلّ نظيرها، ولنأخذ مثلًا قوله في قصيدة سبتة:

أنا النهرُ أُسرِجُ همسَ الثواني
وأركبُ نسغَ الأغاني
وأتركُ للريح والضّيف صيفي 
ومَجْدولَ سيفي
وآتي على صهوةِ الغَيمِ،
آتي على صهوة الضيمِ
آتي على كلِّ نَقْعٍ يُثارُ
وآتيكِ أَمنحُ عينَيكِ لونَ سُهادي
وحُزْنَ صَهيلِ جوادي 
وأَمنحُ عينيكِ صَوْلَةَ طارقْ
وأسقُطُ خلفَ رمادِ الزّمانِ 
وخلف رمادِ الزوارقْ

القطعة عالية الغنائية من خلال تواتر قوافيها الجميلة المُوَطَّنَةِ جيدًا، وتحقيق التجنيس الجميل مع التقفية بين «الغيم والضَّيم» ومن خلال ضمير المتكلم الذي يجعل الذات متفاعلة مع موضوعها غير مفصولة عنه، ومن خلال استحضار الرمز التاريخي تصريحًا «طارق»، وتلميحًا «خلف رماد الزوارق»، والربط الجدلي بين أمجاد الماضي «صولة طارق» وانتكاسات الحاضر «أسقط خلف رماد الزمان» مع الدلالة الرمزية للمفردات: السيف والنقع والسهاد والصهيل والرماد والزوارق... ومع مجاورات لغوية مجازية عالية الشعرية: «أترك للريح والضيف صيفي - لون سهادي - صهوة الضيم - أمنح عينيك صولة طارق...».
هذا الفرق بين ما نشر المجاطي في «الفروسية» وما زهد في نشره نلمسه في نصّين آخرين تناول فيهما الشاعر المدينة.
يقول من قصيدة «مدينتي» المنشورة في مجلة المشكاة:

مدينتي صمتٌ ووقفةُ انحناءٍ طيّعَهْ
وبضعة من أعظُمٍ من الأسى مُضطجعَهْ
لم تعصفِ الريحُ بها منذ قرونٍ أربعَهْ
 
جملة الاستهلال نمطية التّركيب مكرورة الدلالة في شعر المدن عند روّاد القصيدة الحديثة، وكلمات القوافي مصطنعة، لاسيما كلمة أربعة التي لم توظَّف إلا بحُكم العين في ختامها التي تصلُح رويًا، ومضطجعة ثقيلة الوقع بحروفها الثلاثة المتوالية وهي الضاد والطاء والجيم. وكناية السطر الأخير ورمزية الريح مهلهلة النسج نثريته.
ثم يضيف:

قارون أين تختفي مفاتحُ المدينة؟
هناك خلف السور خلف الأنجم اللعينة
رَكِبْتُ قلبي لا جناحَ لي ولا سفينة

التصريح بالرمز قارون في بداية المقطع حدّ من إشعاعه. والإحالة على مفاتيحه مكشوفة مباشِرَة القصد، وجملة خلف السور لم توظّف إلّا لأجل البناء العروضي بتفعيلاته الرّجزية الأربع، لأنّ المعنى لا يتغير لو اكتفى الشاعر بقوله «هناك خلف الأنجم اللعينة» مكتفيًا بثلاث تفعيلات.
التشذيب غائب في القصيدة والتركيب الشعري، رغم حضور التصوير، ورغم حضور النداء والاستفهام لا يبدو مدهشًا.
وعبارة لا جناح لي ولا سفينة مكشوفة القصد حول الطيران والإبحار.

تفاصيل صغيرة
هذه التفاصيل الصغيرة التي ترفع منسوب شعرية النص أو تنزل بها لم يفوّتها المجاطي في ديوان الفروسية، وهو يقول في قصيدة أخرى عن المدينة عنوانها «الدار البيضاء»:

لماذا تَدور الحروفُ التي تلفظ اسمَكِ
في قبضة الريح قُبَّعَةً؟
حين أذكر أحبابَ قلبيَ
أَنثرُ أسماءَهم واحدًا واحدًا
حين أذكر أحباب قلبيَ
هل أنت سائحةٌ يستبي الرملُ
أحلامَك البارسيةَ؟
ها أنذا أمسك الرّيحَ
أزرع في كل زاوية منكِ ذاكرةً 
ألمح اسمك 
ينفر ما بين أسمائهم كالصهيلْ
ها أنا أمسك الريحَ 
أنسُجُ من صدأ القَيدِ رايهْ 
ومن صدأ القيد مَقبرةً للحروفِ،
ومحبرة للسيوفِ
وقيثارةً للشجنْ
وأنتِ على شرعة الصمتِ 
ممدودةٌ بين قيدي وبيني
وبين حدود الوطنْ

المقطع هنا ذو شعرية عالية من بينها التنويع الجميل بين ضميري المتكلم والمخاطبة لخَلق الحوارية، والانعطافات التركيبية المفاجئة من السؤال إلى الخبر، وحذف جواب جملة الظرف «حين أذكر أحباب قلبي» الثانية وتعويضه باستفهام فجائي «هل أنت سائحة...؟» والقوافي لا تظهر إلّا بعد خمسة عشر سطرًا، بل هناك وقفتان مقيّدتا الرويّ لم يوظفهما قافية وهما «الصهيلْ ورايهْ».
أما القافيتان المتقاربتان المتتابعتان؛ الحروف والسيوف، فقد اكتسبتا شعريّتهما العالية نغميًا ودلاليًا من اقترانهما بالتجنيس محبرة ومقبرة، مع مفارقة ربط الحبر بالسيف لا بالحرف وربط القبر بالحرف لا بالسيف، والمعجم مثقل بالإيحاء الرمزي، والكنايات مدهشة ملتبسة بالاستعارة: «أنسج من صدأ القيد راية» والمجاورات مستجدة مندغمة مع الصورة: «ألمح اسمك ينفر ما بين أسمائهم كالصهيل» والرؤية للعالم تستوعب أزمة الذات في علاقتها بالوطن: «وأنت على شرعة الصمت ممدودة بين قيدي وبيني وبين حدود الوطن».
القصيدة مشذّبة بعناية لا زوائد ولا ترهُّل فيها، والبناء شعري بامتياز معجمًا ومتخيلًا وإيقاعًا. وهذا دأب قصائد «الفروسية» التي بلغت شأوًا كبيرًا من النضج والاكتمال.

إقصاء القصائد العمودية
الشاعر المجاطي كما يتّضح أقصى من الديوان قصائده العمودية، ليس فقط لشكلها الشعري وإنّما كذلك لتواضع شعريّتها أو على الأقل لتفاوت بين مقاطعها أو مكوناتها؛ إذ لا تخلو نصوصه العمودية من مقاطع جميلة ليس هذا مجال ذكرها.
 لكن هذا الإقصاء لم يقتصر على القصائد العمودية، لأن المجاطي أقصى من الديوان كذلك سبع قصائد تفعيلية ظهرت في عدد المشكاة الخاص به، وهي: يوم الامتحان (رمل)، وإلى شاعرة (كامل)، وبكائية (رجز)، وأغنية لحب قديم (وافر)، والرمل والأقدام (خبب)، والمعركة (متقارب)، وباقة موت على قبر شهيد (كامل).
 القصائد التفعيلية التي لم تدرّج في الديوان أقل شاعرية كذلك من نظيرتها المدرجة فيه، وأقدّم - تمثيلًا لا حصرًا - مثالين من قصيدتين متشابهتين في الموقف باستحضار الامتحان والجامعة.
من قصيدة يوم الامتحان المنشورة في «المشكاة» قال:
يا وَقاكِ الله من سوء النتيجهْ
يا خديجهْ
ومضى الصوتُ ينادي
وأنا أُمسك باليمنى فؤادي
غير أنّي لستُ أدري 
كيف أصبحت ضريرًا أبكما
عندما باسمِكِ صوتٌ جهوريٌّ
دَمْدَمَا:
-  يا خديجهْ
فصعدتُ السُّلَّمَا
 وعيوني تسكبُ الدمعَ دمَا
كنتُ أخشى ضربةَ الدهر وإخفاقَ النتيجهْ

  المقطع بسيط تقريري لا يختلف بناء جملته عن البناء النثري إلّا في حضور الوزن (تفعيلة الرمل) والتقديم والتأخير باهت لا يُوظّف إلا لإقامة الوزن، فمثلًا جملة «عندما باسمك صوت جوهري دمدما» ليست مختلفة عن بنائها الأصلي «عندما دمدم صوت جوهري باسمك» إلّا في الوزن والقافية، أما غير ذلك فهي تخلو من الانعطاف التركيبي والصورة المدهشة والبُعد الرمزي.
اللغة معجمية والمجاورات عادية: «فصعدت السُّلما وعيوني تسكب الدمع دما»، والصور النادرة باهتة مكرورة «أخشى ضربة الدهر». المقطع لا يرقى إلى ما نعرف عن جودة شعر المجاطي الذي يُصفِّي العبارة ويقطرها، حتى لا تنبو كلمة عن مكانها. ولنتأكد من هذا البَون بين هذا المقطع الشعري وما نُشر في مثل أو شبه هذا الموقف في «الفروسية» نقرأ من قصيدة «ملصقات على ظهر المهراز»:

حين أبصرتُ عينيكِ مُتْرَعَتَيْنْ
كان رأسُ اللفافةِ أشيبَ
كان الطريقُ إلى المطعم الجامعيِّ وحيدًا
وكانت غصونُ الشجرْ 
تتساقط مُثقلةً بالجواسيسِ...
هل تَعلمُ الطفلةُ الوافدهْ
أن عشرًا من السنواتِ انقضينَ 
وعشرًا من السنوات تَمَخَّضْنَ
عن لغةٍ
تتوعَّدُ حتى الأمانيَّ فينا
وأنَّ محاضرةَ الأمس كانت 
معلّبةً باردهْ
هكذا صار لونُ المراجعِ
لون المصادرِ
منسوبُ من نجحَ العامَ شَرْطًا
ومن نجحَ العامَ من غيرِ شرطٍ
كلون المحاضر لونًا كريهًا
هكذا يتفتّقُ وجهي عن سحنةٍ لم أكن أشتهيها
فهل تعلمُ الطفلةُ القُبَّرَهْ 
حين يحملُ منقارُها 
جبلَ الريف لي 
والسهولَ الفسيحةَ بين الرباط وطنجةَ
أنّ اشتعالَ الشعرْ 
زمنٌ بين وجهين
لي منهما جلسةٌ خلفَ كأسٍ
وأخرى بزنزانة 
ثم يرسم رأسُ الطباشير لي قُبلةً 
بين خاتمةِ الدرس والمَقبرهْ؟

بناء الجملة تركيبيًا دقيق، فالشاعر بعد تكرار فعل الكينونة في بداية المقطع ثلاث مرات ينعطف باستفهام: «هل تعلم الطفلة الوافدة؟» وبعد تكرار اسم الإشارة هكذا في جملتين خبريتين كذلك ينعطف باستفهام آخر: «فهل تعلمُ الطفلة القبّرة؟»، ثم تتنوّع الروابط النحوية بين الظرف «حين» والعاطفين «الواو وثم»، و«أن المصدرية».
والجملة كلّها مؤثثة بالاستعارات والمجاورات الشعرية الجميلة «عينيك مترعتين - رأس اللفافة أشيب - غصون الشجر تتساقط مثقلة بالجواسيس - المحاضرة معلّبة باردة - لغة تتوعد الأماني فينا - يحمل منقارها جبل الريف لي - اشتعال الشعر زمن بين وجهين - يرسم رأس الطباشير لي قبلة».
 والكنايات مقتصدة دالّة مشعّة، وأجملها ما يختصر حياة الشاعر «زمن بين وجهين لي منهما جلسة خلف كأس وأخرى بزنزانة». بل إن المجاطي وظّف عبارات عارية من الصورة، وهو يتحدّث عن المحاضر والناجحين شرطًا ومن غير شرط، لكنّه دسّ هذه العبارات بين جمل تصويرية رائقة وغلّف تقريريتها بالتكرار وصدق وصف المشهد الجامعي.
 كما أن توظيف أسماء الأماكن كان موفقًا مستساغًا في النطق والسمع «جبل الريف - الرباط - طنجة»، والذي يعرف جغرافية المغرب يدرك جمال ودقّة كلمة الفسيحة وهي تصف شساعة سهل الغرب بين الرباط وطنجة.
إيقاع القصيدة هادئ هدوء تفعيلة المتدارك، والقوافي غير متعسفة وقليلة. ففي تسعة وعشرين سطرًا لم يتجاوز الشاعر ثماني وقفات مقفّاة مختلفة هي (الشجر - الشعَر)، و(الوافدة - باردة)، و(انقضين - تمخضن)، و(القبرة - المقبرة). وهي كلها متباعدة باستثناء «انقضين - تمخّضن»، مما جعل القافية اختيارًا يخضع لتكتيك بناء الجملة.

جدلية الذات
نلمس في المقطع كذلك تلك الرؤية للعالم التي تتجاوز الرومانسية الحالمة في المقطع السابق نحو نظرة تؤمن بجدلية الذات وموضوعها، فالقهر في المقطع ليس مسلطًا على الشاعر بقدر ما هو مسلّط على وطن برمّته.
المجاطي الذي أقصى من ديوان الفروسية قصائده العمودية وبعض القصائد التفعيلية تصرّف كذلك بخبرة الناقد الحصيف فيما نشر من قصائد في الديوان، ذلك أن القصائد التي انتقاها في «الفروسية» خضعت لمقص التشذيب، إذ وردت كاملة في عدد «المشكاة» منقوصة من بعض المقاطع في «الفروسية»، مثل «كتابة على شاطئ طنجة»، و«ملصقات على ظهر المهراز»، التي حذف منها ما أضعه بين قوسين في هذا المقطع:
أطلقوا النار 
فانفتحَتْ ثغرةٌ في صفوف الخوارجِ
(قِيل اهبطوا
«كلُّ عَشْرٍ بزنزانةٍ مُستقلَّهْ»
هكذا صار للشاي في مقصفِ 
الحيِّ طعمُ المَذَلَّهْ
صار الطريقُ إلى المطعم الجامعيِّ بَلِيدًا)
واضحٌ نثرية عبارة «كل عشر بزنزانة مستقلة»، وواضح أن كلمة المذلّهْ جيء بها قافية مع المستقلّه. أما السطر الأخير فليس ضعيفًا، وإنما جاء في بناء مشهد ضعيف الشعرية، فحُذف.
أحمد المجاطي شاعر منخِّل مثقِّف قصائدَه مُشذّب جيّد لأغصان حدائقه الشعرية، وقد يصح فيه قول عدي بن الرقاع الأموي:
وقصيدةٍ قد بِتُّ أَجمعُ بَيْنَهَا 
    حتى أُقَوِّمَ مَيْلَهَا وسِنادَهَا 
نَظَرَ المُثَقِّفِ في كُعُوبِ قَنَاتِهِ 
    حتى يُقيمَ ثِقَافُهُ مُنْآدَهَا

شاعر ناقد
هذه القدرة على الانتخاب والحذف المناسبين لا تكون إلّا عند شاعر ناقد، يعرف جيد الشعر بمقاييس سليمة ويحاسب شعره وفقها. وقد يقول قائل: لماذا كتب المجاطي أصلًا تلك القصائد إن كان يملك كل هذا الوعي الفني؟ 
والجواب هو أن قصائد الشعراء كأبنائهم ينجبون منها المختلف، وظروف كل قصيدة تختلف عن سواها، إمّا عبر تطوّر مسارات الشاعر زمنيًا أو فنيًا أو نفسيًا ولعظماء الشعر العربي قصائد جياد وأخرى أقل جودة نجد هذا عند امرئ القيس وأبي تمام والمتنبي وأحمد شوقي ومحمود درويش وغيرهم.
الأمر الآخر هو أن ديوان الفروسية تقدّم به الشاعر لنيل جائزة مرموقة، فاشتغل على الانتخاب والتشذيب، حتى أخرج فيه زُبدة قصائده التي قرأها القارئ العربي بإعجاب وافتتان، حتى اعتبره البعض شاعر المغرب الأول، وهو كلام لا أراه بعيدًا عن الحقيقة.
المجاطي، كما يقول عنه كثيرون، كتب الحداثة من خلال تمثُّل جيد للتراث، مع تصريف هذا التمثل في قصائد جميلة جمعت بين الغنائية والجزالة والجدة والعمق، وأترك القارئ مع هذه البكائية الحزينة عن القدس، ليدرك أسرار الشعر الجميل عند شاعر كبير هو المجاطي:

رأيتُكِ تدفنين الريحَ تحت عرائش العَتمهْ
وتلتحفين صمتَكِ خلف أعمدةِ الشبابيكِ
تَصُبِّينَ القبورَ وتشربينَ
فتظمأُ الأحقابْ 
ويظمأ كلُّ ما عتَّقْت من سُحُبٍ ومن أكوابْ
ظمئنا والرّدى فيكِ
فأين نموتُ يا عمّهْ؟
تَحُزُّ خناجرُ الثعبانِ ضوءَ عيونكِ الأشيبْ
وتشمخُ في شُقوقِ التيهِ
تشمخُ لسعةُ العقربْ
وأكبرُ من سمائي 
من صفاء الحقدِ في عينيَّ 
أكبرُ وجهُكِ الأجدبْ
أيا بابًا إلى الله ارتمى من أين آتيكِ؟
وأنت الموتُ أنت الموتُ
أنت المُبتغى الأصعبْ ■