فاروق شوشة بين الاغتراب والحنين

فاروق شوشة بين الاغتراب والحنين

من يقرأ المنجزَ الشعريَ الغزيرَ الممتدَ لشاعرِنا الكبيرِ فاروق شوشة قراءةً كليّةً متصاعدةً لا يمكن بأيةِ حالٍ من الأحوالِ ألا يلتفتَ إلى مَلمحين كبيرين يصنعان نسيجَهُ الشعريَ المتفرّدَ، ويصوغان عوالمَه المتراميةَ الأطرافِ، وهما: علاقةُ الشّاعرِ بزمانِه التاريخي المتعيّنِ، وعلاقةُ الشاعِر بشعرِهِ؛ إذ نستشعرُ على الدوام حركةً بندوليّةً كبرى تكادُ تصنعُ التوترَ الشعريَ المهيمنَ على بنيةِ شعرِهِ الكليّةِ، وتُكسبُها مذاقَها اللافتَ.

 

يتجذّرُ الشاعرُ في زمانٍ تاريخي لا يشعُر فيه بالرضا العميق، ويحسّ في حراكِهِ نحو عالمِهِ - منذ بداياتِهِ الأولى حتى لحظتنا الراهنةِ - بغربةٍ مؤرقةٍ تشكل ما يمكن أن نطلقَ عليه أفق الاغتراب، فما يلبثُ أن يرتدَّ في حركةٍ معاكسةٍ نحو شعرِه بحسبانِهِ المرفأَ الآمنَ والمأوى الحاضنَ الذي يشكّلُ ما يمكن أن نطلقَ عليه أفقَ الحنينِ، إذ يمنح حنين الشاعرِ إلى شعره وكتابة الشاعر لقصيدته قوةً متجدّدة تضخ في دمائه عنفوانَ المواجهةِ وجسارةَ التّحركِ نحو العالمِ مرةً أخرى، فإذا بالاغترابِ يطلُّ بوجهِه، وإذا بالقلقِ يدفعه صوبَ الشعرِ ثانيةً، وهكذا يظل الحِراكُ البندوليُّ لدى فاروق شوشة من الشعرِ إلى العالمِ ومن العالمِ إلى الشعرِ هو ما يصنع دراما القصيدةِ لديه ويمنحُ شعرَهُ الحيويّةَ المبتغاةَ والخصوصيّةَ المائزةَ.

علاقة عميقة بالتراث
هذه الثنائيّةَ الكبرى لا تتشكّل بالطبع وَفْقَ منطقٍ استقطابيٍ صارمِ أو طابعٍ بنيويٍ رتيبٍ، وإنّما تخضع لعلائقَ جدليّةٍ واعيةٍ تشكّلُها تجاربُ الشّاعرِ المتعددةُ في الحياة ِالمعاصرة وعلاقاتُ الشاعرِ العميقةُ مع تراثِه الشعري المتراكمِ من ناحيةٍ، ونتاجه الإبداعي المتتابع من ناحية أخرى، ومن ثمّ تتحوّل هذه العلائقُ إلى وشائجَ تمكّن الشّاعرَ من فتحِ الممراتِ الحواريةِ والنوافذِ المشهديّةِ على عالمِه المعاصرِ باستمرار، سواء في تحديقِه المغتربِ بزمانه العربي الراهنِ، أو في إطلالِه الوادع على مأواه الشعريِ الأليفِ.
وتتفاوتُ قصائدُ فاروق شوشة من حيث انتماؤها إلى فضاءِ الاغترابِ أو إلى فضاءِ الحنينِ، وقد تبدو القصيدةُ أحيانا مساحةً مكانيّةً لتجسيدِ  لحظاتِ المواجهةِ بين هذين العالمين كما نرى في نص «انتساب» من ديوان «هئت لك»:
قيل: انتسبوا
قلنا: ننتسب إلى الماءِ
الشمسِ
الريح
البركانْ
وهل ينتسبُ الحطبُ لغيرِ النار
وهل تنتسب الأرضُ لغيرِ لصوصِ الأرض
وتنتسبُ الجرذان لغيرِ خزائن بيت المال
وتنتسب الحملان لغير الذؤبان
وينتسب الأفّاكون لغير السلطان؟
يسهم النّصُ في اجتلاءِ بعضِ المؤثراتِ القويةِ البعيدة ِالتي أسهمت في تأصيل ملمحِ الاغترابِ لدى شاعرِنا وتجسيدِ فعلِ المقاومةِ الشعريةِ في آن، عبرَ حضورِ الشاعرِ ملتحفًا بضميرِ الجماعةِ الذي يحيلُ إلى الشعراءِ الذين يجابهون سؤالًا متعاليًا عبرَ بنيةِ البناءِ للمجهول (قيل) التي تُحيلُ إلى السلطةِ التي تغيب ماهيتُها وتظهر أفعالُها عبر إصدارِ الأوامر للشعراء بالانتساب ثم الاعتراف ثم الانصراف، لكنّ الشاعرَ في اعتصامه بحبلِ الشعرِ المتينِ وفي استظهارِه لقوةِ الشعراءِ الجمعيةِ لا يأبى إلا المكوثَ حتى يعيد الشعرُ ميزانَ الكونِ المختلِّ، متمثلًا ربما مقولةَ الأستاذِ العقّادِ: (وأنت إذا استطعت أن تهدي الأمة إلى المقياس الصحيح في تقدير الشعر فقد هديتها إلى المقياس الصحيح في تقدير جميع الأشياء).
قيل: انصرفوا
قلنا: لن نبرحَ هذه الساحةَ
حتى يندحرَ الإفكُ
وحتى ينبلجَ الفجرُ
وحتى ينتصبَ الشعرُ
ويعتدلَ الميزانُ
وقد ترتقي ثنائيةُ الصراع بين أفقِ الاغترابِ وأفقِ الحنين لتأخذَ شكلَ الأمثولةِ الرمزيّةِ التي تنفتحُ على أكثر من دلالة نستطيع أن نستلَّ منها تيمةَ المواجهةِ بين القصيدةِ الشعر على مرِّ العصورِ:
كان بين القصيدة والرعد ثأرٌ قديم
كلّما نزفت بوحها
لاحقتها سنابكُه بالغبار الرجيم
 فتهاوت على درج الأرجوان
مضمخةً بالأسى العبقري
ودافنة همّها في انعقاد الغيوم
القصيدة باكيةً تستجير
وللرعد مطرقةٌ وزئير
وبالرغمِ من أنّ الجولة الأولى في الصراعِ تشي بانتصارِ الرعدِ بضجيجهِ المخيفِ وزئيرِهِ العاتي الذي يرمزُ للسلطةِ وأعوانِها المدججين بالسلاحِ، فإنّ الشاعرَ المتمثّلَ روحَ القصيدةِ بالألف واللام ينحو بها من أفقِ الاغترابِ والتساؤلِ:
القصيدةُ شاخصةٌ تتساءلُ
 وهي تطلُّ على الكونِ
 أي بلاءٍ عظيمٍ
ترصّدني الرعدُ
حتى انطفأتُ
وأوشكت أذبلُ
أوشكت أرحلُ
إلى أفق اليقينِ المؤمنِ كالتماعِ الشهابِ النافذِ بانتصارِ القصيدةِ (السلطة الرمزيّة الباقية) على الرعد (السلطة الزمنيّة الطارئة).
فجأة مثل ومض الشهابِ
ووقع النبوءة في القلبِ
ها يتكشّف لي بارقٌ لا يُريم
لا تخافي من الرعدِ
وانطلقي بالغناءِ
الغناءِ الذي يتخللُ هذا السديم
لا تخافي من الرعدِ، لا
إنّه زمنٌ عابرٌ
والقصيدة فاتحةٌ
وزمانٌ مُقيم  

منطق الإبداع المتذبذب
منطقَ الإبداعِ كمنطقِ الحياةِ لا يظلُّ سائرًا باتجاهٍ متنامٍ واحِدٍ وفق وتيرةٍ متصاعدة بقدرِ ما يخضعُ لذبذباتِها وتواتراتِها المتراوحةِ ما بينَ ومضِ اليقينِ المضيء بالنصرِ ودفقاتِ القلقِ  المؤتزرةِ ببردِ الإخفاقِ:
عبثًا أرفع رأسي من قاعِ البئرِ
 بَحْثًا عن وهجِ الكلماتِ
 تخنقُها أيدي الحرّاسِ
إنّ مثلَ هذه الدفقاتِ القلقةِ هي التي تدفعُ الشاعرَ إلى نشدانِ أفقِ الحنينِ مرةً بعد مرةٍ إزاءَ شعورِه بالاغترابِ الحضاري- إن جاز التعبيرُ- إذ نراه يقولُ في نصِّ الرحيلِ.
منخلعًا عن كونِكم أطيرُ
عن وجهِ هذا العالَمِ الموغلِ في الغرابةِ
لو كنتُ شاعرًا في غيرِ هذا العصرِ والأوانِ
لاتأدتْ فوقي عمامةٌ «أو قبعةٌ»
سيان!
ولانتظمتُ في سيرة الذكاءِ والنجابةِ
وجهًا يزيد رونقَ الإيوان
إنّ المفارقةَ بين موقعِ الشاعرِ في أزمنةِ الحضارةِ العربيةِ القديمةِ وموقِعِه في عصرِنا الحديثِ تظلُّ أيضًا أحدَ الروافدِ البعيدةِ التي تدفعُ شاعرَنا باتجاهِ الاغترابِ عن العالمِ والسفرِ باتجاهِ الشعرِ كما في نص قصيدتي والسفر:
قصيدتي حملتها معي
يثقلُ حملُها
تسقط من أصابعي ولا أعي
أظلُّ  سائرًا أجرجر الخطى
أجرجر القصيدةَ التي تساقطت
إذ يدهشنا الشاعرُ بمفارقةٍ غيرِ متوقعة بين بنيةِ العنوانِ ومتنِ القصيدةِ، فالعنوان يهيئنا لتلقي علاقة الشاعر بقصيدته في إطار أفق الحنين الذي تتجلّى فيه القصيدةُ بحسبانها المؤنسةَ والحبيبةَ والخليلةَ فإذا بها تتحوّل عند قراءةِ المتنِ إلى حملٍ ثقيلٍ ينوء به الشاعرُ مثلما ناء السندبادُ قديمًا بحمل شيخ البحر في ألف ليلة وليلة لنمضي في قراءةِ النّصِ، وندرك أنّ القصيدةَ قد غدت أنثى مراوغةً تماطلُ الشاعرَ في مبتغاه ولا تسايره بمسعاه:
تراودين مرة فأسرع الخطى
حتى إذا  دنوتُ للحمى
دنوتُ وارتميتُ
تراوغين
وتكتمين عن مسامعي نداءك البعيد في المدار
أصيحُ يا لغربة الفراق والتسيار
أنا الذي نفيتُ عن عوالمي
واحْترقتْ قوادمي
ولم تعد قصيدتي
تضيء رحلة الوجود والأسفارْ!
في هذا الإطار تتأكّد فكرةُ العلاقةِ الجدليّةِ بين الشاعرِ وزمنِه والشاعرِ وشعرِه، التي لا تخضعُ لمنطقٍ ثابتٍ بقدرِ ما تخضع لرؤى متحاورة يفرضها منطقُ العصرِ وحساسيةُ اللحظةِ الراهنةِ التي قد يخلصُ الشاعر فيها لرؤيتهِ المهيمنةِ المؤقتةِ في آن لكنّها لا تمنعُهُ من مشارفةِ اليقينِ والتّشوقِ دائمًا لأفقِ الحنينِ:

أكتب أوّل حرف
في أوّل بيت
في أوّل نصّ شعري
في أوّل ديوان أصدرُهُ حين أشبّ
وأعلن للشعراء:
« إليكم أنتسب الآن
فلا تعترضوا مسيل الماء 
فقد خوّضتُ كما خوّضتم
جعت طويلاً وتغرّبت
وجئتُ إلى بستانِ الشّعر
لعلّي  أقضم من تفاحة هذا الحلم
وأبني فوق الشجر العالي عشًا
يصبح مأوى لغةٍ
وفضاءً تفهق فيه الكلماتُ
السّابحةُ على صهواتِ الطّير
ونورًا أخضر في العينين» ■