«اللومينارياس» دخان القدّيس المتوهّج

تحتفي البلدة الإسبانية «سان بارتولومي دي بيناريس» ليلة كلّ سابع عشر من يناير بطقسها السنوي الذي يدعى اللومينارياس، أي عيد الأنوار... وهو طقس غرائبي متوهج، ترقص فيه البلدة على إيقاع الطبول ونغمات الناي الريفي، وتأجج النيران التي تقارعها الخيول الإسبانية القشتالية كي تطرد عنها شرّ الأرواح، يمتطي جموحها فرسان أشدّاء يرسمون بانطلاقهم لوحات سوريالية، ويبقرون رفقة خيولهم بطون اللهيب المستعر.
تنتمي بلدة سان بارتولومي دي بيناريس إلى مقاطعة آفيلا، معقل القديسة تيريزا. وهي مقاطعة تابعة لمنطقة قشتالة وليون الواقعة شمال غرب إسبانيا، تبعد بمئة كيلومتر تقريبًا عن العاصمة مدريد. وعلى الرغم من كونها بلدة مغمورة يحتضنها الريف القشتالي، استطاعت سان بارتولومي أن تنجب عددًا من المشاهير، من بينهم خوان غراندي مارتين، أستاذ وصحفي وأكاديمي من الأكاديمية الملكية للتاريخ، وإيلوي غونزالو غارثيا، الملقّب ببطل كاسكورو، وهو جندي اشتهر بإنجازاته البطولية خلال حرب استقلال كوبا، ما جعل الذاكرة الشعبية تنسج حوله عددًا من الحكايات التمجيدية، وقد نصبت له الحكومة الإسبانية تمثالًا بالعاصمة مدريد سنة 1935.
السياحة... حضور متوهج
تزخر هذه البلدة الصغيرة بعدد من المواقع السياحية، نذكر منها المجلس البلدي الذي يوجد في ساحة كاسكورو، وكنيسة القديس بارتولومي الرسول التي يعدّها البارتولوميون القلب النابض لبلدتهم، وملمحها الأساس الذي تبصم به حضورها أمام باقي البلدات الإسبانية. هناك أيضًا الساحة الأشهر في البلدة، وهي ساحة لابلاثا دي إسبانيا، وتعرف اختصارًا لدى أهالي البلدة باسم لابلاثا، أي الساحة، وهي مخصّصة لإقامة الحفلات والمهرجانات والقدّاسات ومسابقات الرقص.. كما يحيط بالساحة عددٌ من المدارس والقاعات المتعدّدة الاختصاصات... ولن ننسى البوديغا، وهو مبنًى خربٌ قديمٌ يرجع تاريخ تشييده إلى الخمسينيات من القرن الماضي، وعلى الرغم من كونه مكانًا مهجورًا إلا أنه يشكل ملمحًا لذاكرة سان بارتولومي.
وتتمتع هذه البلدة الوديعة، كما البلدات الإسبانية الأخرى، بعددٍ من المصلّيات الكنسية، نذكر منها مصلّى سان روكي الذي يقع على مقربة من صخرة تريبا إيتويرو، إحدى أجمل صخور الجبال المحيطة بالبلدة، ومصلّى سانتو كريستو الذي يقع في الجهة الشمالية من سان بارتولومي.
وتحتفي المصلّيات الكنسية بعدد من الأيام المسيحية، كيوم سان روكي الذي يقام في السادس عشر من شهر غشت، ويوم زيارة السيدة العذراء الذي يحتفى به في الخامس والعشرين من غشت إحياءً لذكرى زيارة مريم العذراء لإليصابات أم يوحنا المعمدان، إضافة إلى يوم القديس أنطونيوس الكبير الذي تقام في ليلته طقوس اللومينارياس، وهو أبو الأسرة الرهبانية، ويلقّب أيضًا بكوكب البرية. ولد سنة 251م بإهناسيا (قرية قمن العروس بنواحي صعيد مصر حاليًا) من أبوين قبطيين ثريين، وتوفي في السابع عشر من يناير سنة 357م بطيبة عن سن يناهز 105 سنوات، وهو اليوم الذي تقام فيه طقوس اللومينارياس، إذ يعتقد أهالي البلدة أن القديس أنطونيوس الكبير شفيع الحيوانات، ولهذا السبب تقام تلك الطقوس السنوية من أجل تطهير الخيول من الأرواح الشريرة، وذلك بجعلها تقفز على النيران أو على دخانها الذي يُدعى «دخان القديس».
طقوس التطهير
ما إن تقترب ليلة السابع عشر من يناير حتى ترى بلدة سان بارتولومي متأهبة عن آخرها... الخيول مزينة بضفائر مجدولة بطريقة منمّقة كي لا تشبّ فيها النار، والفرسان الشبان يتجولون في الأزقة المعبّدة بشموخ وإباء، أما ساحة لابلاثا فقد ملأها الأهالي بجذوع الأشجار والأغصان اليابسة والخردة التي يودّون التخلص منها، إضافة إلى بعض المواقد التي ستشهد الحفلة النارية، وهو طقس يحتفى به منذ القرن الثامن عشر، بحسب ما يحكيه الأهالي، أي قرابة ثلاثة قرون. ويحكي الأهالي أن الأجداد لجأوا إلى هذا الطقس من جرّاء إصابة خيولهم بمرض غامض، فقاموا بتطهيرها، وذلك بجعلها تقفز على النيران متبركين بليلة القديس اعتقادًا منهم بكون الخيول قد تلبّستها العفاريت والأرواح الشريرة أو أصابتها عين حسود، فالمسّ الشيطاني ليس حكرًا على الإنسان، بل قد يصيب الحيوانات أيضًا بحسب اعتقاد أهالي البلدة.
الليل... مهرجان ملتهب
يجتمع الأهالي في الساحة لإحياء الليلة الموعودة... يشرع الشبان في إضرام النيران بالمواقد التي ملئت بالجذوع اليابسة والهشيم... تنطلق ألسنة اللهب المشتعلة فيلفح وهج النيران وجوه المتفرجين المتحلقين حول الساحة الملتهبة، بعدها يتقدم الفرسان الشجعان، وغالبًا ما يقارب عددهم المائتي فارس، من ضمنهم عددٌ قليل جدًا من الفتيات الفارسات... تركض الخيول وتقفز بهمّة فوق ألسنة اللهب، وإذا ما حدث وخاف الحصان من النار يقوم الفارس برشّ الماء على الموقد المشتعل كي يثب الحصان فوق دخان القديس.. فالدخان بمقدوره أيضًا أن يطهّر الخيول ويطرد المسّ الشيطاني الذي قد يؤذيها أو العين الحسود التي قد تصيبها. تستمر هذه الطقوس إلى أن يتم تطهير خيول البلدة جميعها، بذلك تصير محمية من العفاريت والأرواح والعين الحسود إلى حلول يوم القديس أنطونيوس التالي... أي مدة عام كامل. وتتخلّل هذه الطقوس احتفالات ترفيهية وجولات موسيقية وأهازيج وأناشيد شعبية وجلسات عشاء، كما يتمّ تقديم حلويات خاصة بهذه المناسبة، مثل حلوى الفلوريس والتوريخاس والبوديغو أو فطائر الروسكيياس.
لا تقتصر طقوس الاحتفال على ساحة لابلاثا فقط، بل يمكن تطهير الخيول في أيٍّ من أزقة البلدة، ففي ليلة القديس الكبير تتحول سان بارتولومي إلى بلدة مشتعلة بالكامل منغمسة في أثباج النار، ذلك أن الأهالي يقومون بتوزيع عددٍ من المواقد على دروب البلدة المعبّدة، فيحس الزائر وهو على ضفاف اللومينارياس كأنه في تنّور كبير... وبعد أن تنتهي الطقوس ويخفت اللهو والسهر والسمر ويعمّ الهدوء المكان ترى البلدة وقد صارت كيَباب يلفّه الضباب والرماد.
الاغتسال بالنار
ترمز النار إلى الشمس باعتبارها المحرك الأساس للحياة لدى عددٍ من الحضارات التي نشأت قبل ظهور المسيح... هناك على سبيل المثال شعوب السلتيك (1000 سنة ق.م) التي كانت تدفع الدوابّ إلى القفز فوق النار من أجل تطهيرها والزيادة من خصوبة فرسانها.
ورغم أن أغلب أهالي بلدة سان بارتولومي تنحدر جذورهم من العرق السّيلتي إلا أن المعتقدات المسيحية جاءت فيما بعد لتحلّ محلّ المعتقدات الوثنية في إطار عملية التحول العَقَدي التي عرفتها أوربا، بدءًا بمجمع نيقية الذي عقده قسطنطين الأول سنة 325م لتداول بعض شؤون كنيسة الإسكندرية، مرورًا بالعصور الوسطى التي عرفت هيمنةً طاغيةً للكنيسة الكاثوليكية... لكن على الرغم من هذا التحول ظلّت للنار مكانتها المهيبة وخاصيتها التطهيرية في بلدة سان بارتولومي التي تحاول نفض الغبار عن جذورها والتمسك بماضيها وتراثها الثقافي وعاداتها الاجتماعية في زمن تهيمن فيه العولمة الثقافية، وتقاتل باستماتة كي تصون إرث اللومينارياس لتقدمه هدية إلى الأجيال القادمة ■